وكان العصر، بين سنة 600 وبين سنة 300 قبل الميلاد، عصر بناء المدن في بلاد الإغريق، فلم تكن الدولة كما نعرفها الآن تؤلف من عدة مدن وقرى ومستعمرات خارجة عنها أو بعيدة منها معروفة عند الإغريق في بلادهم، وإن كانوا قد سمعوا عنها عند الفرس والمصريين، فكانوا إذا تصوروا حكومة، لم يتجسم في أذهانهم سوى المدينة، أما القصر فلم تكن له شخصية قانونية عندهم، ولم يكن أفلاطون هو الوحيد الذي تخيل حلم المثل الأعلى للحكومات والمجتمع، فقد ذكر أرسطوطاليس أن من يدعى «فالياس» قد تخيل مثل هذا الخيال، وقال بوجوب المساواة في حقوق الامتلاك وأن «هبودامس» أيضا قد وضع كتابا في تخطيط المدينة الفاضلة.
ولكن جمهورية أفلاطون هي الأثر الباقي من تلك الأحلام، وقد تخيلها عقب تلك الحرب الرائعة التي نشبت بين أسبارطة وبين أثينا، وطالت مدتها وامتد لهيبها إلى جملة بلاد فخربتها ونشرت الفوضى في مجتمعاتها، والخراب والدمار والفوضى التي تحدثها الحروب تجرئ الناس على التفكير والترسيم، وتحوجهم إلى الإقرار بسوء النظم القديمة وضرورة اختطاط الخطط الجديدة، وكما فر الرئيس ولسون في إيجاد عصبة الأمم عقب الحرب العالمية الأولى، فكر أفلاطون أيضا عقب حروب أسبارطة وأثينا في إيجاد نظام جديد يضمن للناس السعادة والرخاء.
لم تكن الدول في عهد أفلاطون قطرا بل كانت مدينة؛ لذلك قصر حلمه على المدينة لا على القطر، بل هو يجعل مدينته صغيرة بحيث يمكن اجتماع جميع سكانها لخطيب واحد، أو يمكنهم أن يشتركوا في لعبة واحدة، ويمكنهم التعارف والمصادقة فلا يكون أحدهم غريبا عن الآخر.
ولنذكر أن وسائل الاشتراك في الرأي والتعارف الموجودة بيننا الآن لم تكن موجودة في زمنه؛ فنحن نتعارف إلى حد كبير بالصحف والتلغراف والتليفون والبريد، ثم إن وسائل المواصلات نفسها تقرب البعيد من المسافات، وتجعل الاجتماع ممكنا على الرغم من بعد الشقة بين المجتمعين، ولكن الحال لم تكن كذلك في زمن أفلاطون؛ ولذلك جعل مدينته صغيرة يبلغ عدد سكانها خمسة آلاف نفس فقط.
فجمهورية أفلاطون هي قرية متمدينة حولها حقول خاصة بها للزراعة، وأهلها في حال وسط بين الترف وبين الفاقة؛ فلا الترف يكسبهم الرخاوة التي تبلد الجسم والحواس، ولا الفاقة تضعف أجسامهم وتكدهم في العمل الشاق، ثم إن الفاقة والترف كليهما يعود بأسوأ العواقب على الفنون، ولا يمكن إغريقيا أن يفكر في مثل أعلى لا يعنى الناس فيه بالفنون، فجمهوريته خالية من الغنى ومن الفقر؛ لأن الأول يلد الترف والرخاوة، والثاني يلد الدناءة والرذيلة، وكلاهما يحدث الاستياء.
والناس في الجمهورية سواء فيما يملكون، ويحصلون على ما يحتاجون إليه عن حاجة حقيقية، ولا ينالون ما لا يحتاجون إليه، وكانت غاية أفلاطون توفير السعادة للناس، ولكن هذه السعادة لا تنال بما تملك من عرض الدنيا، بل بما في أنفسنا من خصوبة وزكاوة؛ فسعادته ليست سعادة النهم الذي يلذ له التهام الطعام، بل سعادة الراقص أو العازف الذي تلذ له حركاته وما فيها من خفة ورشاقة؛ فهو لذلك يساوي بين الناس فيما يملكون؛ لأنه لا يرى أن الامتلاك يميز شخصا على آخر من حيث السعادة.
والهيئة الاجتماعية في هذه الجمهورية مؤلفة بالطبع من أفراد، ولكن اجتماع هؤلاء الأفراد ليس اجتماعا اعتباطيا؛ إذ هو مؤتلف ائتلاف أعضاء جسم الإنسان في شخصه.
فكل إنسان في هذه الهيئة يخدمها وفق كفايته وقدرته كما يخدم العضو الجسم، وإنما يحدث السلام والوفاق بين أعضاء هذه الهيئة إذا اختص كل عضو بوظيفته لا يتعداها إلى غيرها، فالعدل في هذه الجمهورية هو «إيجاد مكان لكل إنسان، وأن يكون كل إنسان في مكانه» على نحو ما نرى في الجوقة الموسيقية، فإن الخلل يصيب الجوقة جميعها إذا خرج أي إنسان منها من مكانه، والوفاق بين نغماتها يزول إذا قام واحد منها بتبديل ما كلف به من النغم لإيجاد اللحن العام للجوقة جميعها.
ولكن كيف يمكن أفلاطون أن يضمن بقاء كل إنسان في صناعته ومكانه لا يتخطاهما إلى غيرهما؟
هنا احتاج أفلاطون إلى إيجاد نظام الطبقات؛ فطبقة تختص بدرس الحكمة وتدبير شئون الجمهورية السياسية والحكومية وهذه هي طبقة الأوصياء، وطبقة تختص بالجندية لحماية المدينة، فهذه طبقة المقاتلة، وطبقة تختص بالزراعة والصناعة وهذه هي طبقة العمال.
Shafi da ba'a sani ba