Ahkam Asat al-Mu'minin Min Kalam Sheikh al-Islam Ibn Taymiyyah - Kajak
أحكام عصاة المؤمنين من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - كجك
Mai Buga Littafi
دار الكلمة الطيبة
Lambar Fassara
الأولى ١٤٠٥ هـ
Shekarar Bugawa
١٩٨٥ م
Inda aka buga
القاهرة
Nau'ikan
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
بقلم مروان كجك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فما أحوجنا اليوم - وقد تعاظمت المؤامرة على الإسلام وتشعبت- لاستقراء ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، في عمق إيمانهم ورسوخ علمهم وصدق ما عاهدوا الله عليه، فلا نتخبط في سيرنا، ولا يعيش أكثرنا كل يوم بفكر، وكل شهر بمنهاج، كيلا تصيبنا الطامة المهلكة التي تشتت الجموع، وتبعثر الجهود وتفرق الأمة ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ .
بل لابد من اتباع منهج الصحابة، رضوان الله عليهم، لأنهم أقرب إلى فهم الرسالة، فهم الذين تلقوا الشريعة ساخنة من فم صاحبها، وكانوا أصحاب فهم وصدق وإخلاص.. سار على نهجهم السلف الصالح الذين حملوا الأمانة بصدق، ودراية، وهمة ما عرف التاريخ لها مثيلا.
ولابد لنا من الإطلاع على ما خطته أقلام أولئك القدوات المهديين، تمهيدا لإتباعهم، والسير على منوالهم، ومنهاجهم، لنتخلص من كل فكر دخيل، أو وافد، يميل بنا عن الصراط المستقيم، فلا يجد فينا من يقبل التفريط أو يقبل على الإفراط، بل نجد من يوطن نفسه على أن يكون فردا في جماعة جعلها الله أمة وسطا فلا نطلق الأحكام جزافا بغير روية وعلم، فنلصق الكفر بغير أهله، ونمنح الإيمان والإسلام لغير أهله ونجعل الناس سواء في الأحكام دون النظر إلى
1 / 5
حالة كل إنسان ودرجة علمه، واختلطت الأحكام وتشعبت ولم ينزل كل إنسان منزلته، ولم تقيم الأمور بموازين الشرع الصحيحة، وصرنا نسمع - حتى بين أولئك الذين ينبغي أن يقدروا مواقعهم في القدوة أمام الشباب المسلم اليوم- من يتحدث عن موقف سياسي، وآخر تكتيكي، إلى آخر ما ابتدع من اصطلاحات الهروب والزيغ، مما أفضى بنا إلى متاهة الصراع حول الأوضاع والأشخاص الذين يستغلون سمو الإسلام، وحماس الشباب، وأحلامهم، ناسين أو متناسين أن الزراعة في الفضاء والفراغ غير ممكنة ... وأن الابتعاد عن منهج التصور الإسلامي لكل شيء لا يخلف إلا آلاما، ولا يسوق إلا إلى صراعات مدمرة داخل العمل الإسلامي، وفقدان الثقة، والأمل، مما يؤدي إلى الإحباط، واليأس، والانسحاب من الصف الإسلامي الذي يعمل الأعداء دائما على تقويض أركان بنيانه، وسلخ أبنائه عنه، فتزداد الجاهلية قوة، تحتل مواقع لها جديدة، تستطيع من خلالها تصويب سهامها إلى المقاتل المكشوفة التي لا جنود حولها يذودون عنها أو يدافعون عن سموها ...
وأمام هذا الواقع المؤلم كان لا بد من الرجوع إلى السلف الصالح الذين خاضوا التجربة، وسبروا أغوارها، وأيقنوا أن النظرة الشرعية هي التي ينبغي علينا دائما الاسترشاد بها في تقييم الأشياء، والأوضاع والأشخاص، وكذلك النظرة المستقبلية التي لا بد أن تقوم على أساس شرعي واضح ليس فيه للهوى محل ولا للانهزام نصيب ...
وهكذا، اقتضى الواقع الإسلامي اليوم ضرورة الرجوع إلى منهاج سلفنا الصالح، والتحصن في قلاع الحق، فلا ندع مكانا لرأي خارج عن الشريعة يعمل في صفوف المسلمين ليصرفهم عن الغاية التي أرسل الرسل من أجلها.
