كانت مارينا تتمتم في الخارج: اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا ولكن نجنا من الشرير.
5
كان القداس (احتفاليا صارخا)، شمامسة يسبحون وكهنة يترنمون وأحبار يرتلون. ألفاظ خليط من السريانية والعربية، واهتزازات أصوات لا يقام لها وزن، فلا يسمع من الخارج إلا دندنة، ولا يفهم من كل ما يقولون إلا الخاتمة - هللويا كيرياليسون.
وأجالت مارينا يدها فأخرجت من عبها سبحتها الطويلة (الوردية) والتصقت بجدار الهيكل جهدها لتدنو من المذبح ويفي قداسها.
ومضت ساعة على انتصابها فأعياها التعب، فقرفصت ووجهها للحائط. ومرت ساعة ثانية ولما تنته (الرتبة والقداس) فرنق النوم في عينيها، فبدت لما بها من يأس، كالنمرة الهامدة. أما أخوها زخيا فجلس على صفة تجاه البوابة، يرقب النوافذ عله يرى من يعلمه إذا كانت مقابلة غبطته ممكنة. وبعد انتظار طويل لمح كاهنا يعرف وجهه، فجرأه عليه ما ذكره من حديثه مرة عن قضية أخته، فهذا الكاهن قال مرة: إن مارينا تطلب حقا صراحا لا صدقة، فتقابل بعنف وتطرد ، وقضيتها قضية وقف وأيتام وأرملة، كلها منوطة بذلك المقام لا سواه.
فسأله زخيا عن (المواجهة)، فهز الكاهن كتفيه، ثم فكر قليلا وأجاب: لا أظن. ثم تحول عنه، فانتقل زخيا مغيظا ودنا من أخته مارينا فسمعها تغمغم كمن في حلم، فتردد في إيقاظها إلا أن الضجر والسأم حركا يده فهز أخته فصرخت: بحياتك يا سيدنا.
استيقظت مارينا مضنوكة كمن أفاق من غيبوبة، وأخذت تفرك عينيها متنهدة، فما صدقت أنها ترى أمامها أخاها زخيا، وما هدأ روعها حتى قصت عليه حلمها الرهيب، وإليكه ملخصا: رأت البطريرك الحويك، ودار بينها وبينه حديث (قضيتها)، فخبرته أن المحكمة أزالت يدها عن العقار وهي لا تدري إلى من تلتجي. وبعد حديث غير قصير توارى البطريرك إلياس عن نظرها في الضباب. ورأت مارينا أنها في الكنيسة بين المصلين وراء غبطة البطريرك، وبعد هنيهة رأت شخصا عملاقا ضخم الجثة، عبوسا، عريض الجبهة مجعدها، أنفه مروس معقوف كمنقار الطير، مرتخي الشاربين، معتدل اللحية، قليل الشعر تحت العثنون، يلبس رداء مقورا عند العنق، لا ياقة له، قصير الأكمام يبدو منه الذراعان، وهو مزنر بقد، وفوق الرداء جبة فضفاضة، والدم يتفجر من وسطه كأنه نبع غزير يتدفق.
خرج هذا الشيخ الجبار من (السكرستيا) كأنه حاف، وتنهد وتأفف فأطفأت زفرته الشمع ثم انقلبت الشماعدين، وارتجفت الأيقونات، وتحرك الصليب، فذعر الجميع أيما ذعر. انشلت حركة الطقسيات وابتعد الناس عن الخورس، وتألبوا على بعضهم في صحن الكنيسة كقطيع غنم جافل، وهرب الذين استطاعوا، يدفع بعضهم بعضا، وعلا الصراخ وارتجف الشيوخ كأنما أصابتهم البرداء.
أما الشيخ الراعب، فسدد يده إلى المتقدمين في الأخوة، وقال لهم كلمات قليلة جدا تذكرت مارينا أنها سمعتها يوم الأحد في كنيسة الضيعة، عندما تلا إبراهيم ملحم الريش قربان، فخالت أن الكنيسة تقضقض لتنهدم فخافت جدا، فإذا بالبطريرك إلياس يلوح لها من بعيد ويصرخ بها: لا تخافي.
فصاحت مارينا بكل قواها: بحياتك يا سيدنا.
Shafi da ba'a sani ba