Ahkam Surah Al-Ma'idah
من أحكام سورة المائدة
Mai Buga Littafi
مطبعة سفير
Inda aka buga
الرياض
Nau'ikan
سلسلة مؤلفات ورسائل سعيد بن علي بن وهف القحطاني
من أحكام سورة المائدة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
Shafi da ba'a sani ba
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فهذه رسالة مختصرة في «تفسير خمس الآيات الأول من سورة المائدة». بيّنت فيها بتوفيق الله تعالى الأحكام التي اشتملت عليها هذه الآيات الكريمات:
وقد قسمت هذا الموضوع إلى ستة أبواب، وتحت كل باب فصلان:
الباب الأول: مقدمات لهذا البحث، والفصل الأول منه في معرفة سبب نزول سورة المائدة، وأغراضها، ومضامينها، والفصل الثاني: في معرفة سبب نزول الآيات الخمس، وأهمية نزول هذه الآيات، وما نسخ منها وما لم ينسخ.
الباب الثاني: تفسير الآية الأولى من سورة المائدة، والفصل الأول من هذا الباب، تعريف العقود، والمراد بالعهود، وتعريف بهيمة الأنعام، والفصل الثاني: في بيان ما أحل الله للمؤمنين من بهيمة الأنعام، ومناسبة ذكر الحل، وبيان ما استثنى مما أحل الله للمؤمنين، والضابط العام للأنواع المحرمة من الحيوانات والطيور.
1 / 3
الباب الثالث: تفسير الآية الثانية من سورة المائدة، الفصل الأول من هذا الباب في تعريف الشعائر، وبيان سبب نزول هذه الآية الكريمة، وأقوال العلماء فيما نسخ من هذه الآية وما لم ينسخ، والفصل الثاني في إباحة الصيد بعد حل الإحرام، والأمر بالتعاون على البر والتقوى.
الباب الرابع: تفسير الآية الثالثة من سورة المائدة، الفصل الأول من هذا الباب معرفة ما حرمه الله من بهيمة الأنعام، وإبطال عادات الجاهلية في أكل المحرمات من بهيمة الأنعام، وتعريف الذكاة الشرعية، وذكر شروطها، والفصل الثاني تحريم أكل ما ذبح لغير الله، والاستقسام بالأزلام، وذكر إتمام الله النعمة على هذه الأمة، وإكماله الدين، ورفع الإثم عمن اضطر إلى شيء من المحرمات من بهيمة الأنعام غير باغٍ ولا عادٍ، وذكر الحكمة من ذلك.
الباب الخامس: تفسير الآية الرابعة من سورة المائدة، الفصل الأول من هذا الباب بيان شروط الصيد بالجوارح: من الكلاب والطيور، والفصل الثاني، بيان الاختلاف في حل صيد بعض الجوارح، وبيان اختلاف العلماء في إمساك الجارح من الطيور والكلاب عن الأكل من الصيد، هل يكون ذلك شرطًا أم لا؟.
الباب السادس: تفسير الآية الخامسة من سورة المائدة، الفصل الأول من هذا الباب: بيان المقصود بالحل في طعام أهل الكتاب، ومتى يحل ومتى لا يحل؟ وحكم نكاح الكتابيات، والفصل الثاني: حكم المرتد، وحكم من حكم بغير ما أنزل الله.
1 / 4
والله أسأل أن يجعل هذه الكلمات القليلة مباركة، نافعة، خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفعني بها في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع بها من انتهت إليه؛ فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم، وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
حرر في عام ١٤٠٤هـ.
1 / 5
الباب الأول
ويشتمل على فصلين، هما:
الفصل الأول:
أولًا: معرفة سبب نزول سورة المائدة.
ثانيًا: أغراض، ومضامين سورة المائدة.
الفصل الثاني:
أولًا: معرفة سبب نزول الآيات الخمس الأُول من سورة المائدة.
ثانيًا: أهمية نزول هذه الآيات الخمس.
ثالثًا: ما نسخ منها وما لم ينسخ.
