مقدمة
جمهورية أفلاطون
حلم توماس مور
أندريا وحلمه
أضغاث أحلام
عصر الصناعة وأحلامه
من أحلام الاشتراكية
سنة 2000
ثلاثة من الإنجليز
الحقيقة بنت الوهم
تطور الأحلام
نقد ومراجعة
خيمي
مقدمة
جمهورية أفلاطون
حلم توماس مور
أندريا وحلمه
أضغاث أحلام
عصر الصناعة وأحلامه
من أحلام الاشتراكية
سنة 2000
ثلاثة من الإنجليز
الحقيقة بنت الوهم
تطور الأحلام
نقد ومراجعة
خيمي
أحلام الفلاسفة
أحلام الفلاسفة
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
لكل منا حياتان؛ حياة الواقع التي يعيشها الإنسان متأثرا بالوسط الزماني والمكاني، وحياة الخيال التي يرغب في أن يعيشها. والفرق بين الحياتين هو الفرق بين الوجود الناقص وبين التخيل الكامل، أو بين ما هو موجود على الرغم منا، وبين ما يجب أن يوجد وفق خيالنا وطبق رغباتنا.
والعقل الإنساني مطبوع على أن يتم بخياله ما يراه ناقصا في الحقائق الواقعة حوله، ومهما قيدنا العقل ومنعنا من التفكير فيما يهوى، فإنه ينفلت منا، ولو وقت النوم؛ فيعوضنا من نقصنا الحقيقي كمالا متوهما، فمن جاع في النهار وقت صحوه أكل في الليل أشهى الأطعمة وقت نومه، ومن تحرق في النهار لرؤية حبيبته رأى طيفها يتهادى في الليل وهو مستغرق في سباته، بل نحن نحلم في يقظتنا فنستسلم للخواطر الجميلة؛ لنرى القصر الفخم الذي نسكن فيه بخيالنا، والجياد المطهمة تجر عرباتنا، كما نرى الخدم والأتباع، نخاطبهم بلهجة الرياسة، ونحن في فراش وثير لنا؛ زوجة محبة، وأولاد مطيعون، وحدائق غناء نتنزه فيها، كل هذا وأكثر منه نراه في خيالنا؛ لأننا نشعر بالنقص في الحقائق الواقعة حولنا، ومن ضروب الراحة التي يلجأ إليها العقل أن يعيد التوازن في رغبات الجسم وشهوات النفس، وهذا هو السبب في أن الاستغراق في الضحك يعقبه شيء من الغم، والانغماس في الشهوة يليه شيء من الاشمئزاز والفتور، فإذا كانت حقائق الحياة مؤلمة تعكر صفاء الذهن وتكده بالتدبير لملاقاة تكاليفها وآلامها، كان من ضروب الراحة لهذا الذهن أن يعمد إلى ما يناقض هذه الحقائق من الخيال فيرسم لنفسه عالما آخر غير هذا العالم كله نعيم وسرور.
فكل منا يعيش إذن في عالمين: عالم الواقع، وهو أبدا ناقص، وعالم الخيال وهو أبدا كامل، على النحو الذي نفهم به معنى الكمال، فإذا آلمتنا الحقيقة لجأنا إلى الحياة، أو قل بعبارة أخرى: إذا رأينا الواقع خارجنا ناقصا مختلا مؤلما فررنا منه إلى الخيال داخل أذهاننا فاعتضنا من الحقيقة حلما.
وإياك واحتقار الأحلام ...
وهل تحتقر الآلهة؟
اعتبر المصريون القدماء لما استبدت بسواد الأمة فئة قليلة العدد من الأمراء والكهنة والأجناد، واستحوذوا على ثروة البلاد، ورأى أفراد هذا السواد أنهم يعيشون في حرمان، لا ينعمون بشيء من نعم هذه الحياة فعمدوا إلى خيالهم فاخترعوا عالما آخر يعيش فيه المحرومون المظلومون، يؤجرون أجرا حسنا على ما قاسوه في هذا العالم، وينعمون هناك بما لم يقدروا أن ينعموا به هنا، فكأن خيالهم قد ثار على الحقيقة، وخرج عقلهم الباطن على عقلهم الظاهر، وأوجد نوعا من التوازن في حياتهم؛ بحيث جعل ما توهمه من ملذات العالم الثاني بنسبة ما هو واقع من آلام هذا العالم الأول، لعلك من هنا تدرك تلك النزعة الإلحادية التي تعتري بعض الشياطين الاشتراكيين والشيوعيين حين يقاومون الأديان ويحضون السواد على تركها؛ إذ يخشون هذا التوازن الذي يحدثه الإيمان بعالم آخر، وما يعقبه من تهدئة لنفس العمال، وهم إنما يرغبون في إحداث القلق والاستعار في نفوسهم، والفيلسوف والعالم والأديب كلهم يتخيل ويحلم وهم أكثر خيالا وحلما إذا اضطربت أحوال المعيشة، وتنافر الخيال المشتهى مع الواقع الحتم، ونحن في كل أزمة تقع أو نكبة تلم بنا، نجدنا إزاء ثلاثة حلول لنا أن نختار منها واحدا، فإما أن نفر كما يفعل الناسك؛ يزهد في الحياة فيلجأ إلى صومعته مهزولا كالأسد الجريح يذهب إلى مغارته، وإما أن نكافح مدافعين وهذا ما يفعله معظمنا، وإما أن نهاجم وهذا ما يفعله الأديب أو العالم أو الفيلسوف؛ فهو لا يفر وهو أيضا لا يكتفي بالمكافحة، وإنما يتخيل وسطا يجعله بديلا من هذا الوسط الحقيقي؛ فيهاجمه به ويدعو الناس إلى حلمه حتى يستبدلوا بحقائقهم خياله، ولكل إنسان مزاج خاص، ولكن أمزجة الناس متداخلة فليس فينا من لا يفكر في الفرار بعض الأحيان، ولم تكن المهاجرة إلى أمريكا إلا فرارا من أوروبا، وليس فينا من لا يكافح بعض الأحيان، بل هذا هو شأننا طول النهار، كما أنه ليس فينا من لا يتخيل ويحلم، ولو بضع دقائق بعد الغداء، حين يطمو العقل الظاهر وتتسلل الخواطر بلا قيد ولا شرط.
والفيلسوف ومن إليه من المفكرين يختلفون عن الكاهن المصري القديم الذي يمثل أحلام سواد الأمة من حيث إنهم لا يجعلون ميدان حلمهم في العالم الثاني؛ فإن همومهم الذهنية مقصورة على هذا العالم، والناس على الأرض - لا الملائكة في السماء - هم موضوع كلامهم وخيالهم؛ فهم يرون من الخبط والخلط في الهيئة الاجتماعية، ومن الظلم والإسراف في معاملات الناس ما يحثهم على اختراع نظام أوفى يضمن لهم أكمل ما يتوهمون من صور العدالة والصحة والعمار؛ فهم يحلمون لنا ونحن أحياء على هذه الأرض ولا يبالون بنا بعد موتنا؛ لأن الحياة - لا الموت - هي موضوع تفكيرهم وغاية نظرهم في الإصلاح، ولا ننسى أن كل إصلاح حدث في الماضي أو سيحدث في المستقبل، إنما هو حلم من أحلام المفكرين، وقد صدق أناطول فرانس في قوله:
لولا أحلام الفلاسفة في الأزمنة الماضية لكان الناس يعيشون إلى الآن كما كانوا يعيشون قديما؛ عراة أشقياء في الكهوف، لقد كان إنشاء أول مدينة خيالا من أخيلة المفكرين ... ومن الأحلام السخية ظهرت الحقائق النافعة، فالخيال هو مبدأ التقدم وفيه محاولة إيجاد المستقبل الحسن.
وفيما يلي قد لخصنا للقراء بعض الأحلام الشهيرة التي رآها الفلاسفة في يقظتهم، وتخيلوها عن روية وتدبير، يرجون بها إصلاح مجتمعهم، ومنها يقف القارئ على ضرورة الإصلاح التي تخيلها هؤلاء الفلاسفة، وما كان من أثر الوسط في كل منهم، وكيف كانوا يتخيلون المدينة الفاضلة والحكومة الفاضلة وأحسن ضروب الزواج وخير نظام للتربية وما إلى ذلك.
ولا شك في أن القارئ وهو يتنقل من ترسيم إلى ترسيم، ومن برنامج إلى برنامج آخر، سيدفعه إلى أن يحلم هو أيضا حلما قد يظن أنه جدير بأن يحشر بين هذه الأحلام، وسواء أكان هذا أم لم يكن؛ فالمؤلف قد تجرأ وحشر حلمه بينها في «طوبى» توهمها كاملة مستوفية شروط السعادة لمن به كفاية السعادة.
سلامة موسى
جمهورية أفلاطون
يتسم الأدب الإغريقي بشيئين: المجازفة، والحرية؛ ولهذا السبب كان الإغريق ولا يزالون للآن مبعث الوحي لكل نهضة أو تجديد في الأدب؛ لأن المجدد أو الناهض لا يكون كذلك إلا إذا تخلص من القيود العديدة، سواء أكان مصدرها الشرائع أو التقاليد، ثم هو لن يكون مجددا إلا إذا كان إحساسه بالحرية أكثر من إحساس غيره بها، فما يعده غيره فيه مخاطرة يراها هو نفسه رياضة فكرية ليس فيها شيء من المجازفة، فإذا قرأ الإغريق وأشرب روحهم صار مثلهم؛ يجري على نسقهم في حرية التفكير والجراءة في الاستنتاج حتى تصير هذه الجراءة طبيعية فيه قد اكتسبها بالألفة مع هؤلاء الإغريق.
والحق أنه من عجائب التاريخ أن تقوم نهضة أوروبا في القرن الخامس عشر على درس أناس مضى عليهم ألف عام، إذ إننا ننتظر من المجدد أن يترك القديم في بلاه، وينظر في الحاضر ويتطلع إلى المستقبل، ولكن الإغريق على قدمهم وبلاهم لا يزال في آثارهم.
الفكرية ما ينبه أذهاننا ويضطرنا إلى النظر في أي موضوع نعالجه من زاوية غير تلك التي ألفناها في البحث، وليس في معلومات الإغريق أو معارفهم ما نحتاج إلى معرفته، ولكن نزعة الحرية والمجازفة في البحث هي التي تحتاج إليها في كل نهضة أو حركة تجديدية؛ ومن هنا كانت الروح الإغريقية على الدوام مبعث النهضات الفكرية في الأدب والفلسفة.
ولنضرب بعض الأمثلة على جرأة الإغريق في تفكيرهم ...
فقد كان «أرسطوطاليس» يقرر أن الآلهة على الرغم من قدرتها لا تستطيع أن تبدل النواميس الطبيعية؛ فكان بذلك لا يقر لها بمعجزات، وكان «توقيد» ينعى على الناس زواجهم جزافا من غير انتقاء، ويقول: إننا نعنى بتأصيل الخراف والخيول أكثر مما نعنى بالإنسان، وإن كرام الناس أقل من كرام الخيل؛ لأن لكل أحد من الناس الحق في التناسل.
وكان «أرسطوطاليس» أيضا يعد الجمال شرطا من شروط السعادة.
وكان «أفلاطون»
1
يبحث في شيوعية النساء.
ففي مثل هذا الوسط الحر نشأ أدب نزيه، خلو من القيود، لا يزال إلى الآن كما قلنا يوحي إلى الكتاب والأدباء روح التفكير النزيه الحر الجريء.
ولذلك يجدر بنا أن نبحث حلم أفلاطون في أول ما نبحث من أحلام الفلاسفة؛ لنرى أي مدينة فاضلة تخيلها لضمان سعادة الناس وراحتهم؛ فإن جميع من عالجوا هذا الموضوع بعده قد ساروا على طريق حاول هو من قبلهم أن يعده لهم، فما من واحد منهم كتب في «المدينة الفاضلة» إلا وكانت «جمهورية أفلاطون» وراء ذهنه تلهمه وتجرئه وتسدده.
ولا شك في أن المدينة الفاضلة كما توهمها «الفارابي» ترجع إلى أفلاطون في الإيحاء، بل في بعض الترسيم أيضا، ولكن الفارابي جريا وراء النزعة التي كانت سائدة في عصره اعتمد على «إلهيات» أفلاطون وبحثها وشرحها أكثر مما اعتمد على ترسيم الجمهورية الإنساني، حتى ليكاد يفقد الإنسان الصلة بين «المدينة الفاضلة» للفارابي و«الجمهورية» لأفلاطون. •••
تعلم أفلاطون وهو صبي في إحدى مدارس أثينا، وكان أهم ما في التعليم وقتئذ أن يستظهر أكبر مقدار من قصائد هوميروس وسائر الشعراء، ثم تعلم بعد ذلك الموسيقى والعزف على القيثارة، وأكب على العلوم الرياضية فبرع فيها، وكان طوال صباه وشبابه لا يفتر عن ممارسة الألعاب الرياضية، وقد فاز فيها بجوائز.
وكانت أول شهواته الذهنية أن يكون شاعرا، وقد ألف درامة شعرية للمسرح، ولكنه بتقدمه في السن صار يهجر الشعر إلى الفلسفة، إلى أن التقى بسقراط، وكان عمره عندئذ عشرين سنة، فقر قراره على البت في هذا الموضوع، وعمد إلى جميع قصائده فأحرقها وأرصد نفسه من ذلك الوقت للفلسفة، وبقي يلازم سقراط 6 سنوات، ورآه وهو يتناول السم سنة 399ق.م. وقد ترك هذا الحادث أثرا مؤلما في ذهنه؛ فإنه توجس شرا بعد ذلك من الجماهير وحكومات الشعب.
ورأى أفلاطون أن «أثينا» لم تعد ذلك المكان المأمون الذي يستطيع أن يعيش فيه؛ فتركها وقضى بضع سنوات في رحلة طويلة زار فيها مصر وإيطاليا، ودرس عادات الأمم التي حول البحر المتوسط ونظمها السياسية وأديانها، وانتفع بكل ذلك عندما شرع يؤلف «طوباه» أو مثله الأعلى في كتابه «الجمهورية».
وعاد أفلاطون إلى أثينا وقد بلغ الأربعين، فقصد إلى ضيعة صغيرة ورثها عن أبيه، قريبا من أثينا فأقام فيها، وصار الشبان يهرعون إليه للتعلم على يديه، وكان يلقي أحاديثه أو محاضراته في منزله أو على حائش من الزيتون بالقرب من ضريح لأحد الأبطال يدعى أكاديموس؛ ومن هنا سميت مدرسته أكاديمي وهي اللفظة التي تطلق إلى الآن على المجامع العلمية، وربما كانت الأكاديمية التي أنشأها أفلاطون أولى الجامعات في العالم، فقد انتظم فيها التعليم على النسق الحديث، ولم يكن أفلاطون يجزم بشيء، وإنما يناقش ويحتكم إلى العقل، وكان يفرض على جميع الطلبة أن يدرسوا الرياضيات قبل أن يشرعوا في درس الفلسفة.
وكان أفلاطون - لتربيته الأدبية الأولى، ثم لثقافته العلمية الثابتة - يتكلم بلغة الأديب ويفكر تفكير العالم؛ ولذلك كان يستهوي الطلبة ببيانه، ولقد تخرج على يديه أرسطوطاليس وتعلم منه قيمة البيان في الكتابة حتى الكتابة العلمية، وقد قيل فيه: لو كانت الآلهة تتكلم باللغة الإغريقية لنطقت بها كما ينطق أفلاطون.
وكان العصر، بين سنة 600 وبين سنة 300 قبل الميلاد، عصر بناء المدن في بلاد الإغريق، فلم تكن الدولة كما نعرفها الآن تؤلف من عدة مدن وقرى ومستعمرات خارجة عنها أو بعيدة منها معروفة عند الإغريق في بلادهم، وإن كانوا قد سمعوا عنها عند الفرس والمصريين، فكانوا إذا تصوروا حكومة، لم يتجسم في أذهانهم سوى المدينة، أما القصر فلم تكن له شخصية قانونية عندهم، ولم يكن أفلاطون هو الوحيد الذي تخيل حلم المثل الأعلى للحكومات والمجتمع، فقد ذكر أرسطوطاليس أن من يدعى «فالياس» قد تخيل مثل هذا الخيال، وقال بوجوب المساواة في حقوق الامتلاك وأن «هبودامس» أيضا قد وضع كتابا في تخطيط المدينة الفاضلة.
ولكن جمهورية أفلاطون هي الأثر الباقي من تلك الأحلام، وقد تخيلها عقب تلك الحرب الرائعة التي نشبت بين أسبارطة وبين أثينا، وطالت مدتها وامتد لهيبها إلى جملة بلاد فخربتها ونشرت الفوضى في مجتمعاتها، والخراب والدمار والفوضى التي تحدثها الحروب تجرئ الناس على التفكير والترسيم، وتحوجهم إلى الإقرار بسوء النظم القديمة وضرورة اختطاط الخطط الجديدة، وكما فر الرئيس ولسون في إيجاد عصبة الأمم عقب الحرب العالمية الأولى، فكر أفلاطون أيضا عقب حروب أسبارطة وأثينا في إيجاد نظام جديد يضمن للناس السعادة والرخاء.
لم تكن الدول في عهد أفلاطون قطرا بل كانت مدينة؛ لذلك قصر حلمه على المدينة لا على القطر، بل هو يجعل مدينته صغيرة بحيث يمكن اجتماع جميع سكانها لخطيب واحد، أو يمكنهم أن يشتركوا في لعبة واحدة، ويمكنهم التعارف والمصادقة فلا يكون أحدهم غريبا عن الآخر.
ولنذكر أن وسائل الاشتراك في الرأي والتعارف الموجودة بيننا الآن لم تكن موجودة في زمنه؛ فنحن نتعارف إلى حد كبير بالصحف والتلغراف والتليفون والبريد، ثم إن وسائل المواصلات نفسها تقرب البعيد من المسافات، وتجعل الاجتماع ممكنا على الرغم من بعد الشقة بين المجتمعين، ولكن الحال لم تكن كذلك في زمن أفلاطون؛ ولذلك جعل مدينته صغيرة يبلغ عدد سكانها خمسة آلاف نفس فقط.
فجمهورية أفلاطون هي قرية متمدينة حولها حقول خاصة بها للزراعة، وأهلها في حال وسط بين الترف وبين الفاقة؛ فلا الترف يكسبهم الرخاوة التي تبلد الجسم والحواس، ولا الفاقة تضعف أجسامهم وتكدهم في العمل الشاق، ثم إن الفاقة والترف كليهما يعود بأسوأ العواقب على الفنون، ولا يمكن إغريقيا أن يفكر في مثل أعلى لا يعنى الناس فيه بالفنون، فجمهوريته خالية من الغنى ومن الفقر؛ لأن الأول يلد الترف والرخاوة، والثاني يلد الدناءة والرذيلة، وكلاهما يحدث الاستياء.
والناس في الجمهورية سواء فيما يملكون، ويحصلون على ما يحتاجون إليه عن حاجة حقيقية، ولا ينالون ما لا يحتاجون إليه، وكانت غاية أفلاطون توفير السعادة للناس، ولكن هذه السعادة لا تنال بما تملك من عرض الدنيا، بل بما في أنفسنا من خصوبة وزكاوة؛ فسعادته ليست سعادة النهم الذي يلذ له التهام الطعام، بل سعادة الراقص أو العازف الذي تلذ له حركاته وما فيها من خفة ورشاقة؛ فهو لذلك يساوي بين الناس فيما يملكون؛ لأنه لا يرى أن الامتلاك يميز شخصا على آخر من حيث السعادة.
والهيئة الاجتماعية في هذه الجمهورية مؤلفة بالطبع من أفراد، ولكن اجتماع هؤلاء الأفراد ليس اجتماعا اعتباطيا؛ إذ هو مؤتلف ائتلاف أعضاء جسم الإنسان في شخصه.
فكل إنسان في هذه الهيئة يخدمها وفق كفايته وقدرته كما يخدم العضو الجسم، وإنما يحدث السلام والوفاق بين أعضاء هذه الهيئة إذا اختص كل عضو بوظيفته لا يتعداها إلى غيرها، فالعدل في هذه الجمهورية هو «إيجاد مكان لكل إنسان، وأن يكون كل إنسان في مكانه» على نحو ما نرى في الجوقة الموسيقية، فإن الخلل يصيب الجوقة جميعها إذا خرج أي إنسان منها من مكانه، والوفاق بين نغماتها يزول إذا قام واحد منها بتبديل ما كلف به من النغم لإيجاد اللحن العام للجوقة جميعها.
ولكن كيف يمكن أفلاطون أن يضمن بقاء كل إنسان في صناعته ومكانه لا يتخطاهما إلى غيرهما؟
هنا احتاج أفلاطون إلى إيجاد نظام الطبقات؛ فطبقة تختص بدرس الحكمة وتدبير شئون الجمهورية السياسية والحكومية وهذه هي طبقة الأوصياء، وطبقة تختص بالجندية لحماية المدينة، فهذه طبقة المقاتلة، وطبقة تختص بالزراعة والصناعة وهذه هي طبقة العمال.
وعناية أفلاطون هي بالطبع بالطبقتين الأوليين، أما الطبقة الثالثة فلا يبالي بها كثيرا؛ إذ هي رعية حكومية فوقها طبقة الأوصياء يأمرون وينهون، ودونها طبقة المقاتلة تنفذ أوامرهم، وليست هذه الطبقات جامدة لا تمكن أحدا أن يرتقي من طبقة إلى طبقة إذا ظهرت منه كفايته وهو بعد صغير يمكن تربيته.
وقد ألغى حقوق امتلاك الأشياء وحقوق امتلاك الزوجات بين طبقة الأوصياء وطبقة المقاتلة، ولكنه أبقاهما بين طبقة العمال، وهو إنما ألغى الزواج والامتلاك بين هاتين الطبقتين عناية بهما؛ لأنه يريد أن يخضع أفرادهما لنظام خاص حتى ينشأ أفراد كل طبقة على صبغة خاصة.
أما الابتداء في تقسيم الطبقات فمن الصعوبة بمكان؛ فإنه ينبني بالطبع على الانتخاب، يختار الصبي الذكي لكي يكون وصيا فيربى تربية خاصة، ثم يختار صبي آخر يميل إلى الرياضة البدنية وتبدو عليه دلائل القوة فيختار لطبقة المقاتلة.
ولننظر في الوسائل التي يتخذها أفلاطون لتخليد هذا النظام ودوام بقائه، فهذه الوسائل تتلخص في ثلاثة أشياء، وهي: التوليد ثم التربية ثم الرياضة اليومية.