ومع ابن تيمية نسير في صراط مستقيم –إن شاء الله- واضعين التصور الإسلامي منهجا ينظر من خلاله إلى الأشخاص والأوضاع والأحوال، غير آبهين
1 / 6
بمسميات يستغل بريقها على ساحة العمل الإسلامي اليوم، ولا يخفى المراد منها إلا على النعام أو الأطفال.
ويجدر بنا في وقت كثر فيه الكلام عن التفسيق والتكفير، واللعن والتخليد في النار، أن نصغي إلى كلمة الحق فننزل الناس منازلهم التي أنزلهم إياها الشرع، فلا نبارك الاستهانة بأمر الدين، ولا نغلو في الأحكام غلوا يفوتنا فيه الحق، فلا نربي فينا مستخفا متهاونا، ولا ندفع أحدا إلى قنوط أو يأس، ولا نساهم في بناء إنسان، لا يرى الآخرين إلا كفارا أو فساقا، أو لآبقين، كذلك، ولا ننشىء في أحد تصور يرى من خلاله الناس كلهم صالحين وأمرهم موكول إلى ربهم ...
وتأتي مسألة التكفير في طليعة ما بعاني منه الشباب اليوم من عدم وضوح الرؤية وسلامة النظرة. وهنا لابد من وضع الأمر في نصابه وتجليته تماما أمام الباحثين عن الحقيقة. وفي هذا يقول ابن تيمية ﵀ فيما يكفر به الشخص عند أهل السنة والجماعة: "إنه تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب، ولا يخرجونه من الإسلام بعمل إذا كان فعلا منهيا عنه، مثل الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان، وأما إن تضمن ترك ما أمر الله بالإيمان به مثل الإيمان بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، فإنه يكفر به، وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وعدم تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة". ويقول في موضع آخر: "من جحد مباني الإسلام فهو كافر بالاتفاق" حتى ولو أقتنى أشرطة تسجيل القرآن المرتل والمجود، أو زين خطبه وكلماته بآيات الله البينات أو ادعى كذبا وبهتانا أنه لا يريد إلا خير الإسلام والمسلمين.
أما فساق أهل الملة، فيقول ﵀ في حقهم: "يؤمن أهل السنة والجماعة
1 / 7
بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي ﷺ ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته".
ولا يغرنك كثرة القائلين ب "لا إله إلا الله" وهم أبعد الناس عن حق هذه الكلمة وحقيقتها، وبرهانها، وهم يجحدون ما أمر الله به، ويعملون على صرف أهل الإيمان عن لوازم الإيمان ومقتضياته. وفي أمثال هؤلاء يقول ابن تيمية: "فقد يقول إنسان: لا إله إلا الله، ويجحد وجوب الصلاة والزكاة، فهذا كافر يجب قتله" ولن يكون الإيمان كلاما يقال بل لابد من عمل يؤيده ويصدقه وفي ذلك يقول: "من أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول وعمل".
وفي موضع آخر ينبه إلى صنف آخر من الذين يكفرون ولو قالوا "لا إله إلا الله" وهم مما لا يخلو منهم عصر ممن لم يحتمل العيش في الظل، فأطل برأسه غرورا وتيها لما لم يجد من لم يسفع ناصيته الخاطئة الكاذبة أولئك الذين يكذبون الرسول ﷺ. وهل رفض السنة إلا التكذيب الفاضح للرسول ﷺ الموصوف من ربه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ يقول ﵀: "من قال بلسانه لا إله إلا الله، وكذب الرسول فهو كافر باتفاق المسلمين".
ومع ذلك فلا يجوز الإسراع في إصدار الأحكام على الناس بغير علم، أو تكفير المسلمين تبعا لهوى في أنفسنا أو تبعا لتفسير لا يحتمل معه كفر محض، بل لابد من الرجوع في ذلك إلى أهل الذكر، ومعرفة ما تنازع فيه المسلمون حتى لا نطلق الأحكام جزافا، فنضع في اللوحة المضيئة من نضع، ونخض بالقائمة السوداء من نخض، وفي هذا المعنى يقول ﵀: "لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة".
1 / 8
وليس الكفر ضرورة لازمة للكافر لا يمكن الانعتاق منه، بل باستطاعته أن يؤمن بالله ورسوله، ويتبع سبيل المؤمنين، وقد أمر الله نبيه أن يبلغ الكافرين بأنهم إن انتهوا من كفرهم يغفر الله لهم ما قد سلف: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف". وفي ذلك يقول رسول الله ﷺ لعمرو بن العاص ﵁: "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله". وهذا ما أشار إليه ابن تيمية في قوله: "تقبل توبة الداعي إلى الكفر وتوبة من فتن الناس عن دينهم".
