ـ[الأحكام السلطانية للفراء]ـ
المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: ٤٥٨هـ)
صححه وعلق عليه: محمد حامد الفقي
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
الطبعة: الثانية، ١٤٢١ هـ - ٢٠٠٠ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
(تنبيه): طُبع الكتاب طبعته الأولى في مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر (١٣٥٧هـ ١٩٣٨م) بتحقيق محمد حامد الفقي
Shafi da ba'a sani ba
[خطبة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا خاتم النبيين؛ وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
قال القاضي الإمام أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء رضى الله عنه: الحمد لله حق حمده، والصلاة عل نبيه وآله وصحبه وسلم. أما بعد:
فإني كنت صنفت كتاب الإمامة، وذكرته في أثناء كتب المعتمد، وشرحت فيه مذاهب المتكلمين وحجاجهم، وأدلتنا، والأجوبة عما ذكروه. وقد رأيت أن أفرد كتابًا في الإمامة، أحذف فيه ما ذكرته هناك مع الخلاف والدلائل، وأزيد فيه فصولا أخر، تتعلق بما يجوز للإمام فعله من الولايات وغيرها، أسأل الله الكريم العون على ذلك، والنفع به إن شاء.
فصول في الإمامة
نصبة الإمام واجبة وقد قال أحمد ﵁ - في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي -: الفتنة إذا لم تكن يقوم بأمر الناس. والوجه فيه: أن الصحابة لما اختلفوا في السقيفة، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، ودفعهم أبو بكر وعمر ﵄، وقالوا: " إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش " ورووا في ذلك أخبارًا، فلولا أن الإمامة واجبة لما ساغت تلك المحاورة والمناظرة عليها، ولقال قائل: ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم. وطريق وجوبها السمع لا العقل، لما ذكرناه في غير هذا الموضع، وأن العقل لا يعلم به فرض شيء ولا إباحته، ولا تحليل شيء ولا تحريمه. وهي فرض على الكفاية، مخاطب بها طائفتان من الناس. إحداهما: أهل الاجتهاد حتى يختاروا. والثانية: من يوجد فيه شرائط الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة. أما أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاث شروط. أحدها: العدالة. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ من يستحق الإمامة.
والثالث: أن يكون من أهل الرأي والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وليس لمن كان في بلد مزية على غيره من أهل البلاد يتقدم بها، وإنما صار من يختص ببلد الإمام متوليًا لعقد الإمامة لسبق علمه بموته، ولأن من يصلح للخلافة في الغالب موجودون في بلده.
1 / 19
وأما أهل الإمامة فيعتبر فيهم أربع شروط. أحدها: أن يكون قرشيًا من الصميم. وهو من يكون من ولد قريش بن بدر بن النضر دليل بني كنانة، وقد قال أحمد في رواية مهنا: " لا يكون من غير قريش خليفة". والثاني: أن يكون عل صفة من يصلح أن يكون قاضيًا: من الحرية والبلوغ والعقل، والعلم، والعدالة. والثالث: أن يكون قيمًا بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود، لا تلحقه رأفة في ذلك، والذب عن الأمة. الرابع: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين، وقد روي عن الإمام أحمد ﵀ ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل، فقال - في رواية عبدوس بن مالك القطان - " ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا عليه، برًا كان أو فاجرًا، فهو أمير المؤمنين ". وقال أيضًا في رواية المروزي " فإن كان أميرًا يعرف بشرب المسكر والغلول يغزو معه، إنما ذاك له في نفسه، وقد روى عنه في كتاب المحسنة: أنه كان يدعو المعتصم بأمير المؤمنين في غير موضع. وقد دعاه إلى القول بخلق القرآن، وضربه عليه، وكذلك قد كان يدعو المتوكل بأمير المؤمنين، ولم يكن من أهل العلم، ولا كان أفضل وقته وزمانه. وقد روى عنه ما يعارض هذا؛ فقال في رواية حنبل " وأي بلاء كان أكبر من الذي كان أحدث عدو الله وعدو الإسلام: من إماتة السنة؟ " يعني الذي كان أحدث قبل المتوكل فأحيا المتوكل السنة. وقال فيما رأيته على ظهر جزء من كتب أخي ﵀ " حدثنا أبو الفتح بن منيع قال " سمعت جدي يقول: كان أحمد إذا ذكر المأمون قال: كان لا مأمون".
وقال في رواية الأثرم في امرأة لا ولي لها " السلطان" فقيل له: تقول السلطان، ونحن على ما ترى اليوم؟ وذلك في وقت يمتحن فيه القضاة. فقال " أنا لم أقل على ما نرى اليوم، إنما قلت السلطان". وهذا الكلام يقتضي الذم لهم والطعن عليهم، ولا يكون هذا إلا وقد قدح ذلك في ولايتهم، ويمكن أن يحمل ما قاله في رواية عبدوس وغيره، على أنه إذا كان هناك عارض يمنع من نصبة العدل العالم الفاضل وهو أن تكون النفوس قد سكنت إليهم وكلمتهم عليه أجمع، وفي العدول عنهم يكثر الهرج. وإذا وجدت هذه الصفات حالة العقد ثم عدمت بعد العقد نظرت، فإن كان جرحًا في عدالته وهو الفسق؛ فإنه لا يمنع من استدامة الإمامة، سواء كان متعلقًا بأفعال الجوارح، وهو ارتكاب المحظورات، وإقدامه على المنكرات اتباعًا لشهوته، أو كان متعلقًا بالاعتقاد، وهو المتأول لشبهة تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحق. وهذا ظاهر كلامه في رواية المروزي في الأمير يشرب المسكر ويغل، يغزي معه، وقد كان يدعو المعتصم بأمير المؤمنين، وقد دعاه إلى القول بخلق القرآن.
1 / 20
وقال حنبل في رواية الواثق: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله وقالوا" هذا أمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار الخلق للقرآن - نشارك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه. فقال: وعليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين" وقال في رواية المروزي وذكر الحسن بن صالح فقال " كان يرى السيف، ولا نرضى بمذهبه". وإن كان الحادث على بدنه. فنظر، فإن كان زوال العقل، نظرت فيه، فإن كان عارضًا مرجوًا زواله كالإغماء، فهذا لا يمنع عقدها ولا استدامتها، لأنه مرض قليل اللبث، ولأن النبي ﷺ أغمي عليه في مرضه. وإن كَانَ لَازِمًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، كَالْجُنُونِ وَالْخَبَلِ. فتنظر، فإن كان مطبقًا لا يتخلله إفاقة، فهذا يمنع الابتداء والاستدامة.
وإذا طرأ عليها أبطلها، لأنه يمنع المقصود الذي هو إقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحماية المسلمين. وإن كان يتخلله إفاقة يعود فيها إلى حال السلامة نظرت، فإن كان أكثر زمانه الخبل فهو كما لو كان مطبقًا، وإن كان أكثر زمانه الإفاقة فقد قيل: يمنع من عقدها، وهل بمنع مِنْ اسْتِدَامَتِهَا؟ فَقِيلَ: يَمْنَعُ مِنْ اسْتِدَامَتِهَا كَمَا يمنع من ابتدائها، لأن في ذلك إخلالًا بالنظر المستحق فيه: وقد قيل: لا يمنع من استدامتها، وإن منع من عقدها، لِأَنَّهُ يُرَاعِي فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا سَلَامَةً كَامِلَةً، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا نَقْصٌ كَامِلٌ. وَأَمَّا ذَهَابُ البصر فيمنع من عقدها واستدامتها، لأنه يبطل القضاء ويمنع مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعُ مِنْ صحة الإمامة. وأما عشي الْعَيْنِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُبْصِرَ عِنْدَ دُخُولِ الليل، فلا يمنع من عقدها ولا استدامتها، لأنه مرض في زمانه الدعة يرجى زاله. وَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ بِهِ الأشخاص إذا رآها لم يمنع الإمامة، وإن كان يدرك الأشخاص ولا يعرف منع من عقدها واستدامتها. فإن كان أخشم الأنف لا يدرك به شم الروائح، أو فقد الذوق الذي لا يفرق به بين الطعوم لم يؤثر ذلك فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّذَّةِ دون الرأي والعمل. وأما الصمم والخرس فيمنعان ابتداء عقد الإمامة، لأنهما يؤثران في التدبير والعمل كما يؤثر العمى، وأما في الاستدامة فقد قيل: لَا يَخْرُجُ بِهِمَا مِنْ الْإِمَامَةِ لِقِيَامِ الْإِشَارَةِ مقامهما فراعينا في ابتدائها سلامة كاملة وفي الخروج نقصًا كاملًا. وأما تمتمة اللسان وثقل السمع مع إدراك الصوت إذا علا فلا يمنع الابتداء ولا الاستدامة، لأن موسى نبي الله ﵇ لم يمنعه عقدة لسانه من النبوة، فأولى أن لا يمنع الإمامة.