فأما في طبقة العمال الذين يزرعون ويصنعون، فليس هناك توليد مقصود بينهم؛ فهم يتزوجون وينسلون، أما تربية أولادهم فهي التربية الشائعة بين الزراع والصناع، يتتلمذ الصبي عند زارع أو صانع فيتعلم منه حرفته ويتخرج عليه، ويحترف هذه الحرفة وليس له رياضة يومية خاصة.
أما طبقة المقاتلة فيعيشون في ثكنة خاصة، فلا يملكون ولا يتزوجون وإنما يتعارفون إلى النساء فإذا حملن منهم لم ينتسب الابن إلى أب معروف - بل ينشأ مقاتلا - يتربى تربية الطبقة، ولا يعرف ولاء لغير وطنه، ولا يبالي بمصلحة لغير مدينته، ثم يربى الطفل تربية قاسية، فإذا كانت به عاهة قتل ونبذ، أما إذا وافق جسمه صناعة القتال احتفظ به وعني به ودرب تداريب خاصة لتقوية جسمه وذهنه.
وكذلك الحال في طبقة الأوصياء، يتلاقح النساء والرجال بدون تعيين امرأة بعينها لرجل بعينه، حتى يضيع النسب ولا يعرف أحد والديه، وهذا مع العناية بالانتقاء؛ فأجمل الرجال وأكثرهم حكمة وعقلا يشجع على التناسل حتى يكثر أولاده ويرثوا صفاته في الشجاعة والعقل، وكان أفلاطون يرى أن التفوق في خدمة الجمهور يجب أن يمنح صاحبه حق التلاقح مع عدد من النساء أكبر مما يمنح غيره، وليس من الواضح هل قال أفلاطون ذلك على سبيل مكافأة الوصي لحسن بلائه في خدمة الجمهورية؛ أو لأنه يريد الإكثار من نسله لأن تفوقه في الخدمة دليل تفوقه في العقل.
ولم يكن أفلاطون يسمح للطبقات بالاختلاط الجنسي، فلكل طبقة نساؤها ورجالها لا يتعدونها إلى غيرها، فكأنه كان يريد أن يجعل كل طبقة سلالة خاصة لها صفات خاصة، وكان كما قلنا «أسبرطي» المزاج يكره الضعف والمرض، فكان يقول بقتل جميع الأطفال المؤوفين وتحديد عدد أطفال طبقة العمال حتى لا يفيضوا على غلات الأرض.
أما تربية الأوصياء فكانت التربية الإغريقية المعروفة في زمن أفلاطون مع التعديلات التي يحتاج إليها نظامه، ولما لم يكن للأوصياء عائلة، فإن أولادهم يوكلون إلى مربين يعهد إليهم ثقافة أجسامهم بالألعاب الجمبازية وثقافة عقولهم بالموسيقى ما داموا صبيانا. ثم يلقن الصبي ضروب المعارف على طريقة اللعب، بحيث لا يشعر أنه يكد للتعليم، وإنما يتعلم وهو يلعب مسرورا، فإذا شب وضع له نظام آخر في التعليم، ثم يمتحن الشبان من وقت لآخر، فلا يدخل طبقة الأوصياء سوى الذين ثبت بالامتحان أنهم أهل لأن يتولوا حكومة المدينة، ويعيش الأوصياء فيما يشبه الثكنة، ولا يجوز لأحد منهم أن يقتني بيتا أو مخزنا، ولا يجوز لهم أن يمتلكوا أي شيء إلا تلك الأشياء الضرورية التي يستغني عنها الإنسان، وهم يكافئون مكافأة معتدلة تكفي حاجتهم؛ بحيث لا يشعرون بضيق الفاقة ولا يجدون أيضا سبيلا إلى الترف، وهم يأكلون معا ولا يجمعون الذهب أو الفضة. والقصد من كل هذا النظام أن يبقى الوصي نزيها لا تشغله مشاغله الخاصة عن النظر في شئون المدينة وينحرف رأيه في حكم لمراعاة مصلحة خاصة؛ فليس له قريب يحابيه أو ولد يدخر له المال، وكذلك أيضا لا يختلط بالناس ولا يعاشر أحدا من غير طبقته؛ فتستحيل المعاشرة إلى مصاحبة أو مصادقة تحول دون النزاهة.
والأوصياء يكونون في شبابهم من طبقة المقاتلة، يقضون وقتهم في تثقيف أجسامهم وعقولهم، فإذا بلغوا الخامسة والعشرين عهدت إليهم الرياسة في بعض أقسام الجيش وجرئوا على اكتساب التجارب، فإذا بلغوا الثلاثين وجاوزوا الامتحانات الشاقة، صاروا أوصياء؛ وعندئذ تقتصر أعمالهم على درس الفلسفة ووضع نظم الحكم.
وليست مهمة الأوصياء سن القوانين، وإنما هي اختراع نظم الحكم أو وضع الدساتير للمدينة، لضمان حرية الأفراد؛ فالحرية هي الهم الأول الذي يهتم له أفلاطون ويعدها أخطر ما ينبغي العناية به؛ فهو لذلك يوكل حراستها إلى الأوصياء الذين يجب عليهم اختراع الأنظمة التي تضمن عدم العبث بها. فالناس في مدينة أفلاطون يحكمون أنفسهم، وإنما يضع الأوصياء الدساتير لهم، سواء أكان ذلك لطبقة العمال أم لطبقة المقاتلة، فهم أشبه بالمشرفين منهم بالحكام، فإذا وجدوا أن الدستور الموضوع لطبقة العمال مثلا لا يفي بحاجتهم استبدلوا به غيره.
وهذه الأفكار هي أعقد ما في الجمهورية، فإن أفلاطون يعتقد أن وراء هذا الكون المحسوس أفكارا قد سبقته، وهي منه بمثابة الأصل والروح، وهذه الأفكار هي الشيء الثابت، بينما المحسوسات التي نحس بها هي الشيء الزائل، فأنا أكتب الآن مثلا بقلم محسوس، ولكن فكرة القلم قد سبقت مادة القلم والفكرة هي الثابتة، وأما العادة فهي الزائلة، ومن هنا اهتمام أفلاطون بالرياضيات؛ لأنها كلها أفكار. وهو يرى ضرورتها لكل من ينشد حكم الناس، ثم يخرج الطلبة بعد درس الأفكار إلى المجتمع، وعليهم أن يعيشوا كل منهم بمجهوده الفردي وكما يتيسر له، حتى إذا بلغ الخمسين عين وصيا للدولة.
ولكن كل هذا لا يقنع أفلاطون، فهو يقول بكل صراحة: «إن التربية يجب أن تبدأ قبل الولادة»؛ فلذلك يجب أن يكون الأبوان سليمين، ويجب على الرجل أن يتزوج بين الخامسة والعشرين والثلاثين، والولد النغل - أي: ثمرة الزنى - والولد المشوه كلاهما يجب قتلهما عقب ولادتهما. •••
وقد يرى القارئ أن أفلاطون قد استسلم للخيال في توهمه إلغاء الزواج والامتلاك في طبقتي المقاتلة والأوصياء، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن ينبغي أن نتذكر أن الرهبانية المسيحية - وخاصة نظام اليسوعيين منها - قد سار على نحو من هذا النظام؛ فالراهب لا يملك زوجة ولا شيئا آخر، ومع ذلك نجح هذا النظام، وإذا كان الإنسان قد استسهل إنكار الذات والتضحية بغرائزه الجنسية وغريزة التملك في سبيل الخدمة الدينية، فلم لا يستسهل ذلك في سبيل خدمة الإنسان؟ وإذا كان في الناس جماعات يرصدون حياتهم لخدمة الله، يحبسون أنفسهم في أديار لا يخرجون منها مدى حياتهم، يقضون أيامهم في الصلاة والتعبد، فلم لا يكون بينهم من يفعل ذلك في سبيل درس الحكمة وإيجاد النظم للحكومات وضمان الحرية للأفراد؟
فيجب ألا نتوهم أن أفلاطون قد استسلم للخيال كل الاستسلام، فهو يريد أن يكل حكم الناس إلى الفلسفة، وهو يرى - كما رأى بعده نبي الإسلام - أن الولد مجبنة ومبخلة لأبيه؛ فعمد إلى سبب ذلك فوجده في الزواج؛ فألغاه حرصا على أن يبقى الوصي أو المقاتل نزيها لا يعمل إلا لمصلحة مدينته، وقد ذكرنا الرهبان دليلا على إمكان نزول الطبيعة البشرية عن حق التمتع بالزواج والامتلاك، ونذكر جيش الإنكشارية عند الأتراك دليلا على أن الرباط العائلي يقلل من شجاعة الناس، فإن هذا الجيش كان يؤلف من صبيان النصارى الذين يؤسرون فينشئون وهم لا يعرفون لهم عائلة، فكان هذا من أسباب شجاعتهم واستماتتهم في القتال.
حلم توماس مور
بعد أن مات الإغريق ماتت الحرية الفكرية في جميع أنحاء العالم إلا بصيصا منها بقي عند العرب، يومض ويخبو تبعا للزمان والمكان، فقد كان الإغريقي جريئا يجازف في الخيال ولا يبالي بالآلهة أو بالناس؛ وذلك لأن الآلهة والناس كليهما لم يكن لهما ذلك السلطان الذي صار لهما فيما بعد، أي بعد ظهور المسيحية والأباطرة والملوك، فقد كانت الآلهة الإغريقية كثيرة العدد، كل منها مختص بعمل، فلم تكن له حرمة إله المسيحية أو إله الإسلام، أو ما لهما من السيادة الأتوقراطية، والعلم بكل شيء، وإملاء كل شيء على الناس، وكذلك لم يكن لهم ملوك مستبدون يمنعون الناس من التفكير في أشكال الحكومات وسياسة الدول وسن الشرائع.
لم يكن شيء من ذلك عند الإغريق، فكانت أفكارهم وهي تنطلق حرة تسبح أينما تشاء، وكان فلاسفتهم يكتبون في كل ما يعرض لهم بلا تحرج، لا يتورعون من دين ولا يخشون بأس ملك، ثم كانت المسيحية وإلهها قادر على كل شيء عارف بكل شيء، فخرج الملكوت من يد الإنسان إلى يد الله، ومن هذا العالم إلى العالم الآخر، فإذا كان «أفلاطون» قد وجد المجال واسعا لأن يتخيل ويحلم في إيجاد ملكوت أرضي، ينال فيه الناس السعادة والهناء، فإن المسيحية قد ضيقت هذا المجال؛ لأنها أوجدت من جنة النعيم في الآخرة بديلا من مثل هذه الأحلام، ولم تكن هذه الأرض في نظر المسيحية سوى دار بلاء وتجربة يعبرها الناس إلى جنة النعيم ، وهذا أيضا هو نظر الإسلام، ثم كان ملوك النصارى وخلفاء المسلمين عائقا آخر يمنع التخيل والبحث في المثل العليا للحكومات والهيئات الاجتماعية؛ لأن بحث هذه الموضوعات دليل السخط على النظم الموجودة التي لا يرضى ملك أو خليفة بانتقادها.
ثم كانت النهضة الأوروبية فعادت أوروبا إلى نفسها القديمة وأخذت تعنى بتاريخ الإغريق، فصارت تدرس ثقافتهم وتتمثله، حتى نزعت نزعة إغريقية جديدة، فصار علماؤها وفلاسفتها يتنبأون ويتخيلون ويحلمون.
وكان من هؤلاء الحالمين «توماس مور»
1
الإنجليزي، وكان وزيرا لهنري الثامن، فلم يكن حلمه مبنيا على أسس الخيال، فقد خبر الدول وعرف من ممارسته الطويلة للسياسة بعض حقائق الطبيعة البشرية؛ فهو لذلك يتخيل، ولكنه يبني خياله على أساس من الحقائق.
وبطل حلم توماس مور برتغالي يدعى «هيتلوداي» كان يعرف الإغريقية، وقد اعتاد المجازفات الفكرية من فلاسفة هذه اللغة، ولكنه لم يكن رجل كتب فقط، فقد عرف رجلا يدعى «فسيوتيوس» زار معه أمريكا الشمالية والجنوبية وجزائر الهند الشرقية، وهناك رأى بلادا تخالف ما ألفه في بلاده من حيث المؤسسات والنظم وتركيب الهيئة الاجتماعية؛ فهو لذلك يروي ما رآه في هذه الرؤيا.
يقول هيتلوداي: إنه زار جزيرة طولها مائتا ميل، قد خطت في وسط المحيط بهيئة الهلال يتقوس حول خليج كبير؛ بحيث يسهل الدفاع عنها من غارة أو عدو، وبالجزيرة 45 مدينة، أقربها تبعد عن الأخرى بمقدار 24 ميلا، وأبعدها تكون على مسيرة يوم منها، وعاصمة الجزيرة بلدة تدعى «أموروط»، ولكل بلدة اختصاص قضائي على ما حولها من الأرض إلى ما يبعد عنها بعشرين ميلا.
والزراعة هي أساس المعيشة في هذه الدولة، فليس فيها من يجهل هذه الصناعة، فهناك فلاحون يقضون كل حياتهم في الحقول، لهم دساكرهم منبثة في الريف، ولكن عند الحصاد يرسل عمال من المدن لمساعدة الفلاحين، وكل دسكرة تحتوي على أربعين رجلا وأربعين امرأة، وفي كل عام يعود عشرون من هذا العدد إلى المدينة ويستبدل بهم عشرون آخرون يرسلون من المدينة إلى الدسكرة كي يتعلموا الفلاحة.
والفلاحة متقدمة من وجهيها الاقتصادي والإنتاجي، فهم يعرفون كيفية إنتاج الدجاج بطريقة صناعية، ويعرفون مقدار الطعام المطلوب لأهل الجزيرة فيزرعون ما يكفي أو ما يفيض قليلا عن الكفاية.
ومع أن جميع سكان الجزيرة يعرفون الفلاحة، وقد مارسوها بعض عمرهم، فإنهم جميعهم يعرفون صناعة أخرى يزاولونها، كالبناء والتجارة والحدادة والحياكة، وجميع الصناعات متساوية القيمة فلا تفضل واحدة أخرى، والناس يتبعون آباءهم في الصناعات، فالصناعة تمارسها العائلات لا الأفراد، وإذا مال واحد إلى صناعة تخالف ما يزاوله أبوه ذهب إلى عائلة أخرى فتتبناه العائلة، ويأخذ في تعلم صناعتها، ويمكنه - إذا أراد - أن يتعلم صناعة أخرى باتباع هذه الطريقة نفسها، ثم له أن يختار ما شاء منهما.
وينحصر عمل القضاة تقريبا في إجبار الناس على العمل. وليس معنى هذا أن أهل الجزيرة يكدون أنفسهم ليل نهار، فإن لهم توقيتا للعمل والراحة، فهم ينامون ثماني ساعات، ويشتغلون ستا ويتصرفون بسائر اليوم كما يشاءون، وهم يشتغلون هذا العدد القليل من الساعات لأن كل إنسان مجبر على العمل، فليس بينهم أشراف أو أمراء أو شحاذون يعيشون عالة على غيرهم، ولا يعفى من هذا الإجبار سوى الطالب في المدرسة أو القاضي.
وبين المدينة ودساكر القرى مقايضة تحدث باحتفال عام كل شهر، فيأخذ الفلاحون ما يحتاجون إليه من صناعة أهل المدن ويأخذ أهل المدن ما يحتاجون إليه من غلات الريف، ولا بد أن لهذه المقايضة نظاما، ولكن هيتلوداي لم يذكر هذا النظام.
والمدينة مؤلفة من عائلات، والصناعة كما قلنا تمارسها العائلة لا الفرد، قال هيتلوداي: «كل مدينة مقسمة أربعة أقسام، وفي وسط كل قسم سوق، فما تحضره العائلات من مصنوعاتها يؤخذ ويصف كل إلى نوعه في أمكنة خاصة، ثم يذهب الآباء ويأخذون حاجاتهم من هذه الأشياء بدون أن يدفعوا ثمنه أو يضعوا شيئا بدلا منه على سبيل المقايضة.» «وليس هناك ما يدعو إلى أن ينكر على أحد طلبه؛ وذلك لوفرة ما هو معروض من هذه الأشياء؛ ولأنه لا خوف من أحد أن يأخذ أكثر من حاجته؛ إذ ليس هناك ما يغريه بذلك؛ لأنه متأكد من وجود هذه الأشياء على الدوام.»
ثم يقول: «إن خوف الحاجة هو الذي يوجد النهم والطمع في نفوس الحيوان، ولكن إلى جانب الخوف نجد عند الإنسان خصلة أخرى هي الكبرياء؛ حيث يتوهم الإنسان أن تفوقه على غيره في الأبهة مما يزيد في مجده وعظمته، ولكن ليس أحد يسعه أن يفعل ذلك في الجزيرة.»
فتوماس مور لا يحلم بشيوعية النساء - كما حلم أفلاطون - ولكنه يحلم بشيوعية الأملاك؛ وهو لكي يحقق هذه الشيوعية يلغي النقود؛ فالناس يأخذون حاجاتهم بدون ثمن.
وفي كل عام يجتمع القضاة (وهم الحكام أيضا) في العاصمة «أموروط» فينظرون في غلات كل منطقة، ويرسلون إلى المناطق المحتاجة إلى بعض السلع ما تحتاج إليه من فائض المناطق الأخرى.
وليس للذهب أو الفضة أو الجواهر قيمة عند أهل الجزيرة؛ ولذلك فالرؤيا كما يراها توماس مور لا تقاس إلى رؤيا يوحنا، من حيث الزينة واللآلئ، مع أن الأولى يقصد تحقيقها في هذا العالم والثانية لا تتحقق إلا في السماء، وغريب أن يدعو رجل الدنيا إلى ملكوت خلو من الزينة والجواهر، في حين يدعو إليها رجل الدين في ملكوت السماء.
أما «أموروط» عاصمة الجزيرة فتقع على تل وحولها سور، والمنازل مشيدة على نسق واحد حتى كأن الشارع بناء واحد، وسعة الشارع عشرون قدما، ووراء كل منزل حديقة يعنى السكان بها ويتعهدونها حتى تبقى في نضارة دائمة، وفي كل شارع قاعات خاصة مبنية على مسافات متساوية، يقيم فيها القضاة (الحكام) وكل منهم ينظر في شئون ثلاثين عائلة نصفها في جانب من الشارع والنصف الآخر في الجانب الآخر.
وفي هذه القاعات يتناول جميع السكان غذاءهم، ويقوم بطهي الطعام نساء الثلاثين عائلة بالتناوب، وإلى جانب هذه القاعة معبد، ومكان آخر للعب الأطفال الذين تأتي أمهاتهم للطبخ في نوباتهن.
ولننظر الآن في حكومة هذه الجزيرة، فالعائلة هي أساس المجتمع، وكل ثلاثين عائلة تختار كل عام قاضيا، ولكل عشرة قضاة رئيس. وجميع قضاة الجزيرة الذين يبلغون 200 يختارون أميرا، وتكون إمارته مدة حياته ما لم يتهم بمحاولة استعباد الأهالي، ولكي يمنع الأمير أو غيره من محاولة قلب نظام الحكومة، يعرض كل مشروع على جميع السكان، فإن القاضي يعرضه على العائلات الثلاثين الداخلين في اختصاصه، ثم يتناقشون فيه ويرفع هو قرارهم إلى مجلس الشيوخ.
والعائلة كما رأيت ليست وحدة بيتية فقط، بل هي أيضا وحدة صناعية، فإذا سارت قاعدة للانتخاب ضمن النظام الديمقراطي للحكومة ضمن بذلك بقاؤها.
ولكن في هذا الحلم أشياء جديرة بالانتقاد لم يستطع توماس مور أن يخرج فيها عن حكم بيئته، فلم يدرك مثلا أن تكاثر السكان، مع العناية بصحة الأهالي وتوافر الغذاء لهم، سيؤدي حتما إلى أن يفيض السكان على طعامهم وإلى إيجاد الفاقة بين جميع السكان، وهذه غلطة يعذر فيها توماس مور، فإن الوفيات في عهده كانت كثيرة تكاد تعادل المواليد، فلم يكن يخطر ببال أحد أن يتخيل مثلا أعلى للمجتمع يحدد فيه عدد السكان، وإن كان ذكاء أفلاطون قد جعله يحسب لهذا الاحتمال ويوصي بقتل الفائضين من الأولاد.
ويظهر من مسائل أخرى عالجها توماس مور أن مستوى المثل الأعلى عنده لم يكن عاليا إلى الدرجة التي يمكننا أن نتخيلها، ويظهر هذا خاصا في معالجته مسألة انتقال الأهالي من مكان لآخر ومسألة الحرب.
ففي مسألة الانتقال يحتم على كل فرد أن يحصل على جواز من أمير الجزيرة، فإذا غاب أكثر من يوم يجب عليه أن يمارس صناعته في المكان الذي انتقل إليه، وإذا وجد إنسان يجول في مكان وليس معه جواز فإنه يعاقب، فإذا عاود هذا الفعل عومل معاملة العبيد، ويبدو للقارئ من معاملة توماس مور لهذه المسألة أنه لم يعن أقل عناية بالتفكير الجدي فيها، أو أنه أراد أن يحصل على عبيد لجزيرته، فإنه وجد أن من أعمال الناس التي يحتاجون إليها ما هو قدر في طبيعته لا يرضى بمزاولته أحد باختياره، مثل ذبح البهائم وتنظيف الطرق وما إليها، فخص العبيد بالقيام بهذه الأعمال، وأوجد بالرق بأوهى الأسباب في نظام المجتمع، حتى يعيش أفرادها منزهين عن كل ما في مزاولته قذارة، ولكنه نسي شيئا آخر وهو أن معاشرة العبيد تؤثر في الأسياد، وإذا ألفنا الاستبداد من السيد للعبد صار أيضا مألوفا من الأمير للسيد.
أما الحرب فهو يجيزها على شروط، منها الدفاع عن الأرض، واضطهاد التجار الأجانب ومنع الأمم من الهجرة إلى بلاد يمكن زراعة أرضها وليس من يزرعها من أهلها، ومن هذه الشروط يرى القارئ أن توماس مور كان يكتب مستضيئا بالحوادث التي جرت في عصره، فقد كانت أمريكا حديثة العهد بالاكتشاف والهجرة إليها متصلة، وكانت سفن التجارة يقبض عليها في الموانئ ويسلب ما فيها من السلع. ولكنه يؤلف الجيش بطريقة «يوجنية» فهو يصطفي أسوأ الرجال لتجنيدهم في الحرب، حتى إذا قتلوا استفادت الأمة بفقدهم على نحو ما يقلع الزارع الأعشاب الضارة من حقله.
