وقد قلنا: إن النهضة الأوروبية الحديثة نزعت نزعة علمية، وهي لا تزال كذلك للآن، وليس شك في أن كبار العلماء في كل وقت كانوا من كبار الأدباء؛ لأن الذهن الكبير يأبى أن يرضى بأن يكون مخزنا تذخر فيه المعارف بلا غاية أو قصد، وإذا قلت: «الغاية في العلم»، فقد قلبت العلم إلى أدب؛ لأنك عندئذ لا تكتفي بأن تقول: إن الألماس كربون، بل تضطر أن تتساءل: هل هو جميل؟ وهل هو جدير بنفقة استنباطه؟ وهل من المصلحة العمرانية أن تلبسه طبقة دون طبقة من الناس؟ ثم أيهما أجمل وأنفع لبني الإنسان: أن يتجه نظرهم نحو جمال الوجه أو جمال الصنعة، أي: أن تكون الأصابع جميلة في ذاتها أو مجملة بالألماس؟
لذلك كان ولا يزال كبار الأدباء علماء، وكبار العلماء أدباء، وحسبنا أن نذكر «أرسطوطاليس» الذي كان يؤلف عن أصول البلاغة والتاريخ الطبيعي، أو «دافنشي» الذي كان يمارس ويخترع الطيارات، أو «جيته» الذي كان يشتغل بالتشريح وبتأليف القصص والشعر، ولكن جمهور العلماء الآن طائفة خاصة بعيدة عن طائفة الأدباء، وهذا البعد بينهما وانفصال الواحدة عن الأخرى، قد أثر أثره في الهيئة الاجتماعية التي نعيش فيها.
وذلك لأن الأدب بجميع فروعه لا يحيا ويزكو إلا إذا قام على أساس العلم، والعلم نفسه معارف جوفاء لا غاية لها إلا إذا هضمها الأديب ومثلها في ذهنه؛ ومن هنا انفصل الأدب والعلم كلاهما عن الحياة، فالأديب الآن - سواء أكان رجل دين أو تصوير أو قصص أو شعر أو غير ذلك من فنون الأدب - يبحث مثلا عن السعادة المنزلية، وهو لا يدري شيئا عن مادة البناء أو أنواع النبات الذي يستطرف للزينة أو هندسة التهوية الصحية أو تطهير المدن أو غير ذلك مما يعرفه العالم ويختص به، ولكن العالم أيضا، وهو يعرف هذه الأشياء، يجهل عنصر الجمال في المنزل؛ فيبنيه كأنه يبني سجنا أو مصنعا.
وخلاصة ما تقدم كله أن أحلام الفلاسفة يعتورها في جملتها نقص عظيم، وهي أنها نتاج أفكار الأدباء أو أفكار العلماء، وقلما نجد أديبا عالما، مثل أفلاطون أو ولز أو هدسون، يحاول أن يجمع بين الأدب والعلم في تخيل طوباه، والحقيقة أن الإنسان في زماننا الحاضر يشق عليه أن يجمع بين الاثنين إلا إذا قنع من العلم بالتطرف من فروعه المختلفة دون الإمعان فيها؛ وعلة ذلك أن العلم قد تقدم وصارت الإحاطة بأحد فروعه تستغرق الحياة بأجمعها، فإما أن يطول العمر حتى يبلغ مائتي عام أو ثلاثمائة وإما نقنع بقليل الدرس منه.
ولكن يجب أن نعرف أن تقدم العلوم - بحيث لا تتمشى مع الآداب - يؤذي الناس ولا يفيدهم، فإذا عرف الناس مثلا علم الكيمياء، وما هي الغازات القاتلة التي تفنى منها الجيوش أو المدن في ساعة، دون أن يكون لهم مع ذلك خيال راق أو عقيدة سامية، في مستقبل الإنسان أو معنى مهذب للجمال كان عملهم بالكيمياء ضربا من أذى النفس الذي يجب أن يحتاط الناس منه.
وحضارتنا الراهنة هي حضارة العلم المنفصل عن الأدب، أي: حضارة الصناعة القائمة على إدمان الاختراع الآلي إلى أقصى حد.
ولكن الصناعات مهما أوتيت من رقي إن هي إلا وسيلة وسبب من وسائل الحياة وأسبابها؛ ولذلك ما زلنا نحن على رقينا الصناعي الحاضر نتساءل: أينا أصح نظرا للحياة والسعادة وتقدير الجمال والرقي، نحن أم المصريون القدماء أم الإغريق القدماء؟
فإذا أردنا أن نشرع في تخيل أخيلة صحيحة يمكن تحقيقها، يجب قبل كل شيء أن نصل ما افترق من العلم والأدب، ولا عبرة بتأخير الأدب في هذه الحالة، فإن تقدمه وحده لا فائدة فيه، إنما يجب أن نذكر أن العلم إنما ارتقى وحده لانفصاله عن الحياة، أو بعبارة أصح نقول: إنه ارتقى لأنه حين تجرد من العامل الشخصي وصار موضوعه الأشياء دون الناس، انطلق من جميع القيود التي يضعها ذوو السلطان الحكومي أو المالي أو الديني على فنون الأدب، كما هو الواقع الآن في معاملتهم للبحث الديني أو العمراني، فلن يرقى الأدب حتى ينطلق هو أيضا من هذه القيود، بحيث يجوز عمل التجربة العمرانية كما تعمل التجربة الكيميائية، ويجوز ابتكار العقيدة الدينية كما يجوز اختراع أية آلة للصناعة، فإذا تخيل الأديب خياله ورسم طوباه، لم يكن ذلك لمجرد اللذة أو التسلية، وإنما هو يبنى على قواعد العلم، بحيث يصير خياله عمليا تتيسر تجربته في مدينة أو قرية أو قطر.
ومعظم ما وضع من الطوبيات في القرن التاسع عشر عني فيه أكثر مما يجب بالنظام الاقتصادي للأمة، وكان هذا طبيعيا للانقلاب الاقتصادي الكبير الذي حدث في القرن الماضي بانتشار الآلات، ولكن النظام الاقتصادي ليس كل شيء.
وهو أيضا لا يمكن حله ما لم تحل إلى جانبه مسائل أخرى؛ لأن الاعتماد على حل مسائل الحياة بتنظيم عمل الآلات هو حل علمي موضوعي ناقص؛ لأن الحياة تحتاج أيضا إلى حل أدبي فيه الاعتبار الديني والثقافي والأخلاقي، ولن يكون ذلك حتى يكون الأديب عالما أو العالم أديبا.
Shafi da ba'a sani ba