Fuka-fukin da Suka Karye
الأجنحة المتكسرة
Nau'ikan
كذا تحيي الشمس الحقول بحرارتها، وبحرارتها تميتها.
بحيرة النار
كل ما يفعله الإنسان سرا في ظلمة الليل يظهره الإنسان علنا في نور النهار. الكلمات التي تهمسها شفاهنا في السكينة تصير على غير معرفة منا حديثا عموميا، والأعمال التي نحاول اليوم إخفاءها في زاويا المنازل تتجسم غدا، وتنتصب في منعطفات الشوارع.
كذا أعلنت أشباح الدجى مقاصد المطران بولس غالب من اجتماعه بفارس كرامة، وهكذا حملت دقائق الأثير أقواله وأحاديثه إلى أحياء المدينة حتى بلغت مسمعي.
ما طلب المطران بولس غالب مقابلة فارس كرامة في تلك الليلة المقمرة ليفاوضه بشؤون الفقراء والمعوزين، أو يخابره بأمور الأرامل والأيتام، بل أحضره بمركبته الخصوصية الفخمة ليطلب منه ابنته سلمى عروسا لابن أخيه منصور بك غالب.
كان فارس كرامة رجلا غنيا، ولم يكن له وارث سوى ابنته سلمى، وقد اختارها المطران زوجة لابن أخيه، لا لجمال وجهها ونبالة روحها، بل لأنها غنية موسرة، تكفل بأموالها الطائلة مستقبل منصور بك، وتساعده بأملاكها الواسعة على إيجاد مقام رفيع بين الخاصة والأشراف.
إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه أنفسهم من المجد والسؤدد، بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا أنسباءهم في مقدمة الشعب ومن المستبدين به والمستدرين قواه وأمواله. إن مجد الأمير ينتقل بالإرث إلى ابنه البكر بعد موته، أما مجد الرئيس الديني فينتقل بالعدوى إلى الإخوة وأبناء الإخوة في حياته. وهكذا يصبح الأسقف المسيحي والإمام المسلم والكاهن البرهمي، كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتص دماءها بأفواه عديدة.
عندما طلب المطران بولس يد سلمى من والدها لم يجبه ذلك الشيخ بغير السكوت العميق والدموع السخينة، وأي والد لا يشق عليه فراق ابنته حتى ولو كانت ذاهبة إلى بيت جاره أو إلى قصر ملك؟ أي رجل لا ترتعش أعماق نفسه بالغصات عندما يفصله ناموس الطبيعة عن الابنة التي لاعبها طفلة وهذبها صبية ورافقها امرأة؟ إن كآبة الوالدين لزواج الابنة تضارع فرحهما بزواج الابن، لأن هذا يكسب العائلة عضوا جديدا، أما ذاك فيسلبها عضوا قديما عزيزا. أجاب الشيخ طلب المطران مضطرا، وانحنى أمام مشيئته قهرا عما في نفسه من الممانعة، وكان قد اجتمع بابن أخيه منصور بك وسمع الناس يتحدثون عنه، فعرف خشونته وطمعه وانحطاط أخلاقه، ولكن أي مسيحي يقدر أن يقاوم أسقفا في سوريا ويبقى محسوبا بين المؤمنين؟ أي رجل يخرج عن طاعة رئيس دينه في الشرق ويظل كريما بين الناس؟ أتعاند العين سهما ولا تفقأ؟ أو تناضل اليد سيفا ولا تقطع؟ وهب أن ذلك الشيخ كان قادرا على مخالفة المطران بولس والوقوف أمام مطامعه، فهل تكون سمعة ابنته في مأمن من الظنون والتآويل؟ وهل يظل اسمها نقيا من أوساخ الشفاه والألسنة؟ أو ليست جميع العناقيد العالية حامضة في شرع بنات آوى؟
هكذا قبض القدر على سلمى كرامة، وقادها عبدة ذليلة في موكب النساء الشرقيات التاعسات، وهكذا سقطت تلك الروح النبيلة بالحبائل، بينما كانت تسبح لأول مرة على أجنحة الحب البيضاء في فضاء تملأه أشعة القمر وتعطره رائحة الأزاهر.
إن أموال الآباء تكون في أكثر المواطن مجلبة لشقاء البنين؛ تلك الخزائن الواسعة التي يملأها نشاط الوالد وحرص الأم تنقلب حبوسا ضيقة مظلمة لنفوس الورثة. ذلك الإله العظيم الذي يعبده الناس بشكل الدينار ينقلب شيطانا مخيفا يعذب النفوس ويميت القلوب. وسلمى كرامة هي كالكثيرات من بنات جنسها اللواتي يذهبن ضحية ثروة الوالد وأماني العريس. فلو لم يكن فارس كرامة رجلا غنيا لكانت سلمى اليوم حية تفرح مثلنا بنور الشمس.
Shafi da ba'a sani ba