مقدمة المولف
بسم الله الرحمن الرحيم
[2] «وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم» (1) الحمد لله حمدا يوافى نعمه، ويكافىء مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة توجب العاقبة الحميدة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى الأمة الشهيدة، وإلى سائر الفرق القريبة والبعيدة، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ودعا إلى الله عبيده، ونسأل الله من فضله أن يجعلنا من الأمة السعيدة، ولا يجعلنا من الفرق العنيدة.
وبعد، فقد روى عن سيدنا «رسول الله» (2)(صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «أربعة لا تشبع من أربعة، عين من نظر، وأنثى من ذكر، وأرض من مطر، وعالم من خبر» (3).
ولما كان إقليم مصر مشتملا على فوائد وأمور عجيبة، استخرت الله تعالى فى أن أجمع فيه من نفيس الغرائب ما لا ينبغى لذوى العلم/ إهمالها، ولا لساكن مصر [3] إغفالها. وكيف وكلهم أو أكثرهم لو سئل عن نهر النيل من أين يخرج من الأرض؟ وفى أى مكان يذهب؟، ولو سئل عن طوله، وعن سبب تكدره وخضرته فى وقت الزيادة، ومن أين تمده الزيادة؟ وفى أى مكان يذهب ومادته إذا نقص؟، لما أجاب (4) عن ذلك.
وأنا إن شاء الله مبين لجميع ذلك، قاصدا فيه الاختصار (5). وقبل الشروع فى ذلك أتعرض لما يدل على فضيلة هذا النهر على غيره من أنهار الدنيا، وبيان ذلك فى فصلين.
Shafi 35
الفصل الأول فى بيان فضله
وقد وردت فيه آيات وأحاديث.
أما الآيات: فمنها قوله تعالى: وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى (1).
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
«سيحان (2)، وجيحان (3)، والفرات، والنيل، «كل» (4) من أنهار الجنة» (5).
قال البغوى فى تفسير هذه الأنهار الأربعة: تخرج من نهر الكوثر. قال: قال كعب الأحبار: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم (6).
ونقل ابن زولاق (7) فى «تاريخ مصر» عن كعب الأحبار؛ أن نهر مصر نهر العسل فى الجنة ، والفرات نهر الخمر، وسيحان نهر الماء، وجيحان نهر اللبن.
Shafi 37
وفى حديث الإسراء أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «لما انتهيت إلى سدرة المنتهى فرأيت أربعة أنهار [يخرج] (1) من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان (2)، «فقلت:
يا جبريل ما هذه الأنهار؟» (3). قال: أما النهران الباطنان فنهران فى الجنة. وأما الظاهران فالنيل والفرات» (4).
قال النووى فى شرح مسلم: قال مقابل الباطنان هما/ السلسبيل (5) والكوثر (6).
قال: قال القاضى عياض- (رحمه الله)-: هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى فى الأرض، لخروج الفرات والنيل من أصلها. قال: وهذا الذى قاله غير لازم، بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها، ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها، وهذا لا يسعه عقل ولا شرع، وهو ظاهر الحديث، فوجب المصير إليه، والله تعالى أعلم. وما ذكره النووى هو الصواب.
Shafi 38
فقد ذكر البغوى فى سورة والنجم (1) أن سدرة المنتهى هى شجرة طوبى (2).
وذكر فى سورة الرعد فى قوله تعالى طوبى لهم وحسن مآب (3) أن [شجرة] (4) طوبى شجرة أصلها فى بيت النبى (صلى الله عليه وسلم)، وأنه ما من بيت فى الجنة إلا وفيه غصن منها (5).
وقال ابن زولاق فى تاريخ مصر: إن النيل يجرى من تحت سدرة المنتهى (6)، وإنه لو تقفى آثاره لوجد فى أول جريانه أوراق/ الجنة. قال: ولذلك ندب (7) إلى أكل البلطى من [6] السمك، لأنه يتتبع أوراق الجنة فيرعاها. ويشهد لصحة «ما ذكره» (8) ما روى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «عليكم بالحيزوم (9) فإنه يرعى من حشيش الجنة».