ولننظر الآن في شروط الزواج والدين، فأهل هذه الجزيرة يسمحون للعروسين بأن يرى كل منهما الآخر وهو عريان قبل الزواج، وللطلاق علتان الأولى الزنى، والثانية التواء أحد الزوجين على الآخر بحيث لا يمكن تقويمه، ومن زنى يحكم عليه بالرق، ولا يمكن أن يتزوج، رجلا كان أم امرأة.
هذا هو حلم توماس مور، وليس فيه فكرة مبتكرة أو خيال بعيد، ولكن وراء مقترحاته كلها فكرة واحدة، وهي أن يسيطر الإنسان على الممتلكات ويتمتع بها، لا أن يكون هو نفسه عبدا لها يقضي حياته في جمعها، واختزانها ويجهد جهده في المحافظة عليها وحراستها ورعايتها، يحسب بذلك أنه مالكها، والحقيقة أنها هي التي تملكه وتسترقه، وهو لذلك يلغي النقود؛ لأنها وسيلة ادخار الممتلكات، ويحتم على الجميع أن يشتغلوا في الزراعة ولو بعض وقتهم، حتى يشعر كل إنسان أنه منتج، ثم يحتم على كل إنسان يصنع شيئا إن لم يزرع، ثم يعرض جميع السلع على كل الناس يأخذون منها ما يشاءون، لا يخشى أن أحدا سيحتجن إليه ويدخر أكثر مما هو في حاجة إليه.
أما أوقات الفراغ - وهي كثيرة - فتقضى في طلب العلوم والآداب، يحاول كل إنسان أن يرقى ذهنه بما يقرؤه أو بما يناقش فيه إخوانه.
أندريا وحلمه
«يوحنا فالنتين أندريا»
1
ألماني ومسيحي أيضا، وحلمه يراد به تحقيق المدنية المسيحية كما يتوهمها رجل مؤمن بهذه الديانة، ولكنه - مثل سائر رجال الدين - يفيق كثيرا من حلمه فتغلب عليه لهجة الوعظ الديني، فما يزال يعظ ويعظ حتى يسأم القارئ.
وهو يبدأ حلمه بأن يروي للقارئ رحلة له في البحر حيث تتحطم سفينته على صخور جزيرة هي مسرح هذا الحلم، فقد كان بهذه الجزيرة مدينة: «كريستيانوبوليس» أو المدينة المسيحية، فإذا أراد أن يدخل هذه المدينة امتحنه أهلها أولا في الفضائل والأخلاق والثقافة، ولما لم يروا فيه شيئا مناقضا أذنوا له بالدخول.
وإليك الآن وصف هذه المدينة: كانت في هيئة مربع طول جانبه 700 قدم، وهي محصنة بأربعة أبراج وسور؛ فهي لذلك تطل على الأركان الأربعة للعالم، والبيوت مبنية على صفين، ولكنك إذا حسبت الحكومة والمخازن فهي أربعة صفوف، وليس فيها سوى شارع واحد، وسوق واحدة، ولكنها من الطراز الأول، وفي وسط المدينة معبد مستدير قطره 100 قدم، وفي جميع البيوت ثلاثة طوابق، ولها كلها «بلكونات» متصلة، وتجد على وجه العموم أن البيوت يماثل بعضها بعضا، فليس هناك سرف أو قذر والهواء النقي يجوس خلال البيوت كلها، وفي هذه المدينة يعيش أربعمائة من السكان في هدوء الإيمان الديني والسلام، أما سائر الجزيرة فإنها خاصة بالزراعة والمصانع.
و«المدينة المسيحية» من حيث الصناعة منقسمة إلى ثلاثة أقسام: واحد للصناعات الخفيفة التي لا تحتاج إلى نار، وآخر للصناعات التي لا تحتاج إلى وقود وتبقى فيها النبران، والثالث لتربية الحيوان والأعمال الريفية، والغرض من هذه القسمة ألا تؤذي هذه الصناعات الناس الساكنين بجوارها إذا كانت متفرقة في أنحاء المدينة بلا ضابط. والعمال الذين يشتغلون في هذه المصانع لا يساقون إليها سوق الأنغام، بل هم قد تعلموا قبلا وحصلوا على «معرفة صحيحة للمسائل العلمية»، ونظرية صاحب الحلم في ضرورة هذه التربية العلمية للمصانع، وهي: «أنك إذا لم تحلل المادة بالتجربة، وإذا لم تستعض عن نقص معلوماتك بتحسين آلاتك، فلا فائدة منك.»
وهذه لمحة عجيبة من أندريا في رؤياه؛ إذ يقول بفائدة العلم للصناعة وبإمكان تعليم الصانع ، وكلاهما غرض لم يتحقق في جميع الأقطار المتمدينة للآن، بل من الناس من لا يؤمن بهما. وإليك الآن وصفه للصناعة: «إن عملهم أو استعمال أيديهم كما يقولون هناك يجري على نمط خاص، وجميع ما يصنع يحمل إلى مخزن عمومي، ويأتي الصانع فيأخذ من هذا كل ما يحتاج إليه لعمله في الأسبوع القادم؛ وذلك لأن المدينة في الحقيقة مصنع واحد متنوع الصناعات، وإذا كان بالمخزن كمية مدخرة كبيرة من المصنوعات، فإن الصناع يؤذن لهم بالانطلاق من قيود العمل واستعمال أذهانهم فيما يشاءون، ولا يحمل النقود أحد من الناس وليس للنقود أية فائدة عندهم، ومع ذلك فللجمهورية خزانتها، والسكان من هذا الاعتبار لهم ميزة المساواة، ليس أحد منهم أوفر مالا من غيره، وإنما يمتازون بقوة أذهانهم ويتفاضلون بأخلاقهم وصلاحهم، وعدد الساعات التي يشتغلون فيها قليلة، ومع ذلك فهم يتممون شيئا كبيرا من الأعمال؛ لأنه من العار على أحد أن يأخذ من الراحة أكثر مما يؤذن له.»
وهناك واجبات وطنية يؤديها السكان إلى جانب صناعاتهم، كالحفر والحصاد وتعبيد الطرق والبناء وصرف أقذار المدينة إلى مجاريها.
أما التجارة الخارجية فليست في يد أفراد يشتغلون لحسابهم، بل هي في يد هيئة تعينها المدينة، وليس الغرض من هذه التجارة زيادة الثروة والربح، بل مقايضة سائر الأقطار ما عندهم من السلع التي لا تصنع في «المدينة المسيحية».
وأساس هذا النظام عند أندريا هو العائلة المسيحية، فكل شاب يبلغ الرابعة والعشرين، وكل فتاة تبلغ الثمانية عشرة يتزوجان ويؤلفان هما وأولادهما عائلة جديدة.
وليس هناك ما يتكلفه الزوجان، حتى أثاث البيت الجديد تقدمه الحكومة بلا ثمن، وهذا الأثاث بسيط يمكن للزوجة أن تنظفه بأقل عناء؛ ولذلك ليس في المدينة المسيحية خدم للبيوت، فالنساء متعلمات والزوج يساعد زوجته في عمل البيت ما عدا الخياطة والغسل، ثم هناك مطبخ عمومي يزود الزوجة بما تحتاج إليه من الطعام إذا لم تكن قد طبخت لنفسها.
أما الأطفال فيبقون في رعاية الأم إلى السادسة من عمرهم، وبعد ذلك يدخلون المدارس فيبقون في عنايتها إلى سن الشباب، وفي هذه المدارس أفضل المعلمين، ويمكن للآباء أن يروا أبناءهم كلما شاءوا، وفي غير أوقات الدراسة يعمل التلاميذ أعمالا يدوية ويتميزون بالفنون والعلوم، كل يختار ما يميل إليه طبعه، أما أوقات الفراغ فتقضى في رياضة الجسم، وفي مدارس «المدينة المسيحية» شيئان جديران باعتبارنا: أولهما أن للمدرسة دستورا، فهي أشبه شيء بجمهورية صغيرة، والثاني أن المعلمين ينتقون من خيرة السكان، حتى إن أعلى الوظائف في الدولة ليست مقفلة دونهم، وإليك الآن ما يقوله عن تعليم التاريخ الطبيعي:
يرى التاريخ الطبيعي هنا مرسوما بالتفصيل على الجدران بأعظم مقدار من المهارة، فهيئة السماء ومناظر الأرض في مناطق مختلفة، وشعوب الإنسان المختلفة، وأمثلة الحيوان، وهيئة الأحياء، وصنوف الأحجار والجواهر، كلها مرسومة ومسماة، يتعلم منها الطلبة طبيعتها وأوصافها ... أوليس من الحق معرفة أشياء هذه الأرض وأسهل في الإيضاح إذا كانت هناك أمثلة توضح إلى جانب دليل يساعد الذاكرة؟ وذلك لأن العلم يجوز إلى الذهن عن سبيل العين بأيسر مما يجوز إليه عن سبيل الأذن.
وقد قلنا: إن المؤلف ألماني؛ فهو لذلك لا يترك صغيرة ولا كبيرة في هذه المدارس حتى يحصيها، يصف معامل الرياضة ومعامل الطبيعة والتشريح والصيدلة بدقة، كأنه يهيئ ترسيما لمشروع سيتحقق، وهو على حبه الألماني للعلوم لا يهمل أمر الفنون، فهو يقول: أمام معمل الصيدلة دكان وسيعة للفن التصويري، وهو فن يلذ لأهل المدينة العناية به؛ لأن المدينة - فضلا عن أنها مزينة بصور ورسوم تمثل أشكال الأرض المختلفة - تستعمل الرسوم في هذه الدكان لتعليم الشباب وتسهيل هذا التعليم لهم، ثم إن صور العظماء وتماثيلهم ترى في كل مكان، وفيها كلها ما يبعث في الشباب عاطفة تقليد هؤلاء العظماء في فضائلهم.
ومعبد المدينة هو بالطبع أهم بناياتها، ويحوي من بدائع الفن ما يحويه غيره، ولكن أندريا كان كما قلنا رجل دين، وقد زار جنيف ووقع تحت تأثير «كالفن»؛ فهو لذلك يجعل العبادة في المعبد إجبارية، والاجتماعات العمومية تعقد في هذا المعبد، كما أن «الكوميديات» الدينية تمثل فيها.
والآن وقد ذكرنا شيئا عن الصناعة والتعليم والعائلة، فلنقل شيئا عن الحكومة؛ ففي المدينة مجلس مؤلف من 24 عضوا، والهيئة التنفيذية لهذا المجلس مؤلفة من ثلاثة أشخاص، هم: الوزير والقاضي ومدير التعليم، وأولهم يمثل ضمير الأمة، والثاني الفهم، والثالث الحقيقة، وإليك ما يقوله الآن عن عقاب المجرمين: «إن قضاة المدينة المسيحية يتبعون هذه العادة، وهو أنهم يعاقبون بأقصى العقوبات تلك الجرائم التي تقع من إنسان نحو الله، ثم يعاقبون بأقل قسوة تلك الجرائم التي تقع من أحد نحو الناس، وأخف ما يعاقب عليه أحد هو تلك الجرائم التي تقع بالأملاك، وأهل المدينة يكرهون إراقة الدماء؛ وهم لذلك لا يستبيحون لأنفسهم عقوبة الإعدام؛ لأن كل إنسان يمكنه أن يقتل، ولكن لا يقدر على الإصلاح إلا خير الناس.»
أضغاث أحلام
«بيكون»
1 «و«كامبانيلا»
2
كلاهما مشهور بحلمه، وأولهما إنجليزي وثانيهما إيطالي، ولكنك إذا تفحصت أحلامهما عن المثل الأعلى للهيئة الاجتماعية ألفيت هذه الأحلام أضغاثا مجموعة من تلك الرؤى الرائعة التي ألهمها أفلاطون ومور من قبلهما، مع زيادات طفيفة تدلنا على روح الزمن الذي وضع فيه هذان المؤلفان كتابيهما.
فكامبانيلا يحلم بما يسميه «مدينة الشمس» وراء خط الاستواء، وهي لا تختلف عن جمهورية أفلاطون إلا من حيث شيوعية النساء وشيوعية الأملاك، وإنما نجد في كامبانيلا بعض عبارات تنبئ بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فهو يقول مثلا: إن عند سكان مدينة الشمس زوارق تسير على الماء، لا بقوة الربح ولا بقوة المجاديف، وإنما ب «اختراع عجيب» ثم إن أحد سكان المدينة يحدثه فيقول: «آه لو أنك تسمع ما يقوله المنجمون عندنا عن الأزمة القادمة؛ فسيكون في القرن الواحد منها من التاريخ أكثر مما في أربعة آلاف سنة ماضية، أجل، ستكون فيها مخترعات الطباعة العجيبة، والمدافع والمغناطيس ...» ولما كانت المخترعات كثيرة في «مدينة الشمس» وسائرة في طريق النجاح، فإن أهل المدينة ليسوا في حاجة إلى استعمال الرقيق، ثم هم أغنياء لا يحتاجون إلى شيء وفقراء؛ لأنهم لا يملكون شيئا وعلى ذلك فهم ليسوا عبيدا للظروف، وإنما هم أنفسهم يستخدمون هذه الظروف .
ففي هذا الكلام إيماء إلى المستقبل الذي كان يحس به كامبانيلا. فقد بدأ ضمير الإنسان يستيقظ في زمنه ويتساءل: هل ما قررته الآلهة القديمة من الرق جدير بأن يقره الإنسان الجديد؟ وهل لا تقوم المخترعات يوما ما بعمل الإنسان بحيث تزول عنه لعنة آدم أو توشك؟ ثم يجيب كامبانيلا بالإيجاب ويلغي الرق، ويقصر العمل الذي يحتاج إليه الناس إلى أربع ساعات فقط؛ وذلك لأنهم كلهم يشتغلون، ولأن المخترعات توفر لهم وقتهم.
وأحلامنا على وجه العموم تبع لمزاجنا ومألوفنا، وعلى ذلك نقول: إنه لما كان مور وأندريا متزوجين لكل منهما عائلة، كانت العائلة أساسا من أسس الهيئة الاجتماعية التي تخيلها كل منهما، ثم لما كان أفلاطون وكامبانيلا أعزبين، كانت شيوعية النساء أحد أركان الهيئة الاجتماعية التي رآها كل منهما في رؤياه، الإنسان يتخيل وفق طبعه ومألوفه، ولكن يجب أن نقول: إن أفلاطون نفسه - مع أنه كان أعزب - لم يكن يؤمن كل الإيمان بشيوعية النساء، وإنما هو قصر هذه الشيوعية على الطبقتين السائدتين، أما طبقة المزارعين والصناع - وهم بالطبع جمهور المدينة أو الأمة - فإنه لم يقبل شيوعية النساء بينهم؛ مما يدل على أنه كان يدرك أن الزواج الذي يؤسس العائلة ضرورة لكثرة الأمة. وهو في حرمانه رجال طبقة الأوصياء وطبقة المقاتلة من الزواج وتأسيس العائلة، إنما ينقاد إلى تلك الفكرة التي تقول: باستحالة خدمة غرضين؛ وهي الفكرة التي أوجدت الرهبان، وهي التي تجعل رجل الفن يمنع أحيانا كثيرة لمصلحة فنه عن الزواج، فكما أن الراهب المسيحي لا يتزوج إرصادا لنفسه على خدمة الدين، ووقفا لمواهبه على العبادة، كذلك كان يرغب أفلاطون في أن يرى الوصي أعزب يقف كل جهوده على مصلحة الأمة لا على زوجته وأولاده، فالقاعدة عند أفلاطون هي الزواج، أما الاستثناء فهو الإباحة المقيدة. •••
ولننظر الآن في بيكون وأضغاث أحلامه، فقد رأينا أن كامبانيلا لم يأت بطائل، وكذلك الحال في بيكون، بل خيال بيكون مقصوص الجناح إذا قيس إلى خيال كامبانيلا، ثم في جناحه ريش مستعار أكثر ما في جناح كامبانيلا، وكثير من هذا الريش المستعار قد رأيناه على أصله في خيال أندريا وفي رؤيا أفلاطون؛ فلا حاجة إلى التكرار.
وأهم ما في رؤيا بيكون هو «بيت سليمان» وهو مؤسس أشبه شيء بالكليات، الغاية منه: «معرفة علة الحركة في الأشياء وأسرارها، وتوسيع سلطة الإنسان حتى لا يعجز عن عمل أي شيء ممكن، وفي هذا المؤسس معامل أو مختبرات محفورة في جوانب التلال، ومراصد يبلغ ارتفاع أبراجها نصف ميل، وفيها برك من الماء الملح والماء العذب، يبدو من أقوال بيكون أنه يريد منها أن تكون مختبرا لتربية الأسماك وسائر الأحياء المائية، ثم فيها الآلات تدير الأشياء، ثم هناك أيضا مصح لتجربة الأدوية، وقاعات كبيرة لعرض التجارب الطبيعية، ومراكز زراعية كبيرة لعمل التجارب في التطعيم، ثم المعامل الصيدلية والصناعية، ومعامل أخرى لعمل الاختبارات في الصوت والضوء والطيوب والطعوم؛ فهذه كلها يقول بيكون: إنها في «بيت سليمان» ويجمعها ركاما مشوشة بلا تنسيق، أشبه شيء بالمذكرات منها بالرؤيا المرتبة، ومن هذه الكلية أو «بيت سليمان» يخرج اثنا عشر عالما إلى البلاد الأجنبية للسياحة وجلب الكتب الغريبة، وكتابة التقارير عن المخترعات والأشياء العجيبة التي يرونها في سياحاتهم، وهذه الكلية هي أهم شيء في مدينة بيكون التي يسميها «أتلنتيس الجديدة» وسائر ما في هذه المدينة لا يختلف عما رأيناه في أفلاطون وأندريا.»
وهذه الكلية كما وصفها بيكون هي الحلم الذي لا يزال يحلم به للآن علماء الكليات، وقد أوشك أن يتحقق بعضه مثلا في «مؤسسة روكفيلر» في الولايات المتحدة، وهو يدلنا على هموم بيكون وأنها كانت هموم رجل عالم جدير بأن يكون أحد أركان النهضة الأوروبية.
فهو القائل بالعقل بدل النقل، يريد أن يبني الحقائق على التجربة والاختبار، وأن يعبئ قوى الإنسان إلى ترقية العلوم والمعارف، ويحشد لهذه الترقية جميع الكفايات التي في الأمة، ثم هو لا يترك فرعا من فروع المعارف الإنسانية، صناعة كان أو زراعة أو طبا أو غير ذلك، إلا ويهيئ له وسائل التجربة والاختبار الذي عليه تبنى أصول هذا العلم أو الفن ، ومع ما في رؤياه من التشوش والخلط، فإنه قد رسم لنا توسيما يوشك أن يكون كاملا عن كلية يقصد منها تقدم العلوم وترقية المعارف.
عصر الصناعة وأحلامه
يتسم القرنان الثامن عشر والتاسع عشر بظهور المخترعات الصناعية ووفرتها، ولو قيست هذه المخترعات في هذه المدة القصيرة إلى مخترعات الإنسان الآلية منذ خمسين ألف سنة لأربت عليها؛ إن لم يكن في الفائدة ففي تعدد أصنافها وتنوع أعمالها، فهذه الكثرة وحدها كانت من الدواعي القوية إلى أن يفكر الإنسان في مستقبل الآلات، وأن يرجو منها أن تقوم مقام العامل نفسه وتوفر عليه راحته. ثم كان من ظهور الآلات وإقبال الناس على الصناعة أن انتقلت الثروات الضخمة من البيوت القديمة إلى أفراد محدثين؛ فحدث من هذا الانتقال تزعزع في المجتمع لعدم انطباق الجديد على القديم، وانتهى الحال إلى الثورة الفرنسية، وليست الثورات في الحقيقة إلا محاولة عنيفة لإصلاح القديم الذي يتنافر مع الجديد، فإن لم ينجح الإصلاح فإن الثائر يعمد إلى الهدم، وكل هذه الأحوال تربة صالحة لأن يغرس فيها رجل المثل الأعلى ما يتوهمه من هيئة اجتماعية وما يحلم به من إصلاح. وقد سبق أن قلنا: إن الإنسان إزاء الوسط الذي يعيش فيه ويشعر بفساده أو ثقل أنظمته، أحد ثلاثة: فهو إما أن يفر منه ويتحول عنه إلى وسط آخر يوافقه، وإما أن يدافعه ويحتمي منه، وإما أن يهاجمه متعمدا إبداله.
ونحن إذا نظرنا إلى رجال القرن الثامن عشر ألفيناهم من الصنف الأول؛ يبغون الهروب، فقد تعاظمهم الفساد فآثروا تركه على معالجته. ففيهم جميعهم روح «روبنسون كروزو» يرضى بحال البداوة الساذجة في جزيرة قصية ويعيش منفردا له كفافه من العيش، يؤثر هذه الحالة على حضارة المدن وما فيها من ترف وتكلف وعجيج، ف «جان جاك روسو» مثلا يؤلف الكتب عن فساد الحضارة وما في نشر العلوم والآداب من الأذى للناس، ويصيح بالناس أن عودوا إلى الطبيعة، ثم هناك «شاتوبريان» لا يرى الجمال والجلال إلا في ذلك المتوحش النبيل الذي يعيش على الفطرة في بادية أمريكا، ثم يفحص نفسه فإذا به هو نفسه ذلك «المتوحش النبيل» الذي يهوى الهروب من الحضارة، ثم هناك «برناردين سان بيير» قد اشمأزت نفسه من الحضارة وتكاليفها فلم يجد مسرحا يمثل عليه خياله من السعادة إلا في أقاصي جنوب أفريقيا حيث الطبيعة لم تزل بكرا، وحيث سعادة الحب ووساوس الغرام تدب في الجسم مفاجئة؛ فلا يدريها الشاب وتخطئها الفتاة لأنهما من بداوة العيش بحيث يغمرهما الجهل والسذاجة، وكلاهما أساس السعادة في رأي هذا الفار من مكافحة الحضارة والنزوع إلى الطبيعة وسذاجتها، وإلى البداوة وحريتها، هو ردة في نفس كل إنسان، ونحن أكثر ما نكون شعورا بقوة هذه الردة عندما تكثر تكاليف الحضارة، ولو كان كل رجال المثل العليا من طينة هؤلاء الرهبان الذين يفرون من مواجهة الحقائق - بتوهم فردوس لا يمكن تحقيقه - لما تعنينا في سرد أحلامهم، فإنما نحن نعنى هنا بأولئك المكافحين المهاجمين الذين يرسمون لنا بناء حضارة جديدة كاملة أو شبه كاملة غير تلك التي يعيشون فيها.
