Mafarkai Daga Mahaifina
أحلام من أبي: قصة عرق وإرث
Nau'ikan
في هذه الليلة قريبا من منتصف الليل توقفت سيارة أمام المبنى الذي أقطنه وبها مجموعة من المراهقين وسماعات مكبرة للصوت تصدر أصواتا عالية للغاية لدرجة أن أرضية الشقة بدأت تهتز. في مثل هذه المواقف اعتدت تجاهل هذه الأشياء المزعجة والتساؤل: إلى أين سيذهبون إن غادروا هذا المكان؟ لكن في هذا المساء على وجه التحديد كان في المبنى ضيف جديد؛ فقد عرفت أن جاري في الشقة التي بجواري أنجبا طفلا جديدا وأحضراه إلى المنزل؛ لذا ارتديت شورتا واتجهت لأسفل لأتحدث مع زوار الليل الواقفين أسفل المبنى. وعندما اقتربت من السيارة توقف من بداخلها عن الحديث ونظر جميعهم تجاهي. «استمعوا إلي، إننا نحاول أن ننام. لماذا لا تذهبون إلى مكان آخر؟»
لم يقل أي من الصبية الأربعة الجالسين في السيارة كلمة واحدة، بل لم يتحركوا على الإطلاق. أفاقتني الرياح من نعاسي وعلى حين غرة شعرت أنني متجرد من ملابسي مع أنني كنت أقف على الرصيف في منتصف الليل مرتديا شورتا. لم أستطع رؤية وجوههم وهم داخل السيارة، وكان الظلام دامسا فلم أستطع تحديد أعمارهم، وهل كانوا في وعيهم أم ثملين، أخيارا أم أشرارا. ربما كان كايل واحدا منهم. أو روي. أو جوني.
ربما كنت أنا نفسي واحدا منهم. وأنا واقف في مكاني حاولت أن أتذكر الأيام التي كنت فيها جالسا في سيارة كهذه وروحي تعج بالاستياء المكتوم وبالإحباط حتى أثبت فقط أنني موجود في هذا العالم. تذكرت الشعور بالغضب المبرر عندما كنت أصرخ في وجه جدي لأي سبب كان. كما تذكرت المشاجرات الدامية في المدرسة الثانوية. وتذكرت تبجحي وأنا ذاهب إلى الفصل المدرسي في حالة سكر جلية أو حالة من النشوى نتيجة تعاطي المخدرات مع علمي بأن مدرسي سيشمون رائحة الجعة أو الماريجوانا عندما أتنفس، منتظرا أن ينبس أحدهم ببنت شفة. بدأت أصور نفسي عبر أعين هؤلاء الشباب ووجدت صورة للسلطة الطائشة وبدأت أعرف المقاييس التي يعيشون طبقا لها، وأنه إن لم يستطع أحدهم النجاح في التخلص مني فسينجح الأربعة بالتأكيد في ذلك إذا ما اجتمعوا معا.