1 / 7
الفصل الأول
أولًا: معرفة سبب نزول سورة المائدة
قال ابن عباس، والضحاك: هي مدنية، وقال مقاتل: «نزلت نهارًا، وكلها مدنية، وقال أبو سليمان الدمشقي: فيها من المكي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...﴾ الآية، والصحيح أن قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ نزلت بعرفة يوم عرفة؛ فلهذا نسبت إلى مكة (١).
روى الحاكم في المستدرك عن جبير بن نفير قال: «حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، قالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه»، قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي (٢).
قال القرطبي: وهي مدنية بإجماع ... وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي ﷺ فهو مدني، سواء نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار (٣).
ثانيًا: أغراض ومضامين سورة المائدة
افتتح الله ﷾ هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، ثم المضي بعد هذا
_________
(١) زاد المسير في علم التفسير لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي القرشي البغدادي.
(٢) مستدرك الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، ٢/ ٣١١، ورواه الإمام أحمد، ٦/ ٥٤، برقم ٢٦٠٦٣، وزاد: «وسألتها عن خلق رسول الله ﷺ؟ فقالت: القرآن».
(٣) الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ٦/ ٣٠.
1 / 8
الافتتاح في بيان الحلال والحرام، من الذبائح، والمطاعم، والمشارب، والمناكح، وبيان كثير من الأحكام الشرعية، والتعبدية، وبيان حقيقة العقيدة الصحيحة، وبيان حقيقة العبودية، وحقيقة الألوهية، وبيان علاقات الأُمّة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل، وبيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله، والشهادة بالقسط، والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها، والحكم فيها بما أنزل الله كله، والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله، والحذر من عدم العدل تأثرًا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن ... افتتاح السورة على هذا النحو، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة «العقود» معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ويكشف أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله ... وفي أولها عقد الإيمان بالله، ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته، هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود، وسائر الضوابط في الحياة (١).
وفي سورة المائدة تسع عشرة فريضة ليست في غيرها وهي:
﴿الْمُنْخَنِقَةُ، وَالْمَوْقُوذَةُ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ، وَالنَّطِيحَةُ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾،
﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ﴾، ﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾، ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾، ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾، وتمام الطهور في قوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
_________
(١) في ظلال القرآن سيد قطب، ٢/ ٨٣٥ بتصرف.
1 / 9
الصَّلاةِ﴾، ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾، ﴿لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾، إلى قوله: ﴿عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾، و﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ الآية، والفريضة التاسعة عشرة قوله ﷿: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ﴾، فليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة «الجمعة»، فمخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات (١).
_________
(١) الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي ٦/ ٣٠ وتفسير البغوي ٢/ ٥.
1 / 10
الفصل الثاني
أولًا: معرفة سبب نزول الآيات الخمس الأُول من سورة المائدة:
١ - أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ﵄ في قوله تعالى: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ قال: كان المشركون يحجّون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظّمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجّهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال الله: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ (١).
٢ - وفي الصحيحين من حديث طارق بن شهاب، قال: «جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية من كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: وأي آية هي؟ قال: قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (٢)، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله ﷺ، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله ﷺ، وهو قائم بعرفة يوم جمعة، وفي لفظ: نزلت عشية عرفة» (٣)، قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله ﷺ بعد ذلك واحدًا وثمانين يومًا.
_________
(١) فتح القدير، ٢/ ٧.
(٢) سورة المائدة، الآية: ٤.
(٣) البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، برقم ٤٥، ومسلم، كتاب التفسير، برقم ٣٠١٧، ولفظ مسلم قريب من ذلك، ورواه أحمد، ١/ ٢٣٧، برقم ١٨٨.
1 / 11
٣ - قال ابن الجوزي في تفسيره: «زاد المسير في علم التفسير»: في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ...﴾ الآية:
«في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن النبي ﷺ لما أمر بقتل الكلاب، قال الناس: يا رسول الله ماذا أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية (١).
