فانتهره الهجان وقال له: «كانوا كذلك، ولكن أفسدتموهم يا معشر النوبة وسترون عاقبة بغيكم قريبا وإذا فهت بكلمة أخرى أخرجنا ما تخفيه بين أثوابك من الرسائل.»
فخاف زكريا إن هو أصر على الإنكار أن يبحثوا بين أثوابه فيفقد الأسطوانة التي يخفيها تحت إبطه وتذهب آماله عبثا. ولم يعد يعلم ماذا يعمل لينجو قبل أن يقبضوا عليه، وهم إذا أرادوا قتله لا يمنعهم مانع، فتغابى وقال: «فتشوا. إني لا أحمل شيئا وإنما جئت لأفي نذرا لهذا الدير، وأنا أشير على رفاقي أن يتخلوا لكم عما معهم ويتبعوني قبل أن يشتد الظلام فيضلوا طريقهم.» قال ذلك وأشار إلى الراهبين أن يتبعاه ووخز جمله فطار به وكانت الشمس قد غابت وتكاثفت الظلال، فزاد القوم رغبة في القبض على زكريا لما آنسوه من رغبته في الفرار، فصاحوا به: «قف عندك.»
ولكنه كان قد أطلق لهجينه العنان، فاقتفى أثره اثنان منهم وكان قد تمرس بركوب الجمال في شبابه وكاد ينساه، لكن رغبته في النجاة وخوفه من وقوع ذلك الأنبوب بأيدي القوم جدد نشاطه وشبابه، فثبت على الرحل ثبات الطود. ولكن مطارديه كانوا من أهل البادية الذين شبوا على ظهور الجمال، فلم يطارداه إلا قليلا حتى كادا يدركانه، وكان الليل قد أسدل نقابه وأصبح على مقربة من دير أبي مقار، وعرف ذلك من مصباح موقد هناك لهداية القادمين، فلما أيقن بالهلاك ضاع رشده وارتبك في أمره وعثر الهجين برابية من الرمال فاختل توازنه فهوى عن ظهره، وأراد أن يتمسك برقبته فخانته يداه فسقط إلى الأرض فوق الرمال والهجين يجمح في عرض الصحراء. ولما وجد زكريا نفسه على الرمال سليما استرجع رشده وركض منحرفا عن الطريق وأخذ يبحث عن مكان يختبئ فيه حتى يمر الهجانان فوجد حفرة نزل فيها وهو يتلمس جوانبها.
أما الهجانان فكان أحدهما قد تعب وتباطأ وظل الآخر يستحث هجينه في أثر زكريا وقد أشرع الرمح، وزكريا تارة يتوارى عنه وراء التلال وطورا يظهر له وربما اقترب منه حتى كاد يدركه فيعيقه عنه عائق من وعورة الطريق أو غيرها فيسبقه. ولما سقط زكريا عن الجمل كان قد بعد عن مطارده وتوارى في ظل أكمته ولم يقف هجينه بل زاد عدوا؛ لأنه أجفل من سقوط راكبه وأحس بخفة محمله ولم ير الهجان المطارد سقوط زكريا فظل في أثر الهجين الهارب يعدو وحده. وبعد أن تجاوز مكان السقوط بمسافة طويلة أيقن أن زكريا سقط وقتل وأصبح همه منصرفا إلى تعقب الهجين لأخذه.
أما زكريا فتربص في الحفرة وعيناه تتعقبان الشبح الذي كان يطارده، فرآه تجاوزه جريا في أثر الهجين، فاطمأن على حياته، وأخذ يتحسس أعضاءه؛ لئلا يكون قد تعطل شيء منها، فوجدها سليمة فشكر الله وعد ذلك من كرامات مار مقاريوس صاحب الدير. وافتقد الأسطوانة فوجدها في مكانها تحت إبطه، فأخرج طرفها وقبله سرورا ببقائها وأعادها إلى مخبئها، ولبث ينتظر ما يكون من أمر رفاقه هل ينجون بأنفسهم أم لا، ولما مضت مدة لم يعد يسمع فيها صوتا خرج من الحفرة والظلام شديد، وتسلق رابية وأخذ يتلمس ويتفرس فيما حوله؛ لعله يرى شبحا أو يسمع صوتا، فلم ير غير نور الدير وقد أصبح قريبا، فمشى نحوه وقد أحس بالألم في ساقيه لكن فرحه بالنجاة من القتل أنساه كل شيء.
