الوداع يا صديقي العزيز، وسيكون برسالتي التالية تفصيل واف عن سياحتي.
الرسالة الثالثة والخمسون
أنجزت رحلتي إلى موطني الأصلي بكل إخلاص الحاج؛ حيث كان استعراضي لمناظر أذكرها جيدا يملؤني بشعور وعواطف لا توصف، وما دنوت من شجرة الزيزفون الكبيرة التي تبعد عن القرية نحو ربع فرسخ، حتى تركت مركبتي وأمرت السائق أن يسبقني ليزيد تمتعي بحلاوة الذكرى، وأنا وحيد على قدمي، ووقفت تحت الشجرة التي كانت دائما المنتهى الذي أتمشى إليه في أيامي الأولى، وما أشد التبدل منذ ذلك الحين! في تلك الأيام السعيدة الساذجة كنت أحن شوقا إلى عالم لم أعرفه، ولكنني عللت به نفسي مزينا بأجمل الأزهار، ضاما لكل متع الشباب ورغائبه، والآن وقد زرت العالم فماذا رأيت يا صديقي العزيز؟ ماذا رأيت سوى أضداد كل المناظر الخلابة التي صورها خيالي الفتي؟! إنني أشهد الآن قبالتي هذه الجبال التي - كما أذكر جيدا - طالما أثارت حب التغرب والأسفار؛ فقد كنت أجلس الساعات ناظرا إليها وأنا أتحرق شوقا لأكون بين تلك الغابات الكثيفة والوديان التي تجعل المنظر مديحا رائعا، وإذا ما انتهت تلكم الساعات الممتعة واضطررت للعودة، فما أشد أسفي حين أبرح هذه البقعة المحبوبة! ودنوت من القرية، فعرفت تلك الحدائق الصغيرة الجمة، وبيوت الصيف التي كنت معروفا بها جيدا في أيامي الأولى، على أنني لم أستحسن الجديد منها أو أي تغيير عمل بها. ودخلت القرية من الباب الكبير، فشعرت ثانية أنني في بيتي، ومن المستحيل يا صديقي العزيز أن أذكر بدقة كل ظروف هذه الرحلة المؤثرة، وليست بممتعة لديك تفاصيلها، ولو أنها عندي من أجمل الأشياء؛ لما تجلبه من الذكريات المسرة. وكان في نيتي أن أنزل بالسوق قرب بيتنا القديم، ولكنني إذ انتحيت تلك الجهة وجدت غرفة المدرسة التي كانت من قبل مستأجرة لسيدة عجوز فاضلة، قد انقلبت إلى حانوت بائع، وذكرت الهواجس العديدة، والدموع الكثيرة التي ذرفتها في ذلك المحبس. وكان لكل خطوة تالية تأثير خاص بها، وليس ثمة من حاج في الأرض المقدسة جذبته آثار عدة كهذه، أو أظهر ولاء كولائي، ولا أستطيع الكف عن ذكر واحد من آلاف الإحساسات التي شعرت بها.
وسرت أتبع مجرى صغيرا إلى تلك المزرعة التي كانت محل جولتي المحبوبة؛ حيث كنت أستحم مع أولاد آخرين، ونلعب «البط وذكر البط» في الماء، فأثرت في بشدة ذكرى ما كنت فيه. يا للذكرى المؤلمة! وأذكر جيدا أنني طالما نظرت إلى الماء وهو يجري، وطالما كونت خواطر خيالية عن البلاد الكثيرة المختلفة التي سيمر بها حتى يتعب خيالي، وفي جريان الماء المستمر يظل عقلي متأملا المسافات غير المعروفة، وهذا أيها الصديق مثل تام لعواطف أسلافنا العظماء، ومن المؤكد أن لغة يوليسيس
1
وهو يتكلم عن المحيط اللامتناهي والأرض التي لا حد لها، تلائم فهم الرجل الضئيل كما تلائم فهم الشاب المدعي الذي يتظاهر بوقار الفيلسوف؛ لأنه تعلم من المدرسة أن الأرض كرية. ووجدت خيالي لا يزال هائما، وأن أفكاري في اضطرابها هذا لن تقف عند حد، فتهيأت فجأة للعودة، ودخلت مركبتي وبدأت سفري وقد أثرت على مشاعري المسرات الماضية والأحزان الآتية.
وأنا الآن يا صديقي العزيز مع الأمير في أحد بيوته، وهو رجل غاية في الإخلاص والكرم، وأشعر في رفقتي له أنني في بيتي، والسوءة الوحيدة في طباعه أنه سريع الاعتقاد؛ فهو يميل جدا إلى تصديق الأقاويل، كما أنه يخرج أمامك تأكيداته دون تجربة أو بحث، ويسوءني القول بأنه يقدر كفاءتي وتهذبي الخارجي أكثر من أميالي ومواهبي العقلية، وهي في الحقيقة كل ما أفخر به؛ إذ هي منبع كدي وسعادتي وشقائي وكل شيء، وهي كل ما أملك لنفسي وما يكون كل صفة حميدة أختال بها، مع أنني لا أتظاهر قط بالعلم والمعرفة الكبيرة.
الرسالة الرابعة والخمسون
25 مايو
دبرت خطة آليت لا أدلي بها إلى صديقي حتى تتم، بيد أن المشروع قد أحبط؛ ولذا ألقيها إليك الآن، صممت منذ حين على الانخراط في سلك الجيش، وهذا في الحقيقة ما ساقني رئيسيا إلى قبول دعوة الأمير؛ فهو جنرال في خدمة منتخب ... وقد أخبرته منذ قريب إذ كنا نتمشى معا بميلي، فلم يحبذه، ونجاحه موقوف على رغبته؛ ولذا رأيت من الحكمة ألا أعارضه .
Shafi da ba'a sani ba