وإذا عدت «طوبيات» الفلاسفة أو أحلامهم التي تخيلوا فيها من النظم ما هو أرقى مما لديهم، لكان ثلثا هذه «الطوبيات» ينسبان إلى القرن التاسع عشر، والثلث الباقي إلى سائر القرون، وإنما ذلك لكثرة مخترعات هذا القرن وانتشار الصناعة فيه، واختلاف التوازن في هيئته الاجتماعية اختلالا فادحا واضحا، وظهور طبقة من الناس تستبد بالعمال وتستأثر بالربح العظيم ولا ترضخ لهم إلا باليسير الذي يقوم بكفافهم أو بأقل منه.
فقد كانت الصناعة قبل ظهور الآلات في أيدي صناع يشتغلون بأيديهم، فالحذاء يشتري آلاته بأقل الأثمان، وينتحي ناحية المدينة يفتح فيها دكانا، فيصنع الأحذية ويبيعها بنفسه، يفعل ذلك كله وهو راض عن نفسه وعن حكومته وعن الحضارة التي هيأت له هذا النظام، ولكن ظهرت بعد ذلك الآلات؛ فسارت تصنع آلاف الأحذية في وقت قصير وغمرت السوق ببضائعها حتى لا تكاد تتسع لما يصنعه ذلك الحذاء البسيط، فهي تدفعه إلى أن يكون عاملا في ذلك المصنع الكبير الذي يصنع أشياءه بالآلاف، وقل مثل ذلك في سائر الصناعات، فإن الصناع الذين يصنعون بضائعهم بأيديهم قد استحالوا عمالا، لا رأس مال لهم، يطردهم المصنع عند تكدس بضائعه، وينزل أجورهم إلى أحط قيمة تضمنها مزاحمة العمال بعضهم لبعض؛ وينتج عن ذلك كله أنه يبقى العمال في فقر مدقع، وأن يثرى أصحاب المصانع إثراء فاحشا، وأن يدعو هذا التفاوت بين الحظين إلى تذمر العمال وإلى ظهور الحركات الاشتراكية.
وليس غريبا أن تظهر لفظة
Socialism
أي: الاشتراكية حوالي سنة 1825، وليس النظام الاشتراكي سوى «طوبى» يتمنى العمال تحقيقها في مقتبل الأيام، فهي الآن أمنيتهم وحلمهم، ولكن يبدو من تصفح الأحوال السياسية في الأمم الغربية أنهم صائرون إلى تحقيق هذه الطوبى أو ما يشبهها، ومعظم الطوبويين أو رجال المثل العليا في القرن التاسع عشر هم - أو أكثرهم - لهذا السبب من الاشتراكيين، فهؤلاء الاشتراكيون يرون تقدم الآلات والمقادير العظيمة التي تنتجها من البضائع فيتساءلون: لم لا تملك الأمة هذه الآلات وتصنع بها ما يكفي الناس من اللباس؟ ولم لا تستعمل هذه الآلات في الزراعة؛ فيتوافر للفلاح وقته ليقضي منه ما يشاء في تربية نفسه والترفيه عنها؟ ولم يربح الممولون كل هذه الأموال التي يغلها عليهم الحديد والنار؟ أوليس من العدل أن تكون المخترعات شائعة يستغلها كل أفراد الأمة في شخص الحكومة.
وأول رؤيا نصفها من رؤى القرن التاسع عشر هي رؤيا «شارل فورييه»
1
وهو من زعماء الاشتراكية في فرنسا، وقد رأى فورييه فيما يرى اليقظان أن جماعة يبلغ عددها نحو 1600 نفس تعيش معا، ويقوم أعضاؤها بجميع حاجاتهم، والأمة التي منها هذه الجماعة مقسمة جماعات على هذا النمط، كل منها تتكفل بحاجاتها دون الالتجاء إلى جماعة أخرى، والإنسان في رأي فورييه شخصية مثلثة: فهو صناعي يبغي المؤالفة بينه وبين الوسط الذي يعيش فيه بالصناعة، وهو اجتماعي يبغي المؤالفة بينه وبين الجماعة التي ينتسب إليها، وهو ذهني يحتاج إلى كشف النواميس التي تعمل لنظام هذا الكون، وهو لهذه الشخصية المثلثة يضع جماعته المكونة من 1600 نفس في بقعة مختلفة المناظر والنواحي، فيها الجبل والنهر والغابة والسهل والمدينة.
وصناعة الأهالي الأصلية هي الزراعة، ولكن الأهالي مع ذلك يمارسون جميع الفنون والصناعات الأخرى؛ إذ إن كل جماعة مستقلة عن الأخرى.
وفي وسط البقعة التي تقيم فيها الجماعة بناء: «وهو قصر كامل بحاجات المجتمعين، له ثلاثة أجنحة؛ أحدها صناعي وآخر اجتماعي وآخر ذهني، ففي الأول المصانع وقاعاتها، وفي الأخير المكتبة والمجموعات العلمية والمتاحف وقاعات الفن ونحو ذلك، أما الجناح الاجتماعي ففي الوسط وهو يحتوي قاعات الطعام والاستقبال والسمر وفي أقصى القصر معبد المؤالفة الحسية، وهو خاص بالرقص والموسيقى والشعر والرسم ونحو ذلك، وفي أقصى القصر من الناحية الأخرى معبد الاتحاد الذي يحتفل فيه بالشعائر اللائقة باتحاد الإنسان بالكون، وهنا برج ومرصد به تلغراف للاتصال بسائر الجماعات.»
وهذا البناء هو بالطبع المدنية كلها، يعيش أهلها معا، لهم مطبخ واحد، ومنذ الصغر يتعلم الأطفال كيفية الطبخ، وهم يأكلون معا، وإن كان من الممكن أن يتناول كل إنسان طعامه بمفرده على عزلة، ولكل واحد من الجماعة مقدار معلوم من الطعام والغذاء والمسكن والملهى يتساوى فيه مع سائر أفراد الجماعة بغض النظر عن العمل الذي يزاوله، ثم فوق ذلك له أن يحصل على امتيازات أخرى يخوله إياها ما له من الأسهم في شركة هذه الجماعة، فهنا تمييز بين العامل المجد والعامل المخل، وهنا أيضا ترخيص بالامتلاك الفردي إلى درجة ما، فالجماعة مساهمون يعيشون عيشة مشتركة يتساوون فيها كلهم، ثم يمتاز منهم الحاصل على أسهم أكثر من غيره، ولكن هذا الامتياز قليل الأثر؛ لأن الربح في النهاية - بعد الإنفاق على هذه العيشة - يكون صغيرا لا يؤبه به، فهذا - كما يرى القارئ، شبه توفيق بين مبدأي الاشتراكية والانفرادية.
والصناعات تمارس على نظام واسع اقتصادا في النفقة، كل عامل يختص بجزء من العمل حتى ينجز الكثير منه في القليل من الوقت، والجماعة تتجر مجتمعة كأنها هيئة واحدة، فتبيع للجماعات الأخرى ما هي في غنى عنه، وتوزع الأرباح على أعضائها بنسبة ما لهم من الأسهم فيها على نحو ما تفعل الجمعيات التعاونية الآن.
والمرأة في هذا النظام حرة، تشتغيل كما يشتغل الرجال، ويرى فورييه أن الزواج لا يوافق هذه الحرية، ففي البناء مكان لتربية الأطفال الرضع، وللجماعة جيش لا يعبأ للحرب وإنما يسير لمكافحة الطبيعة: لشق الأنهار وزرع الغابات وبناء الجسور وتجفيف الأرض النازة ونحو ذلك، ويرى فورييه في ذلك منصرفا لنشاط الشباب يقوم مقام الحرب.
ويختلف «روبرت أوين»
2
عن بعض من ذكرناهم من حيث إنه لم يستسلم للخيال كل الاستسلام، وإنه قصد إلى إيجاد هيئة اجتماعية تتسير إقامتها، فقد عاش هو نفسه بين عمال، وأدار المصانع وعرف تلك العلاقة بين الآلة والإنسان وإمكان جعلها وسيلة للإصلاح أو للإفساد. ولم يكتف بالكتابة والشرح بل عمد إلى العمل؛ فأسس جملة مصانع أجراها وفق آرائه بالاشتراك مع «بنتام» المشرع الشهير، وانتهت تجاربه العلمية هذه بالإخفاق.
ولكن أوين، وكذلك المفكر الفرنسي «سان سيمون» كلاهما دعا أو - بالأحرى - نحا نحو الأفكار الاشتراكية التي نعرفها الآن، وكان حاصل دعوة سان سيمون أن تمزج التجارة، أو المعاملة بين السيد والعامل، بالأخلاق؛ فلا يعمد الإنسان إلى أن يربح كل ما يمكن ربحه، بل يقنع بربح معتدل، ولا يصنع إلا ما فيه المصلحة العامة، وهو بين هذا وذلك يرى نفسه مضطرا إلى أن يرى مساوئ الامتلاك الفردي للعقارات المغلة، فينحو على الرغم منه إلى التفكير الاشتراكي، وأما روبرت أوين، وهو واضع لفظة «الاشتراكية» المستعملة الآن، فتدلنا أعماله على الأسس التي قام عليها التفكير الاشتراكي في القرن التاسع عشر.
كان أوين رجلا غنيا له مصنع في «منشستر» به نحو خمسمائة عامل يغزلون القطن، وما زال دائبا في عمله حتى اتسعت أعماله وراج غزله وزادت ثروته، ولكن الإثراء لم يكن همه الأكبر؛ لأنه كان يهتم بأحوال العمال والترفيه عنهم؛ فإنه عمد عندما أثرى إلى تأسيس مصنع كبير في نيولانارك بإنجلترا كان به 3000 عامل، وكان بناء المصنع مستوفيا كافة شروط الصحة والجمال، ومع أن استخدام الصبيان كان جائزا في ذلك الوقت، وكانت أجورهم قليلة، فإنه رفض استخدامهم، وكان يخفض ساعات العمل إلى أقل مقدار ممكن ويزيد الأجور إلى أعلى مقدار، وكان يمنح أجورا وقت العطلة الإجبارية التي تنشأ من الكساد، وكان في أوقات فراغه يؤلف في إصلاح المجتمع، ومن أسماء هذه المؤلفات يمكن للقارئ أن يقف على شيء من أفكاره؛ فمنها مقالات عن «تكون الأخلاق الإنسانية» و«رأي جديد في المجتمع» ... إلخ إلخ، وكانت كتاباته هذه سببا للفت الأنظار إلى الأحوال السيئة التي يعيش فيها العمال؛ حيث بعث البرلمان البريطاني إلى سن تشريع خاص بحماية الأطفال من العمل في المصانع.
وذاعت شهرة أوين، فكان «بنتام» المشرع الإنجليزي الشهير من أصدقائه، وله أسهم في مصانعه، وزاره الغرندوق نقولا الذي صار بعد ذلك قيصرا على روسيا، وكان والد الملكة فيكتوريا صديقا له ويكثر من زياراته، وبلغت شهرته الولايات المتحدة، فدعاه بعضهم إلى إنشاء مصنع يشبه مصنع نيولانارك، فسافر إليها وأسس جملة مصانع، ولكن تراكم الأعمال عليه لم يتح له النجاح فيها.
وعاد أوين إلى إنجلترا فأرصد نفسه للتفكير الاشتراكي، وحارب الامتلاك الفردي، ونسب إليه جميع الشرور الفاشية في زمنه، ورأى المسئولون أن الجمهور أخذ يحبه، والصحف تبسط صدورها لتكتب عنه وله، فعمدوا إلى مركز حساس وهو الدين، كما يفعل الرجعيون عندنا مع المجددين، فما زالوا به يتهمونه بالكفر والإلحاد حتى صد الناس عنه.
أراد أوين أن يحصر الربح في العامل الذي ينتج السلعة، فلا يتجاوزه إلى التاجر أو الوسيط أو صاحب المصنع، ورأى أن أمثل الطرق لذلك، ولتحقيق الاشتراكية أن يعمد العمال إلى تأسيس المصانع، لكل منهم مقدار من الأسهم، وأن يفتحوا الحوانيت لبيع مصنوعاتهم بأنفسهم. ويشترون المادة الخام للمصنع ثم يبيعونها مصنوعة للجمهور: «فيتفادون تلك الأرباح التي يحصل عليها صاحب المصنع أو الوسيط من عرق جبينهم»، وقد عملت هذه الفكرة على رفع شأن العامل، وكانت بداية الجمعيات التعاونية في العالم، ومن أغرب ما فكر فيه أوين إيجاد بنكنوت ترقم عليه القيمة بساعات العمل وليس بالنقود المتداولة؛ فقد رأى أن قيمة النقود تختلف، فتزيد أو تنقص تبعا لغلاء القروش؛ فالجنيه الذي نشتري به الآن مائة رغيف قد لا نشتري به في الغد سوى 95 رغيفا، وقد نشتري به 105 أرغفة فاخترع بنكنوتا يبين زمن العمل بالساعات، والساعة لا تتغير في أي وقت وقد كتب على هذا البنكنوت الذي نشره باسمه، هذه العبارة: سلم حامله بضائع بدلا من قيمة عشرين ساعة بأمر روبرت أوين. •••
ولننتقل الآن إلى خيالي مشهور هو «جيمس بكنجهام» عاش أكثر أيامه في الشرق، وكان يحرر عدة صحف إنجليزية في الهند، وكان مع ذلك جوابة آفاق رحالة لا يستقر، فزار عدة أقطار وهو ينظر ويتبصر ثم وضع كتابا عن «الشرور الأهلية والعلاجية العملية وترسيم لبلدة أنموذجية»، وظهر هذا الكتاب سنة الثورات التي شملت أوروبا كلها تقريبا، وهي سنة 1848، وفي هذا ما يدلنا على البواعث التي تبعث هذه الأخيلة في عقول المفكرين.
وما هي هذه البلدة الأنموذجية؟ هي بلدة تدعى «فكتوريا» يؤسسها أفراد مشتركون على طريقة الشركة المساهمة المحدودة المسئولية، وتحتوي هذه البلدة على جميع التحسينات الجديدة: «من حيث الصنع والترسيم وصرف المجاري والتهوية والبناء والماء والضوء وسائر الممتعات»، ومساحتها ميل مربع، وعدد سكانها لا يزيد على عشرة آلاف نفس، وعلى طرف المدينة تؤسس المصانع، ومصنوعاتها ملك للشركة لا للأفراد الذين يصنعونها، وحول المدينة ضيعة تبلغ عشرة آلاف فدان هي ملك للشركة أيضا، كما أن البيوت وسائر العقارات لا يملكها الأفراد وإنما تملكها الشركة، وهذه الشركة تستغل كل هذه الأشياء وتوزع الأرباح على الأفراد بنسبة ما لهم من أسهم فيها، ولا يجوز الاشتراك فيها لأحد ما لم يكتتب على الأقل بعشرين سهما، ويثبت حسن نيته للمدينة، ويكتب على نفسه عهدا يشرط على نفسه فيه الامتناع عن تناول الخمور أو العقاقير أو التبغ.
ويكون بالمدينة مغاسل ومطابخ ومطاعم عمومية، ومكان عمومي أيضا لتربية الأطفال الرضع، ويكون التعالج بالمجان كما يجري في الجيش، ولن يكون بالمدينة قضاة ومحاكم، وإنما تكون شرائع مسنونة يتعهد الأهالي بالسير عليها، فإذا حدث اختلاف اختار المتخالفان حكما ليفصل في خلافهم، والأهالي يتعهدون - في جملة ما يتعهدون به - عدم الشكوى إلى المحاكم والرضى بما يحكم به الحكم المختار ، وهذه التعهدات ضرورية؛ لأن مدينة فكتوريا يراد إقامتها وسط أي دولة، فلا بد لذلك من هذه التعهدات حتى تعيش مستقلة عما حولها في إدارتها وقضائها.
والمشروع إنجليزي أينما نظرت إليه؛ فهو عملي يمكن إقامته في أي مكان، فلا يجبر الناس عليه، ولا هو في حاجة إلى أن تجربة أمة بأسرها؛ إذ يكفي لنجاح المشروع أن يقوم به عشرة آلاف نفس. ويقول بكنجهام:
3
إنه إذا تأسست مثل هذه الشركة ونجحت، سارت سائر البلاد على طريقتها، وهو في لبه - كما يرى القارئ - شركة تعاون كبيرة تبيع الغلات بنفسها ثم تقسم الأرباح على مساهميها.
من أحلام الاشتراكية
أحلام القرن التاسع عشر كله، وما يليه من ربع القرن العشرين، هي كلها أحلام الآلات والعمال، وكلها تتجه بالطبع وجهة اشتراكية شأن جميع الأحلام الماضية، ولكنها تمتاز منها بالعناية بالعمال وبجعل الآلات أساسا للهيئة الاجتماعية، وهاتان الميزتان كلتاهما لم يكن أفلاطون يعرفهما، فهو كما يذكر القارئ حذف من ذهنه مسألة الصناع والعمال، ولم يبال بهم إلا أقل المبالاة، أما الآلات في زمنه فلم تكن لها من الخطورة والأثر في المجتمع ما يدعو إلى التفكير في شأنها، ولكن كل هذه الأحوال قد تغيرت في القرن التاسع عشر؛ إذ هو يشترك وقرننا في أنه عصر العمال وعصر الآلات معا.
ومن أصحاب الأحلام المعدودين في القرن التاسع عشر «أتيين كابيه» الذي ولد سنة الثورة الفرنسية 1788، وتوفي عند بداية إمبراطورية نابليون الثالث سنة 1856، فرأى في صباه أحد مردة التاريخ - نابليون الكبير - وعبر القرن التاسع عشر بثوراته الكبرى سنة 1848، وبمخترعاته العديدة التي هي في الحقيقة أبعد أثرا من الثورات في النظم الاجتماعية، وميدان الحلم «إيكاريه» وهي إقليم مقسم على طريقة الثورة الفرنسية إلى أقسام أعشارية، فيه مائة مديرية تستوي كلها في المساحة وعدد السكان، وكل هذه المديريات ينقسم إلى عشرة مراكز متساوية أيضا، لا يراعي كابيه في ذلك اختلاف السهل من الجبل، أو الوادي الجدب من الوادي الخصب، فإنما هو يقسم مملكته كأنها رسم على الورق، ينزع هذه النزعة بقوة الثورة الفرنسية التي أسست الطريقة المترية، وفي وسط «إيكاريه» تقوم مدينة «إيكاره» عاصمتها وهي أشبه شيء بباريس، لها نهرها أيضا كما لباريس نهر السين، والمدينة مستديرة يشقها نهرها نصفين متساويين، ويقوم على الشطين جداران مشيدان من الحجر لمنع انهيارهما.
وقد كرى النهر حتى بعد قعره، وحتى صارت بواخر الأقيانوسات تمخر فيه وتنقل البضائع إلى إيكاره ومنها، وبها خمسون شارعا توازي النهر وخمسون أخرى تقطعه، (وقد خانته الطريقة العشرية هنا؛ لأن المدينة كما سبق فذكرنا مستديرة، فكيف تتفق استدارتها ونظام هذه الشوارع؟) والمدينة مقسمة إلى 60 حيا، كل منها يحتوي على مدرسة ومستشفى ومعبد وحوانيت، والمدينة مبنية عمارات، بكل عمارة 15 منزلا تحيط ببستان عمومي.
والقرى في إقليم إيكاريه تشبه المدينة من حيث التخطيط، والمؤلف مهموم بالعناية بالصحة وبالرفاهية في الشارع، فمماشي الناس إلى جانبي الشوارع مظللة بالزجاج، كذلك المحطات (أليست هي الآن كذلك؟) أما الإصطبلات والمجازر والمستشفيات، فتقع خارج القرية أو المدينة، وتقوم المصانع والمخازن على النهر أو إلى السكك الحديدية لتسهيل النقل.
والآن، لننظر في النظام السائد الذي يجري عليه السكان ...
كان أتيين كابيه مشبعا بروح الزمن الذي عاش فيه، وكان نابليون يشمخ فيه كالمارد؛ ولذلك بدأ كابيه حلمه بأن تخيل «إيكار» أميرا مستبدا يملي على الناس نظام حكومته فلا يخالفه أحد، وخير ما يوضح هذا النظام هو وصف حالة أحد السكان.
يبدأ الإيكاري يومه في الساعة السادسة، فيتناول فطوره في المطعم أو في المصنع، وقد قررت ألوان الفطور لجنة من العلماء نظرت في قرارها إلى صحة المفطرين، وكأني بك تشك في هذا الطعام، وهل يساغ على الرغم من قرار العلماء، وقد شك قبلك كابيه وأذن للسكان بأن يفطروا كما شاءوا وأينما شاءوا، وإذا أفطر الإيكاري قصد إلى عمله فيشتغل في الصيف 7 ساعات وفي الشتاء ستا، (والمؤلف من أهل البلاد الباردة يرتاح إلى العمل في الصيف على عكس ما هو حاصل عندنا)، وجميع أهالي إيكاريه يعملون هذا العدد من الساعات بلا امتياز لأحد على آخر.
والحكومة هي صاحبة المصانع، وهي التي تنظم أوقات العمل، وهي التي تملك الخيول والمركبات التي تنقل البضائع، فهي اشتراكية لا غش فيها، ومن هنا كانت «رحلة إلى إيكاريه» من الكتب التي تداولها العمال كثيرا منذ طبعته الأولى سنة 1845، وكان هذا الكتاب ذا أثر في تشبع العمال في أوروبا بالفكر الاشتراكي.
وعندما يفرغ الإيكاري من عمله يخلع ملابسه، تلك الملابس التي قررتها «لجنة الملابس» على نحو ما تقرر إدارة الجيش ملابس الجنود، والواقع أن الإيكاريين جنود قد عبثوا للصناعة، يجري عليهم نظام الجيش في جميع شئونهم.