والثاني: أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سماه رسول الله ﷺ: زيد الخير قالا: «يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما لا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير» (٢).
وكان السبب في أمر النبي ﷺ بقتل الكلاب هو ما رواه مسلم عن عبد الله بن عباس ﵄ قال: «أخبرتني ميمونة أن رسول الله ﷺ أصبح يومًا واجمًا (٣)، فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله ﷺ: «إن جبريل كان واعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني أما والله ما أخلفني»، قال: فظل رسول الله ﷺ يومه ذلك على
_________
(١) رواه الحاكم في مستدركه، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وفي سنده محمد بن إسحاق وقد عنعن، المستدرك، ٢/ ٣١١.
(٢) رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين، وفي سنده ابن لهيعة، قال الحافظ في التقريب: «صدوق خلط بعد احتراق كتبه»، وعطاء بن دينار الراوي عن سعيد بن جبير قيل لم يسمع منه.
(٣) الواجم هو الساكت الذي يظهر عليه الهم والكآبة.
1 / 12
ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: «قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة»، قال: أجل ولكنَّا لا ندخل بيتًا فيه كلبٌ ولا صورة، فأصبح رسول الله ﷺ يومئذ، فأمر بقتل الكلاب، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير، ويترك كلب الحائط الكبير (١)، وعن جابر ﵁ قال: أمرنا رسول الله ﷺ بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله، ثم نهى رسول الله ﷺ عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان» (٢).
٤ - نزول قوله تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ (٣):
أ- قال ابن الجوزي: «إن الله تعالى لما رخّص في نكاح الكتابيات قلن بينهن لولا أن الله تعالى قد رضي علينا، لم يبح للمؤمنين تزويجنا، وقال المسلمون: كيف يتزوج الرجل منا الكتابية وليست على ديننا، فنزلت: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾،رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ب - وقال مقاتل بن حيان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من
_________
(١) رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة ... بقم ٢١٠٥.
(٢) مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة، باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه، وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك، برقم ١٥٧٢.
(٣) سورة المائدة، آية: ٥.
1 / 13
الكفر (١).
ثانيًا: أهمية نزول هذه الآيات الخمس وما نسخ منها وما لم ينسخ:
١ - أهمية نزول هذه الآيات الخمس:
لاشك أن هذه الآيات الخمس تضمنت أحكامًا عظيمة، وهذه الأحكام محكمة لم يدخل عليها نسخ، فقد تضمنت هذه الآيات أحكامًا منها:
أ- أحكام العقود، والعهود
ب- أحكام الصيد في الحل والإحرام
ت - إبطال عادات الجاهلية: حيث كانوا يحرمون على أنفسهم، البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وكانوا يأكلون الميتة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، والدم، ويأكلون ما قتلته السباع من بهيمة الأنعام، وغير ذلك مما سأبينه في الفصول القادمة إن شاء الله تعالى.
فجاء الإسلام بإبطال هذه العادات كلها، وأحل للمؤمنين الطيبات، وحرم عليهم الخبائث كهذه المحرمات وغيرها.
ث- جاء في هذه الآيات الخمس كذلك، استثناء ما أدركت ذكاته من المحرمات المذكورة آنفًا، فما أدرك المسلمون حياته من هذه المذكورات فذُكِّي قبل زهوق نفسه، فهو من الطيبات.
ج- جاء في هذه الآيات الخمس، حكم الصيد بالجوارح، من
_________
(١) زاد المسير في علم التفسير ٢/ ٢٩٧.
1 / 14
الكلاب والطيور المُعلَّمة.
ح- وجاء كذلك فيها حل طعام أهل الكتاب - اليهود، والنصارى-.
خ- وكذلك حكم نكاح الكتابيات المحصنات من أهل الكتاب
د - وجاء في هذه الآيات الخمس حكم من كفر بالإيمان، وأن عمله يحبط بكفره، وهذه الأحكام ليست للحصر لما ورد في هذه الآيات الخمس من أحكام، وإنما هي أمثلة مما ورد فيها من الأحكام التي لم تنسخ، والدليل على أن الأحكام التي في هذه الآيات الخمس لم تنسخ، بل هي محكمة ما جاء من قول عائشة ﵂ فيما رواه الحاكم في: مستدركه من حديث جبير بن نفير، قال: «حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت نعم، قالت: أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه» (١).