فإن كان مقطوع الذكر والأنثيين لم يمنع من الإمامة ولا من استدامتها، لأن فقد ذلك مؤثر في التناسل دون الرأي والحركة، فجرى مَجْرَى الْعُنَّةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْيَى بن زكريا ﵉، بذلك وأثنى عليه فقال تعالى (وسيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين) وقد روي عن ابن عباس ﵄ " أنه لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَكَرٌ يَغْشَى بِهِ النِّسَاءَ وكان كالنواة". فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ النُّبُوَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ الْإِمَامَةِ.
1 / 21
وَكَذَلِكَ قَطْعُ الْأُذُنَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَا يُؤَثِّرَانِ فِي رأي ولا عمل، ولهما ستر خفي يمكن أن يستر فلا يظهر. وأما ذهاب اليدين الذي يمنع العمل، وذهاب الرجلين الذي يذهي البطش فيمنع من ابتداء عقدها ومن استدامتها، لعجزه عما يلزم من حقوق الأمة في عمل أو نهضة. وأما ذهاب إحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ ولا يخرج به من الإمامة إذا طرأ عليها، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي عَقْدِهَا كَمَالُ السَّلَامَةِ وَفِي الخروج كمال النقص. فإن كان أجدع الأنف، أو سمل إحدى العينين لم يؤثر في ابتداء العقد ولا في استدامته، لأنه غير مؤثر في الحقوق. وقد قيل: يمنع من عقدها دون الاستدامة، لأنه نقص يزري فتقل به الهيبة، وبقلة الهيبة تقل الطاعة، وهذا يلزم عليه القصور. فإن حجر عليه وقهره مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَسْتَبِدُّ بِتَنْفِيذِ الْأُمُورِ مِنْ غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقة لم يمنع ذلك من إمامته ولا قدح في ولايته. ثم تنظر فِي أَفْعَالِ مَنْ اسْتَوْلَى عَلَى أُمُورِهِ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا تَنْفِيذًا لَهَا وَإِمْضَاءً لِأَحْكَامِهَا، لئلا يقف من العقود الدِّينِيَّةِ مَا يَعُودُ بِفَسَادٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا، وَلَزِمَهُ أَنْ يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه. فإن صار مأسورًا في يد عدو ثاهر لا يقدر على الخلاص منه منع ذلك من عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ لِعَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ فِي أمور المسلمين، سواء كان العدو مسلمًا باغيًا أو كافرًا.
وللأمة فسحة في اختيار من عداه من ذوي القدرة. وقد أومأ أحمد إلى إبطال الإمامة بذلك في رواية أبي الحرث: في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك فيفتتن الناس، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم مع من تكون الجمعة؟ قال " مع من غلب". وظاهر هذا أن الثاني إذا قهر الأول وغلبه زالت إمامة الأول، لأنه قال " الجمعة مع من غلب" فاعتبر الغلبة. وقد وري عنه ما يدل على بقاء إمامته لأنه قال في رواية المروذي، وقد قيل سئل أي شيء الحجة في أن الجمعة تجب في الفتنة؟ فقال: "أمر عثمان لهم أن يصلوا؟ قيل له: فيقولون إن عثمان أمر بذلك. فقال: إنما سألوه بعد أن صلوا". وظاهر هذا أنه لم يخرج عثمان من الإمامة مع القهر لأنه اعتبر إذنه. فإن أسر بعد أن عقدت له الإمامة اسْتِنْقَاذُهُ، لِمَا أَوْجَبَتْهُ الْإِمَامَةُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ على إمامته إذا كان يرجى خلاصة ويؤمل فكاكه إما بقتال أو فداء، وإن وقع الإياس منه نظرت فيمن أسره، فإن كان من المشركين خرج من الإمامة واستأنف أهل الاختيار بيعة غيره. فإن عهد بالإمامة في حال أسره، نظرت.فإن كان بعد الإياس من خلاصة لم يصح عهده لأنه لِبَقَاءِ إمَامَتِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ إمَامَةُ وَلِيِّ عَهْدِهِ بِالْإِيَاسِ من خلاصة لزوال إمامته، فإن خلص من أسره بعد
1 / 22
عهده، نظرت فِي خَلَاصِهِ؛ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ لَمْ يَعُدْ إلَى إمَامَتِهِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالْإِيَاسِ، وَاسْتَقَرَّتْ فِي وَلِيِّ عَهْدِهِ، وَإِنْ خَلَصَ قَبْلَ الإياس منه فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ وَيَكُونُ الْعَهْدُ فِي وَلِيِّ العهد ثابتًا. وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَ بُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كان يرجى خلاصه فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ خَلَاصُهُ نظرت في البغاة؛ فإن كانوا لم ينصبوا لأنفسهم إمامًا فالإمام المأسور في أيديهم على إمامتهم، لأن بيعته لازمة لهم، وطاعته عليهم واجبة، فصار كونه معهم مثل كونه مع أهلالعدل إذا صار تَحْتَ الْحَجْرِ. وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَسْتَنِيبُوا عَنْهُ نَاظِرًا يَخْلُفُهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الاستنابة، وإن قَدَرَ عَلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِاخْتِيَارِ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ منهم.
فإن خلع المأمور نَفْسَهُ أَوْ مَاتَ لَمْ يَصِرْ الْمُسْتَنَابُ إمَامًا، لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده. وخلف ولي العهد، لأنها ولاية بعد مفقود لا تنعقد بوجوده فافترقاه. فإن كان أهل البغي قد نصبوا إمامًا لأنفسهم دَخَلُوا فِي بَيْعَتِهِ وَانْقَادُوا لِطَاعَتِهِ، فَالْإِمَامُ الْمَأْسُورُ فِي أَيْدِيهِمْ خَارِجٌ مِنْ الْإِمَامَةِ بِالْإِيَاسِ مِنْ خلاصه، لأنهم قد انحازوا بدار انعزل حُكْمُهَا عَنْ الْجَمَاعَةِ وَخَرَجُوا بِهَا عَنْ الطَّاعَةِ، فلم يبق لأهل العدل بهم نصرة ولا لمأسور مَعَهُمْ قُدْرَةٌ. وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فِي دَارِ العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه، فإن تخلص الْمَأْسُورُ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِمَامَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا. فإن كان أفضل الجماعة فبايعوه ثم حدث من هو أفضل منه لم يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ وفي الابتداء لو عدلوا عن الأفضل لغير عذر لم يجز. وإن كان لعذر مِنْ كَوْنِ الْأَفْضَلِ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ كان المفضول أطوع في الناس جاز. وَالْإِمَامَةُ تَنْعَقِدُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الحل والعقد. وَالثَّانِي: بِعَهْدِ الْإِمَامِ مِنْ قَبْلُ. فَأَمَّا انْعِقَادُهَا باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد. قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: " الإمام الذي يجتمع [قول أهل الحل والعقد] عليه كلهم". يقول: هذا إمام. وظاهر هذا أنها تنعقد بجماعتهم. وروي عنه ما دل على أنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد. فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار " ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا، برًا كان أو فاجرًا". وقال أيضًا في رواية أبي الحرث - في الإمام يخرج عليه، من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم - " تكون الجمعة مع من غلب". واحتج بأن ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة. وقال " نحن مع من غلب".