وقبل أن يولد الإيكاري تتلقى أمه دروسا في واجبات الأمومة، فإذا بلغ الخامسة تناولته يد الحكومة بالتربية طبقا لبرنامج يتفق فيه جميع شباب الإيكاريين إلى سن الثامنة عشرة للذكور والسابعة عشرة للإناث، وعندئذ يسير كل شاب أو شابة في دراسة خاصة توافق الصناعة التي سيتخذها فيما بعد، وهذه الصناعات محدودة معينة ترأسها كلها لجنة تحصي عدد الصناع في جميع المصانع كل عام. وتحصي مقدار البضائع المخزونة، ثم تعين حاجتها إلى عدد الصناع المطلوبين في كل صناعة، وتأخذ من متخرجي المدارس من تحتاج إليهم من الفتيان والفتيات، والرجل يحال على المعاش إذا بلغ الخامسة والستين، والمرأة إذا بلغت الخمسين.
ولا يمكن الإيكاري أن يتزوج قبل بلوغه العشرين، أما الفتاة فيمكنها ذلك عند بلوغها الثامنة عشرة، أما الحكومة فكانت في نشأتها استبدادية؛ لأن كابيه تخيل «إيكار» شخصا له إدارة نابليون وسلطانه ويعمل للإصلاح، ولكن بعد موته صارت نيابية لكل مديرية مجلسها، وللإقليم كله مجلس منتخب من هذه المجالس وله هيئته التنفيذية التي تدير البلاد، والحكومة تصدر الصحف، ولكن هذه الصحف مقصورة على إيراد الأخبار دون ارتياء الآراء لكيلا تكون منها ذريعة لتثبيت قدم الحكومة.
سنة 2000
كان «أوين» و«كابيه» كلاهما اشتراكي، يتخيل على يقظة، ويحلم بتدبير، ويقصد إلى التطبيق والعمل، وقد أنشأ كل منهما مستعمرة لتجربة نظرياتهما وتحقيق خيالهما في إنجلترا وأمريكا، وأخفق كلاهما.
لكن «إدوارد بلامي»
1
لم يكن مثلهما؛ فقد كانا كلاهما مصلحين يدرسان العمران وأحوال العمال والصناعات، أما بلامي فكان أديبا أميركيا اعتنق الاشتراكية فوضع قصته «نظرة إلى الوراء» يصف فيها العالم كما يتخيله سنة 2000، وينتقد أحوالنا الراهنة في ضوء تلك السنة البعيدة، وكل ذلك بلهجة أديب قد حذق فن القصص؛ ولذلك لا تزال قصته ذائعة بين الجمهور الإنجليزي والأمريكي وخاصة في أوساط العمال.
وهو يبدأ قصته بأن أحدا نومه تنويما مغناطيسيا فلم يستيقظ إلا في سنة 2000، وكانت له قصة غرام مع آنسة سنة 1887، وهو يصل غرامه القديم بحفيدتها سنة 2000، مما لا شأن لنا في تفصيله؛ لأن غايتنا هي وصف ما وضعه لنا من الترسيمات للإصلاح.
ولم يصف بلامي شيئا عظيما إلا من حيث الحجم، أما من حيث المتانة فإن بناءه أرك بناء وأكثره تداعيا، فإذا أنت قرأت القصة سما بك أدبها خيال راق، ورفعك قصدها العالي إلى أسمى العواطف.
ولكنك إذا وقفت وتأملت شعرت كأن بلامي يصف لك مدينة كبيرة من ورق، وأن خيال أفلاطون - على ما به من سذاجة - أمتن دعائم وأوثق نظاما من هذا الحلم الذي يراه بلامي في ختام القرن العشرين، ولكنك مع ذلك تشعر بتلك الدوافع الشريفة التي بعثت بلامي على أن يتخيل هذا الخيال، فهو يرغب في أن يرى هيئة اجتماعية يقعد فيها الفرد إلى المائدة لكي ينعم بالطعام الفاخر، ولا يرى إنسانا واقفا قريبا منه يحسده على نعيمه ويتضور جوعا، ويرغب بلامي في أن يرى التربية عامة والتعليم شاملا الجميع؛ لأن للجاهل منظرا كريها ينعكس أثره على جميع أفراد الأمة الذين يستوقرون من جهلة ما لا قبل لهم بحمله، ويرغب في أن يحمل على عاتقه شيئا من ذلك العبء الذي نخص به طائفة الزبالين والكناسين وغيرهم؛ لأن مثل هذه الأعمال أشق وأقذر من أن تحتملها طائفة وحدها، ويرغب أيضا في أن يستوي الناس في فرص الإثراء بحيث لا تكون الثروات من الصدف التي يصيبها بعض الناس ويخطئها البعض الآخر، وهو فوق كل ذلك أديب يرغب في ألا يمتهن الحب، وألا تقف اعتبارات الجزار أو البقال أو الخياط حجر عثرة في سبيل الحب المثمر بين فتى وفتاة يحجمان عن الزواج؛ لأن الفتي لا يستطيع شراء كذا أو كذا مما تحتاج إليه الزوجة، ويرغب في حمل الناس على الحياة الساذجة، وكفهم عن التكلف والتصنع، فيجب أن تصارح الفتاة حبيبها بأنها تحبه، ويجب أن تلبس ما تشاء من اللباس البسيط، وأن تفضي إلى الناس بآرائها بدون أن تتقيد بعرف حائر أو حياء متكلف.
وكل هذه الرغبات حسنة في ذاتها، ولكن بلامي يخطئ عندما يريد تحقيقها في خياله، وهنا يجب أن نقف هنيهة لكي نتأمل في الفرق بين خيال أفلاطون وبين أخيلة هؤلاء الحالمين من أبناء القرن التاسع عشر.
فإن أفلاطون لم يعن قليلا أو كثيرا بالعمال، بل تركهم على ما كانوا عليه، ولكن جميع فلاسفة القرن الماضي لم يفكروا في إصلاح للمجتمع إلا وكانت مسألة العمال هي المقدمة على كل المسائل، وعبرة ذلك هي أن عدد العمال قد كثر في هذا القرن وصاروا هم جمهرة الأمة وكثرتها، وهذا بخلاف الهيئات الاجتماعية القديمة، وعلة ذلك تفشي الآلات وتمركز الثروات في أيد قليلة، وانهزام المالك الصغير أمام المالك الكبير، وهذا هو شأن بلامى، فإنه يبدأ «طوباه» أو مثله الأعلى للهيئة الاجتماعية بحل مسألة العمل، فهو يقول: إن أهالي الولايات المتحدة كانوا في القرن التاسع عشر قد تدربوا على تنظيم أعمالهم بواسطة شركات كبرى، فما أن يختم هذا القرن حتى اندمجت هذه الشركات في إدارة واحدة وصارت قسما من الحكومة، وصار عمال هذه الشركات جيشا كبيرا يتألف من شباب الأمة، وهم يشتغلون كالجيش، تسيطر عليه الحكومة، ويجري عليه نظامها، ويتناول منها أجوره، والعمل في هذا الجيش إلزامي، كما هو في الجيوش العسكرية الحاضرة، إذا تخرج الشاب من الكلية انتظم فيه ثلاث سنوات يؤدي فيها الأعمال الشاقة الوضيعة.
فإذا تخرج هذه المدة تقدم للتخصيص في إحدى الصناعات أو الفنون التي تعلن الحكومة عن حاجتها إلى عمال لها، فيبقى في تعلم هذه الصناعة التي ينتقيها، وبعد ذلك يصير جنديا في جيش العمال العظيم الذي تديره الحكومة، وكل عامل مهما كان عمله يتناول أجرا يستوي فيه هو وغيره من العمال قدره 800 جنيه في العام، لا يمتاز في ذلك عامل لنشاطه عن عامل آخر لكسله وكل من لا يؤدي واجبه يعاقب، ولما كانت الأعمال تختلف من حيث الصعوبة والسهولة فإن الحكومة تحترز من إقبال الناس على الأعمال السهلة، وتجنبهم الصعوبة بتقصير مدة العامل في هذه وإطالتها في تلك، والأجر مع ذلك لا يختلف في كلا العملين، ويجوز للعامل أن يستقيل ويحصل على معاش 400 جنيه في العام إذا بلغ الثالثة والثلاثين أو أن يبقى في عمله إلى الخامسة والأربعين ويحصل عندئذ على الاستقالة بمعاش كامل قدره 800 جنيه.
ولكن في هذا الجيش ثغرة، فإنه يلزم جميع الشباب بالعمل فيه ما عدا أولئك الذين ينتمون إلى حرفة المؤلف، فإن التأليف والاختراع خارجان عن هذا النظام، ويجوز للعالم أو المكتشف أو الأديب أن يمارس صناعته حرا كما هو الحال الآن، ويكتسب من الجمهور كما يشاء ولا بد أن بلامي - وهو مؤلف قصصي - قد عرف من أسرار صناعته ما يدعوه إلى عدم الثقة بالحكومة؛ لأن الحكومة بطبيعة وجودها تميل إلى الجمود وبقاء الحال الحاضرة، والمخترع والمكتشف والأديب كلهم تقتضي صناعتهم شيئا من الخروج على المألوف؛ وهم لذلك لا يجدون في الحكومة بيئة صالحة تزكو فيها أذهانهم.
ولنرجع الآن إلى جيش العمال، فنقول: إن جميع الأعمال من إنتاج واستنفاد في حكومة سنة 2000 قد قسمت إلى عشر مصالح تضم إلى حظيرتها طائفة من الصناعات المتجانسة، ولكل صناعة قلم خاص، به السجلات الخاصة بها، وما يتوافر من الأجور فيها يئول إلى الآلات والأبنية التي تحتاج إليها هذه الصناعة، وهذا القلم هو الذي يقرر أثمان السلع التي يصنعها، ولكنه لا يمكنه أن يستبد؛ لأن قانون الدولة يحظر الزيادة إلا بنسبة معينة لما أنفق على السلعة.
ويرأس جيش العمال رئيس الولايات المتحدة الذي ينتخبه انتخابا مباشرا جميع السكان، بعد استثناء جيش العمال، وذلك لمنع استبداد الجيوش بالأهالي.
ولكن يبقي فرض آخر وهو: هل يرضى هذا الجيش على كترثه بأن يعين له رئيس وليس له صوت في تعيينه، وهل يعمل هذا الرئيس شيئا لزيادة رفاهية العمال وهو منتخب بهذه الكيفية؟
هناك شك في أنه يمكن إدارة جيش كامل أن تقوم بجميع الأعمال في أمة كبيرة تبلغ نحو مليون نفس؛ لأن هذه الاشتراكية الحكومية بعيدة عن أن تتحقق في جميع الصناعات، ولسنا في ذلك ننكر أن بعض الصناعات تنجح عن سبيل الاشتراكية الحكومية - بل الاشتراكية البيروقراطية - أكثر مما تنجح في يد الأفراد، كما نرى في السكك الحديدية المصرية، ولكن هناك من الصناعات ما لا يمكن أن تنجح إلا إذا عولج على مقاييس صغيرة، وفي إدارات محدودة المساحة، ولكل بقعة شخصية تظهر في صناعاتها، ولكل بيئة طابعها على الصانع الذي يمارس إحدى صناعاتها؛ فالاشتراكية الحكومية لا تنجح في كل صناعة؛ ولهذا نشأ بين الاشتراكيين الرأي القائل ب «الاشتراكية البلدية» التي تقوم البلديات فيها بما يقوم به الأفراد، مستقلة في ذلك عن الحكومة.
ولنلق نظرة الآن على الحياة الاجتماعية كما تخيلها بلامي، فنحن نجد في «طوباه» طائفة كبيرة جدا من المتقاعدين الذين يعيشون عيشة الترفيه، ويجوبون آفاق العالم بفضل المعاش الكبير الذي يتناولونه، أو يمارسون إحدى الصناعات التي يهوونها أو إحدى الرياضات، وهنا يعنى بلامي عناية كبيرة بالرياضة؛ إذ يقول: «إذا كان الخبز أول حاجات الحياة، فإن الرياضة هي الحاجة الثانية.»
ونجد طائفة كبيرة أخرى هي «جيش العمال» الذي يقضي فيه الفرد 24 عاما وهو مرغم على العمل إرغاما إذا تهاون فيه عوقب، وهذا في اعتقادنا ركن متداع من بناء الهيئة الاجتماعية عند بلامي، فإن المدة أطول من أن يتحملها إنسان بالرضى.
ولكل عائلة مسكنها، ولكنها في غنى عن الطبخ؛ لأن لكل طائفة أو جزء من حي من المدينة، مطعم كبير فيه غرفة خاصة بكل عائلة، وفي المنزل أداة التليفون التي لا تستعمل للتخاطب فقط، بل لسماع الأغاني؛ لأن لها بوقا يضخم الصوت فتقعد العائلة في ساعة معينة وتستمع لخطب الوعاظ والساسة وأناشيد المغنين، وقد لمح بلامي شيئا من الراديو الذي يستعمل الآن في كل مكان في أوروبا عندما خطر بباله هذا الخاطر.
ثلاثة من الإنجليز
كلنا يعرف ذلك الشاعر الألماني الجسم الفرنسي الذهن «هنريخ هينه» كيف حكى عن نفسه أنه بدأ بالتحمس للديمقراطية، واندفع للدفاع عنها، حتى إذا رأى أن الديمقراطية هي حكم الدهماء أو العامة عاد فانكف عن دفاعه وتقلص في نفسه واعتاض من حماسته السابقة فتورا أو خوفا.
ولقد كان القرن الماضي عصر ظهور الديمقراطيات، وهو أيضا عصر فشل هذه الديمقراطية، فقد كان الظن أولا أنه إذا صار الحكم للأمة انتفى الاستبداد وزال الظلم، ولكن ظهر من تجارب هذا القرن أن كثرة الأمة إذا استوفت تبعات الحكم لم تضطلع دائما بها؛ لهذا جنح أبناء القرن العشرين إلى التفكير في إيجاد «آلهة» للحكم، ولن تنزل هذه الآلهة من السماء، وإنما هي تستولد من الإنسان، على نحو ما حلم أفلاطون بإيجاد طبقة من الحكام تقف نفسها على النظر في مصالح المدينة دون أن تحتاج إلى المبالاة بمصالحها، ودون أن يكون لأفرادها عائلات أو عقارات تشغلهم.
وكما كان القرن الماضي عصر الجمهوريات، كان أيضا عصر ظهور نظرية التطور التي أخذت منذ منتصفه تملك على العقول مسالك التفكير، وتصبغ النظريات والأحلام والترسيمات العمرانية بصبغتها، وهذه النظرية تتلخص من الوجهة العمرانية في أنه يمكن أن يرتقي الإنسان حتى يصير إلها، أو سبرمانا، كما ارتقى الإنسان في الماضي من حيوانات أدنى منه، وهذه النظرية - من حيث عدد الداعين إليها، وإشراب النفوس بها - إنجليزية؛ ولذلك ليس ما يدعو إلى أن نستغرب أن ثلاثة من كبار مفكري الإنجليز قد حلموا بإيجاد انتخاب صناعي يؤدي إلى وجود طبقة راقية من الناس، ولا يكون رقيها مع ذلك رقيا في أحوال الوسط الذي تعيش فيه هذه الطبقة، بل يكون في أجسامها وأذهانها.
هكذا حلم «شو»، ولكننا سنضطر إلى تركه؛ لأنه لم يؤلف طوبى كاملة، وإنما ألقى جزافا عدة مقترحات، وهكذا حلم «ولز»
1
و«هدسون»
2
وكلاهما مشبع الذهن بنظرية التطور، فقد بدأ ولز حياته الأدبية بتأليف كتاب عن تشريح الأدب، وهو الآن يؤلف عن الآلهة تخرج من جسم الإنسان نقية طاهرة من أدران الحيوان، أما هدسون فقد استأنف حياة جديدة للأدب الإنجليزي بأن فتح له باب الطبيعة على مصراعيه، فهو أديب من عشيرة الأدباء الجديدة التي ستكثر في المستقبل ويتناول أدبها درس العلوم كأنها فن من فنون الأدب، بل كأنها الأدب كله؛ فهو يكتب لك عن القط والأسد والغراب والجبال والأنهار والإنسان، وسائر ذلك الملكوت العظيم الذي حرمنا منه أدباء العرب بتأليف الكلام استحسانا للجرس اللفظي، ولبريق الكنايات والاستعارات.
ولكن قبل أن نصف «طوبى» كل من ولز وهدسون، يجب أن نلقي نظرة سريعة على طوبى أخرى من الطوبيات التي تولدت من القرن التاسع عشر، نعني بها طوبى «موريس»؛ لأنها أشبه بالقرن التاسع عشر منها بالقرن العشرين، وقد كان موريس اشتراكيا تمذهب بهذا المذهب لبواعث فنية؛ فإنه وجد أن النظام الاقتصادي الحاضر - بما فيه من مزاحمة شديدة - يبعث الصانع على أن يصنع أرذل المصنوعات وأسخفها لكي يروجها في السوق، وأن صاحب العمل يستغل عماله إلى أقصى حد، فيعملون ساعات طويلة ويتناولون أجورا قليلة؛ ويعيشون لذلك أضنك عيشة وأزراها. وكان هو نفسه سري الذوق عصامي النزعة يلبس القميص الحريري ويصنع التزاويق المذهبة والحروف الملمعة لأغلفة الكتب، فكانت نزعته إلى الاشتراكية نزعة الرجل البار الذي زكت نفسه وسخت حتى يريد أن يرى في مدينته ما يراه في بيته من جمال ولمعة وسرور، ويجب أن يرى في سائر البشر ما يراه في نفسه من ثقافة وصحة، يلبسون ما يلبسه من حرير، ويعيشون في رفاهية بل في ترف، ومثل هذه النزعة تهيئ الذهن لترسيم الرؤى الجميلة لولا ما يشوب عقل الاشتراكي من القناعة بالاشتراكية والرضى بآلامها.
ويبدأ وليم موريس
3
حلمه بأن يصف طوباه بأنها جاءت عقب ثورات تطهرت فيها مما كان يلوث القرن التاسع عشر، فهو يرى ناسا يجمعون النقود، كما تجمع التحف والعاديات لا للتعامل، ويرى النساء في صحة وعافية يخالفن فيها نساء القرن الماضي اللواتي كانت تنطبع عليهن آثار البطالة أو الجهد من ترهل أو نحول، والمعيشة ساذجة؛ لأن الناس قد استغنوا عن جميع العروض التي كانوا يحتاجون إليها سابقا للمنافسة والمباهاة لا للحاجة الحقة.
وهم لذلك يعملون بلا كدح؛ لأن حاجاتهم قد قلت حتى صار القليل من العمل يكفي لسدادها، وقد عادوا مع ميلهم إلى إتقان العمل إلى الصناعات اليدوية، وليس معنى هذا أنهم استغنوا عن الآلات، ولكنهم عرفوا أن القماش المنسوج باليد على مهل خير من ذلك المنسوج بالآلة؛ إذ هو أمتن وعليه من شخصية صانعه طابع خاص، وقل مثل ذلك في عدد كبير آخر من الصناعات، ثم إن الصانع الذي يعمل سلعة ما بيديه، يشرع فيها من البداية، ويتم أجزاءها قطعة بعد قطعة حتى تتم، يرى في عمله من اللذة ما ترى الأم في تربية ابنها، أو ما يرى المؤلف في تأليف كتاب، أي إنه يشعر في نفسه بلذة الخالق للشيء الجديد، بخلاف ما نرى في مصانعنا الكبرى الآن؛ حيث يختص عامل بجزء من العمل لا يتعداه، يصنعه مكرها، ولا يقبل عليه إلا بمقدار ما يجذبه الأجر.
ثم إن السذاجة التي اقتضت الرجوع إلى الصناعات اليدوية، وإلى تقليل الحاجات قد اقتضت أيضا إلغاء المدن الكبيرة والاستغناء عن المركبات والقاطرات العظيمة؛ لأن كل بلدة تستنفذ مما تنتج كل ما تحتاج إليه، ولم يبق من أطلال لندن العظيمة سوى بناء البرلمان الذي صار الآن مخزنا لروث البهائم، والعامل قليل العمل ولكنه يشتغل بوحي الفن، فهو لا يصنع السلع للتجارة، ولكنه يتذوق ويجود فيها تجويد صاحب الفن الملهم، ونقول بعبارة أخرى: إن «توماس مور» تخيل مثله الأعلى في رجال كلهم عالم أو باحث أو طالب علم، أما «وليم موريس» فإنه تخيلهم رجال فن يقضون أكثر وقتهم في تجميل مدنهم، والتذوق في تشييد منازلهم وصنع تماثيلهم وتحفهم.
وليس في هذه الهيئة الاجتماعية حكومة سياسية أو إدارية من أي نوع كانت، وليس هناك قضاء، ولكن ليس معنى ذلك أنه ليس بين هؤلاء الناس من لا يغضب أو يحقد، ومن لا ينتهي به الغضب والحقد إلى ارتكاب الجرائم، ففيهم من يفعل ذلك ولكنه لا يعاقب بل يترك لضميره، وللعار الذي يلصق به أمام الرأي العام، الجرائم قليلة؛ لأن الخير وفير، فإنجلترا كلها ليس فيها سوى نحو خمسة ملايين نفس بدلا من ثلاثين مليونا يسكنونها الآن، وإذا قل السكان وكثرت الخيرات، انتفى شيء كثير من أسباب النزاع بين الناس، وعندئذ لا يحتاجون إلى الاستباق إلى المصانع الكبرى والتزاحم على الأعمال كما يجري بيننا الآن.
ويرى القارئ من هذه العجالة أن «موريس» يسرف في حسن الظن بالناس، وأن الشيوعية فيه تغلب على الاشتراكية، فهو لا يبالي بإيجاد قواعد للنظام، ولا يفكر في الحكومة، وعنده أن البلدة الصغيرة قادرة على إدارة جميع شئونها بنفسها، وإذا نحن فرضنا أن ذلك ممكن ما دامت البلدة صغيرة لا يزيد سكانها عن ألف أو ألفي نفس، فهل يمكن أن يدوم هذا العدد؟ كأن ليس بين النساء امرأة بلهاء تنسل كالأرانب بدون أن ترعى مصلحة الجماعة، أو كأن ليس بين البشر أدواء وافدة تحتاج إلى نظام يكاد يشبه في قسوته الأحكام العرفية، أو كأن ليس هناك نظام للتعليم أوفى من نظام آخر ويحتاج في تنفيذه إلى ما يشبه حكومة صغيرة؟
ولكن «موريس» رجل فن، يريد قبل كل شيء أن يرى الجمال والمتانة في المساكن والمصنوعات، وقد رأى من انتشار الآلات والمصانع الكبرى في القرن التاسع عشر ما أفسد عليه هذين الغرضين، فهو يكره القرن التاسع عشر بنزعته القوية إلى الاستفراد والمزاحمة، ويبغي ما يقابل هذين المبدأين فيميل بطبعه إلى الشيوعية، ويفرط في ميله إليها، واستحسانه لها بمقدار إفراط الناس في ذلك القرن في إكبار شأن الاستفراد.
