ويخيل إلي أن لو أتيح لكاتب أن يترجم بعض ما كانت تقوله هذه الأعين، لزعم أن شهرزاد كانت تقول للملك: أترى إلى هذا النعيم! لقد وعدتك به، وكنت أظن أني سأكون أقدر منك على احتماله، وأني سأكون منك مكان الترجمان يدلك عليه ويمتعك به ويصف لك دقائقه، ولكني مع ذلك لم أستطع أن أثبت لقوته ولا لرقته ولا لسحره، فانتهيت إلى مثل ما انتهيت أنت إليه من العجز والاستسلام.
وكأن شهريار يقول لشهرزاد: نعم! لقد قهر هذا النعيم قوتك الثائرة ونفسك الجامحة، كما قهر قوتي المتهالكة ونفسي المستسلمة، ولقد سوى بيننا في هذا الضعف الحلو وهذه الراحة الممتعة أو هذا المتاع المريح: لقد أنزلك إلى حيث أنا، أو رفعني إلى حيث أنت، فأنا أراك الآن رأي العين، وأنا أعرفك الآن حق المعرفة، وأنا لا أدري بأي الأمرين أنا أسعد حظا: أبهذا النعيم الذي يغمرك ويغمرني، أم بهذه المعرفة التي جلت لي نفسك الغامضة وكشفت لي سرك المكنون.
وكانت شهرزاد ترسل إلى الملك من عينيها وشفتيها ابتسامات ساحرة لم تخل من سخرية، ولكنها كانت سخرية واضحة يملؤها الحب والحنان، وليس لها حظ من قسوة أو مرارة، وكانت هذه السخرية تلقي في روع الملك أن استمتع بهذا النعيم الذي يغمرك ويغمرني، واستمتع بهذا النعيم الذي تجده من جلاء نفسي الغامضة وانكشاف سري المكنون، وخذ من هذين النعيمين أكثر ما تستطيع أن تأخذ؛ فإنك لا تدري متى ينحسران عنك، كما أنك لا تدري متى يسرا لك ولا كيف يسرا لك. والشيء الذي ليس فيه شك، هو أنك ستعود ملكا تدبر أمور الناس وتصرفها كما تريد، وأنك ستعود رعية تدبر أمورك شهرزاد وتصرفها كما تحب ، ولكن أرجو ألا يشق عليك تدبير الملك، وألا يثقل عليك غموض شهرزاد.
وبعد وقت لا أدري أطال أم قصر أحس الملك لسانه ينطلق وصوته يبلغ أذنيه، وإذا هو يقول: «أين نحن؟ وماذا نرى؟ وماذا نسمع؟ ألا تنبئيني آخر الأمر من أنت؟ وماذا تريدين؟!»
قالت شهرزاد متضاحكة: «ماذا؟! ألم تقل عيناك منذ حين إنك قد عرفتني حق معرفتي، وإنك تنعم بهذه المعرفة؟! فما سؤالك عما تعرف؟ أين نحن؟ لقد سمعنا أننا في جزيرة النعيم. ماذا نرى؟ إنما نرى أشجارا وأزهارا ورياضا وأنهارا، بذلك تسميها اللغة؛ لأنها تشبه من قريب أو بعيد ما تعودنا أن نرى في مملكتك تلك التي تركناها أمس، والتي لو أردنا أن نرجع إليها دون أن يعيننا قصص شهرزاد لما بلغناها قبل أن ينتهي ما قدر لنا من عمر. ماذا نسمع؟ نسمع غناء تحمله إلينا أصوات هؤلاء الفتيات اللاتي نراهن ولا يريننا. أتعرف من هؤلاء الفتيات؟!»
قال الملك: «ومن أين لي أن أعرفهن ...؟! وهل عرفت شيئا، أو هل عرفت أحدا مما رأيت وممن رأيت منذ أمس؟!»
قالت شهرزاد: «قد عرفتهن، فأما هؤلاء الفتيات فإني أعرفك بهن إن شئت، ولكن أمسك عليك نفسك وأمسك عليك راحتك وأمسك عليك ما يملأ قلبك من غبطة وبهجة ونعيم. هؤلاء الفتيات هن اللاتي لم ترسلهن إلى الموت؛ لأن شهرزاد شغلتك عنهن بما قصت عليك من أنباء الماضي، وبما تقص عليك الآن من أنباء المستقبل، وستشغلك عنهن بما تعرف فيها وما تنكر منها من وضوح وغموض، فهن فرحات مرحات، تراهن الآن يصورن النعيم كل النعيم، ومنهن الراضية كل الرضا، ومنهن الساخطة كل السخط، ومنهن المترددة بين ذلك، ولكنهن على هذا فرحات مرحات فيما ترى؛ لأن حياتهن لم تقتضب في غير إبانها، ولأن شبابهن لم يرد عنهن ردا عنيفا.»
وكانت هذه الألفاظ التي كانت شهرزاد تنطق بها متقطعة متفرقة تبلغ أذن الملك لاذعة، وتنتهي إلى قلبه موجعة، ولم تتمها شهرزاد حتى كان الملك قد ثاب إلى نفسه واستجمع شعوره كله، وأخذ يعرض ما رأى يقظا ونائما، ولكنه ينظر فيرى نفسه في زورقه ذاك، ويرى الزورق ينحدر به في النهر متجها صوب البحيرة التي جاء منها، وعن يمينه وشماله تلك الجماعات من الفتيات يحيين بالأزهار والغصون والغناء، ولكن في تحيتهن حزنا أشبه بهذا الحزن الذي تصوره تحية الوداع.
وينظر الملك إلى شهرزاد فيراها جالسة منه غير بعيد معرضة عنه وعن الزورق وعن شاطئ النهر الجميلين وعن جماعات الفتيات وما يحيين به أزهار وغصون وغناء، وقد أطرقت تنظر في كتاب.
قال الملك دهشا: «تقرئين! يا عجبا! أنى لك هذا الكتاب؟!»
Shafi da ba'a sani ba