وجه الرواية الأولى: أنه لما اختلف المهاجرون والأنصار، فقالت الأنصار: " منا
1 / 23
أميرومنكم أمير" حاجهم عمر وقال لأبي بكر ﵄ " مد يدك أبايعك " فلم يعتبر الغلبة واعتبر العقد مع وجود الاختلاف. ووجه الثانية: ما ذكره أحمد عن ابن عمر، وقوله " نحن مع من غلب" ولأنها لو كانت تقف على عقد لصح رفعه وفسخه بقولهم وقوله كالبيع وغيره من العقود، ولما ثبت أنه لو عزل نفسه أو عزلوه لم ينعزل دل على أنه لا يفتقر إلى عقد. وإنما اعتبر فيها قول جماعة أهل الحل والعقد أنه الإمام لأنه يجب الرجوع إليه، ولا يسوغ خلافه والعدول عنه كالإجماع. ثم ثبت أن الإجماع يعتبر في انعقاده جميع أهل الحل والعقد، كذلك عقد الإمامة. فإن توقفوا أثموا، عقد لا يتم إلا بعاقد كالقضاة لا يصير قاضيًا حتى يولى، ولا يصير قاضيًا وإن وجدت صفته، كذلك الإمامة. وإذا جمع أهل الحل والعقد على الاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجود فِيهِمْ شُرُوطُهَا فَقَدَّمُوا لِلْبَيْعَةِ مِنْهُمْ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا، وأكملهم شروطًا. فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ مَنْ أداهم الاجتهاد إلى اختياره وعرضوها عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ إلَيْهَا بَايَعُوهُ عَلَيْهَا، وَانْعَقَدَتْ له الإمامة ببيعتهم، ولزم كَافَّةَ الْأُمَّةِ الدُّخُولُ فِي بَيْعَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِمَامَةِ وَلَمْ يُجِبْ إلَيْهَا لم يجبر عليها وعدل إلى من سواه من مستحقيها فبويع عليها. فإن امتنع الجميع من الدخول فيها فهل يأثمون بذلك؟ وهل يتعين عليهم. قال في رواية المروذي: " لابد للمسلمين من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ وقال في رواية محمد بن موسى - في الشاهد يأبى أن يشهد أيأثم؟ - قال." إذا كان يضر بأهل القرية ومثله يحتاج إليه فلا يفعل". وظاهر كلامه: أنه جعل القضاء والشهادة من فروض الكفايات، مع ما قد جاء عن النبي ﷺ في ذم القضاء، فأولى أن تكون الإمامة الكبرى كذلك، إذ ليس طلبها ولا الدخول فيها مكروها.
وقد تنازعها أَهْلُ الشُّورَى، فَمَا رُدَّ عَنْهَا طَالِبٌ وَلَا منع منها راغب. ولأن بالناس حاجة إلى ذلك لحماية البيضة، والذب عن الحوزة، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، فجرى مجرى حاجتهم إلى غسل الموتى وحملهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدم أسنهما، وإن لم يكن ذلك شرطًا، فإن بويع أصغرهما جاز. فإن كان أحدهما أعلم والآخر أشجع نظرت، فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى فَضْلِ الشَّجَاعَةِ أَدْعَى لِانْتِشَارِ الثُّغُورِ وَظُهُورِ الْبُغَاةِ كَانَ الْأَشْجَعُ أَحَقَّ، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم لِسُكُونِ الدَّهْمَاءِ وَظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَانَ الْأَعْلَمُ أَحَقَّ. فَإِنْ وَقَفَ الِاخْتِيَارُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ اثنين فتنازعاها لم يكن ذلك قدحًا يمنعهما منها. لما بينا أن
1 / 24
طلبها غير مكروه، لأنه قد تنازعها أهل الشورى. وبماذا نقطع تنازعهما مع تكافؤ أحوالهما؟ فقياس قول أحمد ﵀: أنه يقرع بينهما فيبايع من قرع منهما، لأنه قال في رواية عبد الله - في مسجد فيه رجلان تداعيا الأذان فيه "يقرع بينهما" واحتج بقول سعد. ولفظ الحديث ما رواه العكبري بإسناده عن ابن شبرمة " أن الناس تشاحوا في الأذان يوم القادسية، فأقرع بينهم سعد" وبإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه استهموا". وصفة العقد: أن يقال "بايعناك على بيعة رضى، على إقامة العدل، والإنصاف، والقيام بفروض الإمامة" ولا يحتاج مع ذلك صفقة اليد. ولا يجوز عقد الإمامة لإمامين في بلدين في حالة واحدة.
فإن عقدت لاثنين وجدت فيهما الشرائط نظرت، فإن كانا في عقد واحد فالعقد باطل فيهما، وإن كان العقد لكل واحد منهما على الانفراد نظرت، فإن علم السابق منهما بطل العقد الثاني، وإن جهل منالسابق منهما يخرج علىالروايتين، إحداهما: بطلان العقد فيهما، والثانية: استعمال القرعة، بناء على ما إذا زوج الوليان وجهل السابق منهما، فهو على روايتين، كذلك هاهنا. ويجوز للإمام أن يعهد إلى إمام بعده، ولا يحتاج في ذلك إلى شهادة أهل الحل والعقد وذلك لأن أبا بكر عهد إلى عمر ﵄، وعمر عهد إلى ستة من الصحابة ﵃، ولم يعتبرا في حال العهد شهادة أهل الحل والعقد، ولأن عهده إلى غيره ليس بعقد للإمامة، بدليل أنه لو كان عقدًا لها لأفضى ذلك إلى اجتماع إمامين في عصر واحد، وهذا غير جائز، وإذا لم يكن عقدًا لم يعتبر حضورهم، وكان معتبرًا بعد موت الإمام العاقد. وإذا عهد إلى رجل كان له أن يعزله قبل موته، لما بينا أن إمامة المعهود إليه غير ثابتة مادام العاهد باقيًا إمامًا، وإذا لم تكن ثابتة كان له أن يخرجه من ذلك، كما أن الموصي له أن يخرج الوصي، لأن الوصية غير ثابتة مادام حيًا. ويجوز أن يعهد إلى من ينتسب إليه بأبوة أو بنوة، إذا كان المعهود له على صفات الأئمة، لأن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد، وإنما تنعقد بعهد المسلمين، والتهمة تنتفى عنه. ويعتبر قبول المعهود إليه، ويكون ذلك بعد موت المولى، لأن إمامته في تلك الحال تنعقد ويعتبر في المعهود إليه شروط الإمامة العهد إليه، واستدامتها إلى ما بعد موت المولي.
1 / 25
فإن كان صغيرًا وقت العهد لم يصح، لأنها وإن كانت تلزم بعد موت العاقد فلا تمنع اعتبارها وقت العقد، كما قلنا في الوصى، يعتبر فيه شرائط الموصى وقت العقد، وإن كانت تلزم بالموت فإن عهد إلى غائب معلوم الحياة صح، وكان موقوفًا على قدومه.
فإن مات المولى وبعدت عيبته واستضر المسلمون بتأخير نظره استتاب أهل الاختيار نائبًا يبايعونه بالنيابة دون الخلافة فإذا قدم الغائب انعزل النائب. وإذا خلع الخليفة نفسه، إما بطريان عذر، أو قلنا له أن يخلع نفسه، انتقلت الولاية، إلَى وَلِيِّ عَهْدِهِ، وَقَامَ خَلْعُهُ مَقَامَ مَوْتِهِ. ولو عهد الخليفة إلى اثنين فأكثر، ولم يقدم أحدهما على الآخر، واختار أهل الاختيار أحدهما بعد موته جاز. والأصل فيه أهل الشورى، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ - إذَا جَعَلَهَا الْإِمَامُ شُورَى فِي عَدَدٍ - أَنْ يَخْتَارُوا أَحَدَهُمْ فِي حَيَاةِ المستخلف العاهد، إلا أن يأذن لهم، لأنه بالإمامة أحق. فَإِنْ خَافُوا انْتِشَارَ الْأَمْرِ بَعْدَ مَوْتِهِ اسْتَأْذَنُوهُ، فإن صار إلى حال الإياس نظرت". فإن زال عنه أمره وعزل عن رأيه فهو كحاله بعد موته في جواز الاختيار. وهل يجوز لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، كَمَا ينص على أهل العهد؟ فقد قيل: يجوز، لأنها من حقوق خلافته. وقياس مذهبنا أنه لا يجوز لوجهين. أحدهما: أنها تقف على اختيار جميع أهل الحل والعقد. والثاني: أن إمامة المعهود إليه تنعقد بعد موته باختيار أهل الوقت. فإن قال: قد عهدت الأمر إلى فلان، فإن فلان مات قبل موتى أو تغيرت حاله فالإمام بعده فلان - وذكر آخر - جاز ذلك، وكان هذا عهدًا إليه بالشرط. فإن بقي الأول إلى وفاة العاهد سليمًا كان هو الإمام دون الثاني، وإن مات قبل موت الإمام أو تغيرت حاله بأحد ثلاثة أشياء كان الثاني هو الإمام المعهود إليه. وكذلك إن قال: فإن مات الثاني أو تغيرت حاله فالخليفة فلان صح، وكان ذلك على الترتيب.