ثم لننظر الآن إلى «هدسون»، ونحن في انتقالنا من موريس إلى هدسون نقفز قفزة كبيرة، فإن موريس من الأرض، عادي التفكير، قد تكون اشتراكية روسيا الحاضرة بعد تحوير طفيف شبيهة بحلمه، ولا بد أن كتابه يعد الآن فيها من الأناجيل المقدسة، أما هدسون فإنه في السماء يتخطى بنا آلاف السنين، فالقرن التاسع عشر أقرب من أن يلتفت إليه موريس، والاشتراكية أتفه من أن تشغله، فهو ينظر إلى تطور الإنسان من الحيوان في الماضي، ويود أن يستولد من هذا الإنسان آلهة جديدة.
والوحدة الاجتماعية لهذه الرؤيا هي بيت قروي كبير مؤلف من عشرات الغرف؛ ولهذا البيت تاريخه القديم وآدابه وفنونه، كأنه دولة صغيرة، وله أيضا شرائعه التي يتبعها سكانه ويسهر على تنفيذها «أبو البيت» الأكبر وهو الذي يحكم بعزل أحد الأفراد مثلا لجريمة ما. وحول هذا البيت مزرعته، وله كلابه وخيوله التي تطورت فصارت تتفاهم مع الإنسان وتؤدي غرضه بأيسر إشارة، وهم يعيشون في هذا البيت كل منهم في غرفته، ولكنهم لا يعرفون الزواج، وهم يقضون الشهوة الجنسية قضاء عقيما غير مثمر؛ لأن وظيفة الإثمار خاصة بامرأة واحدة هي «يعسوب البيت» على نحوه ما نرى في كوارة النحل حيث تحتكر الملكة، أو يعسوب النحل، وظيفة التناسل فيكون أبناء الجيل الجديد لها دون غيرها، فإذا قرر أفراد البيت انتقاء «الأم» عمدوا إلى إحدى فتياتهم فيضعونها في مكتبة خاصة، حيث تعرف من الأشياء والأسرار ما لا يجوز أن يقف عليه غيرها من السكان، ونحن نفهم بذلك أن السكان يختارونها لصفات وسمات بارزة فيها لا ترى في غيرها، وأن الأسرار التي تعرفها في المكتبة خاصة بقداسة وظيفة التناسل، وأنها يجب أن تنتقي أفضل الرجال ليكونوا آلهة للجيل القادم، وأن الكتب التي تقرؤها تخبرها عن صفات الفضل والنبل التي يجب أن تتوافر في الرجل حتى يحوز شرف الأبوة لأحد أفراد الجيل الآتي، وليس في هذه الكوارة الآدمية من له حرمة هذه الأم؛ فهي تعيش بين إكرام الجميع لا مرد لكلمتها، وهي تقضي حياتها في التناسل فتنجب للبيت نحو 30 أو 40 طفلا في حياتها، حتى إذا ماتت اختير غيرها لتأدية عملها. وهكذا يسير البيت، أو هذه العائلة الكبيرة، جيلا بعد جيل؛ فتحذف منه الصفات السيئة وتنتقي وتخلد الصفات الحسنة؛ لأن الأم قد درست موضوع التناسل والوراثة، وعرفت أن واجبها أن ترفع بيتها درجة في سلم التطور، فكل من به نقص في الخيال أو الذكاء أو الصحة أو الأخلاق لا يكون له حظ الأبوة، وإن كان له من النساء الأخريات ما يشبع فيهن شهوة جسدية عقيمة، ونفهم من هذا النظام أن سكان البيت قد لا يزيدون عن 80 أو100 شخص، ولكنهم دويلة صغيرة فيها من يختص بالعلوم أو الزراعة أو الفنون أو الصناعات الأخرى.
وليس في هذا النظام ما يخالف الطبيعة البشرية كما يتوهم القارئ لأول وهلة، فإن «العائلة» لا تزال موجودة بوجود الأم التي هي صلة القرابة بين جميع السكان، ثم إن الأبناء لا يعرفون لهم أبا معينا؛ فالمنفعة الشخصية والأثرة الأبوية منتفية؛ وبذلك ينتفي التنازع بين أفراد البيت، ثم إن الشهوة الجنسية غير مقيدة؛ لأن لجميع الأفراد أن يتمتعوا بها بشرط ألا تعقب نسلا، وقد عرف الإنسان نوعا من الزواج يدعى «الضمد» كان العرب يمارسونه في آسيا، حيث يتزوج ثلاثة أو أربعة من الرجال (يكونون في العادة إخوة) امرأة واحدة وينسب الأولاد للأخ الأكبر. •••
ولنلق الآن نظرة عاجلة على طوبى «ولز»، وهي أحدث الطوبيات إذ نشرت سنة 1906، ولسنا ننسى طوبى أخرى أحدث منها عهدا وضعها «برنارد شو» في قالب درامة، ولكنها لهذا السبب تستعصي على التخليص، و«ولز» كاتب طوبوي كثير الأخيلة والأحلام، لا يخلو كتاب له من مثل أعلى ينشده ثم يتخيله، ثم يأخذ في تفصيله وبسط ما جل فيه وما دق كأنه يصف شيئا محسوسا.
وهو يتخيل طوباه في عالم مثل عالمنا، ولكنه ليس منقسما أمما وطوائف تتنازع للتوسع والاستعمار؛ إذ هو أمة واحدة لها حضارة واحدة تدير سككها الحديدية ويريدها إدارة عامة وتجري عليها شرائع عامة؛ ولهذا العالم تاريخ يشبه تاريخ الأرض، ولكنه انتهى بثورة أو ثورات أحدثت هذا النظام الجديد، ومحت الحدود بين الأقطار القديمة، والسكان يستعملون الآلات إلى أقصى حد، وهم في فنونهم لا ينظرون للوراء، فلست تجد في المباني طرازا ينحو قديما أو يومئ إلى حضارة بائدة، والأرض وسائر مصادر الثورة ملك شائع للجميع تستغله الهيئات المحلية دون الأفراد، ومن أهم ما يتسم به سكان هذا العالم أن لكل فرد سجلا يحتوي على اسمه ورقمه وطابع أصبعه وأسماء الأماكن التي تنقل فيها، والغرض من هذا السجل درس أحوال الفرد وكفاياته في الحياة وفي الوراثة؛ لأنها تستعمل بعد موته.
وينقسم الناس في هذا العالم أربع طبقات، وهم الطبقة العاملة الذين يتولون الإدارة والحكم، والطبقة الشعرية وتتألف من رجال الذهن الذين يحترفون التفكير والتخيل، ثم طبقة البلداء الذين يقومون بالأعمال الوضيعة، والرابعة هي طبقة المنحطين من مجرمين ومدمنين ونحو ذلك. وهؤلاء يحذفون إلى جزيرة خاصة منفردة حيث يعيشون ويمارسون رذائلهم كما تشتهي نفوسهم بعيدين عن سائر الناس، وهم إنما يبقون ويتناسلون بمقدار ما فيهم من خير، وإلا فمصيرهم إلى الفناء؛ وذلك لأن الرذيلة إذا مورست قتلت صاحبها، فهي بالنسبة للجماعة داء ودواء معا لأنها تنفي عنها صاحبها.
ولكن فوق هذه الطبقات الأربع طائفة أخرى تقوم بالتعليم والإصلاح وتحرس نظام العالم، تشبه طبقة أفلاطون المؤلفة من الحكماء، وهذه الطائفة تدعى طائفة السامراء، والسامرائي يختار بعد اختبار طويل تفحص فيه قواه العقلية والجسمية من شباب العالم الذي جاز الخامسة والعشرين، فيفرض عليه نظام في اللباس والطعام والرياضة. وفي كل عام يخرج السامرائي إلى الغابة، لا يحمل كتابا أو سلاحا أو قلما أو نقودا، وعليه أن يقتات من الغابة ويتأمل في خلوتها وقد حرم جميع المتع الدنيوية، ثم يعود بعد ذلك إلى الدنيا وقد اكتسب من الطبيعة متانة في الخلق وعافية في الجسم ونظرة أوسع لمصالح العالم، وهؤلاء السامراء يسمع لكلامهم، وتنفذ إرادتهم، لا تخالفهم طبقة من الطبقات الأربع، وهم أشبه شيء في نظامهم بطائفة اليسوعيين، فكما أن هؤلاء قد ضحوا بملاذ الدنيا، وارتضوا النسك خدمة للمسيحية في عالمنا، فكذلك يدخل السامرائي في طائفة مضحيا بكل شيء في العالم، يتفرغ لإصلاحه ودرس أمثل الوجوه التي ينبغي أن تسير عليها إدارته، سواء أكانت في جامعة أو عائلة.
وليس في هذا المقترح شيء غريب؛ لأنه إذا كان في الدين من القوة ما يحث طائفة من الناس على أن تقبل النسك والاعتكاف في دير قصي، تتعبد فيه ولا تفكر في ولد يخلفها ميراث أو تعقبه له ، فليس من الكثير على أبناء القرن العشرين أن تتألف بينهم «رهبانية» يكون غرضها خدمة الإنسان بدلا من خدمة الآلهة.
الحقيقة بنت الوهم
إذا كانت الحقيقة هي بنت البحث، فإن البحث هو أيضا ابن الوهم، نتوهم أولا ثم نبحث ثم نتحقق، نحلم ببناء البيت ونتوهمه في مخيلتنا قائما مشيدا، ثم نبحث عن مواده وأسبابه ثم نبنيه طبق توهمنا الأول، وما من ثورة أو انقلاب أو إصلاح توافرت أسبابها لأمة ما إلا وكانت وهما يتوهمه قبلا أحد مفكريها.
والقضية لا تنعكس؛ فإن كثيرا من أوهام العلماء وأحلامهم ذهبت هباء؛ إما لأنها كانت أضغاثا وركاما غير منسقة؛ وإما لأنها جاءت قبل أوانها، ولكننا لو عرضنا طائفة من الانقلابات الحديثة لرأينا فيها أثر المثل العليا التي رآها الفلاسفة والمفكرون، وقد يظن القارئ لفرط ما هو لاصق بالحقائق أن أثر هذه الأحلام ضعيف في مجتمعنا، والحقيقة أنه كبير جدا، بل هو أكبر في بعض الحالات مما كان يجب أن يكون، فلو أن الشيوعيين في روسيال مثلا لم يستسلموا كل الاستسلام لمن حلموا بالشيوعية مثل «باكونين» و«كرويتكين» وغيرهما لعدلوا بنظامهم الذي أعقب الثورة عن كثير من نقائضه.
ثم ليس هناك شك في أن «عصبة الأمم» ليست إلا تحقيقا لحلم المسيحية في إيجاد السلام في العالم، وقد حلم نيتشه ب «حكومة الولايات المتحدة الأوروبية»، ورأى ولز في طوباه حكومة عالمية يخضع لها العالم كله.
واعتبر مثلا تلك الثورة الأمريكية التي انتهت بتأسيس الولايات المتحدة، أو تلك الثورة الفرنسية التي انتهت بمحو الملوكية من فرنسا، تجد أنهما إنما جاءتا عقب أحلام الفلاسفة في فرنسا وأمريكا عن الحرية والمساواة، وسائر هذه الأفكار التي لا يزال الناس للآن يجدون في سبيل تحقيقها.
بل اعتبر التعليم العام والدعوة إليه، فقد دعا إليه كثير من الفلاسفة وهو لا يزال للآن - على الرغم من انتشار المدارس - خيالا أكثر مما هو حقيقة، وهنا في مسألة التعليم هذه يجب أن نقف لكي نرى شيئا من فعل الخيال في النفس وسيطرته على العقل، فإن جميع من تخيلوا المثل العليا لم ينسوا أن يفكروا في التعليم وتعميمه، كما أن الذين تشرفوا إلى عهد المساواة ورجوا تحقيقه لم ينسوا أن يذكروا أن المساواة في فرصة التعليم هي أرقى ضروب المساواة وأعدلها، وكانت نتيجة ذلك أنه لم ينتصف القرن التاسع عشر حتى كانت جميع الأمم الأوروبية قد رسخ في أذهان أبنائها وجوب تعميم التعليم، ولكن فرقا بين خيال الفيلسوف ينضجه رأسه المثقف، وبين الحقيقة تتناولها أيدي المتوسطين من الناس، فإن التعليم الآن على عمومته في أوروبا، ومجانيته، لا يزال صورة وقشرا أكثر منه حقيقة ولبا؛ إذ هو في الواقع الراهن لا يزيد عن أن يكون لعبة أدواتها الورق والقلم، فالصبيان يتعلمون شيئا من الجغرافية على الورق، وشيئا من التاريخ على الورق، وحساب البيع والشراء على الورق، والرسم ينقل من الورق إلى الورق، والأشعار تحفظ من الورق.
وفي جميع البيوت أو أكثرها تجد ورقا مضموما بعضه إلى بعض، يسمى الكتب، ندعي كلنا أن فيها معلومات مفيدة، وقد نشأ من هذا التعليم أن كثر الورق حتى صرنا نقرأ عدة صحف من ورق كل يوم، وصرنا نعتاض من التمثيل مثلا آخر ينقل من ورق أو ما يشبه الورق إلى ورق أو ما يشبهه، ولكن أولئك الفلاسفة الذين تخيلوا التعليم العام لم يعتقدوا قط أن هذه الثقافة الورقية هي نتيجة أحلامهم، وهم لو سألتهم: كيف يجب أن يعلم الرسم؟ لأجابوك على الفور: في الحقل، وفي الغابات وفي الأسواق، وعند قطعان الغنم، وأمام بواسق الأشجار، ولو أنت طلبت من ولز: كيف يجب أن نعلم الجغرافيا أو التاريخ؟ لأجابك على الفور: وهل مثل هذا السؤال يسأل؟ وهل في العالم سبيل آخر إلى تعلمها غير السياحة؟ وهل من العدل أن يموت إنسان في هذا العالم لم يعرف البحر أو الجبل، ما هما؟
ولو أنت سألت أحد الكيميائيين العظام: كيف نعلم صبياننا وشبابنا الكيمياء؟ لما تردد في الإجابة بأن ذلك لا يكون بلا بوتقة ونحو عشرين أو ثلاثين أداة أخرى، ولكن الساسة الذين يديرون شئون الأمم بغير حق يجدون أن التعليم بهذه الطرق يكلف الأمة نفقات طائلة؛ فهم لذلك يمسخون التعليم حتى يجعلوه جملة ألاعيب مملة تصنع بقلم وورق ومداد، وهم يرون من السهل أن يقرأ الشاب في كتابه أن حيوان البحر هو كيت وكيت، تكتب له أنواعه في قائمة كما تكتب في الفنادق، فيحفظها عن ظهر قلب؛ لأن هذا أيسر على رجل السياسة من إيجاد سمكة كبيرة تكلف العالم نحو عشرة آلاف جنيه، ومن السهل أيضا أن يحفظ التلميذ درسه عن النبات من الورق، وينقل رسومه بقلمه من ورق الكتاب إلى ورق كناشته؛ لأن رجل السياسة الذي يدير حظوظ الأمم الآن بغير حق يجد أن تعليم التلميذ حياة النبات من الحقل والغابة يكلف الأمة نفقات كبيرة يخشى إن هو طلبها من الأمة أن تسقطه في الانتخاب؛ فهو لذلك يؤثر لعبة القلم والورق.
ولكن العلماء يعرفون أن التعليم الحقيقي هو أن يحتك الإنسان بالطبيعة ويلابسها، ويعرف منها ما يريد أن يعرف مباشرة، وأنه خير للصبي أن تلسع أصبعه بالنار من أن يقال له: إن النار تحرق، وأن يوما واحدا في الصحراء، يقضيه على رملها ويستنشق هواءها ويحس ظمأها وتكتنفه بداوتها خير له من أن يقرأ آلاف الكتب عن علاقة البداوة بالحضارة وحياة النبات والحيوان في الصحاري.
وليس من العدل أن نقول: إن كل التعليم يجري الآن بواسطة القلم والورق، والحق أنه لو كان كذلك لما تقدم الطب ولا الهندسة، فلقد كان الطبيب العربي يقصر علمه في الأمراض على ما تعلمه بالقلم والورق. وكان الخلفاء يمنعون الأطباء من التشريح؛ فبقي الطب لعبة سخيفة في أيدي المشعوذين، وكان علم القرون الوسطى يجري على هذا النحو أيضا، فلما كانت النهضة الأوروبية الحديثة أخذ العلماء في هجران علوم الورق ولجئوا إلى الطبيعة، فصاروا يشرحون النبات والحيوان، ويجربون بأيديهم التجارب العلمية، ولكن هذا الهجران لم يتم تماما، فإن معظم ثقافتنا الآن هي ثقافة الورق؛ وهي لذلك لا تقترن بأذهاننا ذلك الاقتران الشرعي المنجب، بل هي تخالل أذهاننا مخاللة عقيمة، فلو أنا مثلا كنا نعرف النبات بأقسامه وأنواعه - حية ومتحجرة - لأثمرت معرفتنا وأصبح كل منا أشبه شيء بمكتشف أو مخترع في هذه المملكة العجيبة التي يصح أن يقال عنا فيها: إنا نسمع عنها ولا نراها.
وما يقال عن التعليم يمكن أن يقال مثله عن سائر الأشياء التي حلم بها الفلاسفة فأخذنا قشورها العامة وتركنا لبها، فإن المدن الحاضرة، وما فيها من نظام أكثره قائم على وفرة مخترعات النقل، يرجع إلى أحلام الفلاسفة عن عصر الآلات التي تنبئوا به، ولكن هؤلاء عندما كانوا يفكرون في اختراع الآلات، كانوا ينظرون منه إلى أن يوفروا على الناس وقتهم كي يشغلوه فيما هو أزكى لنفوسهم وأدعى لراحتهم. ولكن عامة الأمم أخذت من اختراع الآلات ذريعة لزيادة ثروة أصحاب المصنع، ولو كان في ذلك زيادة جهد العمال واشتغالهم بالكفاح للمعاش.
تطور الأحلام
قد يكون من القحة أن تخبر فتاة عن تأويل ما رأت فيما يرى النائم من أمير بهي الطلعة وسيم القدقد حياها وحاول أن يقبل يديها أو فمها، فإن في التأويل الصحيح اتهاما لعقلها الباطن، الذي ينطلق وقت النوم، ويفرج لشهوات الجسم ما قيد منها العقل وقت الصحو.
والأحلام - سواء أكانت من رؤى اليقظة أم من رؤى النوم - دليل على شهوات أو رغبات لا يحققها الوعي أو اليقظة التامة.
وقد يكون أسد للمؤرخ وأجدى عليه، إذا هو نصب نفسه لدرس تاريخ أمة ما، أن يعمد إلى خرافاتها التي تتكشف فيها أحلامها، فيدرسها ويعرف منها تلك الشهوات والنوازع التي كانت تعتلج بها نفوس أبنائها، فسرد تاريخ الفراعنة مثلا بما فيه من حروب وأسرى وانتصارات ونحو ذلك، قد يكون أقل جدوى في معرفة تاريخ الأمة من تحليل قصة خرافية واحدة كانت تتحدث بها العامة في سمرهم؛ لأن في هذه الأحدوثة تتجسم رغبات هؤلاء العامة، وهي تمثل ما كانت تشتهيه نفوسهم، وهي أصدق في وصف أحوالهم من الأكاذيب التي كان الفراعنة يكتبونها أحيانا عن أنفسهم قبل وفاتهم.
وقد كانت أول «طوبى» فكر فيها الإنسان من الطوبيات الخرافية التي دخلت في صلب الدين، فإن المصري القديم مثلا، عندما وجد أن إصلاح الحال في الدنيا من المحال، وأن قوى الاستبداد متألبة عليه، وأنه يسخر طول النهار فيكدح في وهج الشمس، أخذ يحلم بنعيم يراه بعد الموت، فهو يكدح هنا ويتهضمه الولاة الظلمة ويصدمون فيه شهوات نفسه، وعلى ذلك فهو يرى في نعيم الآخرة ميزانا منصوبا لمعاقبة هؤلاء الظلمة، ويرى الهناء والراحة في ظلال الأشجار التي تتغلغل بينها جداول الماء، وهو في هذا الخيال الحلو لم يختلف عن الجائع أو العطشان الذي لا يرى في نومه سوى الموائد مبسوطة، والشراب مصفى، إلا من حيث إن حلمه قد صار حلم الأمة بأسرها، وخرجت رواية الفرد إلى رواية المجموع.
ثم جاء الفيلسوف فرسم طوباه لهذا العالم، لا يعبأ بما بعد الموت ولا يبالي بمصير الرمم، ولكن الفيلسوف من ذوي الأحلام الأرضية، لفرط اعتماده على الحقائق الملموسة، عني بالمادة أكثر مما عني بالمبدأ، وبالوسيلة أكثر من الغاية؛ ولذلك كثيرا ما تتصفح الحلم فتتساءل عندما تبلغ خاتمته: هل هذه هي السعادة والرقي، أو هل هذه ما نتعوض منهما ... وهل نحن بإزاء الأصل أم بإزاء البدل؟
ثم قد نتساءل أيضا: لماذا لم يتحقق حلم من هذه الأحلام مع مضي مئات السنين على بعضها؟
وهنا نرى ميزة الأديان على أحلام الفلاسفة ومن دونهم من المفكرين، فإن الدين قبل أن يعد بطوبى العالم الآخر كان يطلب من الفرد أن يغير بالإيمان قلبه، وأن تتبدل نفسه نفسا أخرى هي نفس المؤمن المرتاح إلى إيمانه الراضي به، بدلا من نفسه السابقة، نفس الكافر الذي توسوس إليها الشكوك، وكان هذا الإيمان وحده كافيا لأن ييسر على المؤمن كل تغيير يراه في طرق المعاش والاجتماع والزواج ونظام الحكومة وغير ذلك، ونقول بعبارة أخرى: إن الدين كان يحاول تغيير المجتمع بعد أن يبلغ قلب الفرد فيغيره، بل يخلقه من جديد. وكان لذلك ينجح في تحقيق غرضه؛ لأن أداة تحقيق هذا الغرض هو الفرد، فإذا لم يكن هو قد تغير، فكيف نطلب منه أن يغير طرق مجتمعه ؟
وهذا هو الفرق بين الأديان وبين أحلام الفلاسفة؛ فالأديان جعلت تبديل الوسط رهنا بتبديل الفرد، فاستطاعت أن توجد هيئته الاجتماعية مسلمة أو مسيحية أو يهودية، ولكن طوبيات الفلاسفة - وخاصة في القرن التاسع عشر - لم تبال بالفرد أقل مبالاة، وإنما عنيت بالوسط.