عندما حاولت اختراق الظلام لمعرفة ما يدور بخلدهم داخل السيارة، فكرت في أنه مع كون هؤلاء المراهقين أضعف أو أقوى مني عندما كنت في عمرهم، فإن الفرق الوحيد بيننا يتمثل في أن العالم الذي عشت فيه أوقاتي العصيبة كان أكثر تسامحا من عالمهم. لم يملك هؤلاء الشباب أي هامش للخطأ؛ إذا حملوا أسلحة فإنها لن توفر لهم الحماية من هذه الحقيقة. وفي الواقع فإن هذه الحقيقة - التي يشعرون بها بالتأكيد لكنهم لا يستطيعون الاعتراف بها ولا بد من أن يرفضوها حتى يعيشوا يوما آخر - هي التي أجبرتهم، وأجبرت غيرهم من أترابهم، في النهاية على إغلاق الطريق أمام أي شعور بالتعاطف شعروا به من قبل. علاوة على أن رجولتهم العنيدة غير المقيدة بأي ضوابط لن تكبح - على عكس ما انتهى الأمر بي - بأي شعور بالحزن على جرح كبرياء من يكبرهم سنا. ولن تهدأ ثورة غضبهم باعترافي بالخطر الذي ربما يداهمني إذا تسببت في جرح شفة أحدهم، أو انطلقت بسيارتي بأقصى سرعة على الطريق السريع وقد ذهبت المسكرات بعقلي. في الواقع وجدت نفسي وأنا واقف مكاني أفكر في أننا دائما يدور داخلنا حوار بين شعورنا بالذنب والتعاطف وبين شعورنا الدفين بأن هناك حاجة إلى نظام ما، ليس بالضرورة أن يكون هذا النظام هو النظام الاجتماعي الموجود بالفعل، بل أقصد نظاما أكثر أهمية وأشد إلحاحا؛ شعور آخر بأن لكل منا دورا يجب أن يؤديه في النظام، ورغبة لا تنتهي مهما بدا عدم ثبات النظام في بعض الأحيان. إنني أظن أن هؤلاء الشباب سيضطرون إلى البحث لوقت طويل أو الكد للعثور على نظام يتعامل معهم على أنهم ليسوا أشكالا للخوف أو الازدراء. وهذا الشك يخيفني لأنني الآن أصبحت لي حياة في العالم الذي أعيش فيه، ولي وظيفة، ومنهج في الحياة أتبعه. وقدر استطاعتي على التعبير فإنه لا توجد أية صلة بيني وبين هؤلاء الشباب؛ لأننا فريقان مختلفان يتحدث كل منا لغة مختلفة ويعيش حياة مختلفة.
دار محرك السيارة التي انطلقت بعيدا محدثة صوتا حادا مزعجا. وعدت إلى شقتي وأنا أعترف لنفسي بأنني كنت غبيا ومحظوظا في آن، وأدركت أنني خائف بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
الفصل الرابع عشر
كان مبنى قديما في أحد الأحياء العتيقة بالجانب الجنوبي، ومع أنه لا يزال متينا فإنه في حاجة ماسة إلى الترميم وربما إلى سطح جديد. كان الحرم مظلما ومشتملا على مقاعد خشبية عديدة، منها ما تصدع ومنها ما انكسر، وكانت هناك سجادة حمراء مفروشة على الأرض تنبعث منها رائحة رطوبة عفنة، وفي أماكن مختلفة بدا سطح الأرضية المغطى بالسجادة غير مستو ارتفاعا وانخفاضا. أما مكتب القس فيليبس فكان على هذه الحالة الرثة البالية نفسها ولم يكن مضاء إلا بمصباح مكتب عتيق ألقى بظلاله الكئيبة الصفراء على الغرفة كلها. هذا بالإضافة إلى أن القس فيليبس نفسه كان متقدما في السن. وعندما فتح ستار النافذة بدا القس - وهو محاط بأكوام الكتب القديمة المتراصة - ملتصقا بالحائط دون أية حركة فصار كبرواز معلق عليها، ولم يكن ظاهرا منه بوضوح سوى شعره الناصع البياض وصوته الجهوري الروحاني الذي كان له صدى كالصوت المسموع في الأحلام.