والأصل فيه ما رواه الدارقطني في الإفراد بإسناده قال لما وجه رسول الله ﷺ القوم إلى مؤتة قال: عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة " وروى سيف بإسناده قال: " لما أنفذ عمر ﵁ بالجيش إلى نهاوند قال: قد أمرت حذيفة بن اليمان حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة، وإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن". وذكر أيضًا أن أبا عبيد عهد إلى الناس فقال " إن قتلت فعلى الناس جبر، فإن قتل فعليكم
1 / 26
فلان، فإن قتل فعليكم المرقال". وذلك في يوم الجسر. فإن عهد إلى رجل ثم قال: فإن مات المعهود إليه بعد نظره وإفضاء الخلافة إليه فالإمام بعده فلان، أخذ بذكره، فإن ذكره وعهد إليه أولا هو الإمام بعده، وإذا مات المعهود إليه أو انعزل بحدوث معنى لم يكن للذي بعده ولاية ولا عهد. لأن الأمر صار لمن جعله ولي عهده بعده فإذا صار إمامًا حصل التصرف والنظر إليه والاختيار إليه، وكان العهد إليه فيمن يراه. ويفارق هذا الفصل الذي قبله؛ لأنه جعل العهد إلى غيره عند موته وتغير صفاته في الحالة التي لم يثبت للمعهود إليه إمامة، بل كاننت إمامة الأول باقية، فلهذا صح عهده إلى من يراه. ولا يجب على كافة الناس معرفة الإمام بعينه واسمه، إلا من هو من أهل الاختيار الذين تقوم بهم الحجة وتنعقد بهم الخلافة. ويجوز أن يسمي خليفة لمن عقد له الأمر، ويسمي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأَنَّهُ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في أمته. وهل يجوز أن يقال: خليفة الله تعالى؟ فقد قيل يجوز، لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقوله تعالى (هو الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بعض درجات) وقيل لا يجوز، لأنه إنما يستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالى لا يغيب ولا يموت. وقيل لأبي بكر: يا خليفة الله.
فقال: " لست خليفة اللَّهِ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ". ويلزم الإمام من أمور الأمة عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة. فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح لَهُ الصَّوَابَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ خَلَلٍ وَالْأُمَّةُ ممنوعة من الزلل.
الثَّانِي: تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَقَطْعُ الْخِصَامِ بينهم، حتى تظهر النَّصَفَةُ، فَلَا يَتَعَدَّى ظَالِمٌ وَلَا يَضْعُفُ مَظْلُومٌ.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة لِيَتَصَرَّفَ النَّاسُ فِي الْمَعَايِشِ وَيَنْتَشِرُوا فِي الْأَسْفَارِ آمنين.
الرابع: إقَامَةُ الْحُدُودِ لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الِانْتِهَاكِ، وَتُحْفَظَ حُقُوقُ عِبَادِهِ مِنْ إتْلَافٍ وَاسْتِهْلَاكٍ.
الخامس: تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ، حَتَّى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرمًا ويسفكون فيها دمًا لمسلم أو معاهد.
السادس: جِهَادُ مَنْ عَانَدَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى يسلم أو يدخل في الذمة.
1 / 27
السابع: جِبَايَةُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ نصًا واجتهادًا مع غير عسف.
الثامن: تقدير العطاء وَمَا يَسْتَحِقُّ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ سرف ولا تقصير فيه، وَدَفْعُهُ فِي وَقْتٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ.
التَّاسِعُ: اسْتِكْفَاءُ الْأُمَنَاءِ وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا يفوضه إلَيْهِمْ مِنْ الْأَعْمَالِ وَيَكِلُهُ إلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ لا تقديم فيه ولا تأخير.
الْعَاشِرُ: أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ مُشَارَفَةَ الْأُمُورِ وَتَصَفُّحَ الأحوال ليهتم بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحِرَاسَةِ الْمِلَّةِ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى التَّفْوِيضِ تَشَاغُلًا بِلَذَّةٍ أَوْ عِبَادَةٍ، فَقَدْ يَخُونُ الْأَمِينُ وَيَغُشُّ النَّاصِحُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فاحكم بين الناس بالحق لا تتبع الهوى) فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته". وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم: الطاعة، والنصرة، مالم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة، والذي يخرج به عن الإمامة شيئان.
الجرح في عدالته، والنقص في ذلك بما يقتضي صحة الإمامة، وتأولناه على أن هناك عذرًا يمنع من اعتبار العدالة حالة العقد، كما كان العذر مؤثرًا في الفاضل.
فصل في ولايات الإمام
وما يصدر عن الإمام من ولايات خلفائه أربعة أقسام: أحدها: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وهم الوزراء لأنهم مستنابون في جميع النظرات من غير تخصيص. الثَّانِي: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي أَعْمَالٍ خاصة. وهم الأمراء للأقاليم وَالْبُلْدَانِ. لِأَنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الأعمال عام في جميع الأمور. الثَّالِثُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ العامة، وهم مثل قاضي الْقُضَاةِ وَنَقِيبِ الْجُيُوشِ وَحَامِي الثُّغُورِ، وَمُسْتَوْفِي الْخَرَاجِ، وَجَابِي الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُورٌ على نظر خاص في جميع الأعمال. الرابع: من تكون ولايته خاصة في أعمال خاصة. وهم مثل قاضي بَلَدٍ، أَوْ إقْلِيمٍ، أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ، أَوْ جابي صدقاته، أو حامي يغره، أو نقيب جنده؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَاصُّ النَّظَرِ مَخْصُوصُ الْعَمَلِ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةِ شُرُوطٌ تنعقد بها ولايته ويصح نظره نذكرها في مواضعها.
1 / 28
أما تقليد الوزارة فجائز، لما حكاه الله تعالى عن نبيه موسى ﵇ (واجعل لي وزيرًا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) وإذا جَازَ ذَلِكَ فِي النُّبُوَّةِ كَانَ فِي الْإِمَامَةِ أجوز، لأن مَا وُكِّلَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ تَدْبِيرِ الْأُمَّةِ لا يقدر على مباشرة جميعه إلا بالاستنابة، نيابة الوزير المشارك فِي التَّدْبِيرِ أَصَحُّ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ مِنْ تفرده بها ليستظهر به على نفسه، وليكون أبعد من الزلل، وأمنع من الخلل. فأما اشتقاق الوزارة، فقييل أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوِزْرِ، وَهُوَ الثِّقَلُ لِأَنَّهُ يتحمل عن الملك أثقاله، وقيل أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَزَرِ، وَهُوَ الْمَلْجَأُ. وَمِنْهُ قوله تعالى (كلا لا وزر) أَيْ لَا مَلْجَأَ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ يلجأ إلى رأيه ومعونته. وقيل: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَزْرِ، وَهُوَ الظَّهْرُ، لِأَنَّ الملك يقوى بتوزيره كقوة البدن بالظهر. والوزارة عل ضربين: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ.