ففي القرن التاسع عشر نجد صيحات إصلاحية عديدة أعلاها نبرة هي صيحة الإصلاح الاقتصادي، ولكن منها أيضا ما كان يدعو إلى إصلاح الحكومة أو التربية أو نحو ذلك من ملابسات الوسط الذي يعيش فيه الإنسان، وكلها خالية من شرطين أساسيين لنجاح أية دعاية:
الشرط الأول:
أن الغاية لم تكن واضحة، هل هي الصحة أو الجمال أو حسن الإدارة أو كثرة المال، وهب أن هذه الأشياء كانت - هي أو بعضها - غاية ذوي الأحلام من الفلاسفة، فهل كانت تؤدي إلى السعادة والرقي؟
الشرط الثاني:
أنها كانت خلوا من إيجاد أية وسيلة لتغيير الفرد، فإن الأديان غيرت قلوب الناس، وتمكنت بذلك من إنفاذ ما حسبته إصلاحا، ولكن الطوبويين لم يغيروا شيئا من قلوب الناس تمهيدا لقبولهم برامجهم.
وجمهور الناس في كل أمة ليسوا عامة فقط، بل أوباش، يميلون إلى القرد أكثر مما يميلون إلى السبرمان؛ ومن هنا تلك السهولة التي يملك بها زمامهم خطيب مفوه أو طاغية ماكر أو ولي أبله؛ لأن هؤلاء يخاطبون عواطفهم التي تستجيب إلى خطابهم، أما الفيلسوف الذي يخاطب فيهم عقولهم فلا يجد فيهم ملبيا، والعواطف أقدح وأرسخ في طبيعتها من العقل، وهي إذا طمت بنا طغت على العقل.
وعلى ذلك نقول: إن الطوبيات الأرضية لن يفلح أصحابها في تحقيقها ما لم يغيروا نفوس الأفراد، وليس هذا بالشيء العظيم كما يتصور القارئ؛ فقد استطاع الدين أن يغير قلوبهم، فلم لا تغير اليوجنية عقولهم بمنع البله والضعفاء من التناسل، حتى يرتقي الإنسان جيلا بعد جيل، فيتمشى رقي الوسط مع رقي الإنسان نفسه؟
وخلاصة فصلنا هذا أن الطوبيات قد تطورت ثلاثا: (1)
طوبى العامة التي نراها في أحاديثهم القديمة والحديثة، وهي سلواهم تكمل لهم ما نقصهم من حقائق الحياة . (2)
طوبى الأديان ، وهي في الحقيقة طوبيان: واحدة في العالم الآخر، وهي ترمي إلى تغيير نفس المؤمن بوعده بالمكافأة، فإذا تغيرت النفوس وقبلت الإيمان لم تعارض في الطوبى الأرضية التي يرسمها الدين لنظام الحياة على الأرض. (3)
طوبى الفلاسفة: وهي لا يمكن تحقيقها ما لم يكن غرضها واحدا، وهو السعادة والرقي، أو الحياة الطيبة التي تعمل لراحة الفرد وهنائه وارتقاء الأجيال، وما لم تحارب البلاهة في الأمم بمنع البله والمضعوفين من التناسل.
نقد ومراجعة
كانت معارف الإنسان إلى ظهور «أرسطوطاليس» واحدة، كلها أدب، فلم يكن فاصل بين الأدب والعلم؛ لأن الأديب وهو رجل الخيال كان أيضا عالما، وكان العالم وهو رجل الحقيقة أديبا خياليا، فلما جاء أرسطوطاليس وشرع في تأليف «التاريخ الطبيعي» نزع فيه نزعة علمية قائمة على الشرط والتجربة؛ فميز بذلك بين العلم والأدب، وظهرت بعده مدرسة الإسكندرية، وكانت قيمة العلم فيها والعناية به أكبر من قيمة الأدب، وجاء العرب ولم يكن أدبهم مما يغري النفس بالخيال؛ إذ كان عماده الألفاظ وما يلحق النفس من الطرب لرنينها؛ فاندفعت منهم جماعة كبيرة نحو العلم التجريبي.
فلما كانت النهضة الأوروبية الحديثة عاد الأوروبيون إلى الإغريق القدماء، عن سبيل العرب، فنزعوا نزعة علمية عن العرب ونزعة أخرى أدبية عن الإغريق، وبيان الفرق بين العلم والأدب يحتاج إلى بعض التفصيل؛ فالعلم موضوعي والأدب ذاتي، والعلم يبحث قطعة من المعدن، أو مرضا من الأمراض، أو نجما أو نباتا، وهو بعيد عنه لا ينظر لعلاقته به ولا يبالي بمنفعة هذا البحث أو ضرره للإنسان، فقد يهتدي العالم في بحثه إلى سم من أوحى السموم، فلا يدخل في بحثه أن هذا السم يمكن أن يستعمل في الحرب لقتل العدو، ويمكن أن يكتشف عن سبيله سم آخر لقتل النوع البشري كله، وقد يهتدي إلى اختراع آله فلا يبالي بعدد العمال الذين يستغنى عنهم باستعمال هذه الآلة؛ لأنه لا يعنى بعلاقة العالم الذي يبحث فيه الإنسان، وإنما كل عنايته بالعلم نفسه، يبحث فيه وهو غريب عنه بعيد عن منفعته أو ضرره، فإذا رأيت عالما يبحث في توفير الوقود، أو زيادة كفاية الآلة في العمل، ألفيته مشغولا بهذه الأشياء دون أي اعتبار لتأثيرها في العامل الواقف أمام هذه الآلة، وما ينشأ بينه وبين صاحب الآلة من العلاقة الجديدة لهذا الفرق الجديد في الوقود أو العمل.
وهذا بخلاف الأديب، فإنه يبالي بالإنسان لا بالأشياء، فهو لا يمارس الأدب لذاته، كما يمارس العالم العلم لذاته، وإنما هو يزاول أدبه لعلاقته بالإنسان؛ وهو بذلك خيالي يبحث في الدين والأخلاق والشرائع، فالأدب بطبيعته إصلاحي موضوعه الإنسان، والعلم لا يمكن أن يكون إصلاحيا أو إفساديا؛ لأن موضوعه الأشياء فقط، والأديب يعكس جميع المعارف في ذهنه لكي يعرف منها أيها مفيد للإنسان فيزاوله، وأما ما لم يكن كذلك فلا يفكر فيه ولا يكترث له، حتى العالم وهو يبحث في شيء إنساني، ينظر إليه كأنه «شيء» مستقل عن الإنسان، فالألماس زينة المرأة «كربون»، والحمى ناشئة عن «مكروب».
وفي كلمة «سقراط» ما يدل على روح الأديب، فقد قال: «أنت تعرف أن الأشجار في الحقول لا تعلمني شيئا، وإنما أنا أتعلم وأنتفع من الناس في السوق.»
ولكن جاء «أرسطوطاليس» فقسم المعارف قسمين:
المعارف الخارجية التي لا يمكن لجميع الناس أن يتناولوها، وهذه هي الأدب بفروعه، وأساسه التجارب الإنسانية، ثم المعارف الداخلية وموضوعها الأشياء ودرسها وهي العلم، والأولى هي معارف العامة، أما الثانية فهي معارف الخاصة.
ونحن للآن نجري على هذا التقسيم، فلأي فرد من العامة أن يتكلم أو يكتب ما شاء عن الدين أو الأخلاق أو الشعر أو القصص أو العمران أو الاقتصاد، ولكن ليس له أن يكتب عن الكيمياء أو الطب أو الهندسة.
وقد قلنا: إن النهضة الأوروبية الحديثة نزعت نزعة علمية، وهي لا تزال كذلك للآن، وليس شك في أن كبار العلماء في كل وقت كانوا من كبار الأدباء؛ لأن الذهن الكبير يأبى أن يرضى بأن يكون مخزنا تذخر فيه المعارف بلا غاية أو قصد، وإذا قلت: «الغاية في العلم»، فقد قلبت العلم إلى أدب؛ لأنك عندئذ لا تكتفي بأن تقول: إن الألماس كربون، بل تضطر أن تتساءل: هل هو جميل؟ وهل هو جدير بنفقة استنباطه؟ وهل من المصلحة العمرانية أن تلبسه طبقة دون طبقة من الناس؟ ثم أيهما أجمل وأنفع لبني الإنسان: أن يتجه نظرهم نحو جمال الوجه أو جمال الصنعة، أي: أن تكون الأصابع جميلة في ذاتها أو مجملة بالألماس؟
لذلك كان ولا يزال كبار الأدباء علماء، وكبار العلماء أدباء، وحسبنا أن نذكر «أرسطوطاليس» الذي كان يؤلف عن أصول البلاغة والتاريخ الطبيعي، أو «دافنشي» الذي كان يمارس ويخترع الطيارات، أو «جيته» الذي كان يشتغل بالتشريح وبتأليف القصص والشعر، ولكن جمهور العلماء الآن طائفة خاصة بعيدة عن طائفة الأدباء، وهذا البعد بينهما وانفصال الواحدة عن الأخرى، قد أثر أثره في الهيئة الاجتماعية التي نعيش فيها.
وذلك لأن الأدب بجميع فروعه لا يحيا ويزكو إلا إذا قام على أساس العلم، والعلم نفسه معارف جوفاء لا غاية لها إلا إذا هضمها الأديب ومثلها في ذهنه؛ ومن هنا انفصل الأدب والعلم كلاهما عن الحياة، فالأديب الآن - سواء أكان رجل دين أو تصوير أو قصص أو شعر أو غير ذلك من فنون الأدب - يبحث مثلا عن السعادة المنزلية، وهو لا يدري شيئا عن مادة البناء أو أنواع النبات الذي يستطرف للزينة أو هندسة التهوية الصحية أو تطهير المدن أو غير ذلك مما يعرفه العالم ويختص به، ولكن العالم أيضا، وهو يعرف هذه الأشياء، يجهل عنصر الجمال في المنزل؛ فيبنيه كأنه يبني سجنا أو مصنعا.
وخلاصة ما تقدم كله أن أحلام الفلاسفة يعتورها في جملتها نقص عظيم، وهي أنها نتاج أفكار الأدباء أو أفكار العلماء، وقلما نجد أديبا عالما، مثل أفلاطون أو ولز أو هدسون، يحاول أن يجمع بين الأدب والعلم في تخيل طوباه، والحقيقة أن الإنسان في زماننا الحاضر يشق عليه أن يجمع بين الاثنين إلا إذا قنع من العلم بالتطرف من فروعه المختلفة دون الإمعان فيها؛ وعلة ذلك أن العلم قد تقدم وصارت الإحاطة بأحد فروعه تستغرق الحياة بأجمعها، فإما أن يطول العمر حتى يبلغ مائتي عام أو ثلاثمائة وإما نقنع بقليل الدرس منه.
ولكن يجب أن نعرف أن تقدم العلوم - بحيث لا تتمشى مع الآداب - يؤذي الناس ولا يفيدهم، فإذا عرف الناس مثلا علم الكيمياء، وما هي الغازات القاتلة التي تفنى منها الجيوش أو المدن في ساعة، دون أن يكون لهم مع ذلك خيال راق أو عقيدة سامية، في مستقبل الإنسان أو معنى مهذب للجمال كان عملهم بالكيمياء ضربا من أذى النفس الذي يجب أن يحتاط الناس منه.
وحضارتنا الراهنة هي حضارة العلم المنفصل عن الأدب، أي: حضارة الصناعة القائمة على إدمان الاختراع الآلي إلى أقصى حد.
ولكن الصناعات مهما أوتيت من رقي إن هي إلا وسيلة وسبب من وسائل الحياة وأسبابها؛ ولذلك ما زلنا نحن على رقينا الصناعي الحاضر نتساءل: أينا أصح نظرا للحياة والسعادة وتقدير الجمال والرقي، نحن أم المصريون القدماء أم الإغريق القدماء؟
فإذا أردنا أن نشرع في تخيل أخيلة صحيحة يمكن تحقيقها، يجب قبل كل شيء أن نصل ما افترق من العلم والأدب، ولا عبرة بتأخير الأدب في هذه الحالة، فإن تقدمه وحده لا فائدة فيه، إنما يجب أن نذكر أن العلم إنما ارتقى وحده لانفصاله عن الحياة، أو بعبارة أصح نقول: إنه ارتقى لأنه حين تجرد من العامل الشخصي وصار موضوعه الأشياء دون الناس، انطلق من جميع القيود التي يضعها ذوو السلطان الحكومي أو المالي أو الديني على فنون الأدب، كما هو الواقع الآن في معاملتهم للبحث الديني أو العمراني، فلن يرقى الأدب حتى ينطلق هو أيضا من هذه القيود، بحيث يجوز عمل التجربة العمرانية كما تعمل التجربة الكيميائية، ويجوز ابتكار العقيدة الدينية كما يجوز اختراع أية آلة للصناعة، فإذا تخيل الأديب خياله ورسم طوباه، لم يكن ذلك لمجرد اللذة أو التسلية، وإنما هو يبنى على قواعد العلم، بحيث يصير خياله عمليا تتيسر تجربته في مدينة أو قرية أو قطر.
ومعظم ما وضع من الطوبيات في القرن التاسع عشر عني فيه أكثر مما يجب بالنظام الاقتصادي للأمة، وكان هذا طبيعيا للانقلاب الاقتصادي الكبير الذي حدث في القرن الماضي بانتشار الآلات، ولكن النظام الاقتصادي ليس كل شيء.
وهو أيضا لا يمكن حله ما لم تحل إلى جانبه مسائل أخرى؛ لأن الاعتماد على حل مسائل الحياة بتنظيم عمل الآلات هو حل علمي موضوعي ناقص؛ لأن الحياة تحتاج أيضا إلى حل أدبي فيه الاعتبار الديني والثقافي والأخلاقي، ولن يكون ذلك حتى يكون الأديب عالما أو العالم أديبا.
وبعبارة أخرى نقول: إن الأمة التي ترقى فيها مركبة كالأتومبيل مرة كل عام باختراع أداة جديدة لا تعتبر أنها سائرة نحو الحضارة الصحيحة ما لم يرتق دينها وينقح على الأقل مرة في العام أيضا.
والحضارة التي تعنى بمكتشفات العلم لن تكون حضارة صحيحة ما لم تعن بمكتشفات الأدب، والأمة التي تجرب طريقة جديدة لمزج الأصباغ لن تكون حياتها صحيحة ما لم تجرب إلى ذلك طريقة جديدة للمعيشة بين الأفراد، بحيث يساوي رقيها العمراني رقيها الصناعي.
خيمي
مقدمة لطوبى مصرية «الزمان نوع من المكان، فبدلا من أن أقول: منذ ألف سنة حدثت تلك الحادثة، يمكنني أن أقول: إن تلك الحادثة حدثت في المكان الفلاني في الفضاء، في دورة الأرض الفلانية عند حركة الشمس الفلانية ... لو كان تحقيق حركتي الأرض والشمس يمكن تعيينهما في مكان في الفضاء، فأفهم عندئذ من هذا القول ما أفهمه من قولي: منذ ألف سنة حدثت تلك الحادثة، بل يكون فهمي هنا أدق وإدراكي للحادثة أوضح.»
كنت أتلفظ بهذه الألفاظ بصوت أسمعه، كما هي عادتي عندما أريد أن أوضح لنفسي شيئا غامضا؛ لأن اللفظة عندي هي أساس المعنى، وليس المعنى أساس اللفظ.
وأنا في هذا، أحاول أن أميز بين الزمان والمكان، وإذا بالنعاس يغلبني ويكاد يتطور إلى نوم، ثم إذا بوعي العقل الظاهر ينقلب إلى أحلام العقل الباطن، ثم فترة من التردد بين الصحو والغفو ثم النوم، ولكنه لم يكن نوما إلا في ظاهر الجسم، أما في باطن الأعصاب والدماغ فقد كانت الأفكار تتأرجح، والخواطر تترادف وتتجمع، ثم تتشتت وتتبدد ، وبعد برهة فقدت الشعور بزمانها (أو بمكانها) أحسست كأني أنحدر وئيدا إلى حيث ينقشع الظلام وينبلج الضوء ثم استنشقت أنفاس الصباح، بل كرعت منها وعببت فيها، كأني لم أذق طعم الهواء النقي منذ سنين، وهببت من فراشي وأنا أقول: «تأخرت! تأخرت» ولكني قعدت ثانيا في الفراش عندما نظرت إلى ما حولي، فإن الغرفة لم تكن غرفتي، ولا الفراش فراشي، ونظرت إلى الحائط فوجدت معلقا عليه نتيجة وبها هذه الأرقام 7 فبراير 3105.
وتأملت ما حولي فوجدت المرتبة والوسادة واللحاف كلها مصنوعة من الكاوتشوك المنفوخ، والغرفة نظيفة ناصعة، فقلت في نفسي: «لا بد أني كنت مريضا وجاءوا بي إلى هذا المستشفى اليهودي؛ إذ لا شك في أن هذه السنة يهودية تبتدئ من موسى، وموسى جاء قبل المسيح بنحو 1300 سنة، هؤلاء اليهود لا ينسون تاريخهم، ولكني لا أعرف لماذا أحضروني هنا، فإني لا أتذكر أني مرضت.
ثم نظرت إلى جسمي لأرى به علامة جرح أو كسر فلم أجده، فكددت ذاكرتي أبحث عن حادثة في الماضي فلم أهتد، فقمت من الفراش وسرت نحو النافذة، ولكني لم أخط خطوتين حتى صكت أذني صرخة، فالتفت إلى الوراء فرأيت فتاة تعدو وهي تقول: «النائم صحا! النائم صحا!»
ولم تمض دقائق حتى سمعت المستشفى كله يردد هذه العبارة: «النائم صحا!» وبعد نحو ربع ساعة سمعت الشارع كله يتجاوبها. فتحاملت إلى النافذة وأنا أكاد أقع من الضعف، وأطللت فرأيت جموعا من الناس في هيئة غريبة يتصايحون: «النائم صحا! ها هو ذا ينظر! إنه شاحب! قد لا يعيش؛ يجب أن يرد إلى الفراش، أين الممرضات والأطباء؟» وكان الآباء يحملون الأطفال على أكتافهم لكي يروني من الزحام، وحلقت في الجو قريبا من النافذة نحو خمسين طيارة صغيرة، ووقفت ينظر إلي ركابها.
وبينما أنا مشغول بهذا المنظر، وإذا بيد توضع على كتفي، فالتفت ووجدت رجلا نحيفا، طويل الوجه ضخم الرأس، عليه ملامح البنات، يقول لي بصوت عذب: «هل لك أن تعود إلى الفراش؟! أنت ما زلت ضعيفا.»
وكان في ألفاظه حلاوة وإغراء، فعدت إلى الفراش، واضطجعت، فقعد على كرسي بجانب سريري، وأخذ يجس نبضي ويفحص لساني ويتحسس أجزاء في جسمي، ثم قال: «يبدو لي أنك قد عوفيت، ولكن يحسن عقد مجلس من الأطباء للإقرار على شأنك.»
فقلت: «ماذا كانت علتي، ومتى يسمح لي بالعودة إلى البيت؟» فضحك ضحكة طويلة دون القهقهة، وقال: «يظهر أنك تجهل كل شيء. لقد مضي عليك هنا 1180 سنة، إن حادثتك غريبة؛ فقد أصبت سنة 1925 بفالج في الدماغ، فذهب عنك وعيك، وبقيت سائر أعضاء جسمك تعمل كما لو كنت صاحيا، كنا نغذيك وأنت نائم حتى ذهب عنك الفالج فصحوت الآن، لقد نمت 1180 سنة.»
ولكن هذا الكلام لم يجز إلى عقلي، ورأيت من العبث أن أجادل هذا الرجل، فتجاهلت كل ما قاله وقلت بثبات وعزم: «أريد أن أرى عائلتي.»
فعاد إلى ضحكته التي تراءت لي هذه المرة أنها سخيفة جدا، وتبدت على وجهه عندئذ ملامح الوغد الذي يتعلل لحبسي وإيهامي أوهاما كاذبة، فقلت وصوتي يتهدج بما يهيج في نفسي من الغيظ: «إذا لم أذهب إلى عائلتي فأنا أقفز من هذه النافذة وأنتحر، وأنت المسئول!»
فعلت وجهه حمرة الاضطراب، وقام يتلطف ويسري عني ويقول: «ستخرج قريبا بعد استفتاء المجلس، لا تخش شيئا، كلنا يحب لك الخير والراحة، لا تخش شيئا، انظر قد حضر بعض الأعضاء.»
فنظرت إلى الباب فإذا بخمسة أو ستة أشخاص يسيرون نحو غرفتي، وتأملتهم عندما دخلوا فوجدت فيهم اثنتين من النساء، وأخذوا جميعهم يفحصونني، وأقروا على أن صحتي جيدة، وأذنوا لي في الخروج بعد تناول الطعام.
فقدم لي طبق من فواكه مختلفة لا أعرف أسماءها، ولم يقدم لي شيء مطبوخ، فقلت: «هذا لا يقيتني، أرجوكم أن تحضروا لي لحما وخبزا؛ فإني أشعر بالجوع الشديد.»
فلاطفني أحدهم وأخبرني بأن في هذه الفواكه ما يزيد على حاجة جسمي من الغذاء، وفيها طعوم مختلفة حلوة وملحة، ثم رتبها لي فأكلت أولى الأثمار فكانت تشبه في طعمها اللحم، ثم أكلت شيئا من الجوز، وكان يسيل دهنا، ثم تناولت ثمرة جميلة اللون ذكية الرائحة قريبة في الطعم من الكمثرى، وأحسست بالشبع والري من هذا الطعام اللذيذ.
ثم انفض المجلس وبقي الشخص الأول، فقال لي: «والآن هل تريد أن تخرج إلى المدينة؟»
فقلت: «أجل، هذا ما أريد.» فناولني سراويل ومعطفا لبستها وخرجت معه.