وذكر بعضهم أن سائر مياه الأرض وأنهارها تخرج أصلها من تحت الصخرة بالأرض المقدسة، والعلم عند الله تعالى.
فائدة: طوبى وزنها فعلى، مشتقة من الطيب، وأصلها طيبى، «ووقعت» (10) الباء بعد ضمة، فقلبت واوا.
قال ابن جنى (11): حكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستانى فى كتابه الكبير فى «القراءات» (12) قال: قرأ على أعرابى بالحرم: طيبى لهم وحسن مآب»، فقلت له:
Shafi 39
طوبى، فقال: طيبى، «فأعدت عليه فقلت: طوبى، فقال: طيبى، فأعدت عليه فقلت :
طوبى، فقال: طيبا. فقلت: طوبا. فقال: طيبا» (1). فلما طال على فقلت: طوطو.
قال/: طى طى.
وعن ابن عباس رضى الله «عنه» (2) فى قوله تعالى: (طسم) (3)، إن الطاء شجرة طوبى، وإن السين سدرة المنتهى، وإن الميم محمد (صلى الله عليه وسلم) (4). وهو يدل على أن شجرة طوبى غير سدرة المنتهى، والله أعلم.
قال سعيد بن جبير (5): طوبى اسم الجنة بالحبشية. وسميت سدرة «المنتهى» (6) لأن علم «الملائكة» (7) ينتهى إليها. وما يعلم ما فوقها إلا الله عز وجل (8).
وعن أسماء (9) بنت أبى بكر الصديق رضى الله [عنهما] (10) قالت: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يذكر سدرة المنتهى، فقال: «يسير الراكب فى ظلها مائة (11) عام، ويستظل فى ظل «الفنن» (12) منها [مائة] (13) راكب، فيها فراش (14) من ذهب،
Shafi 40
كأن ثمرها (1) القلال. والفنن بنونين: الغصن (2). وفى القرآن العظيم ذواتا أفنان (3) أى أغصان.
قال مقاتل: شجرة طوبى تحمل الحلى والحلل (4) والثمار من جميع/ الألوان، لو أن [8] ورقة منها وضعت لأهل الأرض لأضاءت لأهل الأرض. (5)
وفى جامع الصحاح عن الليث قال: سدرة المنتهى فى السماء [السادسة] (6) لا يتجاوزها نبى ولا ملك، قد أظلت السماء والجنة. منها قوله تعالى: وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج (7). وقوله تعالى: وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا (8).
وأصل المرج الخلط، يقال للرجل إذا أخلا الشىء حتى اختلط بغيره: قد مرجه.
ومرج البحرين: خلا سبيلهما حتى «اختلطا» (9). وأمر مريج: مختلط. والعذب: الحلو.
والفرات: أعذب العذوبة. والملح: المالح. والأجاج: أملح الملوحة، ويقال: ملح وهو الأشهر، وبه جاء القرآن (10). ومالح لغة قليلة (11).
قال الشاعر (12):
بصرية تزوجت بصريا
يطعمها المالح والطريا
Shafi 41
وقال آخر:
ولو تفلت فى البحر والبحر مالح
لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
وسمع من العرب: أما أنا فلا أعبج بمالح، أى لا أنتفع به ولا أصح.
وأصل البرزخ الحاجز بين «الشيئين» (1) ليمنع من وصول أحدهما إلى الآخر. ومنها قوله تعالى: ومن ورائهم برزخ (2) أى حاجز يمنعهم من الرجوع إلى الدنيا. والحاجز بين البحرين حاجز قدره (3)، لأن البحر العذب ينصب فى الملح، ولا يختلط أحدهما بالآخر (4)، بل يشاهد كل منهما مميزا عن الآخر مسافة طويلة، ثم بعد ذلك يغوص بحر النيل فى الملح ولا يختلط به، بل يجرى تحته متميزا عنه كالزيت مع الماء، ولهذا يظهر لركاب البحر فى بعض النواحى، فيستقون منه للشرب، وذلك فى أماكن معروفة.
