ثم يبتدئ الجزء الثالث الذي يصور أصيل هذه الحياة، فنحن في غرفة الملكة وهي تلعب الورق مع بعض وصائفها، وفيهن أنطوانيت وقد تقدمت بها السن، وهي مبلة من مرض لم تبرأ منه كل البرء، والملكة ترفق بها، وتعطف عليها، وتتحدث إليها عن الملك وعن حزنه وعزلته، وتستعينها على تسلية الملك، وإخراجه من هذا الحزن، ومن هذه العزلة. ونفهم من هذا الحديث أن هاتين المرأتين قد اشتركتا في حب الملك وفي اليأس من هذا الحب، فأما الملكة فتجد العزاء في الدين، وأما الخليلة فلا تجد العزاء في شيء، وقد انصرفت الملكة مع وصائفها إلى الصلاة وتركت أنطوانيت ومعها وصيفة جميلة رشيقة شابة تعرف أن الملك يحبها ويصبو إليها، وهي مدام دي سيران.
فاقرأ هذا الحوار بين الخليلة الشيخة اليائسة والعاشقة الشابة التي يملؤها الأمل، فستجد عند الشيخة غيرة ولوعة وحبا يظهر في مظهر البغض والشماتة، وسترى عند العاشقة الشابة أملا ودعة وابتساما، ولكن الملك قد أقبل، وهمت الشيخة أن تلقاه لولا أن الضعف قد أدركها فانصرفت متثاقلة يعينها الخدم، وبقيت الوصيفة الشابة للقاء الملك الذي تهواه.
فإذا رفع الستار عن المنظر التاسع، فالخليلة الشيخة مريضة في سرير الموت، والقسيس يلقنها آخر ما ينبغي أن تقول، وهي تؤدي واجبها الديني في طاعة ظاهرة وإذعان لا غبار عليه، حتى إذا انتهت من ذلك إلى غايته وتفرق عنها الناس وخلت إلى وصيفتها عرفت أن زوجها الذي نفته منذ أعوام طوال، ثم دعته حين ألح عليها المرض قد أقبل مستجيبا لدعائها، فإذا دخل عليها كان بينها وبينه حوار من أرقى ما كتب المحدثون؛ فهذه المرأة التي أدت واجبها الديني تعلن أنها لا تؤمن بشيء، وإنما أذعنت للكنيسة إيثارا للراحة من إلحاح من حولها، وكذلك يفعل فولتير حين يؤدي واجبه الديني ليستريح من القسيس، وهي قد طلبت بأمر القسيس أن يعفو الله عن سيئاتها وأن يعفو أهل القصر عن سيئاتها، ولكنها لم تكن مخلصة في شيء من هذا، إنما العفو الذي تطلبه مخلصة هو عفو زوجها البائس الذي نفته لتمعن في اللهو والعبث مع الملك.
والزوج لا يبخل بهذا العفو، فهو يحبها الآن كما كان يحبها قبل الخطيئة، وهو يؤكد لها أن الحياة لا تنتهي بالموت وإنما تستأنف بعد ذلك، وهو يؤكد لها أنهما سيلتقيان في الدار الآخرة، وهي تنتهي إلى الإيمان بهذا اللقاء، والطمع فيه، وتستقبل الموت هادئة راضية ناعمة البال.
ثم يرفع الستار عن المنظر الأخير، فإذا الملك في غرفته تعرض عليه الأوراق فيمضيها محزونا كئيبا كاسف البال، أليست صاحبته قد ماتت؟! وها هو ذا قد فرغ من أعمال الدولة وعكف على نفسه يفكر، وهو متعب مكدود يجد البرد، وإن كان الموقد مضطرما غير بعيد منه، وخادمه يعرض عليه رسائل الحب قد كتبتها إليه غانيات القصر، فيعرض عن هذه الرسائل ويسأل عن بناته، ألم تطلب إحداهن أن تراه؟ فإذا أنبأه الخادم بأن واحدة ما لم تطلب لقاءه آذاه ذلك، فقد كان ينتظر هذا اللقاء.
وهذا باب الغرفة يفتح في غير استئذان، والخادم يريد أن يرد الطارق، ولكن الملك يدعو هذا الطارق فهي هذه الوصيفة الجميلة التي رأيناها منذ حين، قد أقبلت للقاء الملك، عرفت أنه محزون فجاءت تعزيه، وهي تنبئه بأن الملكة تصلي، فيسخر من الملكة ومن صلاتها، وهذه المرأة تحسن الحديث إليه وتصل إلى قلبه، وإذا هو يفتح لها هذا القلب، فنرى رجلا حزينا بائسا قد زهد في الحب واللذة وأنكرهما، وود لو استطاع أن يظهر لأهل القصر كما هو خيرا مؤثرا للفضيلة، ولكنه يعلم أن أهل القصر سينكرونه ويزدرونه إن رأوا ميله إلى الخير والفضيلة؛ فهو خير إذا خلا إلى نفسه، ماجن إذا ظهر للناس، وهو منكر للموت خائف منه أشد الخوف، والفتاة ترفق به، وتحسن تعزيته، وهو يرى فيها فتاة أحبها حين كان شابا وهو يضمها إليه ويقبلها موجها نظره نحو صورته حين كان شابا.
ثم يصحبها إلى الباب ويخلو إلى نفسه وإلى خادمه، ولكن صوتا يسمع من وراء النافذة، والخادم يدنو فينظر، فإذا سأله الملك لم يجب أو أجاب متحفظا، فيدنو الملك من النافذة ويفتحها ويخرج إلى الشرفة رغم المطر والريح لأنه سمع ورأى وفهم، هذه جثة أنطوانيت تخرج بها العربة من القصر في ضوء المشاعل تحت جنح الليل وتحت هذا المطر المنهمر، وقد خرج الملك إلى الشرفة فوقف وأطال الوقوف، ونظر وأطال النظر، واستمع وأطال الاستماع، ثم عاد وقد بلل وجهه الدمع ممزوجا بقطرات الغيث وهو يقول: هذا آخر ما استطعت أن أؤدي لها من واجب.
ويسدل الستار على الملك ليتلو بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله صلوات لاتينية فيها الحب والرحمة والندم والاستغفار معا.
Shafi da ba'a sani ba