وما أشد ما كانت دهشتي عندما رأيتني في مدينة غريبة يتزاحم أهلها لرؤيتي، وكانوا كلهم يشبهون رفيقي، طوال الأجسام ضخام الرءوس نحيفي الأبدان، لا يختلف الرجل عن المرأة إلا في أن له شاربين دقيقين، أما اللحية فكنت أرى شعرات في مكانها أو لا أرى شيئا، وكانت أفواههم صغيرة، وبعد أن اختلطت بهم عرفت أن ليس لهم أسنان في الفك الأسفل، أما أسنان الفك الأعلى فلم يبق منها إلا أعجازها، وأخبرني هذا الشخص الذي كلف بمرافقتي عن أشياء كثيرة خاصة بي وبالمدينة التي نسير فيها، فحكى لي أني عشت عيشة نباتية، وأنا مسطح على فراشي دون أن أعي، وكيف أن هذه المعيشة كانت سببا في أن أعمر هذا العمر الطويل؛ لأني صرت بمثابة الشجرة لا أجهد إلا أقل الجهد، وكيف ربت أموالي حتى صرت الآن من أغنى الناس. ففي سنة 1925 كنت أملك 50 فدانا، ولم يكن ينفق علي بعد الفالج إلا ريع عشرة فدادين، وما تبقى من الريع يتوافر باسمي، حتى إن أولادي لم يرثوا شيئا مني لا هم ولا أحفادهم، وعلى الرغم من مقاضاتهم لي لم تستطع محكمة أن تقر على موتي؛ فتراكمت أموالي بهذه الطريقة، ثم قص علي تاريخ مصر في الألف السنة الماضية، وكيف حدثت فيها ثورات اشتراكية، وكيف أخفقت التجارب الأولى للحكومة ثم انتهت بالنظام الحاضر، وأخذني في اليوم الأول لخروجي من المستشفى وأراني بعض مناظر مصر أيام كنت أعيش فيها قبل أن أمرض، فعرض علي جملة أشرطة سينما فوتوغرافية، ورأيت بلادي كما كنت أعرفها، ثم عرض علي أشرطة أخرى من المائة السنة التالية، ثم الثالثة، وهلم جرا، إلى أن أبلغني مناظر «خيمي» أي: مصر في عصره.
وكان قد استقر في ذهني الآن أن ما رواه لي عن مرضي صحيح ، وقد كنت في حياتي السابقة أعرف شيئا عن نظرية التطور، بل أدعو إلى الإيمان بها، فلم يكن من الصعب إذن أن أستضيء بضوئها في الظروف الحاضرة، ولكن علمي بهذه النظرية أسقط كرامتي بعض الشيء، فإني كنت أنظر إلى نفسي كأني متأخر عن هؤلاء الناس نحو 1200 سنة، وكأني بينهم بمثابة إنسان متحجر حي، والحق أنهم كانوا ينظرون إلي - على الرغم من تأدبهم - هذه النظرة المهينة؛ فقد كنت أرى عيونهم تثبت في وجهي، وتتفحص هيئة دماغي، وكان صبيانهم يتجرءون أحيانا على لمس لحيتي، ويتعجبون من خشونتها كما كانوا يصرحون أحيانا أخرى بتعجبهم من صغر رأسي.
وعدت عند الأصيل إلى غرفتي فوجدت ممرضتي التي قدت لي طعاما من الفاكهة أيضا، وأخذت في الحديث معها، وكان قد غادرنا رفيقي، وشعرت ونحن في وحدتنا بالغرفة بشعور عائلي بيني وبين هذه الفتاة، وقد عرفت منها أنها عنيت بتمريضي نحو ثلاثين سنة، وكان هذا وحده كافيا لأن أدل عليها بحق الصحبة القديمة والعشرة الطويلة. ثم قصت علي حالي أيام مرضي، ولم تكن القصة طويلة؛ إذ كانت تتلخص في أني كنت في سبات حال بعض الحيوانات وقت تشتيها، حين تتحجر وتنام ثلاثة أو أربعة شهور لا تأكل فيها، ويقتصر نشاط جسمها على التنفس مع دورة دموية بطيئة جدا، ولما رأى الأطباء أني سأموت لا محالة إذا لم أتغذ صاروا يحقنون عروقي بمواد مغذية نحو مرة كل شهر تقريبا، فكانت الحقنة تمسك رمقي، واتبع الأطباء هذه الطريقة معي وجعلوني أعجوبة الدهر، حتى قيل لي: إنه قد ألفت كتب في حالتي هذه وتعليلها بجملة علل، وآخر ما ظنه بعضهم أني أختلف عن سائر الناس في تركيب بعض الغدد الصماء، وقد ارتأى بعضهم تشريحي بعد موتي، ولكني أخلفت ظنهم إذ صحوت.
وكانت الفتاة تخاطبي بصوت جميل فيه بحة مستملحة، وكانت طويلة، ضخمة الرأس، لا يكاد يكون لها صدر يشبه صدور النساء البارزة، وكانت تلبس لبس بني عصرها، فالساقان والذراعان والرأس عارية، والحذاء بلا جورب، وليس على جسمها من الملابس سوى قطعة من نسيج واسع متخلخل أشبه شيء بالكاوتش يغطي ما بين العنق والساقين، وكان الرجال والنساء سواء في ذلك، أما شعر الرأس فكان يرخى حتى يغطي الوجه والقفا.
وألفت هذه الفتاة التي عرفت أن اسمها «راديوم»، وشعرت منها كأنها قد ألفتني، وكان في نظرتها لي شيء يحببها إلي؛ إذ لم أكن أرى في عينيها ذلك الاحتقار الذي كنت أراه في سائر أهل «خيمي» عندما كانوا يتفرسون في هيئة رأسي وكونها دون رءوسهم في الحجم. وكانت تشرح لي كل شيء خاص بأحوالهم ومعاشهم ونظامهم، وكنت كل يوم يزيد ارتباطي بها وتعويلي عليها، حتى كنت أقف في جانبها كالطفل في جانب أمه.
وشرحت لي غذاءهم فوجدت أنهم لا يعرفون الطبخ ولا يذبحون الحيوان؛ لأنهم قد استنبتوا من الأثمار فواكه مختلفة، منها ما ينفع غذاء، ومنها ما يستعمل دواء، وبعض غذائهم كالنشا والسكر كانوا يستخرجونه من الجماد، أي: بالتركيب الكيماوي، وكانت الزراعة في أيدي ناس خبراء، لكل منهم معمل يستولد فيه البذور الجديدة ويقايس فيه الأغذية المختلفة مع طعومها الحلوة والمزيزة والملحة، ولم تكن عنايتهم بالأثمار من حيث الغذاء فقط، فقد كانوا يلتفتون أيضا إلى الأرج واللون، بحيث لا يقعد الإنسان إلى طعام حتى يرى ما يغذو العين والخياشيم كما يرى من الطعم ما يلذ اللسان.
وكانت مساكنهم في غاية العجب، وبعضها مؤلف من طبقات، يحتوي المسكن على نحو مائتي نفس تقريبا من أولئك الناس الذين يميلون إلى الألفة والاجتماع، بينما كانت هناك منازل منفردة بين الحقول يعيش فيها المغرمون بالعزلة أو المنكبون على درس موضوع خاص يستغرق كل وقتهم ويصرفون إليه جميع قواهم. وكانت حياتهم تسهل على الإنسان الانفراد؛ لأنه كان يجد في وحدته كل ملاذ الاجتماع؛ إذ كان يجد في غرفته جهازا للتليفون الأثيري، فيسمع من الخطب والمحاضرات والأخبار ما يشاء ليلا أو نهارا، وكان إذا أراد أن يخاطب صديقه، مثلت له صورته وسمع صوته وهو قاعد في غرفته لا يريم، ولم يكن بالمدن ذلك الغبار أو الضوضاء الذي كنا نراه؛ لأن الشوارع كانت جميعها مغطاة بالخشب أو الكاوتشوك، حتى الطرق الزراعية كانت كذلك تقوم على جوانبها المصابيح الكهربائية، فلم تكن البيوت تحتاج إلى كنس وتنظيف لا ينقطعان، ثم كان أثاث المنازل يساعد على النظافة؛ لأنه صار كله تقريبا من الكاوتشوك، وكانت الغرف تدفأ وتضاء كما كان بها أيضا مراوح تدار باللاسلكي، وكان لكل فرد تقريبا أتومبيل خاص أو طيارة صغيرة، وكلاهما يدار أيضا باللاسلكي.
ويمكن أن أقول: إن حياتهم كانت على وجه العموم انفرادية من الوجهة الحسية، ولكنهم كانوا في انفرادهم أكثر اجتماعا منا من الوجهة المعنوية، فإني لم أعرف بينهم إنسانا لم يسمع غناء كل يوم أو لم يشاهد درامة تمثل في مكان قد يبعد عنه بألف ميل، أو لم يخاطب أصدقاءه النائين عنه في أقطار أخرى مرة كل أسبوع على الأقل، ويرى وجوههم ويضاحكهم ويجادلهم، فلم يكن ثم ما يدعو إلى أن يعيش هؤلاء الناس معا، ثم كان لكل منهم مركبة هوائية أو أرضية تنقله إلى حيث يشاء بأسرع من الريح.
ولكني مع إعجابي بهم لا أنكر أني امتعضت كثيرا عندما علمت أنهم لا يعرفون الحياة العائلية كما كنا نفهمها.
ومما زاد امتعاضي أن وجدت «راديوم» في غاية الجهل وسوء العاطفة نحو هذه الحياة، فقد كانت عواطفي توسوس إلي وساوس لذيذة عن حياة زوجية مع «راديوم» فأتمثلها معشوقتي وزوجتي، تسكن إلي وأسكن إليها، في مسكن يكون عشنا نأوي إليه معا، ويكون لنا من ثمرة الحب المتبادل صبيان روقة نتمتع برؤيتهم أطفالا ونشعر في تربيتهم بلذة الأبوة.
ولم تكن «راديوم» - والحق يقال - تشذ عن بني جنسها في سوء العاطفة الغرامية؛ فإنهم كانوا جميعا جامدين باردين، ينظرون بعقولهم أكثر مما كانوا يحسون بعواطفهم، ولا أذكر أني رأيت أحدا منهم يغضب إلى الاحتداد أو يفرح إلى الطرب؛ فأقصى غضبهم امتعاض، وأقصى فرحهم ابتسام أو ضحك لطيف، ولم يكن الزواج لديهم قائما على اعتبارات العشق، بل على اعتبارات المعيشة والغاية والنسل، فإذا سمع أحدهم عن فتاة تبحث أبحاثه وتدرس ما يدرسه تخابرا، وينتهي تخابرهما إلى ألفة؛ بحيث يعيشان معا في مسكن واحد، ولكنهما مع ذلك لا يجوز لهما النسل إلا بعد شهادة من الحكومة بأنهما جديران بالنسل.
وكان النسل أخطر ما تعنى له حكومة «خيمي»، والحق أنني عندما أتأمل في أحوالهم أجد أنها كلها تدور حول العناية بالنسل، فقد استقر في هؤلاء الناس أن الإنسان كان في الزمن البعيد يشبه القرد، وأنه بالعناية والانتخاب يمكن أن يرقى إلى أن يكون حيوانا راقيا جدا من حيث العواطف والعقل، ومما ساعدهم وشجعهم على هذا النظر أن الأشرطة السينماتوفرافية التي حفظت لهم تاريخ ألف ومائتي عام قد وقفتهم على أحوال آبائهم ودرجة رقيهم المنحطة، وكيف تدرجوا في الرقي إلى أن وصلوا إلى حالتهم؛ فلم يكن فيهم من يستطيع التنطع بمجد الآباء؛ لأن هذا المجد كان يرى على لوحة السينماتوغراف فترى عندئذ الوجوه الدميمة والغبار المتطاير والشوارع القذرة والرءوس الصغيرة، وأذكر أني تصببت عرقا من الخجل عندما رأيت شريطا خاصا بأحد الموالد، كانت إحدى الشركات قد أخذت صوره سنة 1924 من القاهرة، وتعجبت! كيف كنا نعيش في ذلك الوسط القذر؟
وكان عندما يولد غلام جديد تحضر للمنزل لجنة من العلماء، فتفحص جسمه، فإن ألفته يليق للحياة، وإلا قتلته في المكان، ولم يكن الأبوان يغضبان من ذلك، وكنت أسمع منهم أن أكبر ما يقتل لأجله الأطفال هو «الردة» أي: أنهم يرتدون إلى أصلهم فيخرجون برءوس صغيرة.
وقد تحادثت مع «راديوم» كثيرا عن هذا الموضوع، فوجدتها لا تستفظع قتل الأطفال، وأجابتني بلهجة باردة جدا بأنهم لا يحسون بالموت أكثر من أي حيوان آخر، وأن مصلحة الأمة والأجيال القادمة تقتضي ذلك، أما طريقتهم في التربية فكانت في نظري أفضل ما عندهم، فقد كان الطفل يبقى مع أبويه نحو ست سنوات، ثم يؤخذ بعدها إلى المدارس حيث يعلم تعليما عمليا لذيذا، فكانت الجغرافيا والتاريخ، وأيضا التاريخ الطبيعي، تعلم بالسينماتوغراف، فكان الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة يعرف هذه الأشياء من المعارف الصحيحة أكثر مما يعرفه طالب قد بلغ الثلاثين في مدارسنا القديمة. وكانت المدرسة عبارة عن ورشة ومكتبة يتنقل بينهما الطالب، وكان يمتحن امتحانين: أحدهما امتحان حضارة خاص بنظام الحكومة وتركيب الآلات المختلفة والزراعة والكيمياء ونحو ذلك مما تقوم به الحضارة، والآخر امتحان ثقافة حيث يدرس تاريخ الأمم والإنسان القديم والفلسفات المختلفة التي نبتت من أذهان الناس من العصور البعيدة والأديان والآداب ونحو ذلك. وكان الطالب لا يترك المدرسة عادة قبل الأربعين، ولم تكن هذه المدة طويلة إذا اعتبرت أن أهل خيمي كانوا يعمرون إلى نحو مائة وخمسين سنة، وكانت السياحات البعيدة إلى ثلوج القطب الجنوبي، أو إلى بوادي الصحراء، أو إلى الجبال الشامخة - من ضروب التربية التي يترباها الشاب، فكان الشاب لا يخرج من المدرسة إلا وقد رأى العالم كله تقريبا.
أما نظام الأعمال والتكسب، فإنه يشبه ما كنا نسمع عنه من الداعين للاشتراكية في زماننا، فقد كانت خيمي مقسمة إلى ضياع بها دساكر، يتبع كل دسكرة نحو ألف فدان، وبها مصنع، وكانت الزراعة كما نفهمها الآن قليلة؛ لأنه لم يكن يحرث من هذه الألف سوى نحو خمسين أو ستين فدانا لزراعة النباتات الغريبة السنوية، أما سائر الأرض فكانت مغطاة بالأشجار المعمرة، يؤخذ منها الطعام واللباس والوقود. ولم يكن الري من النيل كما كان في عهدنا؛ لأن هذا النهر كان قد جف تقريبا؛ لأن أهل خيمي صاروا يزمون السحاب بأزمة علمهم، يرتفعون فوقه بالطيارات ويطلقون عليه من المواد الكيميائية ما يجعله يتكاثف ويقع مطرا في أي جهة أرادوا وفي أي وقت شاءوا، أما مصانع الدسكرة فكانت تصنع كل شيء تقريبا بحيث إن كل دسكرة كانت مستقلة في معاشها عن الأخرى، إلا في أشياء قليلة تبادلها وغيرها، وكان أهل النقابة أشبه شيء بشركة تعاون، ولم يكن يحتاج أحدهم إلى العمل لمعايشه أكثر من ساعة في اليوم، وسائر نهاره وليله يقضيه في المتع الذهنية المختلفة وفي متابعة أبحاثه العلمية؛ إذ قلما كان يخلو فرد من أبحاث علمية يملأ بها فراغة سواء في ذلك الرجال أو النساء.
وكانت حكومة «خيمي» مؤلفة من خمس هيئات: الهيئة التشريعية، والهيئة القضائية، والهيئة الصحافية، والهيئة الدينية، ثم أخيرا الهيئة التنفيذية، فأما الهيئة التشريعية فلم تكن منتدبة من أفراد ينتخبونها كما كنا نعهد في زماننا، بل كانت تنتخبها النقابات المختلفة، فلنقابة الأطباء مثلا 10 أعضاء ولنقابة البيولوجيين، أي: علماء الحياة 10 آخرون، ولنقابة علماء الزراعة 10، ولنقابة التجاريين 10 وهلم جرا ... حتى يتألف من ذلك مجلس به نحو 500 عضو؛ هو السلطة العليا للتشريع.
وأما الهيئة القضائية فكانت أقل الهيئات ظهورا في الأمة، لقلة عدد المتقاضين، وكان القضاة ينتخبون عادة من طبقة رجال العمران والبيولوجية للفصل في من يجب قتله من الناس أو منعه من التناسل، ولم يكن ثم عقاب آخر.
أما الهيئة الصحافية فكانت مؤلفة في الحقيقة من عدة هيئات. فإحداها مثلا تشتغل بإصدار صحيفة يومية، إما لاسلكية وإما مطبوعة عن الكيمياء، وأخرى تصدر صحيفة أخرى عن الأدب، وأخرى عن الطب، وهلم جرا، وكانت الجامعات من الهيئات الخاصة بإصدار الصحف، ولم يكن نظام الجامعات عندهم يختلف عما كان عندنا.
أما الهيئات الدينية فكانت مؤلفة من نقابة عامة من الفلاسفة، ولم يكن يقبل فيها أحد دون السبعين، وكان رأيها هو الأعلى في تقرير ما يؤثر في ذوق الأمة ومزاجها وقصدها؛ فكانت تعين طريقة تدريس التاريخ وتقرر بناء التماثيل لبعض مشاهير التاريخ أو هدمها، وتقيم التماثيل الخاصة بالجمال أو بالكفايات الإنسانية الأخرى في الميادين.
وكذلك الحال في الموسيقى والتصوير والرقص، تأمر وتنهى فيها كلها؛ لأن أهل «خيمي» يعتقدون أن ديانة الإنسان أحرى بأن تتكون من هذه الأشياء، من أن تتكون من العقائد المحفوظة عن ظهر قلب كما كنا نفعل في أيامنا، ولأهل «خيمي» معابد يتعبدون فيها على انفراد، وعلى عكس ما كنا نفعل. والمعبد عبارة عن بناء مستطيل كبير، على كل جدار من جدرانه الأربعة صور تمثل بزوغ الحي الأول وتطوره إلى الإنسان، ثم ما تخيله هؤلاء الفلاسفة وتنبئوا به عن مستقبل الإنسان في صور أخرى تمثله ضخم الرأس كبير العينين شريف الطلعة دقيق الأطراف والأنامل، وفي جدار آخر صور أخرى تمثل ارتقاء الصناعة من عهد الإنسان الحجري إلى زمن أهل «خيمي» وفي جدران أخرى صورة عجيبة لمركز الأرض في هذا الكون ونسبته إليه وفوق الأرض إنسان يتأمل مركزه في هذا الفضاء الواسع. وفي الجدار الرابع صور الفلاسفة والأنبياء العظام، وعلى شفتي كل منهم كلمة بارعة أثرت عنه وصار لها أثر في التاريخ، والخيمي إنما يذهب إلى المعبد ليتبين قصده في الحياة، إذا أحس بسأم أو ضلال، فيقعد هناك منفردا يحاول أن يتصل بالكون وأن يعرف مركزه ومهمته فيه، فيرتاح قلبه ويهدأ ضميره، وإذا استمر به السأم قصد إلى أحد رجال الهيئة الدينية فيدرسه ويعنى به، ويفتح له أبوابا ينشط بها نفسه.
أما الهيئة التنفيذية فكانت مؤلفة من موظفي الحكومة المحليين والعموميين وعليهم إنفاذ أوامر سائر الهيئات.
وتتلخص حياة الفرد في أنه يبقى مع أبويه نحو ست سنوات، ثم يذهب إلى الجامعة ولا يبرحها حتى الأربعين تقريبا، وهو في تلك المدة يرى أبويه ويعايشهما، ثم يخرج فيشتغل في إحدى الصناعات اليدوية وينتمي إلى نقابتها، وعندئذ يصير فردا ذا رأي في مصير الأمة؛ لأنه ينتخب عن سبيلها النواب في الهيئة التشريعية والقضاة وأحيانا الصحافيين، ونقابته عبارة عن شركة تعاون أيضا.
فإذا دارت السنة عمل حساب الشركة، ما باعت من حاصلات الدسكرة الزراعية الصناعية وما اشترته، ثم توزع الأرباح على الأفراد كل بنسبة عمله، والجزاء يستوي تقريبا بين جميع الأعضاء؛ لأن المال انحطت قيمته عند أهل «خيمي»، ولكن هناك أفراد لهم نزعات خاصة، يهوون مثلا امتلاك بيت صغير يزينونه بما شاءوا من التحف، فهؤلاء يشتغلون أكثر من غيرهم لكي يتوافر لديهم من المال ما يقتنون به ما يشتهون من هذه التحف، ونقابة الدسكرة لا تمانع في ذلك بل تشجع عليه؛ لأن مال هذه الممتلكات يئول إليها بعد وفاة أصحابها؛ إذ إن مبدأ الإرث كان قد ألغي منذ زمان بعيد، ومعظم ما ينفق الخيمي ماله عليه هو الطعام والأتومبيل والطيارة (ولكل منهما عداد وهما يسيران باللاسلكي)، أما المسكن فيعطى لكل فرد بالمجان. وكذلك الماء والنور والحرارة، وللنقابة مخازن يباع فيها الطعام واللباس بأبخس الأثمان.
وأهل «خيمي» لا يبالون بكثرة النسل، بل بجودته، فقد كانت مصر في سنة 1925 نحو 15 مليونا، أما في سنة 3105 فإنهم نزلوا إلى نحو 10 ملايين فقط، ولكن ليس فيهم واحد يجهل الفلسفة أو مقدارا كبيرا من العلوم الأخرى، وقلما يموت أحد منهم دون أن يكون قد ساح إلى القطب وعاد منه؛ وذلك لأنهم وجدوا أن العبرة بالأشخاص كيف هم وليس كم هم. •••
كان ابن عربي الأندلسي يقول: «لا ينبغي للعبد (يعني للإنسان) أن يستعمل همته في الحضور في مناماته، بحيث يكون حاكما على خياله، يصرفه بعقله نوما كما كان يحكم عليه يقظة ...»
وبعبارة أخرى ... إن ما نشتهيه في اليقظة نراه في النوم، فلا تهزأ - بعد ذلك - بالأحلام.
Shafi da ba'a sani ba