[10] وقوله تعالى: وحجرا محجورا أى حراما محرما (5)، أى يختلط هذا/ بهذا أو هذا بهذا. وأصل الحجر المنع، ومنه سمى العقل حجرا، لأنه يمنع صاحبه من تعاطى القبائح، وما لا يليق به. قال تعالى: هل في ذلك قسم لذي حجر (6) أى عقل.
ومنه قوله تعالى: مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان (7). قوله مرج أى أرسل [وخلى] (8). وقوله تعالى لا يبغيان أى لا يغلب الملح على العذب فيفسد حلاوته، ولا يبغى (9) العذب على الملح منه فيفسد مرارته.
وقد أحسن الشاعر فى قوله:
وبأمره البحران يلتقيان
لا ينبغى عذب مرور أجاج
Shafi 42
وقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (1)، فاللؤلؤ ما عظم من الجواهر، والمرجان ما صغر. قاله الواحدى (2). فإن قيل كيف؟ قال: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، لا يخرج إلا من أحدهما وهو بحر الملح. فالجواب من ثلاثة أوجه؛ أحدها:
قال الثعلبى (3): إن الأصل يخرج/ من أحدهما، ثم حذف المضاف وانفصل الضمير [11] واتصل بمن، فصار منهما.
وقال غيره: إن البحرين لما صارا واحدا باتصالهما صح عود الضمير عليهما، وصح أن يقال: يخرج منهما.
وقال بعضهم: بل الصدفة (4) تعلو على وجه الماء منتفخة فى وقت المطر، فإذا وقع فيها قطر الماء انطبقت وغاصت فى البحر، فما وقع فيه قطرة واحدة تربت جوهرة كبيرة، وتسمى عندهم الدرة اليتيمة. فإن عطبت صارت صدفة.
وما وقع فيه أكثر من قطرة تربى فيه بعدد القطر من الجواهر، وذلك اللآلىء الصغار.
فعلى هذا يكون الإسناد إليهما حقيقة لأن قطر المطر يكون كاللقاح للصدفة «وتربيته» (5) فى البحر (6).
ومنها قوله تعالى حكاية عن فرعون- لعنه الله- قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي (7).
Shafi 43
قال/ صاحب الفتوح (1): المراد بالأنهار النيل. قال: وكان النيل على أيام فرعون مقسوما على أنهر وجداول، وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا، وكانت أرض مصر وبناؤها مركب على جداول وأنهر تجرى تحتها من البحر، وهو معنى قوله تعالى: وهذه الأنهار تجري من تحتي .
وقال تعالى: فأخرجناهم من جنات وعيون (2) [الآية] (3). وفى قوله «تعالى» (4): قد جعل ربك تحتك سريا (5) أى أمامك وبين يديك. وقد قيل أيضا مثله هنا. والسرى: النهر الصغير (6).
وأما الأحاديث فمنها ما سبق، ومنها ما روى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال:
«يقول الله عز وجل نيل مصر خير أنهارى أسكن عليه [خيرتى] (7) من عبادى، فمن أرادهم بسوء كنت لهم من ورائهم». أورده ابن زولاق.
[13] قال الكندى: وروى عن عقبة (8) بن مسلم برفعه أن الله تبارك وتعالى يقول/ يوم القيامة لساكنى مصر: ألم أسكنكم مصر وكنتم تشبعون من مائها؟ قال: وسأل معاوية
Shafi 44
ابن أبى سفيان كعبا فقال: أسألك بالله العظيم هل تجد (1) لنيل مصر ذكرا فى كتاب الله عز وجل التوراة (2)؟ قال: أى والذى فلق البحر لموسى إنى لأجده فى كتاب الله، أن الله يوحى إليه عند ابتدائه: إن الله يأمرك أن تجرى على كذا، فاجر على اسم الله. ثم يوحى إليه عند انتهائه: إن الله يأمرك أن ترجع فارجع راشدا. يعنى يوحى إليه عند انتهاء النقص والزيادة (3).