والتوبة باب واسع من أبواب رحمة الله بعباده وهي واجبة على كل عبد: "إن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال، لأنه دائما يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور، فعليه أن يتوب دائما".
وما أكثر ما يمحو الله به الذنوب وينهي فيه الوعيد عن أهله "فالوعيد ينتهي عنه –أي عن صاحب الذنب-:إما بتوبة، وإما بحسنات يفعلها تكافئ سيئاته، وإما بمصائب يكفر بها خطاياه، وإما بغير ذلك".
وليس هناك ذنب لا يغفر للمستغفرين الصادقين في استغفارهم، المشفقين من عذاب الله "إن الله يغفر كل ذنب، الشرك والقتل والزنا، وغير ذلك من حيث الجملة، فهي عامة في الأفعال مطلقة في الأشخاص". فرحمة الله وسعت كل شيء ولا غرابة في ذلك أليس الله سبحانه هو القائل في كتابه المجيد: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ أي لمن تاب رغم أنف الذين يحتكرون حق توزيع المغفرة على من يشاؤون، وحجزها عمن يشاؤون ...
ولا يخلد في النار موحد مات على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ﷺ: "من مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار". و"إن كان من أهل
1 / 9
الكبائر فأمره إلى الله: إن شاء عذب وإن شاء غفر له"، "فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدا كان في النار"، "فالسيئات تحبطها التوبة، والحسنات تحبطها الردة" و"من غفر له لم يعذب ومن لم يغفر له عذب، وهذا مذهب السلف والصحابة والأئمة" و"من كان له حسنات وسيئات فإن الله لا يظلمه، بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره". ولا بد قبل ذلك كله من معرفة الحق والفقه في دين الله لتطابق الأحكام الأحوال، فلا نظلم أحدا، ولا نفرط في حق أحد، فحكم أئمة الناس غير حكم عامتهم. وفي ذلك يقول ابن تيمية ﵀: "فالمتأول والجاهل والمعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر بل قد جعل الله كل شيء قدرا" معتمدا في ذلك الرأي على قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ وقول النبي ﷺ في الصحيحين: "ما أحد أحب بغليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين".
ويعلن ابن تيمية رأيه صراحة في أمور التكفير، والتفسيق، والعصيان، فيقول: "إني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية إلا قد علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى’ وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية والمسائل القولية".
فعلى دعاة الإسلام وشبابه أن يعوا هذه الحقائق والأحكام، وهم أكثر الناس حاجة لمعرفتها والإحاطة بمراميها والأخذ بها بكل حكمة وروية، وأن ينظروا إليها مجتمعة غير مجزأة فمن اجتزأ من الإسلام أحكاما وأضرب عن أحكام لم يسر إلا في طريق ملتوية تقود إلى تجارب مخفقة كتلك التجارب التي تبرز بين الحين والآخر على الساحة الإسلامية، فيتخذها المعاندون في الأرض ذريعة لضرب الحركة الإسلامية والتنكيل بأهلها تشريدا وتعذيبا وقتلا.
1 / 10
ولا يذهبن بنا الغرور إن عرفنا طرفا من العلم أن ذلك يكفينا، وينير لنا السبيل ولكن لنعلم أنه لابد من الأخذ عن أهل العلم والمعرفة المخلصين الواعين الذين ينظرون الشريعة، ويبصرون ببصائر الحق، ولا نحكم بغير علم وروية، فللعلم عدته، وللتتلمذ مدته، ولا تستساغ الثمار إلا ناضجة، ولا يجتني الزرع إلا إذا استحصد ولنعد تلامذة في مدرسة الإسلام نتلقى للعلم، ونعد للحركة، ولا تنحرف بنا الآمال والأحلام عن نسيان الواقع، لنحسن التعامل معه على الوجه الأمثل الذي رسمه الإسلام، وخطته الشريعة، وفهمه الأوائل، وطبقه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
وإني لأرجو الله ﷾ أن تؤدي هذه الرسالة المجموعة من خلال كتب ابن تيمية الغرض المبتغى منها، فيسترشد بها الشباب، وتكون تبصرة لأولي الألباب ممن يريد أن يعمل على تبليغ الدعوة، ويود لو استطاع حمل الأمانة بجدارة تساوي ثقل المهمة الملقاة على عاتق هذا الجيل من المسلمين، والله أسال أن ينفعني بها والمسلمين. والمثوبة لا ترجى إلا من الله الذي أطمع أن يجعلها لي مغفرة لخطيئتي يوم الدين. اللهم آمين.