وما كاد يمشى قليلا حتى سمع صوتا وقف له شعره وارتعدت فرائصه، إذ كان صوت حفيف ثعبان ينساب على مقربة منه. ثم سمع فحيحه فجمد الدم في عروقه ووقف وقوف الصنم؛ لأنه كان يسمع عن الثعابين السامة في تلك البادية. وكان الظلام قد حال بينه وبين ما حوله، فلم يعرف كيف يتقي الأذى فأخذ يرسم علامة الصليب على وجهه ويستغيث بمريم العذراء ومار مقاريوس صاحب الدير وبسائر القديسين متمتما، ولو أراد رفع صوته لم يستطعه لجفاف حلقه من الخوف.
ظل واقفا بضع دقائق حسبها ساعات حتى بعد الحفيف عنه، فتحقق أنه نجا لكنه ما زال يخاف من طارق آخر فاستعان بالله واستجار بقديسيه ومشى نحو النور الذي يراه في دير أبي مقار.
مشى زكريا على الرمال يتحسس طريقه. فتارة تغوص قدمه في الرمل فيخاف أن تلدغها عقرب وطورا تصدم بصخر أو تعثر بحصى فيجفله صوتها. وكان محتذيا نعالا من القش كانت شائعة في وادي النيل ينسجها بعض أهل الريف من ألياف البردي أو القنب أو الغار. وكان يخطو وهو يتعثر بثوبه وافتقد قبعته، فلم يجدها، وكانت قد سقطت في أثناء الفرار ولم يشعر فلم يهمه أمرها وإنما أهمه الوصول إلى الدير.
أقبل على الدير فوجده مربع الشكل يكتنفه سور عال أشبه بأسوار قلاع الحصار طول كل ضلع من أضلاعه 140 مترا. ولم يكن زكريا جاء ذلك المكان من قبل، ولكنه سمع أن القادم إلى الدير يقرع جرسا فوق الباب فيفتح له، فأخذ يفتش عن الباب فدار حول السور فلم يجده فاتهم عينيه بالخطأ؛ لاعتقاده أن الأديار لا يمكن أن تكون بلا أبواب، فأعاد التفتيش بدقة، فوصل إلى مكان من السور وجد عنده حجري رحى كبيرين قطر الواحد منهما ثلاثة أذرع، فتفرس فيها فرأى وراءهما بابا لا يزيد علوه على ذراعين وإذا فتح لا يدخله الإنسان إلا ساجدا، فمد يده إلى الباب وجسه بأنامله فرآه مصفحا بالحديد الضخم بحيث يستحيل كسره وهو لم يكن يريد كسره وإنما يريد أن يعلن أهل الدير بوصوله ليفتحوا له فقال في نفسه: «إذا كان هذا هو الباب فلا بد من الجرس عليه أو وراءه.» فتسلق أحد الحجرين وتلمس الحائط فوجد عليه حبلا جذبه فسمع صوت الجرس وكان له دوي في ذلك الليل الموحش، وعلا نباح الكلاب من الداخل ووقف ينتظر ما يكون.
وبعد هنيهة رأى أشعة نور مرسلة في الفضاء داخل السور تقترب نحوه، وأخيرا رأى النور فوق السور يحمله راهب أطل من أعلى السور يتطاول بعنقه والمصباح في يده وقد مد عينيه نحو زكريا كأنه يستكشف حاله ووقت أشعة المصباح على وجه الراهب، فأبان عن شيخ هرم قد تجعد وجهه وشاب شعره، وحالما وقع بصره على زكريا قال بالقبطية: «من أنت؟»
Shafi da ba'a sani ba