قال المسعودى (4): وليس فى الدنيا نهر يسمى بحرا ويما غير النيل، [لكبره] (5) واستبحاره. وأشار إلى قوله تعالى: فاقذفيه في اليم (6). قال ابن عباس: يريد النيل، وذلك أنها جعلته فى تابوت وألقته فى النيل، فحمله الموج إلى دار فرعون، فأخذه ورباه صغيرا لأمر يراد.
قال: وليس فى الدنيا نهر يزيد بترتيب، وينقص/ بترتيب، غير النيل (7).
وذكر أبو قبيل (8): أن نيل مصر فى زيادته يفور كله من أوله إلى آخره، وهذا هو السبب فى تكدره، لأن العيون إذا نبعت من الأرض اختلطت بالطين فى حال نبعها فتكدرت. قال: وأجمع أهل العلم على أنه ليس فى الدنيا نهر أطول مدا من النيل، يسير مسيرة شهر فى الإسلام، وشهرين فى النوبة، وأربعة أشهر فى الخراب حيث [لا عمارة
Shafi 45
فيها] (1) إلى أن يخرج من جبل القمر (2) خلف خط الاستواء. وليس فى الدنيا نهر يصب فى بحر الروم والصين غير نيل مصر. وليس فى الدنيا نهر يزيد ويمتد فى أشد ما يكون [15] من الحر حين تنقص أنهار الدنيا وعيونها غير النيل. وكلما/ زاد الحر كان أوفر لزيادته (3).
وليس فى الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل، ولا يجبى (4) من خراج نهر من أنهار الدنيا ما يجبى (4) من خراج النيل (5). وليس فى الدنيا نهر ينبت عليه القمح اليوسفى (6) غير النيل.
قال الكندى: وولى ابن «الحبحاب» (7) خراج مصر لأمير المؤمنين هشام، فخرج بنفسه فمسح أرض مصر التى «تروى» (8) بالنيل عامرها وغامرها، فوجد فيها ثلاثين ألف ألف فدان.
Shafi 46
قال ابن لهيعة: كان لنيل مصر قطيعة على كورة مصر؛ عشرون ومائة ألف رجل، معهم المساحى (1) والآلة، سبعون ألفا للصعيد، وخمسون ألفا لأسفل الأرض، لحفر الخليج، وإقامة الجسور والقناطر، وسد النرع، وقلع القضبان (2) والحلفا، وكل نبت يضر بالأرض (3).
وقال/ محفوظ بن سليمان (4): إذا تم الماء ستة عشر ذراعا فقد وفا خراج مصر، [16] [فإذا زاد بعد ذلك ذراعا واحدة زاد فى الخراج مائة ألف دينار، لما يروى من العمار] (5).
فإن زاد الماء بعد ذلك ذراعا واحدا نقص مائة ألف [دينار] (6) لما يستبحر (7) من البطون (8).
وقال المسعودى: [يبتدئ] (9) نيل مصر بالتنفس والزيادة بقية بؤونة وأبيب ومسرى، وإذا كان الماء زائدا زاد شهر توت كله. فإذا انتهت الزيادة إلى [ستة عشر ذراعا] (10)، ففيه تمام الخراج الذى للسلطان، وخصب [الأرض، وريع للبلد عام، وهو ضار للبهائم] (11) لعدم المرعى والكلأ. وأتم الزيادة كلها العامة النافعة للبلد كله [سبعة عشر] (12) ذراعا، وفى ذلك [كفايتها] (13) ورى جميع [أراضيها] (14). وإذا زادت على السبع عشرة الذراع، وبلغت ثمانى عشرة وأفاضتها، استبحر من [أرض] (15) مصر الربع، وفى ذلك ضرر لبعض
Shafi 47
الضياع، لما ذكرناه من وجوه الاستبحار [ (1) وغير ذلك. وإذا كانت الزيادة ثمان عشرة ذراعا كانت العاقبة فى انصرافه حدوث وباء بمصر.
