Ahmad Curabi Zacim Muftara Calayhi
أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه
Nau'ikan
وما كان في تقرير «كيف» إلا أن مصر «تشكو مما ينتشر في الشرق من أمراض، منها الجهل والإسراف والاختلاس والإهمال والتبذير، وأنها تشكو من كثرة النفقات التي سببتها محاولة إدخال مدنية الغرب، والتي تترتب على مشروعات لا تجدي نفعا وعلى مشروعات نافعة ولكنها تنطوي على الخطأ»، بل لقد ذكر «كيف» في عبارة صريحة: «أن مصر تستطيع أن تدفع ما عليها من الديون إذا أحسنت إدارة البلاد»، ولكن للسياسة مطامعها وأغراضها، ولها من أجل ذلك أساليبها التي كثيرا ما تسخر مما تواضع عليه أغرار الناس من قواعد الخلق والاستقامة.
لم تستطع مصر أن تفلت من دائنيها، فكان لابد من إذعانها لمراقبة مندوبيهم، وأقيم في مصر «صندوق الدين العام»، فكان حكومة صغيرة من الأجانب داخل حكومتها، ثم وافق الخديو مكرها على تعيين مراقبين أجنبيين: أحدهما إنجليزي للدخل، والآخر فرنسي للصرف، وعين لهذين موظفين من الأجانب بأجور ضخمة، وعني الخديو حقا بإصلاح الحال يومئذ، ولكن يد الغدر كانت من ورائه تبعث الارتباك وتنصب الشباك.
وقبل الخديو فيما قبل على رغمه تأليف لجنة من الأجانب سميت «لجنة التحقيق العامة» جعل على راسها دي لسبس، ومنحت سلطة واسعة غير محدودة، فما كادت تعمل حتى اصطدمت، وكان اصطدامها في بدء عهدها لسوء حظها، برجل من رجال مصر كان يتحفز ويتحين الفرصة ليثب، وكان هذا الرجل هو محمد شريف باشا ...
استدعت اللجنة شريفا ليمثل أمامها لتستفهمه فتعاظمه الأمر فأبى، فأصرت اللجنة وقد خشيت على هيبتها ونفوذها، ولكنه خشي هو أيضا على كرامته وكرامة منصبه فأصر كما أصرت ... أيمثل شريف أمام لجنة من الأجانب؟ ولم لا تنتقل إليه اللجنة وهو العزيز بنزاهته واستقامته، الكبير بشخصه ومنصبه، العظيم بوطنيته وكرامته؟ إذن فليطلق شريف المنصب غير آسف، وقد كان ما أراد فاستقال، وهزت البلاد استقالته بما تنطوي عليه يومئذ من المعاني؛ فلقد كانت وثبة منه في حينها كأنما جاءت على قدر من الأيام، ففي مصر يتوثب مثله رجال وتخفق بالوطنية قلوب وتضيق من تدخل الأجانب صدور، وقدر لشريف أن يكون في تاريخ وطنه من أولئك الأماثل الذين توحي مواقفهم البطولة وتخلق الأبطال!
كان في استقالة شريف معنى الغضب، ولكنه لم يكن غضب فرد لشخصه فحسب، وإلا لما كان له ما كان يومئذ من خطر، كان غضب رجل لشخصه ولقوميته معا أمام لجنة من الأجانب تريد أن تظهر بمظهر السيادة، وتحرص أشد الحرص على ذلك المظهر، ولذلك كان هذا الغضب ثورة، وما لبثت تلك الثورة أن بعثت في كل نفس من نفوس الأحرار ثورة مثلها، وبذلك تهيأت البلاد لأن تثبت للأجانب وجودها، واغتدى شريف بما فعل أول رجالها ورأس أبطالها.
ورب قائل يقول: وماذا كان في ذلك الموقف من معاني البطولة؟ هذا رجل اعتزل منصبه فكيف يكون الاعتزال رجولة؟ ولكن الذين يعلمون مبلغ نفوذ الأجانب ومبلغ ما مني به المصريون يومئذ من خور وما عرف عنهم إذ ذاك من الحرص على المناصب والألقاب يدركون ما ينطوي عليه موقف شريف من عزة وتضحية، هذا إلى ما سبق استقالته من تحد منه للجنة وسلطانها، ولو أن الخديو آزر شريفا لما ترك منصبه وكان بذلك يدع اللجنة في أحرج المواقف كما أمعن في عصيانه وترفعه ... ولكن الخديو على جلال قدره طلب إلى اللجنة فيما يشبه الرجاء أن تكتفي من شريف بأن يرد على أسئلتها كتابة، ولما رفضت اللجنة ذلك لم يرد الخديو عليها بعمل أو قول يكون فيه معنى التأييد لرجله والاستنكار لفعل الأجانب، ومعنى ذلك أنه لم يبق أمام شريف إلا أن يتخذ من استقالته مظهرا من مظاهر الاحتجاج على تدخل الأجانب في شئون البلاد، فكان ذلك المظهر أول إنذار بالثورة.
أخذت لجنة التحقيق العامة تدرس الحالة، ولقد جعلت اللجنة هدفها بالضرورة العمل لصالح الدائنين، ولذلك لم تأل جهدا في أن ترجع بكل المساوئ إلى الخديو وحكومة الخديو متناسية ما فعله الدائنون من مخاطراتهم بأموالهم ابتغاء الربح الوفير وما جره جشعهم على البلاد من دمار، وما انطوى عليه مكرهم من غدر وبهتان وزور واختلاس.
تعامت اللجنة عما كان يقاسيه الفلاحون يومئذ من شقاء، ولم تراع في تقريرها بؤس أولئك الذين أثقلتهم الضرائب وهدهم الجوع، أولئك المساكين الذين كانوا كثيرا ما يفرون من أراضيهم لكثرة ما كان يطلب منهم، أولئك الذين غمرهم في سنة من تلك السنين السود سيل جارف لم يكن أقل هولا عليهم من طالبي الضرائب، ألا وهو فيضان النهر على قراهم وأراضيهم، أولئك الذين أحاط بهم الربويون والأمراض معا، وباتوا يتمنون الموت من قبل أن يلقوه!
وتغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين كانوا يهربون بضائعهم وينجون بها من الجمارك ثم لا يدفعون عنها شيئا داخل البلاد في ظل تلك الامتيازات المشؤومة التي كانت من أكبر المساوئ في مصر، والتي قل أن يجد المؤرخ مثيلا لما كانت تنطوي عليه من جور، وما كانت تقوم عليه من باطل وبهتان، وكذلك تغافلت اللجنة عن أولئك الأجانب الذين تزايد عددهم في الحكومة المصرية، والذين كانوا يتقاضون الأجور العالية جزاء على ما اتصفوا به من الكسل وقلة المروءة وجمود العاطفة، بينما كانت مرتبات الوطنيين لا تدفع لهم إلا في مشقة وعناء، وهي من القلة بحيث كانت تؤدي بالكثيرين إلى الاختلاس والتهاون في العمل ...
واقترحت اللجنة في قرار تمهيدي أن يتنازل الخديو عن سلطته المطلقة إلى وزراء يسألون عن أعمالهم، أي أن تكون عليهم تبعة ما يعملون، وأن ينزل عن أملاكه نظير مبلغ معين، وكذلك تنزل أسرته عن أملاكها، كل ذلك دون أن تفكر اللجنة في أن يتنازل الدائنون عن شيء من ديونهم، وهي تعلم كيف تراكمت تلك الديون وكيف تزايدت أرباحها حتى بلغت ما بلغته.
Shafi da ba'a sani ba