أما وزارة التفويض فهي أَنْ يَسْتَوْزِرَ الْإِمَامُ مَنْ يُفَوِّضُ إلَيْهِ تَدْبِيرَ الأمور برأيه، وإمضاءها على اجتهاده، فيعتبر في تقليد هذه الوزارة شُرُوطِ الْإِمَامَةِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِفَايَةِ فِيمَا وُكِّلَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ والخراج خبيرًا بهما "فإنه مباشر لهما تارة بنفسه، وتارة يستنب فيهما ولا يَصِلُ إلَى اسْتِنَابَةِ الْكُفَاةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ منهم، كما لايقدر على المباشرة إذا اقصر عنهم. ويفتقر تقليده لفظ الخليفة، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى عَقْدٍ، وَالْعُقُودُ لَا تصح إلا بالقول، فإن وقع له بالنظر أو أذن له فيه، فقياس المذهب: أنه يصح التقليد بناء على إيقاع الطلاق بالكتابة. وتشتمل الوزارة على لفظين. أحهما: عموم النظر. والثاني: النيابة. فإن اقتصر به على عموم النظر دون النيابة لم تنعقد به الوزارة، وإن اقتصر به على النيابة لم تنعقد أيضًا. فإذا جمع بينهما انعقدت. والجمع بينهما أن يقول" قَلَّدْتُكَ مَا إلَيَّ نِيَابَةً عَنِّي " فَتَنْعَقِدُ بِهِ الوزارة لأنه جمع بين عموم النظر والاستنابة، فإن قال " نُبْ عَنِّي فِيمَا إلَيَّ" احْتَمَلَ أَنْ تَنْعَقِدَ الْوَزَارَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ وَالِاسْتِنَابَةِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِ الْوَزَارَةُ، لأنه إذن يحتاج أَنْ يَتَقَدَّمَهُ عَقْدٌ. وَالْإِذْنُ فِي أَحْكَامِ الْعُقُودِ لا تصح به العقود. فإن قَالَ: "قَدْ اسْتَنَبْتُكَ فِيمَا إلَيَّ" انْعَقَدَتْ بِهِ الْوَزَارَةُ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِذْنِ إلَى ألفاظ العقود. فإن قَالَ " اُنْظُرْ فِيمَا إلَيَّ" لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْوَزَارَةُ، لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي تَصَفُّحِهِ أَوْ فِي تَنْفِيذِهِ أَوْ فِي الْقِيَامِ بِهِ، وَالْعَقْدُ لا يلتزم بلفظ محتمل.
فإن قال " قد استوزرتك تعويلًا على نيابتك" انعقدت الْوَزَارَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ فيما جعل إلَيْهِ بِقَوْلِهِ" اسْتَوْزَرْتُكَ" لِأَنَّ نَظَرَ الْوَزَارَةِ عَامٌّ، وتثبت النيابة بقوله " تعويلًا على نيابتك" وخرجت عن وزارة التقليد إلى وزارة التفويض، فإن قال: " فوضت إليك وزارتي" ويحتمل أن لا تنعقد به هـ ... ذه الْوَزَارَةُ، لِأَنَّ ذِكْرَ التَّفْوِيضِ فِيهَا يُخْرِجُهَا عَنْ وزارة التنفيذ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ، لِأَنَّ التَّفْوِيضَ مِنْ أحكام هذه الوزارة فافتقر إلى عقد ينفذ به، والأول أشبه فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ " قَدْ فَوَّضْنَا إلَيْكَ الوزارة" صح؛ لأن ولاة الأمور يكتبون أنفسهم بلفظ الجمع
1 / 29
ويعظمونها عَنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَيْهِمْ فَيُرْسِلُونَهُ، فَيَقُومُ قَوْلُهُ" فوضنا إليك" مقام قوله " فوضت" وقوله " الوزارة " مقام قوله" وزارتي" فإن قال " قد قلدتك وزارتي" أو قال " قد قلدتك والوزارة" لَمْ يَصِرْ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُزَرَاءِ التَّفْوِيضِ حتى يبيبه بِمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّفْوِيضَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول فيما حكاه عن موسى (واجعل لي وزيرًا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) فَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الْوَزَارَةِ حَتَّى قَرَنَهَا بشد أزره وإشراكه في أمره. وعلى الوزير وزارة التفويض مطالعة الإمام بما أَمْضَاهُ مِنْ تَدْبِيرٍ وَأَنْفَذَهُ مِنْ وِلَايَةٍ وَتَقْلِيدٍ، لئلا يصير بالاستبداد كالإمام. وعلى الإمام أَنْ يَتَصَفَّحَ أَفْعَالَ الْوَزِيرِ وَتَدْبِيرَهُ الْأُمُورَ لِيُقِرَّ مِنْهَا مَا وَافَقَ الصَّوَابَ وَيَسْتَدْرِكَ مَا خَالَفَهُ. لأن تدبير الأمة، وكول إليه وإلى اجتهاده وَيَجُوزُ لِهَذَا الْوَزِيرِ أَنْ يَحْكُمَ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يقلد الحكم كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، لِأَنَّ شُرُوطَ الْحُكْمِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَظَالِمِ ويستنيب في تنفيذها لأن شروط الجهاد فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُبَاشِرَ تَنْفِيذَ الْأُمُورِ الَّتِي دَبَّرَهَا وَأَنْ يَسْتَنِيبَ فِي تَنْفِيذِهَا لِأَنَّ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ. وَكُلُّ مَا صَحَّ من الإمام صح من هذا الْوَزِيرِ، إلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: وِلَايَةُ الْعَهْدِ. فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْهَدَ إلَى مَنْ يَرَى، وليس ذلك للوزير.
والثاني: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ الْأُمَّةَ مِنْ الْإِمَامَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ وَمَا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَحُكْمُ التَّفْوِيضِ إلَيْهِ يَقْتَضِي جَوَازَ فِعْلِهِ وَصِحَّةِ نُفُوذِهِ مِنْهُ. فَإِنْ عَارَضَهُ الْإِمَامُ فِي رَدِّ مَا أَمْضَاهُ، فَإِنْ كَانَ فِي حُكْمٍ نفذ على وجهه، وفي مَالٍ وُضِعَ فِي حَقِّهِ، لَمْ يَجُزْ نَقْضُ ما نفذ باجتهاده. وإن كَانَ فِي تَقْلِيدِ والٍ، أَوْ تَجْهِيزِ جَيْشٍ، أو تدبير جرب جاز للإمام معارضته فيه بعذل المولى والعدول بالجيش إلى حيث يرى، وتدبيره الْحَرْبِ بِمَا هُوَ أَوْلَى لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يستدرك ذلك من أفعال نفسه، فأولى أن يستدركها من أفعال وزيره. وفارق هذا ما كان من حكم نفذه، أو مال وضعه في حقه، لأنه لما لم يكن لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ نَفْسِهِ فكذلك من أفعال وزيره. فإن قَلَّدَ الْإِمَامُ وَالِيًا عَلَى عَمَلٍ، وَقَلَّدَ الْوَزِيرُ غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، نُظِرَ فِي أَسْبَقِهِمَا بالتقليد، فإن كان الإمام أسبق تقليدًا من الوزير فتقليده أثبت، وَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُ الْوَزِيرِ أَسْبَقَ فَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْلِيدِ الْوَزِيرِ كَانَ في تقليد الإمام عزل للأول واستئناف تقليد للثاني فَصَحَّ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْلِيدِ الْوَزِيرِ فَتَقْلِيدُ الوزير أثبت. فتصح ولاية الأول دون ولاية الثَّانِي، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الثَّانِي مَعَ الْجَهْلِ بِتَقْلِيدِ الأول لا يكون عزلا، وإنما يكون عزلا لو علم بحالة فيصير بالقول معزولًا، لا بتقليد غيره. فإن كَانَ النَّظَرُ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ صَحَّ تقليدهما وكانا مشتركين في النظر. وإن كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ كَانَ تَقْلِيدُهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَزْلِ أَحَدِهِمَا وَإِقْرَارِ الْآخَرِ. فَإِنْ تَوَلَّى ذَلِكَ الْإِمَامُ جَازَ أَنْ يَعْزِلَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيُقِرَّ الْآخَرَ وَإِنْ
1 / 30
تَوَلَّاهُ الْوَزِيرُ جَازَ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ اخْتَصَّ بِتَقْلِيدِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الإمام. فهذا حكم وزارة التفويض.