تحدثنا لما يقرب من ساعة، ودار معظم حديثنا عن الكنيسة. لكننا لم نتحدث عن كنيسته بقدر ما تحدثنا عن الكنيسة بوجه عام؛ التطور التاريخي لكنائس الأمريكيين من أصل أفريقي (الكنائس السوداء) والكنيسة بوصفها مؤسسة والكنيسة بوصفها فكرة. كان رجلا مطلعا واسع المعرفة وبدأ حواره معي بالحديث عن تاريخ ديانة العبيد؛ أخبرني عن الأفارقة - الذين حطوا رحالهم على شواطئ عاتية لم تستقبلهم بالترحاب - أنهم كانوا يجلسون في حلقات حول نار موقدة يخلطون في أحاديثهم بين الأساطير الجديدة وإيقاعات الماضي، وأصبحت أغانيهم وكأنها سفينة تحمل أجمل الأفكار؛ البقاء والحرية والأمل. استمر القس في حديثه متذكرا الكنيسة الموجودة في الجانب الجنوبي في شبابه وقال إنها كانت مكانا صغيرا من الخشب المدهون باللون الأبيض بنيت بعرق المزارعين المستأجرين وبقروشهم القليلة التي كانوا يدخرونها، واستطرد قائلا إنه مكان كانت تختفي فيه في صباح أيام الآحاد الحارة المشرقة كل مشاعر الذعر وتندمل فيه جراح الأسبوع بأسرها بفعل الدموع وصيحات الشكر والامتنان وتصفيق الأيادي والتلويح بها للحث على الأفكار العنيدة نفسها؛ البقاء والحرية والأمل. تحدث القس عن زيارة مارتن لوثر كينج إلى شيكاغو والغيرة التي لاحظها كينج بين بعض خدام الكنائس وخوفهم من اغتصاب سلطتهم، ثم استطرد في حديثه عن ظهور المسلمين قائلا إنه تفهم غضبهم؛ فقد كان هذا الغضب غضبه هو نفسه، الغضب الذي لم يتوقع أن يهرب منه كلية إلا أنه تعلم كيفية التحكم فيه عن طريق الصلاة، وحاول ألا يورث هذا الغضب أطفاله.
شرح القس بعد ذلك تاريخ الكنائس في شيكاغو. وقد كان بالمدينة عندئذ آلاف الكنائس وبدا هو وكأنه يعرفها جميعا؛ فقد تحدث عن الكنائس الصغيرة التي تنشأ أمام المتاجر والكنائس الضخمة المبنية بالحجارة، ثم حدثني عن المصلين الأفروأمريكيين ذوي البشرة الفاتحة الذين كانوا يجلسون جلسة عسكرية وهم ينشدون ترانيمهم المتشددة، وأولئك المصلين الذين يتعبدون بحماس بالغ وتهتز أجسادهم وهم يتفوهون بلغة غير مفهومة. أوضح القس فيليبس أن معظم الكنائس الكبيرة في شيكاغو كانت مزيجا من هذين النمطين من المصلين، وأنها مثال على النعم الخفية للفصل العنصري، ومثال على الطريقة التي فرضت على المحامي والطبيب أن يعيشا ويتعبدا بجانب الخادم والعامل الأجير. كانت الكنيسة كقلب هائل الحجم ينبض بالحياة؛ إذ كانت توزع السلع وتروج المعلومات والقيم والأفكار ذهابا وإيابا؛ بين الغني والفقير، بين المتعلم والأمي، بين المذنب ومن نال الخلاص.
قال القس فيليبس إنه لا يعرف كم من الوقت يمكن أن تستمر كنيسته في أداء دور القلب هذا. فمعظم رعاياها الأكثر ثراء انتقلوا إلى أحياء أكثر نظافة وعاشوا حياة سكان الضواحي. على أنهم لا يزالون يحضرون الصلاة في أيام الآحاد إخلاصا منهم أو ربما من باب الاعتياد. لكن طبيعة ارتباطهم بالكنيسة طرأ عليها التغير؛ فكانوا مترددين في التطوع لعمل أي شيء - مثل الاشتراك في برنامج تعليمي أو الزيارات المنزلية - ربما يضطرهم إلى البقاء في المدينة بعد حلول الظلام. أضاف القس أن هؤلاء يحتاجون إلى مزيد من الأمان في المناطق حول الكنيسة، وبناء سياج حول مكان انتظار السيارات لحماية سياراتهم. وتوقع القس فيليبس أنه بمجرد أن يموت سيتوقف العديد من رعايا الكنيسة عن الحضور إليها وسينشئون كنائس جديدة منسقة مثل شوارعهم الجديدة. وكان القس يخشى من أن تتقطع في النهاية صلات الارتباط بالماضي وتختفي من ذاكرة الأطفال الحلقات التي كان يجلس حولها أجدادهم المسيحيون الأفارقة حول النار ...
Shafi da ba'a sani ba