القاهرة في ١٧ رمضان ١٤٠٤هـ
الموافق ١٧ حريزان (يونيو) ١٩٨٤
مروان كجك
1 / 11
الوعد والوعيد
الوعد والوعيد
...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
"الوعد والوعيد"
قال رحمه الله١:
وأما قول القائل: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، واحتجاجه بالحديث المذكور.
فيقال له: لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ ٢ وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ ٣. ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، والعبد عليه أن يصدق بهذا وبهذا، لا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فهؤلاء المشركون أرادوا أن يصدقوا بالوعد ويكذبوا بالوعيد.
"والحرورية والمعتزلة": أرادوا أن يصدقوا بالوعيد دون الوعد، وكلاهما أخطأ، والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد
_________
١-ص٢٧٠ ج ٨ مجموع الفتاوى.
٢-الآية ١٠ سورة النساء.
٣-الآية ٢٩ سورة النساء.
1 / 15
الله به العبد من العقاب، قد بين سبحانه انه بشروط: بأن لا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه، وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه: فإن الحسنات يذهبن السيئات، وبأن لا يشاء الله أن يغفر له ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾ ١. فهكذا الوعد له تفسير وبيان، فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله وكذب الرسول فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك عن جحد شيئا مما أنزل الله.
فلا بد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول ﷺ، ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدا كان في النار، فالسيئات تحبطها التوبة، والحسنات تحبطها الردة، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، والله تعالى قد يتفضل عليه ويحسن إليه بمغفرته ورحمته.
ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار، فالزاني والسارق لا يخلد في النار، بل لا بد أن يدخل إلى الجنة، فإن النار يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، وهؤلاء المسؤول عنها يسمون القدرية المباحية المشركين. وقد جاء في ذمهم من الآثار ما يضيق عنه هذا المكان والله ﷾ أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
_________
١-الآية ٤٨ سورة النساء.
قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة١. فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية، والرافضة ونحوهم: _________ ١-ص٤٩٩ ج ٢٨ مجموع الفتاوى.
قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة١. فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية، والرافضة ونحوهم: _________ ١-ص٤٩٩ ج ٢٨ مجموع الفتاوى.
1 / 16
فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم، كالداعية إلى مذهبه، ونحو ذلك مما فيه فساد. فإن النبي ﷺ قال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" ١. وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" ٢. وقال عمر لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض، فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا، ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول، أو كان في قتله مفسدة راجحة. ولهذا ترك النبي ﷺ قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه، ولم يكن إذا ذاك فيه فساد عام، ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا، وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا لأهل الجماعة، ولم يكن يتبين له أنهم هم.
_________
١-متفق عليه. أخرج البخاري في كتاب الأنبياء باب علامات النبوة. ومسلم في كتاب الزكاة باب التحريض على قتل الخوارج.
٢-أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب التحريض على قتال الخوارج.
تكفيرهم وتخليدهم: وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران: وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول ﷺ كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا، وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه. فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له وقد بسطت هذه القاعدة في "قاعدة التكفير".
تكفيرهم وتخليدهم: وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران: وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول ﷺ كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا، وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه. فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له وقد بسطت هذه القاعدة في "قاعدة التكفير".
1 / 17
ولهذا لا يحكم النبي ﷺ بكفر الذي قال: إذا أنا مت فاحرقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، مع شكه في قدرة الله وإعادته، ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول ﷺ بعث بذلك، فبطلق أن هذا القول كفر، ويكفر من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، دون غيره، والله أعلم.
النار الكبرى:١ وقوله: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى﴾ ٢. وقد ذكر في سورة الليل قوله: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ ٣. وهذا الصلي قد فسره النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم –أو قال: بخطاياهم- فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل يا أهل الجنة! أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". فقال رجل من القوم: كأن رسول الله ﷺ قد كان بالبادية. _________ ١-ص ١٩٤ ج ١٦ مجموع الفتاوى. ٢-االآية ١١ سورة الأعلى. ٣-الآية ١٤-١٦ سورة الليل.