قال: ومساحة الذراع إلى أن تبلغ اثنى عشر ذراعا ثمانية وعشرون إصبعا، ومن اثنى عشر ذراعا إلى ما فوق يصير الذراع أربعا وعشرين إصبعا. وأقل ما يبقى فى قاع المقياس من الماء ثلاثة أذرع، وفى مثل تلك السنة يكون الماء قليلا، والأذرع التى يستسقى عليها بمصر ذراعان؛ تسمى منكر ونكير، وهى ذراع ثلاثة عشر ذراعا، وذراع أربعة عشرة ذراعا. فإذا انصرف الماء عن هذين الذراعين وزاد نصف ذراع من الخمسة عشر، استسقى الناس بمصر، وكان الضرر شاملا لكل البلدان، إلى أن يأذن الله تعالى فى زيادة الماء. وإذا دخل الماء فى ستة عشر كان فيه صلاح لبعض الناس، ولا يستسقى فيه، وكان [ذلك] (2) نقصا من خراج السلطان (3).
قال: (4) وكانت مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا (4)، وكانت فيما يذكر أكثر البلاد جنانا، وذلك أن جنانها كانت متصلة بحافتى النيل من أوله إلى آخره، من حد أسوان إلى رشيد (5). وكان الماء إذا بلغ فى زيادته تسعة أذرع دخل خليج المنهى (6)، وخليج الفيوم (7)، وخليج سردوس (8).
HEYD: Hist. Du Commerce, T. II, PP. 734- 934, Leipzig 5291
Shafi 48
وكان الذى ولى حفر خليج سردوس لفرعون [عدو الله] (1) هامان (2). وأما خليج الفيوم وخليج المنهى فإن الذى حفرهما يوسف بن يعقوب، (صلوات الله عليهما).
قال الكندى: ولما أهدى المقوقس- صاحب مصر- إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) ثيابا، وكراعا (3)، وأختين من القبط؛ مارية وأختها (4)، وأهدى إليه عسلا، فقبل هديته، وتسرى] (5) مارية فأولدها إبراهيم. وأهدى أختها لحسان (6) بن ثابت الأنصارى، [17] فأولدها حسان ابنه عبد الرحمن (7) بن حسان. وسأل (صلى الله عليه وسلم) عن العسل الذى أهدى له (8) فقال: من أين هذا العسل؟ فقال: من قرية يقال لها بنها (9). فقال:
«اللهم بارك فى بنها وفى عسلها» (10).
واتفقوا على أن عسل مصر أطيب، وماؤها أطيب، ولحمها أطيب، وحبها أطيب.
ولهذا فضلت مصر على الشام؛ لأن هذه الثلاثة هى عماد الحياة، فحبها أفضل من حب الشام، ولحمها، وماؤها.
وعن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنه قال: دعا نوح (عليه السلام) لمصر بن بيصر بن حام بن نوح، وبه سميت مصر، وهو أبو القبط، فقال: اللهم بارك فيه وفى
Shafi 49
[18] ذريته، وأسكنه الأرض المباركة التى هى/ أم البلاد، وعون العباد، التى نهرها أفضل أنهار الدنيا (1).
وفى بعض التفاسير فى قوله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله (2)، أن المراد بالمكان المبارك فيه حول المسجد الأقصى؛ مصر. ولكن الآية أعم من ذلك، لأن الله تعالى بارك لأهله فيما حوله فى معايشهم وأسبابهم، وبارك فيه بدفن الأنبياء والصالحين وغير ذلك.
وذكر الثعلبى فى قصص الأنبياء أن جميع مياه الأرض أصلها من تحت الصخرة.
وقال فى قوله تعالى: إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو (3)، والبدو أرض الشام (4).
وقال ابن زولاق (5): كان بمصر من الأنبياء (عليهم السلام): إبراهيم الخليل، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف بن يعقوب، واثنى/ عشر سبطا من أولاد يعقوب (عليه السلام).
وولد بها جماعة من الأنبياء: موسى، وهارون، ويوشع بن نون، ودانيال، وأرميا، ولقمان، وعيسى بن مريم، وولدته أمه- والله أعلم- بإهناس (6)، المدينة المعروفة، «وبها» (7) النخلة التى قال الله تعالى فيها: وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (8).