وَأَمَّا وَزَارَةُ التَّنْفِيذِ فَحُكْمُهَا أَضْعَفُ، وَشُرُوطُهَا أَقَلُّ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وتدبيره، وهذا الوزير وسيط بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّعَايَا وَالْوُلَاةِ، يُؤَدِّي عَنْهُ مَا أمر، وينفذ مَا ذَكَرَ، وَيُمْضِي مَا حَكَمَ، وَيُخْبِرُ بِتَقْلِيدِ الولاة، وتجهيز الجيش والحماة، ويعرض عليه ما ورد منهم وتجدد من حدث ملمّ ليعمل فيه بما يُؤْمَرُ بِهِ، فَهُوَ مُعِينٌ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وليس بوال عليها ولا متقلد لَهَا. فَإِنْ شُورِكَ فِي الرَّأْيِ كَانَ بِاسْمِ الوزارة أخص، وإن لم يشترك فيه كان باسم الوساطة والسفارة أشبه. ولا تَفْتَقِرُ هَذِهِ الْوَزَارَةُ إلَى تَقْلِيدٍ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فيها مجرد الإذن ومطلق الاسم. ولا يعتبر فِي الْمُؤَهَّلِ لَهَا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الْعِلْمُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِوِلَايَةٍ وَلَا تَقْلِيدٍ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَقْصُورُ النظر علىأمرين: أن يؤدي إلى الخليفة وأن يُؤَدِّيَ عَنْهُ، فَيُرَاعِي فِيهِ سَبْعَةَ أَوْصَافٍ: أَحَدُهَا: الأمانة حتى لا يخون فيما ائتمن فيه. الثاني: صدق اللهجة حتى يوثف بِخَبَرِهِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ وَيُعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا ينهيه. الثالث: قلة الطمع حتى لا يرتشى فيمايل، ولا ينخدع فيتساهل. الرابع: أَنْ يَسْلَمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ عداورة وشحناء، لأن الْعَدَاوَةَ تَصُدُّ عَنْ التَّنَاصُفِ وَتَمْنَعُ مِنْ التَّعَاطُفِ. الخامس: أَنْ يَكُونَ ذُكُورًا لِمَا يُؤَدِّيهِ إلَى الْخَلِيفَةِ وعنه لأنه شاهد له وعليه. السادس: الذكاء والفطنة، حتى لا تلدس عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَتَشْتَبِهَ، وَلَا تُمَوَّهَ عَلَيْهِ فَتَلْتَبِسَ فلا يصح مع اشتباهها عزم، ولايتم مع التباسها حزم. السابع: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَيُخْرِجُهُ الهوى عن الحق إلى الباطل، ويتدلس عليه المحق المبطل، فإن الهوى خادرع الألباب، وضارف عن الصواب، وقد روى بعضهم عن النَّبِيُّ ﷺ " حُبُّكَ الشَّيْءَ يعمي ويصم". فإن كان هذ الْوَزِيرُ مُشَارِكًا فِي الرَّأْيِ احْتَاجَ إلَى وَصْفٍ ثَامِنٍ وَهُوَ الْحِنْكَةُ وَالتَّجْرِبَةُ الَّتِي تُؤَدِّيهِ إلَى صِحَّةِ الرَّأْيِ وَصَوَابِ التَّدْبِيرِ. فَإِنَّ فِي التَّجَارِبِ خبرة لعواقب الْأُمُورِ. وَإِنْ لَمْ يُشَارَكْ فِي الرَّأْيِ لَمْ يحتج إلى هذا الوصف.
ولا يجوز أن يقوم بِذَلِكَ امْرَأَةٌ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهَا مَقْبُولًا، لِمَا تضمنه من معاني الولايات المصروفة عن النساء. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ " مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ".
1 / 31
ولأن فيها طلب الرأي وثبات العزم وما يضعف عنه النساء، والبروز في مباشرة الأمور مما هو عليهن محظور. وقد قيل: إنه يجوز أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَزِيرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وإن لم يكن وزير التفويض منهم، إلَّا أَنْ يَسْتَطِيلُوا فَيَكُونُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الِاسْتِطَالَةِ. وكان الفرق بينهما من وجوه أربعة: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ مُبَاشَرَةُ الْحُكْمِ وَالنَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ، ولأنه لا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِتَقْلِيدِ الْوُلَاةِ وليس ذلك لوزير التنفيذ. ولأنه يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَسْيِيرِ الْجُيُوشِ وتدبير الحرب وليس ذلك لوزير التنفيذ. ولأنه لا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَمْوَالِ بيت المال بقبض ما يستحق له ودفع مَا يَجِبُ فِيهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ. فبان بهذا أنهما قد افترقا في حقوق النظر من هذه الوجوه الأربعة. ويفترقان أيضا في أربعة شروط: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ وغير معتبرة في وزارة التنفيذ. الثاني: أن الإسلام مُعْتَبَرٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي وزارة التنفيذ. الثالث: أن العلم بأحكام الشريعة مُعْتَبَرٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي وزارة التنفيذ. الرابع: المعرفة بأمر الحرب والخراج معتبرة في التفويض فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي وَزَارَةِ التنفيذ. وقد ذكر الخرقي ما يدل على أنه يجوز أن يكون وزير التنفيذ من أهل الذمة، لأنه قال " ولا يعطى من الصدقة لكافر ولا عبد" إلا أن يكونوا من العاملين فيعطوا بحق ما عملوا ". وروي عن أحمد ما يدل على المنع، لأنه قال في رواية أبي طالب - وقد سئل: نستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ فقال " لا يستعان بهم في شيء".
ويكون الوجه فيه قوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم إلا خبالًا) وقوله تعالى (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقوله ﵊ " لا تأمنوهم إذ خونهم الله". ويجوز للخليفة أن يقلد وزيري تنفيذ نظرت، فإن فوض إلى كل واحد منهما عموم النظر لم يصح لما ذكرنا. ثم ننظر، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَطَلَ تَقْلِيدُهُمَا مَعًا. وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ تَقْلِيدُ السابق وبطل تقليد المسبوق، وإن أشرك بينهما في النظر على اجتماعهما فيه ولم يَجْعَلَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ صح، وتكون الوزارة فيهما لا في النظر منهما، ولهما تنفيذ ما اجتمعا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُمَا تَنْفِيذُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى رَأْيِ الْخَلِيفَةِ وَخَارِجًا عَنْ نظر هذه الوزارة، وتكون هذه الوزارة تقصر عن وزارة التفويض المطلق من وجهين:
1 / 32
أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى تَنْفِيذِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. الثاني: زَوَالُ نَظَرِهِمَا عَمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ. فَإِنْ اتَّفَقَا بعد الاختلاف نظرت، فَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيٍ اجْتَمَعَا عَلَى صَوَابِهِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ دَخَلَ فِي نَظَرِهِمَا وَصَحَّ تنفيذه منهما، لأن تقدم الِاخْتِلَافِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كان عن مُتَابَعَةِ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ مَعَ بَقَائِهِمَا عَلَى الرَّأْيِ المختلف فهو خروج مِنْ نَظَرِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ الْوَزِيرِ تنفيذ ما لا يراه صوابًا. فإن لم يشرك بينهما في النظر، بل أفرد كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَمَلٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ النَّظَرِ خَاصَّ الْعَمَلِ، مِثْلَ أَنْ يَرُدَّ إلَى أَحَدِهِمَا وَزَارَةَ بِلَادِ الْمَشْرِقِ، وَإِلَى الْآخَرِ وَزَارَةَ بلاد المغرب، أو يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَظَرٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ الْعَمَلِ، خَاصَّ النَّظَرِ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَوْزِرَ أحدهما على الحرب والآخر على الخراج، صح تقليدهما عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ، وَيَكُونَانِ وَالِيَيْنِ عَلَى عَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لِأَنَّ وَزَارَةَ التَّفْوِيضِ مَا عَمَّتْ وَنَفَذَ أَمْرُ الوزير فِي كُلِّ عَمَلٍ وَكُلِّ نَظَرٍ، وَيَكُونُ تَقْلِيدُ كل واحد منهما مقصورا على ما خص بِهِ. وَلَيْسَ لَهُ مُعَارَضَةُ الْآخَرِ فِي نَظَرِهِ أو عمله.
وَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُقَلِّدَ وَزِيرَيْنِ، وَزِيرَ تَفْوِيضٍ ووزير تنفيذ، فوزير التفويض مطلق التصرف، ووزير التنفيذ مقصور على تنفيذ ما صدرت بِهِ أَوَامِرُ الْخَلِيفَةِ. وَلَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ أن يولي معزولًا ولا يَعْزِلَ مُوَلًّى. وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُوَلِّيَ معزولًا ويعزل مولاه، ولا يجوز له أن يعزل من ولاه الخليفة. وليس لوزير التفويض أَنْ يُوَقِّعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ الْخَلِيفَةِ إلا بإذنه. وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُوَقِّعَ عَنْ نَفْسِهِ إلَى عُمَّالِهِ وَعُمَّالِ الْخَلِيفَةِ، وَيَلْزَمُهُمْ قَبُولُ تَوْقِيعَاتِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَقِّعَ عَنْ الْخَلِيفَةِ إلَّا بأمره في عموم وخصوص. وَإِذَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْوُلَاةِ. وَإِذَا عَزَلَ وَزِيرَ التَّفْوِيضِ انْعَزَلَ بِهِ عُمَّالُ التَّنْفِيذِ، وَلَمْ يَنْعَزِلْ به عمال التفويض لأن عمالة التنفيذ نيابة، وعمالة التفويض ولاية. وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ نَائِبًا عَنْهُ. وَلَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ تَقْلِيدٌ. فَصَحَّ مِنْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ وَزِيرِ التَّنْفِيذِ. وَإِذَا نَهَى الْخَلِيفَةُ وَزِيرَ التَّفْوِيضِ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ لم يكن لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الوزيرين متصرف عن أمر الخليفة ونهيه وإن اقترف حُكْمُهُمَا مَعَ إطْلَاقِ التَّقْلِيدِ. وَإِذَا فَوَّضَ الْخَلِيفَةُ تدبير الأقاليم إلى ولاتها وكل النظر فيها إلى المستولي عليها. فالذي عليه أهل زماننا جواز ذلك. وَكَانَ حُكْمُ وَزِيرِهِ مَعَهُ كَحُكْمِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ مع الخليفة في اعتبار
1 / 33
الوزارتين. [تقليد الإمارة] وَإِذَا قَلَّدَ الْخَلِيفَةُ أَمِيرًا عَلَى إقْلِيمٍ أَوْ بلد، نظرت، فإن كانت إمارته عامة - وهو أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ الْخَلِيفَةُ إمَارَةَ بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ، وِلَايَةً عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ، وَنَظَرًا فِي الْمَعْهُودِ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ - فَيَصِيرُ عَامَّ النَّظَرِ فيما كان محدودًا من عمله. ويشمل نَظَرُهُ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: النَّظَرُ في تدبير الجيش، وترتبيهم فِي النَّوَاحِي، وَتَقْدِيرِ أَرْزَاقِهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الخليفة قدّرها. الثاني: النظر في الأحكام، وتقليد القضاة والحكام.
وقد نقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد في القوم يغزون مع الأمير أمر عليهم، فأمر ذلك الأمير أمرًا آخر، فقال: "إذا كان صاحبه أمره بذلك فلا بأس". ظاهر هذا: أنه إذا لم يأمره لم يجز. وهذا محمول على إمارة خاصة، ويأتي شرحها. الثالث: جباية الخراج، وقبض الصدقات، وتقليد العمال، وتفريق ما يستحق منها. الرابع: حماية الحريم، والذب عن البيضة، ومراعاة الدين، من تغيير أو تبديل. الخامس: إقامة الحدود في تحق الله تعالى وحقوق الآدميين. السادس: الإمامة في الجمع والجماعات، حتى يقوم بها، أو يستخلف عليها. السابع: تسيير الحجيج من عمله، ومن غَيْرِ أَهْلِهِ، حَتَّى يَتَوَجَّهُوا مُعَانِينَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كان هذا الإقليم ثغرًا متاخما للعدو جاهد مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْأَعْدَاءِ، وَقَسْمُ غَنَائِمِهِمْ فِي المقاتلة، وأخذ خمسها لأهل الخمس. ويعتبر في هذه الإمارة الشروط المعتبرة في وزارة التفويض. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي عَقْدِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ، فَإِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ تَوَلَّاهُ، كَانَ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ عليه حق المراعاة والتصفح. وإن لم يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ، وَلَا نَقْلُهُ مِنْ إقْلِيمٍ إلى إقليم غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَزِيرُ قَدْ تَفَرَّدَ بِتَقْلِيدِهِ، نظرت فإن قلده عن الخليفة لم يجز له عزله ولا نقله من عمل إلى غيره، إلا عن إذن الخليفة. وَلَوْ عُزِلَ الْوَزِيرُ لَمْ يَنْعَزِلْ هَذَا الْأَمِيرُ، وإن قلده عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْهُ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَزْلِهِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِ، بِحَسَبِ مَا يؤديه الاجتهاد إليه من النظر في الأصلح. ولو أطلق تَقْلِيدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِأَنَّهُ عن نفسه ولا عن الخليفة، كَانَ التَّقْلِيدُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بعزله، متى عزل الوزير انعزل هذا الأمير، إلا أن يقرّه الخليفة
1 / 34
عَلَى إمَارَتِهِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ تَجْدِيدَ وِلَايَةٍ وَاسْتِئْنَافَ تقليد، غير أنه لا يحتاج في ألفاظ الْعَقْدِ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ من الشروط. ويكفي أن يقول الخليفة " قد أقررتك على ولايتك".
ويحتاج في ابتداء تقليدها أن يقول " قَلَّدْتُكَ نَاحِيَةَ كَذَا إمَارَةً عَلَى أَهْلِهَا" وَنَظَرًا في جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، عَلَى تَفْصِيلٍ لَا يدخله إجمال، ولا يتناوله احتمال". وإذا قلد الخليفة هذه الأمور لم يكن فيها غزل لِلْوَزِيرِ عَنْ تَصَفُّحِهَا وَمُرَاعَاتِهَا، وَإِذَا قَلَّدَ الْوَزَارَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَزْلٌ لِهَذَا الْأَمِيرِ عَنْ إمَارَتِهِ، لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ عُمُومُ التَّقْلِيدِ وَخُصُوصُهُ فِي الْوِلَايَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ كَانَ عُمُومُ التَّقْلِيدِ مَحْمُولًا فِي الْعُرْفِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَخَصِّ وَتَصَفُّحِهِ، وَكَانَ خُصُوصُ التَّقْلِيدِ مَحْمُولًا عَلَى مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ وَتَنْفِيذِهِ. ولا يجوز لهذا الوزير أن يستوزر وزيرًا إلا عن إذن الخليفة وبأمره، لِأَنَّ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ مُعَيَّنٌ، وَوَزِيرَ التَّفْوِيضِ مُسْتَبِدٌّ. وَإِذَا أَرَادَ هَذَا الْأَمِيرُ أَنْ يَزِيدَ فِي أرزاق الجيش لِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يَجُزْ، لِمَا فِيهِ مِنْ استهلاك مال في غر حَقٍّ، وَإِنْ زَادَهُمْ لِحُدُوثِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ نُظِرَ فِي السَّبَبِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُرْجَى زَوَالُهُ. كَالزِّيَادَةِ لِغَلَاءِ سِعْرٍ، أَوْ حُدُوثِ حَدَثٍ، أَوْ نَفَقَةٍ فِي حَرْبٍ، جَازَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَدْفَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَلْزَمُهُ استثمار الخليفة فيها، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقٍ السِّيَاسَةِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اجْتِهَادِهِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الزِّيَادَةِ مِمَّا يَقْتَضِي اسْتِقْرَارَهَا على التأبيد، كالزيادة في الحرب أبلوا فيها وقاموا بالنصر حتى انجلت، وقف ذلك على استثمار الخليفة، ولم يكن له التفرد بإمضائها. ويجوز له أَنْ يَرْزُقَ مَنْ بَلَغَ مِنْ أَوْلَادِ الْجَيْشِ وَيَفْرِضَ لَهُمْ الْعَطَاءَ بِغَيْرِ أَمْرٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْرِضَ لِجَيْشٍ مُبْتَدَإٍ إلَّا بِأَمْرٍ. وَإِذَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ فَاضِلٌ عَنْ أَرْزَاقِ جَيْشِهِ حَمَلَهُ إلَى الْخَلِيفَةِ، لِيَضَعَهُ فِي بَيْتِ المال العالم الْمُعَدِّ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَإِذَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ فَاضِلٌ عَنْ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ إلَى الْخَلِيفَةِ، وَصَرْفُهُ فِي أَقْرَبِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ مِنْ عَمَلِهِ. وَإِذَا نَقَصَ مَالُ الْخَرَاجِ عن أرزاق جيشه طالب الخليفة بتمامها من بيت المال، وإن نَقَصَ مَالُ الصَّدَقَاتِ عَنْ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يكن له مطالبة الخليفة بتمامها، لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْجَيْشِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَحُقُوقُ أَهْلِ الصدقات معتبرة بالوجود.