النار الكبرى:١ وقوله: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى﴾ ٢. وقد ذكر في سورة الليل قوله: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ ٣. وهذا الصلي قد فسره النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم –أو قال: بخطاياهم- فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل يا أهل الجنة! أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". فقال رجل من القوم: كأن رسول الله ﷺ قد كان بالبادية. _________ ١-ص ١٩٤ ج ١٦ مجموع الفتاوى. ٢-االآية ١١ سورة الأعلى. ٣-الآية ١٤-١٦ سورة الليل.
1 / 18
وفي رواية ذكرها ابن أبي حاتم فقال: ذكر عن عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا أبي، ثنا سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، أن رسول الله ﷺ خطب، فأتى على هذه ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى﴾، فقال النبي ﷺ: "أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون. وأما الذين ليسوا من أهل النار فإن النار تميتهم، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم إلى نهر يقال له الحياة، أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل ".
فقد بين النبي ﷺ أن هذا الصلي لأهل النار الذين هم أهلها، وأن الذين ليسوا من أهلها فإنها تصيبهم بذنوبهم، وأن الله يميتهم فيها حتى يصيروا فحما، ثم يشفع فيهم فيخرجون ويؤتى بهم إلى نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل.
وهذا المعنى مستفيض عن النبي ﷺ -بل متواتر- في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهما.
وفيها الرد على طائفتين: على الخوارج، والمعتزلة الذين يقولون "إن أهل التوحيد يخلدون فيها"، وهذه الآية حجة عليهم، وعلى من حكي عنه من غلاة المرجئة "أنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد".
فإن إخباره بأهل التوحيد يخرجون منها بعد دخولها تكذيب لهؤلاء وهؤلاء.
وفيه رد على من يقول: "يجوز أن لا يدخل الله من أهل التوحيد أحدا النار" كما يقوله طائفة من المرجئة الشيعة، ومرجئة أهل الكلام المنتسبين إلى السنة –وهم الواقفة من أصحاب أبي الحسن وغيرهم، كالقاضي أبي بكر وغيره، فإن النصوص المتواترة تقتضي دخول بعض أهل التوحيد وخروجهم. والقول ب"أن أحدا لا يدخلها من أهل التوحيد، ما أعلمه ثابتا عن شخص
1 / 19
معين فأحكيه عنه. لكن حكي عن مقاتل بن سليمان وقال: احتج من قال ذلك بهذه الآية.
وقد أجيبوا بجوابين:
أحدهما: جواب طائفة، منهم الزجاج، قالوا: هذه نار مخصوصة. لكن قوله بعدها ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى﴾ لا يبقى فيه كبير وعد، فإنه إذا جنب تلك النار جاز أن يدخل غيرها.
وجواب آخرين قالوا: لا يصلونها صلي خلود، وهذا أقرب.
وتحقيقه أن الصلي هنا هو الصلي المطلق، وهو المكث فيها والخلود عللى وجه يصل العذاب إليهم دائما.
فأما من دخل وخرج فإنه نوع من الصلي، ليس هو الصلي المطلق لا سيما إذا كان قد مات فيها والنار لم تأكله، فإنه قد ثبت أنها لا تأكل مواضع السجود، والله أعلم.
أصناف بعيدة عن الحق:١ وقال ﵀ بعد حديث له عن إبليس وهو أول من عادى الله: "وزاد قوم في ذلك حتى عطلوا الأمر والنهي والوعد والوعيد رأسا. ومال هؤلاء إلى الإرجاء. كما مال الأولون إلى الوعيد. فقالت الوعيدية: كل فاسق خالد في النار –لا يخرج منها أبدا، وقالت الخوارج: هو كافر. وغالية المرجئة أنكرت عقاب أحد من أهل القبلة ومن صرح بالكفر أنكر الوعيد في الآخرة رأسا، كما يفعله طوائف من الاتحادية، والمتفلسفة، والقرامطة، والباطنية، وكان هؤلاء _________ ١-ص٢٤١ ج ١٦ مجموع الفتاوى.