ثالثًا: ما نسخ من هذه الآيات الخمس وما لم ينسخ
سبق أن تقدم قول عائشة لجبير بن نفير: «يا جبير تقرأ المائدة؟ قال: فقلت: نعم، قالت: أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه» (٢)، فدلّ هذا على أن الأحكام التي وردت في سورة المائدة لم ينسخ منها شيء.
_________
(١) مستدرك الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ٢/ ٣١١، وتقدم تخريجه.
(٢) مستدرك الحاكم ٢/ ٣١١، وسبق تخريجه.
1 / 15
أقوال العلماء في هذا
قال ابن الجوزي: «اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله ...﴾ (١) الآية، على قولين:
أحدها: أنها محكمة، روي ذلك عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين، قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر، ولا الهدي قبل أوان ذبحه، واختلفوا في القلائد، فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحره، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلد من شجر الحرم، فقيل لهم: لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم، ولا تصدوا القاصدين إلى البيت.
والثاني: أنها منسوخة، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال:
أحدهما: أن جميعها منسوخة، وهو قول الشعبي.
الثاني: أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلدون هداياهم، ويظهرون شعائر الحج من الإحرام والتلبية، فنهي المسلمون بهذه الآية عن التعرض لهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ (٢)، وهذا قول الأكثرين.
الثالث: أن الذي نسخ قوله تعالى: ﴿وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ نسخه
_________
(١) سورة المائدة، الآية: ٢.
(٢) سورة التوبة، الآية: ٥.
1 / 16
قوله تعالى: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ (١). روي عن ابن عباس وقتادة.
والرابع: أن المنسوخ منها تحريم الشهر الحرام، وآمّون البيت الحرام: إذا كانوا مشركين، وهدي المشركين .. قاله أبو سليمان الدمشقي» (٢).
_________
(١) سورة التوبة، الآية: ٣٨.
(٢) زاد المسير في علم التفسير ٢/ ٢٧٨.
1 / 17
الباب الثاني
تفسير الآية الأولى من سورة المائدة
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ (١)، أتى رجل عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إليّ فقال: إذا سمعت الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ...﴾ «فارعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه» (٢).
وهذه الآية التي افتتح الله تعالى بها هذه السورة إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ فيها من البلاغة ما تتقاصر عنه القوى البشرية مع شمولها لأحكام عدة: منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم (٣).
_________
(١) سورة المائدة، الآية الأولى.
(٢) تفسير ابن كثير، ٢/ ٢ بتصرف.
(٣) فتح القدير، ٢/ ٤ بتصرف.
1 / 19
الفصل الأول
أولًا: تعريف العقود
العقود لغة: الحبل والبيع والعهد يعقده، شده وعنقه إليه لجأ، والحاسب حسب، والعقد الضمان والعهد، والجمل الموثّق الظهر، وهو منِّي معقد الإزار أي قريب المنزلة، والعاقد حريم البئر وما حولها (١).
العقود في الاصطلاح: العهود، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، وقال الزجاج: «العقود أوكد العهود» (٢)، وحكى ابن جرير الإجماع على أنه يقصد بالعقود العهود (٣)، قال ابن عباس: والمراد بالعقود هنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، يعني ما أحلّ الله وما حرّم، وما فرض، وما حدّ في القرآن كله، ولا تغدروا، ولا تنكثوا، ثم شدّد في ذلك فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ (٤).
المراد بالعهود:
قال الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في تفسيره زاد المسير في
_________
(١) القاموس المحيط، فصل العين، باب الدال، ١/ ٣١٥.
(٢) زاد المسير في علم التفسير، ٢/ ٢٦٧.
(٣) تفسير ابن كثير، ٢/ ٣ بتصرف.
