وواحدة ثانية أتت من امرأة نصف. دخلت فرأت النبريش في الزجاجة المعهودة. وأنا ممدد على كرسي، فقالت مستغربة: يه! خبرونا أن مرضك ثقيل، وهذا أنت تشرب أركيلة. على كل هي أحسن من العطوس، وخصوصا إذا كانت مثل هذي. لا جمر، ولا دخان.
ورأت ماء أركيلتي أصفر فتحلحلت لتكب الماء وتنظف الزجاجة وهي تثرثر: معرفة الراهبات قليلة بمعاملة الأركيلة، ولا يشد بالبقرة غير صاحبها.
فقلت لها: نسيت أني ذكر! قولي المثل كما هو ولا تستحي: لا يشد بالفدان إلا صاحبه.
ودخلت الممرضة وأخذت الزجاجة التي كادت تمتلئ، ففهمت أم حنا أنها أركيلة مستشفى، هكذا سمتها: وهكذا كنا نسميها، عند حاجتنا إليها في البيت.
قالت العرب: على الرائد أن يصدق أهله، وأنا قد استسفرني القدر إلى الأبدية، ولكنني كنت سفيرا غير مرغوب فيه فأرجعت عن الحدود. وقفت على أبوابها ولما أدخلها. وعدت على أعقابي أشكر من يشكر على المكروه، وأبي وجدي اللذين أورثاني هذا الموتور، أي القلب الذي لم يحتج إلى خرط ولا ولا.
وما استرحت من آلام الاحتقان الطبيعي الحادة، حتى بقيت ستة أشهر كاملة أعاني ألم الاحتقان الفكري، مرت أحداث خطيرة لم أعلق عليها، ولكن الغد لنا فسوف نعلق إن شاء الله. إذا قلت لك: إنني منذ بلوغي رشدي لم أنقطع عن الكتابة يوما واحدا فصدقني، أما إذا كنت مثل توما لا تصدق ما لم تضع أصبعك فتعال لأريك دفترا من دفاتري يرجع تاريخه إلى أكثر من نصف قرن، فترى آثاري الأولى وتضحك من مارون عبود الماضي؛ إذ لا ترى فيه إلا شيئا لا يكاد يدرك من ملامح مارون عبود الحاضر. فأنا يا أخي عملت نفسي على ذوقي، فإن كان أعجبك شيء في فالفضل فيه لي؛ لأني ماشيت الزمن فلم أتخلف عن ركبه ساعة، وإني أعاهد الشباب على هذا وأرجو أن يعملوا دائما وأبدا وهم واصلون إلى ما يبغون.
عفوا، قد قطعنا حديث العمليات فهناك عملية أخرى تنتظر أن أتحدث عنها. ها قد رجعنا إلى بيت خالتنا، أليس المستشفى كالسجن؟ كنت هذه المرة أشد خوفا مني في المرة الأولى. ولكني بقيت أشجع نفسي وأقول لها: العملية ناجحة بدون ريب، وظللت أكرر ذلك حتى تمكن هذا الاعتقاد في نفسي. وبعد فأنا لم أخدعها ما زال يسعف الجراح قلب كالمهدة، ورئتان كجناحي العقاب، وكليتان كنبع أفقا، يحنو على هذه كلها صدر كالكير عامر بالاستهزاء بالموت والاستخفاف به.
كان قبالتي في غرفتي مصلوب - لا تظن أنه ظهر لي كما ظهر للبابا - ولكني ذكرته لأروي لك ما حدثته به.
قلت له: هبني يا سيد، شيئا من شجاعتك لأستقبل الموت، فالعملية ليست لعبة في كل حال. أنت طلبت من أبيك أن يجيز عنك الكأس، ولكنك شربتها ولم تجزع ولم ترع. شربتها ليكسب الناس الحياة الأبدية فغلبت الموت بالموت، وأنا سأشربها لأغلب الموت بالحياة وأكتب بعد. وعزائي على عيشتي أرمل دهر هو أن أبنائي لم يكونوا كتلاميذك الذين لم يسهروا معك ليلة واحدة. إنهم لم يناموا قط.
وأخيرا كما مشيت أول مرة إلى غرفة العملية بخطوات ثابتة، مشيت إليها ثاني مرة، وقد سمعني تلميذي الأستاذ رشاد بيبي أقول لأولادي: أنا راجع بعد قليل.
Shafi da ba'a sani ba