أصناف بعيدة عن الحق:١ وقال ﵀ بعد حديث له عن إبليس وهو أول من عادى الله: "وزاد قوم في ذلك حتى عطلوا الأمر والنهي والوعد والوعيد رأسا. ومال هؤلاء إلى الإرجاء. كما مال الأولون إلى الوعيد. فقالت الوعيدية: كل فاسق خالد في النار –لا يخرج منها أبدا، وقالت الخوارج: هو كافر. وغالية المرجئة أنكرت عقاب أحد من أهل القبلة ومن صرح بالكفر أنكر الوعيد في الآخرة رأسا، كما يفعله طوائف من الاتحادية، والمتفلسفة، والقرامطة، والباطنية، وكان هؤلاء _________ ١-ص٢٤١ ج ١٦ مجموع الفتاوى.
1 / 20
الجبرية المرجئة أكفر بالأمر والنهي والوعد والوعيد من المعتزلة الوعيدية القدرية.
وأما مقتصدة المرجئة الجبرية الذين يقرون بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأن من أهل القبلة من يدخل النار، فهؤلاء أقرب الناس إلى أهل السنة. وقد روى الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال: "لعنت القدرية والمرجئة سبعين نبيا أنا آخرهم".
لكن المعتزلة من القدرية أصلح من الجبرية والمرجئة ونحوهم في الشريعة –علمها وعملها- فكلامهم في أصول الفقه وفي اتباع الأمر والنهي خير من كلام المرجئة من الأشعرية وغيرهم. فإن كلام هؤلاء في أصول الفقه قاصرا جدا، وكذلك هم مقصرون في تعظيم الطاعات والمعاصي. ولكن هم في أصول الدين أصلح من أولئك، فإنهم يؤمنون من صفات الله وقدرته مخلقه بما لا يؤمن به أولئك فلهذا كانت المرجئة في الجملة خيرا من القدرية، حتى إن الإرجاء دخل فيها الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم، بخلاف الاعتزال، فإنه ليس فيه أحد من فقهاء السلف وأئمتهم.
الرد على الوعيدية والواقفية:١ قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني قدس الله روحه. فصل: في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه﴾ ٢. وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين، _________ ١-ص ١٨ ج ١٦ مجموع الفتاوى. ٢- الآية ٥٣ -٥٤ سورة الزمر.
الرد على الوعيدية والواقفية:١ قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني قدس الله روحه. فصل: في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه﴾ ٢. وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين، _________ ١-ص ١٨ ج ١٦ مجموع الفتاوى. ٢- الآية ٥٣ -٥٤ سورة الزمر.
1 / 21
وأما آيتا النساء قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ١ فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضا بنصوص القرآن واتفاق المسلمين. وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق، هذه خص فيها الشرك بأنه لا يغفر، وما عداه لا يجزم بمغفرته، بل علقه بالمشيئة فقال: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ .
وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه كما ترد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، فهي ترد أيضا على المرجئة الواقفية الذين يقولون: "يجوز أي يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع فإنه قد قال: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فأثبت أن ما دون ذلك فهو مغفور لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك وأن المغفرة هي لمن يشاء جدل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس.
وحينئذ فمن غفر له لم يعذب، ومن لم يغفر عذب، وهذا مذهب السلف والصحابة والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار وبعضه يغفر له، لكن هل ذلك على وجه الموازنة والحكمة ولا اعتبار للموازنة؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم، بناء على أصل الأفعال الإلهية هل يعتبر فيها الحكمة والعدل. وأيضا فمسألة الجزاء فيها نصوص كثيرة دلت على الموازنة، كما بسط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن قوله: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
_________
١-الآية٤٨ سورة النساء.
1 / 22
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ ١ فيه نهي عن القنوط من رحمة الله وإن عظمت الذنوب وكثرت فلا يحل لأحد أن يقنط من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه، ولا أن يقنط الناس من رحمة الله. قال بعض السلف إن الفقيه كل الفقيه الذي لا ييئس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصي الله.
والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له. إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه، فهو ييأس من توبة نفسه: وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يعتري كثيرا من الناس. والقنوط يحصل بهذا تارة وبهذا تارة: فالأول كالراهب الذي أفتى قاتل تسعة وتسعين أن الله لا يغفر له فقتله وكمل به مائة. ثم دل على عالم فأتاه فسأله فأفتاه بان الله يقبل توبته. والحديث في الصحيحين. والثاني كالذي يرى للتوبة شروطا كثيرة، ويقال له لها شروط كثيرة يتعذر عليه فعلها فييأس من أن يتوب.