وإذا تقلد الْأَمِيرِ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ، لَمْ يَنْعَزِلْ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْوَزِيرِ انْعَزَلَ بِمَوْتِ الْوَزِيرِ، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْخَلِيفَةِ نِيَابَةٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْلِيدَ الْوَزِيرِ نِيَابَةٌ عَنْ نَفْسِهِ.
1 / 35
وَيَنْعَزِلُ الْوَزِيرُ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَزِلْ به الأمير، لأن الوزارة نيابة عن المسلمين. فهذا حكم الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ إمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ الْمَعْقُودَةِ عَنْ اختيار وتقدم. فأما إمارة الْخَاصَّةُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ مَقْصُورَ الْإِمَارَةِ على تدبير الجيوش، وسياسة الرعية، حماية الْبَيْضَةِ، وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يتعرض للقضاء والأحكام، ولا لجباية الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ. فَأَمَّا إقَامَةُ الْحُدُودِ، فَمَا افْتَقَرَ منها إلى اجتهاد لاختلاف الفقهاء، أما افتقر إلى إقامة بينة، لتناكر المتنازعين فيه لم يكن لَهُ التَّعَرُّضُ لِإِقَامَتِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَارِجَةِ عَنْ خُصُوصِ إمَارَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى اجتهاد وَلَا بَيِّنَةٍ، أَوْ افْتَقَرَ إلَيْهِمَا فَنَفَذَ فِيهِ اجتهاد الحاكم، أو قامت به البينة عنده، نظرت، فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ - كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ - كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الطَّالِبِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى الحاكم كان الحاكم أحق باستيفائه له، لدخوله في جملة الحقوق التي ندب الحكام إلَى اسْتِيفَائِهَا. وَإِنْ عَدَلَ الطَّالِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ أو القصاص إلَى هَذَا الْأَمِيرِ كَانَ الْأَمِيرُ أَحَقَّ بِاسْتِيفَائِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعُونَةٌ عَلَى استيفاء حق، وصاحب المعونة هو الأمير أحق باستيفائه، لأنه ليس يحكم، وإنما هو معونة على استيفاء حق، وصاحب المعونة هو الأمير دون الحاكم، وإن كَانَ هَذَا الْحَدُّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى المحضة، كحدّ الزنا: جلد أو رجم، فَالْأَمِيرُ أَحَقُّ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ الْحَاكِمِ، لِدُخُولِهِ فِي قَوَانِينِ السِّيَاسَةِ، وَمُوجِبَاتِ الْحِمَايَةِ، وَالذَّبِّ عَنْ الْمِلَّةِ فَدَخَلَ فِي حُقُوقِ الْإِمَارَةِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إلَّا بِنَصٍّ، وَخَرَجَ مِنْ حُقُوقِ الْقَضَاءِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا بِنَصٍّ.
وَأَمَّا نَظَرُهُ فِي الْمَظَالِمِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا نَفَذَتْ فِيهِ الْأَحْكَامُ، وَأَمْضَاهُ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ جَازَ لَهُ النَّظَرُ فِي استيفائه، معونة للمحق على المبطل، وانتزاعا للحق من المعترف المماطل، لأنه موكول إليه الْمَنْعِ مِنْ التَّظَالُمِ وَالتَّغَالُبِ، وَمَنْدُوبٌ إلَى الْأَخْذِ بالتعاطف والتناصف. وإن كَانَتْ الْمَظَالِمُ مِمَّا تُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْأَحْكَامُ وَيُبْتَدَأُ فيها بالقضاء، مُنِعَ مِنْهُ هَذَا الْأَمِيرُ، لِأَنَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَتَضَمَّنْهَا عَقْدُ إمَارَتِهِ، وَرَدَّهُمْ إلَى حَاكِمِ بَلَدِهِ، فَإِنْ نَفَذَ حُكْمُهُ لِأَحَدِهِمْ بِحَقٍّ قَامَ بِاسْتِيفَائِهِ إنْ ضَعُفَ عَنْهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ لم يكن في بلده حاكم عدل بهما إلَى أَقْرَبِ الْحُكَّامِ مِنْ بَلَدِهِ، إنْ لَمْ يَلْحَقْهُمَا فِي الْمَصِيرِ إلَيْهِ مَشَقَّةٌ، فَإِنْ لَحِقَتْ لم يكلفهما ذلك، واستأمير الخليفة فيما تنازعاه ونفذ فيه حكمه. وَأَمَّا تَسْيِيرُ الْحَجِيجِ مِنْ عَمَلِهِ فَدَاخِلٌ فِي أَحْكَامِ إمَارَتِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعُونَاتِ الَّتِي ندب إليها.
1 / 36
وأما إمارة الصلاة في الجمع والأعياد والجنائز فالأمراء أخص بها من القضاة وقد قال: أحمد في رواية ابن القاسم "إذا حضر الأمير فهو أحق على ما فعل الحسين بن علي". فَإِنْ تَاخَمَتْ وِلَايَةُ هَذَا الْأَمِيرِ ثَغْرًا، لَمْ يَبْتَدِئَ جِهَادَ أَهْلِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ عليه دفعهم وحربهم إن هجموا عليه بغير إذن، لِأَنَّ دَفْعَهُمْ مِنْ حُقُوقِ الْحِمَايَةِ، وَمُقْتَضَى الذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ. وَيُعْتَبَرُ فِي وِلَايَةِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَزَارَةِ التَّنْفِيذِ، وَزِيَادَةُ شَرْطَيْنِ، هما: الإسلام، والحرية، لأجل ما تضمنتها من الولاية على الأمور الدينية التي لَا تَصِحُّ مَعَ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ، وَلَا يُعْتَبَرُ فيها العمل والفقه، فإن كَانَ فَزِيَادَةُ فَضْلٍ. فَصَارَتْ شُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ معتبرة بشرو وزارة التفويض، لاستوائهما في عموم النظر، وإن افترقا فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ. وَشُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْخَاصَّةِ تَقْصُرُ عَنْ شُرُوطِ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ، بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْعِلْمُ، لِأَنَّ لِمَنْ عَمَّتْ إمَارَتُهُ أَنْ يَحْكُمَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ خَصَّتْ إمَارَتُهُ.
وَلَيْسَ عَلَى أحد من هذين الأمرين مطالعة الخليفة بما أمضياه في عملهما على مقتضى إمارتهما إلا على وجه الاحتياط، فإن حدث غير معهود وقفاه على مطالعة الإمام، وعملا فيه برأيه. فإن خافا من اتساع الخرق - إن وقفاه - قاما بما يدفع الخصومة، حتى يرد عليهما أمر الْخَلِيفَةِ فِيمَا يَعْمَلَانِ بِهِ، لِأَنَّ رَأْيَ الْخَلِيفَةِ أمضى في الحوادث النازلة لإشرافه على عموم الأمور. فأما إمارة الاستيلاء التي تعقد على اضْطِرَارٍ فَهِيَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْأَمِيرُ بِالْقُوَّةِ عَلَى بلاده يُقَلِّدُهُ الْخَلِيفَةُ إمَارَتَهَا، وَيُفَوِّضُ إلَيْهِ تَدْبِيرَهَا وَسِيَاسَتَهَا فيكون الأمير باستيلائه مستبدًا بالخليفة في تدبير السياسة، وتنفيذ الأحكام الدينية ليخرج عن الفساد إلى الصحة، وعن الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ. وَهَذَا وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عرف التقليد المطلق، ففيه من حقظ القوانين الشرعية ما لا يجوز أن يترك فاسدا، فَجَازَ فِيهِ مَعَ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاضْطِرَارِ مَا امْتَنَعَ في تقليد الاستكفاء والاختيار.
1 / 37