وكان بمصر من الصديقين: مؤمن (9) آل فرعون، والخضر (10)، ويقال والله أعلم إنه ابن فرعون لصلبه، آمن بموسى (عليه السلام)، ولحق به، وجعله الله تعالى نبيا وآية.
Shafi 50
وبمصر مواضع شريفة منها: الوادى المقدس. وبها الطور. وبها ألقى موسى عصاه.
وبها انفلق البحر لموسى (عليه السلام). وبها النخلة التى أمرت مريم عليها/ السلام بأن [تضع] (1) تحتها عيسى (عليه السلام). فلم يثمر غيرها، وهى بالجيزة. وبها الجميزة التى صلى موسى (عليه السلام) تحتها بطرا (2).
وقيل فى قوله تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين (3) إن المراد بالربوة: البهنسا (4).
قال (5) أبو الحكم بن مفضل البهنسى فى كتابه «فضائل مصر»: قال شيخى:
الصحيح أن الربوة التى آوى إليها المسيح وأمه بمدينة البهنسا فى موضع يعرف الآن بمسجد الديوان، آوى به هو وأمه سبع سنين. قال: وأما الربوة التى بدمشق فموضع مبارك نزه مليح النظر، فى لحف جبل، وليست الربوة التى ذكر (6) الله عز وجل فى كتابه.
لأن عيسى (عليه السلام) ما دخل دمشق، ولا وطىء أرض الشام، بل الربوة التى هى بمصر. وقيل هى الرملة (7).
قال: و[اللبخة] (8) التى كانت تنضح له الزيت بمدينة أشمون (9) مشهورة، والنخلة [21] التى آوت إليها أمه بسدمنت (10) مذكورة. وإقامة [الحواريين] (11) معه بمدينة البهنسا غير
Shafi 51
منكورة. وبركة عيسى ظاهرة ببئر البلسم (1) التى بأرض المطرية. ودعوته لأهل البهنسا مشهورة (2).
قال: وفى مصر الأنبياء والمرسلون وأولو العزم المكلمون، وأبناء الأسباط من بنى إسرائيل، وذو القرنين، والإسكندر، والحكماء اليونانيون والفلاسفة، « (3) والطلاسم والحركات والرصد والنجامات، والمساحات والجبر والمقابلات، كهرمس (4)، وبقراط (5)، وجالينوس (6)، وفيثاغورس (7)، ووالينوس، وغير ذلك.
قال الكندى: قال كعب الأحبار: من أراد أن ينظر إلى شبه الجنة فلينظر إلى مصر [22] إذا أخرجت/، وإذا أزهرت، وإذا أطردت أنهارها وتهذبت ثمارها، وفاض خيرها، وغنت طيورها.
قال: وقال عبد الله بن عمرو: من أراد أن ينظر إلى شبه الفردوس فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها، ويزهو ربيعها، وتكسى بالنوار أشجارها (8).
وقال المسعودى فى «مروج الذهب» (9): وصف بعض الحكماء مصر فقال: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمردة خضراء، وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء.
Shafi 52
أما اللؤلؤة البيضاء: فإن مصر فى شهر أبيب- وهو تموز- ومسرى- [وهو آب] (1)- وتوت- [وهو أيلول] (2)، يركبها الماء، وترى الدنيا بيضاء.
وأما المسكة السوداء: فإن فى شهر بابة تنكشف الأرض بمصر أرضا سوداء، وتقع فيها الزراعات، وللأرض روائح طيبة تشبه رائحة المسك.
وأما/ الزمردة الخضراء: فإن فى شهر طوبة وأمشير وبرمهات تلمع الأرض ويكثر [23] عشبها ونباتها، فتصير الدنيا خضراء كالزمردة.
وأما السبيكة الحمراء: فإن فى شهر برمودة وبشنس وبؤونة يبيض الزرع، ويتورد العشب، فيشبه الذهب فى المنظر.
