3
قد لفتني من قبل لطفها ورقتها، رافعة إصبعها إذ مررنا بها مرتين، قائلة بصوت جلي مؤثر: «ألبرت!» «ألبرت؟ وهل أجرؤ فأسألك من هو ألبرت؟» وكادت شارلوت تجيبني فتشفي غلتي، لولا أن اضطررنا أن نفترق بحكم نظام الرقصة، ولاحظت عند التقائنا ثانية غما طارئا يظلل محياها، ولما تناولت يدها لأصحبها إلى الخارج أعدت السؤال فأجابت: «ليس ثمة داع لكتمان الحقيقة، إن ألبرت سيد نبيل قد عقد لي عليه.» فذكرت الآن ما خبرتني عنه السيدتان في المركبة، على أنه لم يؤثر في حينذاك؛ لأنني لم أكن رأيت شارلوت بعد، ولم تمر ببالي تلك الفكرة التي طعنت فؤادي، وتملكتني الحيرة، وعلتني كآبة أنستني ما أنا فيه، فأحدثت ارتباكا كبيرا في نظام جماعة الراقصين بأغلاط كثيرة كانت تستدركها شارلوت بحذق ومهارة، فتعيدنا إلى الصواب.
واعترض رقصنا بعد ذلك برق يأخذ بالأبصار، هو ما قرأناه من قبل في جبين السماء، وما حاولت أن أصوره للسيدتين نتيجة الحر الشديد، وعلا هزيم الرعد صوت الموسيقى فأخفاه، وهلعت سيدات ثلاث فتركن المرقص هاربات وتبعهن رفاقهن، ثم عم المكان الذعر وساد الهرج فصمتت الموسيقى. ومن المعلوم أننا ننظر إلى الخوف بأكثر من حقيقته إذا فاجأنا في ساعة سرور؛ لأن الذهن الذي كان منصرفا إلى الحبور واللهو يصبح سريع التأثر بالمزعج المفاجئ، متهيئا للانفعالات؛ ولذا فإن الانقلاب من الفرح إلى الحزن يكون هائل الأثر فيه؛ فلا بدع إذا إن ازدادت مخاوف السيدات باشتداد العاصفة وتقدمها، وجلست أثبتهن جنانا مولية ظهرها إلى النافذة، وجعلت أصابعها في أذنيها، تتقي قعقعة الرعد وخطف البرق كأنما ذلك مجديها نفعا، وركعت ثانية أمام الأولى، وتمتمت صلاة قصيرة، ثم أخفت وجهها في حجرها، وأسرعت ثالثة فتوسطتهما ممسكة بهما، والدموع تهطل من عينيها، وكان بعضهن يتوق إلى الروح لبيوتهن، واستطير لبهن روعا، حتى صمت آذانهن عن سماع نصائح رفاقهن الذين كانوا يسترقون من بين شفاههن تلك التنهدات الواهية الرقيقة الصاعدة إلى السماء، وانسحب رجال أنذال ليدخنوا غير عابثين بشيء، وتمالك باقي الجماعة روعهم أخيرا، فتلوا تلو ربة الدار، وتبعوها إلى مخدع قد أحكم إغلاق نوافذه فلا يسمع فيه الدوي الهائل إلا ضئيلا. ولما دخلناه صفت شارلوت المقاعد في دائرة ودعتنا للجلوس، مقترحة دعابات صغيرة، يكون لنا فيها تسلية ولهو، وكان تكلف بعض السيدات في إجابة الاقتراح ظاهرا، كما كان البعض يتوق إلى البدء فيه، واتفقنا على لعبة العد التي بينتها شارلوت قائلة: «سأسير من اليمين إلى اليسار وأنتم جلوس، فتعدون متواترين مسرعين، وجزاء من يقف أو يخطئ لطمة على أذنه.» وبدأت تدور منبسطة الذراعين، فكان عملها مسريا الهم، مروحا عن البال، فصاح الأول: «واحد»، وتلاه الثاني: «اثنان»، فالثالث: «ثلاثة» وهكذا، حتى انتظم خطاها، ثم أوضعت في سيرها، ففرطت من أحدنا غلطة كان جزاؤها لطمة، وضحك آخر فأصابه ما أصاب أخاه، وهكذا ظلت شارلوت ترسل اللطمة إثر اللطمة، وهي تزيد في سرعتها تدريجا، فكان من نصيبي لطمتان سررت بهما كثيرا؛ لأنني تصورتهما «أشد» من غيرهما. ثم فاض الضحك على الجميع فغلبهم، واختلط عليهم العد، وبذلك انتهت الدعابة دون أن ندرك الألف.
وكانت العاصفة قد هدأت كثيرا، وبدأ المدعوون يكونون شراذم عدة، وكانت أفكاري لا تزال منصرفة إلى منحى واحد، فتبعت شارلوت إلى غرفة الاجتماع، وحدثتني في الطريق قائلة إن اللطمات التي جادت بها على اللاعبين نتيجة هفوة أو إغفال لم يقصد بها إلا تبديد مخاوفهم، وتسكين روعهم، وإنها وإن كانت من قبل أيضا فزعة منزعجة، إلا أنها بتشجيعهم قد شجعت نفسها.
وذهبنا إلى النافذة، وكان الرعد لا يزال يدوي دويا هائلا، مع أن المطر أخذ يتساقط رذاذا على بعد منا، يروي المراعي الخضراء، ويعطر النسيم البليل. وأسندت شارلوت رأسها على ذراعها الجميل، ثم أرسلت عينيها الممتلئتين بالمعاني في الفضاء المحيط بنا، ورفعتهما إلى السماء، ثم هبطت بهما علي فرأيتهما مغرورقتين بالدموع، ووضعت يدها برفق على يدي، ثم صاحت بصوت قوي: «آه يا كلوبستوك!»
4
وخفق فؤادي لهذا الاسم، وشعرت بألف عاطفة، وفاض علي شعره السموي، واضطرمت شعلة حبي لتلك المخلوقة التي تتفق عواطفها وعواطفي أيما اتفاق، وخارت قواي، فلم أتمالك أن صحت مرددا: «آه يا كلوبستوك!» ثم انحنيت، فطبعت على يدها الجميلة قبلة شغف وانعطاف، وحدقت بوجهها الحلو، فرأيت دموعها تنهمل عليه، فقلت: «يا كلوبستوك المجيد! لم لا تشهد تألهك في وجه هذا الملك؟ لم لا تسمع اسمك الذي طالما دنس ينطق به هذا الصوت السحري؟ وهل يجرؤ غيره على النطق به؟»
الرسالة الثانية عشرة
19 يونيو
إلى أين انتهيت في رسالتي الماضية؟ آه يا صديقي، لقد نسيت كل ما قلت، ومبلغ ما أذكر أنني وصلت إلى منزلي وانطرحت على فراشي في الساعة الرابعة صباحا، ولو كنت قادرا على تحديثك بدل الكتابة إليك، لظللت أفعل طول الصباح. هل خبرتك بما حدث في أوبتنا من المرقص؟ ليكن، فليس في التكرار بأس، ولكن عفوك الآن وغفرانك أيها الصديق! إنني سأقف وقتا آخر على خدمتك، فإن الحب لم يمح الصداقة.
Shafi da ba'a sani ba