Bakin Ciki na Dan Kama Tama
أحزان عازف الكمان
Nau'ikan
لم يكد يدخل من الباب حتى حدثت المعجزة؛ خرجت الحروف كما تخرج الوحوش من الحبس الطويل. تلامست وتعانقت ثم تكورت وانطلقت كالقذيفة من فمي: عبد الهادي ... حاولت أن أكمل وفتحت فمي مرات وأغلقته ولكن المعجزة لم تتم. راحت الحروف تتصادم وتصلصل في سقف الحلق ثم تختنق وتتفتت في حشرجة متقطعة خرساء، ويبدو أنه سمعني أو أحس بي فشعرت بملمس قبلته على خدي وفي جبيني، وبضغطة يده الطويلة الخشنة علي يدي. جزاك الله كل خير يا أخي ولا حرمني منك. تدعو لي بالعافية وطول العمر وتضحك وتقول لحظة وأرجع لك، وتجلس في الصالة مع ابنة أختك وتوشوش معها ولا تعلم أنت ولا هي أن الله عوضني في أذني عن عجز العين وشلل اللسان والفم. هل تصورتما يوما أنني أسمع دبة النملة وأنفاس الريح وزحف الموت في شراييني؟ - بركة أنك طيب وبخير يا خال. - وكل شيء تم بخير وبفضل الله. - ربنا يقدرنا على رد الجميل ونتعب لأولاد أولادك في الأفراح. - في حياتك يا بنتي، الدنيا كلها تعب في الأفراح وفي الأحزان، لكن ربك هو المعين. - ونعم بالله يا حاج، وما دام وضعت فيها يدك ... - ويده أيضا فيها البركة، الحاج متولي التربي وحارس الجبانة. الرجل لم يتأخر وحضر معي بعد صلاة العصر. فتحنا المدفن وقرأنا الفاتحة على أمواتنا وأموات المسلمين. هو الله يستره الذي دلني على تربة ستك الله يرحمها ويحسن إليها. أصل الزحام يا بنتي في الموت وفي الحياة، والنائم تحت الأرض مثل الماشي فوق الأرض. المدفن ازدحم يا بنتي والعقل تاه. فتحنا التربة كأننا نفتح في كوم تراب، الله يرحمك يا أمي. - صدق من قال يا خال: المتعوس في الدنيا منحوس في الآخرة. - لكن ربك لا يرضى بالظلم يا بنتي. غفقنا التربة بالأسمنت وفرشنا الرمل على الأرضية، مد الرجل يده وأنا معه وسمينا وركنا العظم على جنب، حال الدنيا ومصير الكل يتلاقى، المهم الواحد يطمئن لنومته في الدنيا والآخرة. - كتر خيرك يا خال، لو كانت في وعيها كنت قلت لك ادخل وطمئنها. - العلم عند الله يا بنتي، جائز أنها تفهم أكثر مني ومنك.
ضحكت نظيرة وقالت وهي تتجه إلى المطبخ لتعد له كوب الشاي: الله يجازيك يا خال، دائما الضحكة على لسانك والقبول في وجهك.
دخل عبد الهادي وهو يبسمل ويحوقل وجلس على حافة السرير، وضع يده في يدي التي راحت تمر عليها وتضغط وتتكلم بدلا عن لساني. عجزت عن إخراج حرف واحد من فمي، وجعلت أناملي تتلمس أنامله وتلتف حولها وتنطق وتصمت صاعدة هابطة وساكنة متحركة. كنت أريد أن أسأله وأسأله ولكن كيف أخرج وحوش الكلام التي تفترسني بين أقفاصها. كيف أقول وأعبر عما يفيض من القلب ثم يقف في اللهاة ويتعثر وينكفئ ويسقط في الظلام. أنت يا حبيبي الذي تعرف ما لا يعرفون. يا من كنت معي وهو يتلوى من الحمى كالفأر الصغير وأنت تشجعني وتعزيني وتفتح طاقة القدر في عز الظلام. أخذت تقرأ من كتاب الله وتمرر يدك الطيبة على رأسه، وحكيت لي وحكيت عن بخت الأم المسعدة التي يموت لها طفل صغير. كان محمود يصارع الوحش أو الملاك وأنت تكلمني عن بختي وسعدي المقسوم. وحياتك يا حامل الشرع وحافظ الكتاب، هل سيظهر محمود يوم يحشر الأموات يوم العرض العظيم؟ هل يجري نحوي ويأخذ بيدي ولا أسقط في الجحيم؟ وأصابعي تسأل وتسأل، تتحرك وتسكن وتصعد وتهبط وتتشابك وتتفرق وأنت لا تكف عن تلاوة الآيات وترتيل الدعوات.
وتتم المعجزة مرة أخرى فتخرج الحروف من الحبس الطويل، تقترب من بعضها وتتلاقى وتتعانق ثم تنطلق فجأة كمواء القطة العجوز التي رأيتها بعيني الأخرى في الكابوس: محمووود، تعال يا حبيبي، الديك صحا وصاح، تعال يا ولدي وخذ بيدي، تعال، تعال.