قال: ووصف آخر مصر فقال: نيلها عجب، وأرضها ذهب، وهى لمن غلب. ملكها سلب (3)، ومالها رغب، وخيرها جلب، وفى أهلها صخب، وطاعتهم رهب» (4)، وسلمهم شغب، وحربهم حرب. ونهرها النيل من سادات الأنهار، وأشرف البحار، لأنه يخرج من الجنة على حسب ما ورد به خبر الشريعة (5).
قال: وفى مصر أعاجيب كثيرة من أنواع الحيوان منها: التمساح (6)، وهو/ المسمار، [24] فلا يوجد إلا بنيل مصر، وهو يأكل وبطنه كالجراب، وليس له مخرج، بل يتغوط من فيه (7). وكذا ذكره ابن الجوزى قال (8): فإذا أكل وبقى الطعام بين أسنانه تربى فى فمه
Shafi 53
دود، فيأتى إلى البر فينام ويفتح فاه، فيأتى طائر فيدخل فاه، ويلتقط ذلك الدود، فإذا أحس التمساح بأن ذلك الدود قد فرغ، طبق [فمه] (1) على الطائر ليأكله. وجعل الله تعالى لذلك الطائر إبرتين من العظم فى طرفى (2) جناحيه، فإذا طبق فمه عليه ضرب بهما فى سقف حلقه، فيفتح فاه، فيخرج الطائر.
قال المسعودى (3): وخلق الله تعالى دويبة بنيل مصر تعادى التمساح، تستخفى له فى الرمل، فى موضع يرقد فيه ويفتح فاه لذلك الطائر، فإذا فتح فاه وثبت «ودخلت [25] فمه» (4)، ثم [تدخل] (5) إلى جوفه، فإذا دخلت/ جوفه اضطرب ونزل (6) البحر، فتأكل تلك الدويبة [أحشاءه] (7) وتخرق بطنه، وفى ذلك هلاكه. وفى كتاب (8) القزوينى: أن الذى يفعل ذلك بالتمساح هو كلب البحر (9).
وذكر المسعودى: أن التمساح هو الورل (10). وكذا قال الحموى فى كتابه «التمويه فيما يرد على التنبيه»، قال: إن التمساح يبيض فى البر، ويدفن بيضه فى الرمل، فإذا خرج فرخه، فما نزل البحر صار تمساحا، وما طلع إلى البر صار ورلا (11).
وإذا صح أن الورل فرخ التمساح، أطرد فيه الوجهان فى جواز أكل التمساح، وهذه الحكاية ذكر نظيرها عن أم طبق البحرية، وهى اللجاة (12) المسماة عند العامة بالترسة.
Shafi 54
قال الملاحون إنها تبيض فى البر، وتغطى بيضها بالرمل، وتنزل إلى البحر فتقعد/ [26] له أياما، وكذلك يعدها التمساح لبيضه، ثم يحفر عن البيض، فيخرج الفرخ، فما تبعها ونزل فى البحر صار لجاة، وما بقى فى البر صار سلحفاة.
والسلحفاة أكلها حرام، وكذلك الترسة. ونقل النووى تحريمها عن الأصحاب فى «شرح المهذب» فى كتاب الحج، ولم يتعرض له الرافعى، ولا صاحب الروضة. وكثير من الناس يأكلونها وهى حرام. نعم يجوز أكل بيضها، كما يجوز أكل بيض التمساح، وبيض الغراب والحدأة، على الصحيح فى جميع ذلك، لأنه طاهر لا ضرر فى أكله، وليس بمستقزر. كذا جزم به القمولى فى «الجواهر»، والنووى فى «شرح المهذب»، فى «باب» (1) البيع بأنه علل جواز بيعه بأنه طاهر منتفع [به] (2).
ومنها السمكة المعروفة بالرعادة (3)، وهى/ نحو الذراع، إذا وقعت فى شبكة الصياد [27] ارتعدت يداه وعضداه، فيعلم بوقوعها فيبادر إلى تخليصها. ولو أمسكها بخشبة أو قصبة فعلت كذلك.
قال المسعودى: وقد ذكرها جالينوس، وأنها إذا جعلت على رأس من «به» (4) صداع شديد أو شقيقة (5)- وهى فى [حياة] (6)- [هدأ] (7) من ساعته.
Shafi 55