(٤) سورة الرعد، آية: ٢٥.
1 / 20
علم التفسير: «واختلفوا في المراد بالعهود هنا على خمسة أقوال:
أحدها: أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحل وحرم، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد.
الثاني: أنها عهود الدين كلها، قاله الحسن.
الثالث: أنها عهود الجاهلية، وهي الحِلْفُ الذي كان بينهم، قاله قتادة.
والرابع: أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإيمان بالنبي محمد ﷺ، قاله ابن جرير، وقد ذكرنا أن الخطاب للكتابيين.
الخامس: أنها عقود الناس بينهم: من بيع، ونكاح، أو عقد الإنسان على نفسه من نذر، أو يمين، وهذا قول ابن زيد (١).
قلت: وقد ذكر ﷾ في كتابه الكريم العهد الأول الذي أخذه على بني آدم فقال سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (٢).
ثانيًا: تعريف بهيمة الأنعام
قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾.
البهيمة: لغة: كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، وكل حي لا
_________
(١) زاد المسير في علم التفسير، ٢/ ٢٦٨.
(٢) سورة الأعراف، آية: ١٧٢.
1 / 21
يميز ... والأبهم الأعجم، واستبهم عليه استعجم، فلم يقدر على الكلام (١).
وبهيمة الأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم، قاله: الحسن، وقتادة، وغير واحد (٢).
قال ابن الجوزي: في بهيمة الأنعام ثلاثة أقوال هي:
الأول: أنها أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت الأمهات، قاله ابن عمر، وابن عباس.
وفي الحديث: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» من حديث جابر، وهو حديث صحيح (٣).
الثاني: أنها، الإبل، والبقر، والغنم، قاله: الحسن، وقتادة، والسدي.
الثالث: أنها وحش الأنعام كالظباء وبقر الوحش (٤).
قال ابن عطية: وهذا قول حسن؛ وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال لها: أنعام مجموعة
_________
(١) القاموس المحيط، فصل الباء، باب الميم، ٤/ ٨٢.
(٢) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ٢/ ٣، وتفسير البغوي، ٢/ ٦.
(٣) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما جاء في ذكاة الجنين، برقم ٢٨٣٠، والترمذي، كتاب الأطعمة عن رسول الله ﷺ، باب ذكاة الجنين، برقم ١٤٧٦، وابن ماجه، كتاب الذبائح، باب العقيقة، برقم الحديث ٣١٩٩، وانظر: صحيح الترمذي، ٢/ ٨٣.
(٤) زاد المسير في علم التفسير، ٢/ ٢٦٩، روي ذلك عن ابن عباس وأبي صالح.
1 / 22
معها، وكأن المفترس كالأسد، وكل ذي ناب خارجة عن حد الأنعام، فبهيمة الأنعام هي: الراعي من ذوات الأربع ... وعلى القول بتخصيص بهيمة الأنعام بالإبل، والبقر، والغنم، تكون الإضافة بيانية، ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس، بل بالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً﴾ الآية (١)، وقد نهى ﷺ: «عن كل ذي ناب من السِّباع وعن كل ذي مخلب من الطير» (٢)، وقوله ﷺ: «كل ذي ناب من السباع فأكله حرام» (٣)؛ فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال، وكذا سائر النصوص الخاصة كما في كتب السنة المطهرة (٤).
قال ابن العربي: «أما من قال: إن النعم هي: الإبل، والبقر، والغنم، فقد علمتَ صحةَ ذلك دليلًا، وهو أن النعم عند بعض أهل اللغة اسم خاص للإبل يُذَكَّر ويؤنث ... وقد قال الله تعالى: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ (٥)، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا
_________
(١) سورة الأنعام، الآية: ١٤٥.
(٢) مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل لحمه، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، برقم ١٩٣٤.
(٣) صحيح مسلم كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل لحمه، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، برقم ١٩٣٣.
(٤) فتح القدير للشوكاني، ٢/ ٥.
(٥) سورة النحل، الآيات: ٥ - ٧.
1 / 23