1
نقل دم
1
كيف يمكنه أن ينسى تلك الليلة عندما كان يتمشى على شاطئ النيل؟ لم تكن كغيرها من الليالي التي شهدت مسيرته المعتادة على الجسر التاريخي العتيق بحثا عن الراحة من تعب النهار وضوضائه، وتلهفا على شيء من السكون الذي أصبح في حكم المستحيلات، وتهيؤا للنوم الذي يعز عليه دائما ويسرق منه، وتطلعا لشعاع من الأمل يستقبل به مهام اليوم التالي وواجباته. لم يكن الشيء الذي ميز الليلة وحفر ذكراها في صدره كالجرح الغائر هو الضباب الخانق الذي لف خيمته الداكنة الكثيفة على السماء والأرض وغشي الأطياف القليلة التي كانت تعبر به وربما تأخذها الدهشة من رؤيتها له وهو يتنزه في الجو الخانق المنذر بالمطر. لا لم تكن ليلة عادية بل تحولا في المصير، نقلة مباغتة من خارج قطر الدائرة إلى مركزها، ثقبا في الضمير ظل يتسع منذ تأكد له أن الإلهات الثلاث المكلفات بنسج خيوط أقدار البشر على مغازلهن لن يستطعن أن يرتقنه مهما حاولن.
كان قد عبر الجسر في اتجاه الجزيرة الهادئة التي يقع فيها مسكنه عندما سمع صرخة دوت في أذنيه كاستغاثة غريق. تصلب في مكانه وفقد القدرة على الحركة، وأحس أن قوة طاغية قد تسلطت على أعضائه وشلت ساقيه وقدميه. تلفت حوله في كل الاتجاهات فلم يشعر بشيء غير عادي، وخطر له أنه مر أثناء عبوره للجسر بأكثر من شبح يميل على سوره ولم يكلف نفسه حتى بالنظر إليها، وهو لا يذكر الآن هل كانت أشباح نساء أو رجال، شبان أو عجائز، ودوت الصرخة مرة أخرى ثلاث مرات في اتجاه الجنوب، وكأن صاحبها يرفع رأسه في كل مرة فوق الماء بحثا عن اليد التي تنقذ الغريق. الأرض رمال ساخت فيها قدماه. جسده ينتفض ويرتج من داخله وخارجه والعرق يتصبب من جبينه بالرغم من زخات المطر المتلاحقة. توغلت الرعشة كالحمى في كيانه وأخذت تحرك رأسه وأطرافه يمينا ويسارا فتصور أنه ساعة مسمرة فوق حائط ولها أكثر من بندول يترنح كالمجنون. وماذا يفعل وهو لا يعرف العوم؟ هل هناك وقت للنداء والاستغاثة والصياح؟ وأين شرطة النجدة المخصصة للمساحات المائية والمفروض أنها لا تتوقف عن التجول بقواربها في النهر وفي هذا الوقت من الليل الذي تكثر فيه حوادث الانتحار أو الغرق أو الإغراق؟ توقف مكانه كالجثة المدلاة من حبل مشنقة، وتوقفت ساعته الجسدية وخرس كالحائط الذي التصقت به.
لم يدر هل يتقدم أو يتأخر، هل يصرخ أو يصمت، هل يجري إلى اليمين أم اليسار وإلى الشمال أم الجنوب. شعر أنه جذع شجرة يابسة يغوص بقوة قاهرة في كومة طين بلا حدود ولا أعماق. فاتت لحظات لم يسمع فيها أي صوت. خيل إليه أن ساعته بدأت تدق من جديد، وتحركت قدماه نحو بيته وهو من الخجل والعجز واليأس في غاية. إنه لم ير أحدا، وربما لم يره كذلك أحد. صحيح أنه سمع صوت الاستغاثة يخرق أذنيه ويخترق لحمه كالسكين الحادة، لكن من يضمن له أن هذا الصوت لم يكن وهما؟ وما الذي يؤكد أنه كان صوت استغاثة غريق أو غريقة ولم يكن من عبث الصبية الفقراء الذين كثيرا ما رآهم يتجردون من ملابسهم البائسة ويتنافسون على السباق ضد التيار في عرض النيل؟ من يضمن له أي شيء أو يؤكد له أي شيء؟ إنه لا يدري ولا يستطيع بعقله أن يحكم أو يثبت أو ينفي، لكن لماذا نفذت الصرخة إلى قلبه؟ ولماذا اتسع الخرق في ضميره يوما بعد يوم وسنة بعد سنة؟ وإذا برأه العالم كله من ذنبه فمن الذي يعفيه من محاسبة نفسه واتهامها مع طلعة كل شمس وغروبها؟ من الذي يملك القدرة على إسكات تلك الاستغاثة الحادة التي لا تتوقف عن التردد في سمعه والطرق بوحشية على كل بوابات وجوده؟
Shafi da ba'a sani ba