وقد تنازع الناس في العبد هل يصير في حال تمتنع منه التوبة إذا أرادها، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن التوبة ممكنة من كل ذنب، وممكن أن الله يغفر له، وقد فرضوا في ذلك من توسط أرضا مغصوبة، ومن توسط جرحى فكيف ما تحرك قتل بعضهم، فقيل هذا لا طريق له إلى توبة، والصحيح أن هذا إذا تاب قبل الله توبته.
أما من توسط الأرض المغصوبة فهذا خروجه بنية تخلية المكان وتسليمه إلى مستحقه ليس منهيا عنه ولا محرما، بل الفقهاء متفقون على أن من غصب دارا وترك فيها قماشه وماله إذا أمر بتسليمها إلى مستحقها فإنه يؤمر بالخروج منها، وبإخراج أهله وماله منها، وإن كان ذلك نوع تصرف فيها، لكنه لأجل
_________
١-الآية ٥٣ الزمر.
1 / 23
إخلائها.
والمشرك إذا دخل الحرم أمر بالخروج منه وإن كان فيه، ومقل هذا حديث الأعرابي المتفق على صحته لما بال في المسجد فقام الناس إليه، فقال النبي ﷺ: "لا تزرموه"١ أي لا تقطعوا عليه بوله، وأمرهم أن يصبوا على بوله دلوا من الماء. فهو لما بدأ بالبول كان إتمامه خيرا من أن يقطعوه، فيلوث ثيابه وبدنه، ولو زنا رجل بامرأة ثم تاب لنزع، ولم يكن مذنبا بالنزع، وهل هو وطء؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد. فلو حلف أن لا يطأ امرأته بالطلاق الثلاث، فالذين يقولون: إنه يقع به الطلاق الثلاث إذا وطئها تنازعوا هل يجوز له وطؤها؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: يجوز كقول الشافعي.
والثاني: لا يجوز كقول مالك فإنه يقول: إذا أجزت الوطء لزم أن يباشرها في حالة النزع وهي محرمة، وهذا إنما يجوز للضرورة لا يجوزه ابتداء، وذلك يقول النزع ليس بمحرم.
وكذلك الذين يقولون إذا طلع عليه الفجر وهو مولج فقد جامع، لهم في النزع قولان: في مذهب أحمد وغيره. وأما على ما نصرناه فلا يحتاج إلى شيء من هذه المسائل، فإن الحالف إذا حنث يكفر يمينه ولا يلزمه الطلاق الثلاث، وما فعله الناس حال التبين من أكل وجماع فلا بأس به، لقوله: "حتى".
والمقصود أنه لا يجوز أن يقنط أحد، ولا يقنط أحدا من رحمة الله فإن الله نهى عن ذلك، وأخبر أنه يغفر الذنوب جميعا.
_________
١-متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الطهارة باب ترك الأعرابي حتى يفرغ من بوله، وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد.
1 / 24
فإن قيل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ معه عموم على وجه الإخبار، فدل على أن الله يغفر كل ذنب، ومعلوم أنه لم يرد أن من أذنب من كافر وغيره فإنه يغفر له، ولا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن هذا خلاف المعلوم بالضرورة والتواتر والقرآن والإجماع، إذا كان الله أهلك أمما كثيرة بذنوبها، ومن هذه الأمة من عذب إما قدرا وإما شرعا في الدنيا قبل الآخرة.
وقد قال تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ١ وقال: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ ٢ فهذا يقتضي أن هذه الآية ليست على ظاهرها، بل المراد أن الله قد يغفر الذنوب جميعا لأي ذلك مما قد يفعله أو أنه يغفره لكل تائب، لكمن يقال: فلم أتى بصيغة الجزم والإطلاق، موضع التردد والتقييد؟ قيل بل الآية على مقتضاها فإن الله أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ ٣.
وقال في حق المنافقين: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّه﴾ ٤ لكن هذا اللفظ العام في الذنوب هو مطلق في المذنبين. فالمذنب لم يتعرض له بنفي ولا إثبات، لكن يجوز أن يكون مغفورا له، ويجوز أن لا يكون مغفورا له. إن أتى بما يوجب المغفرة غفر له، وإن أصر على ما يناقضها لم يغفر له.
وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة: الكفر والشرك وغيرهما، يغفرها
_________
١-الآية ١٢٣ سورة النساء.
٢- الآية ٧-٨ سورة الزلزلة.
٣- الآية ٣٤ سورة محمد.
٤- الآية ٦ سورة المنافقون.
1 / 25
لمن تاب منها، ليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى، بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة.
وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعا، وفيها رد على طوائف، رد على من يقول إن الداعي إلى البدعة لا تقبل توبته ويحتجون بحديث اسرائيلي، فيه: "أنه قيل لذلك الداعية فكيف بمن أضللت؟ " وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث وليس من العلماء بذلك، كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به وما لا يحتج به، بل يروون كلما في الباب محتجين به.
وقد حكى هذا طائفة قولا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم.
وقد تاب قادة الأحزاب: مثل أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم بعد أن قتل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلاما وغفر الله لهم، قال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف﴾ ١. وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال النبي ﷺ لما أسلم "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله؟ ٢ ".
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَب﴾ ٣ قال كان ناس من الإنس يعبدون ناسا
_________
١-الآية ٣٨ سورة الأنفال.
٢-أخرجه مسلم في كتاب الإيمان/ باب كون الإسلام يهدم ما قبله.
٣- الآية ٥٧ سورة الإسراء.
1 / 26
من الجن فأسلم أولئك الجن والإنس الذين كانوا يعبدونهم. ففي هذا أنه لم يضر الذين أسلموا عبادة غيرهم بعد الإسلام لهم، وإن كانوا هم أضلوهم أولا.
وأيضا فالداعي إلى الكفر والبدعة وإن كان أضل غيره فذلك الغير يعاقب على ذنبه، لكونه قبل من هذا واتبعه، هذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم، وأما هم فسواء تاب أو لم يتب حالهم واحد، ولكن توبته قبل هذا تحتاج إلى ضدما كان عليه من الدعاء إلى الهدى، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع، وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة، وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر ثم أسلموا وختم الله لهم بخير.
توبة قاتل النفس: ومن ذلك توبة قاتل النفس. والجمهور على أنها مقبولة، وقال ابن عباس لا تقبل، وعن أحمد روايتان. وحديث قاتل التسعة والتسعين في الصحيحين دليل على قبول توبته، وهذه الآية تدل على ذلك، وآية النساء إنما فيها وعيد في القرآن كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا﴾ ١ ومع هذا فهذا إذا لم يتب. وكل وعيد في القرآن فهو مشروط بعدم التوبة باتفاق الناس، فبأي وجه يكون القاتل لاحقا به وإن تاب؟ هذا في غاية الضعف، ولكن قد يقال لا تقبل توبته بمعنى أنه لا يسقط حق المظلوم بالقتل، بل التوبة تسقط حق الله والمقتول مطالبه بحقه، وهذا صحيح في جميع حقوق الآدميين حتى الدين، فإنه في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين" ٢ ولكن حق الآدمي يعطاء من _________ ١-الآية ١٠ سورة النساء. ٢- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة/ باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، وذكره أحمد (١٤/٣٢) فتح رباني من حديث عبد الله بن عمرو.
توبة قاتل النفس: ومن ذلك توبة قاتل النفس. والجمهور على أنها مقبولة، وقال ابن عباس لا تقبل، وعن أحمد روايتان. وحديث قاتل التسعة والتسعين في الصحيحين دليل على قبول توبته، وهذه الآية تدل على ذلك، وآية النساء إنما فيها وعيد في القرآن كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا﴾ ١ ومع هذا فهذا إذا لم يتب. وكل وعيد في القرآن فهو مشروط بعدم التوبة باتفاق الناس، فبأي وجه يكون القاتل لاحقا به وإن تاب؟ هذا في غاية الضعف، ولكن قد يقال لا تقبل توبته بمعنى أنه لا يسقط حق المظلوم بالقتل، بل التوبة تسقط حق الله والمقتول مطالبه بحقه، وهذا صحيح في جميع حقوق الآدميين حتى الدين، فإنه في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين" ٢ ولكن حق الآدمي يعطاء من _________ ١-الآية ١٠ سورة النساء. ٢- أخرجه مسلم في كتاب الإمارة/ باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، وذكره أحمد (١٤/٣٢) فتح رباني من حديث عبد الله بن عمرو.
1 / 27