ولما فكرت فيما قدمت من أجله أكبرته، وحدثتها نفسها بأن تعدل عن مكاشفة القسيس بسرها وهمت بالرجوع وإذا بالقسيس قد أزاح الستار ووقف بباب الهيكل وبيده الصليب والإنجيل وهو يتلو الصلاة، فلم تتمالك عن التقدم نحوه وإحناء رأسها تحت الكتاب، فقرأ فصلا من الإنجيل بالقبطية - على عادته - فتشددت ورجعت إلى عزمها على الاعتراف.
فلما فرغ القسيس من الصلاة مد يده إليها فقبلتها، وأحس القسيس ارتعاش أناملها. وكان الأب منقريوس شيخا طاعنا في السن، عرف دميانة منذ طفولتها إذ كان هو الذي عقد إكليل أمها وعمدها هي وكان عطوفا عليها طيب السريرة صادق التدين مع سذاجة وصفاء طوية. وقد اطلع على أسرار اعترف له بها أصحابها زادته حنوا على دميانة ورعاية لها.
وقسيس الشعب الذي يطلع على أسرار رعيته إذا كان صادق التدين طيب السريرة كان ميمون الطالع؛ لأنه يستخدم تلك المعرفة للتوفيق بين بنيه وإزالة ما يكدر صفوهم من سوء التفاهم أما إذا كان طماعا منافقا فإنه يكون شرا عظيما عليهم؛ لأنه يستخدم تلك الأسرار لسلب الأموال والتمتع بالسيادة وغيرها من مطالب العالم.
وكان الأب منقريوس شيخا جليلا قد ابيض شعره واسترسلت لحيته، لا مطمع له في شيء من حطام الدنيا، وإنما همه خدمة رعيته والتوفيق بينهم، فلما رأى دميانة على تلك الحال في ساعة لم يتعود أن يراها بالكنيسة فيها ابتدرها بالكلام ليجرئها فقال: «كيف أنت يا ابنتي؟»
فهمت بالكلام فسبقتها العبرات فأطرقت حياء ووجلا فقال: «ما بالك تبكين؟ إن من كان في مثل حالك من التقوى والإيمان بالسيد المسيح لا ينبغي له أن يحزن أو يخاف.»
فتشددت وقالت: «نعم يا سيدي صدقت وأنا قد جئت الآن لاعترف لك بأمر أتعبني وأقلق ضميري فهل تسمعه؟»
قال: «كيف لا؟ تعالي إلى كرسي الاعتراف.»
قال ذلك واتجه إلى كرسي بجانب الهيكل يقعد عليه لسماع أقوال المعترفين، وأشار بأن تقعد على كرسي بين يديه، وبعد أن تلا الصلوات أو الطقوس التي تتلى في مثل هذا الموقف قال لها: «قصي خبرك يا دميانة ولا تخافي؛ فإنك تخاطبين نفسك، ومهما يكن من خطورة سرك فإنه يبقى مكتوما لا يعلم به أحد كأنك تناجين الله في ضميرك.»
فأطرقت دميانة خجلا وقد بدا الاصفرار في وجهها وسكتت، فقال: «قولي يا ابنتي.»
فرفعت بصرها إليه وتناولت يده وقبلتها وبللتها بدموعها، فاجتذب يده منها وقال: «قولي يا دميانة لا تخافي يا ابنتي، ولا أظنك تقولين شيئا أجهله؛ لأننا معشر القسيسين لا يخفى علينا شيء من أسرار الرعية؛ وذلك بما وهبنا السيد المسيح من سر الاعتراف، وعلينا أن نستخدم هذه المعرفة في الإصلاح بين الناس وتخفيف متاعبهم، وأنت تعلمين أني بمنزلة أبيك وقد عرفتك طفلة وعرفت أمك من قبلك ، ولا تخفى علي خافية من أحوالك.»
Shafi da ba'a sani ba