فدهش زكريا لسماع ذلك ولم يكن سمع بمثله في مصر ولا غيرها، وكان الحارس يخاطبه وينظر إليه فلما رأى دهشته استطرد الكلام قائلا: «أراك تستغرب هذه المنقبة في أميرنا ولا عجب؛ لأنكم لا تعرفون مثلها في بلادكم، فهذه من حسنات الإسلام حتى لا يظلم أحد استظل به.»
ففطن زكريا لأن إسطفانوس وما أوقعه من الأذى بدميانة فقال في نفسه: «هل أشكوه لابن طولون؟». لكنه خاف وتردد ورجع إلى ما جاء له. فعزم على أن يدخل على الأمير في جملة المتظلمين ثم يحتال في مخاطبته في شأن سعيد وبناء الجامع.
فسأل الحرسي عن المكان الذي يجلس فيه الوالي للنظر في المظالم، فأومأ إلى باب عليه الحجاب، وقد تكأكأ الناس حولهم وهم يدخلونهم الواحد بعد الآخر، فتقدم زكريا ووقف في جملة الواقفين وصبر حتى انصرف أكثر الناس، فدخل وعليه قيافة أهل البادية فأطل على مجلس ابن طولون في قاعة مفروشة بالطنافس، وفي صدرها كرسي كبير جلس عليه ابن طولون وبجانبه قاضيه بكار بن قتيبة وبين يديه قصص المتظلمين (العرائض) وقد تصفحها ابن طولون ودفعها إلى قاضيه ليحكم فيها أو ينفذها.
فلما دخل زكريا سأله الحاجب عن قصته ليدفعها إلى الوالي لينظر فيها فقال: «لم أكتب شيئا وإنما أريد أن أرفع ظلامتي شفاها للوالي رأسا بعد أن ينظر في قصص المتظلمين.»
فرفع الحاجب ذلك إلى ابن طولون فقال: «أجلسه حتى نفرغ له.»
فقعد زكريا وهو ينظر ويعجب من إجراء العدل والإنصاف حتى إذا فرغ ابن طولون من تصفح القصص صاح بزكريا: «ما هي ظلامتك يا أخا النوبة؟»
فوقف زكريا وقال: «لا أقولها إلا في خلوة مع مولاي.»
وكان زكريا يتكلم كمن لا يعرف العربية إلا قليلا ولو تكلمها جيدا لما صدقوا أنه آت من النوبة؛ لأن المسلمين لم يكونوا قد انتشروا في النوبة ولا دخلها الإسلام فكان يحشر في كلامه بعض الألفاظ من لغة النوبة، ولكنه كان يحسن التعبير بحيث يفهم ابن طولون مراده.
فلما سمعه ابن طولون أشار إلى القاضي فخرج ولبث وحده، فتقدم زكريا ووقف بين يديه متأدبا، فأشار إليه أن يقعد، فقعد وأزاح الخمار عن رأسه فلم يظهر فيها عاهة كما يظن من يراه مخمرا، وابن طولون ينظر إليه وينتظر ما يقوله، واستبطأه، فقال: «ممن تتظلم يا رجل؟»
فقال: «أقول ولا بأس علي؟»
Shafi da ba'a sani ba