ولكني لم أعلل هذا التحول بما علله به ذلك العابث بعلماء الآثار من أن تمثال الملك كان مستريحا إلى نومه المتصل في أعماق الأرض، فأصبح ضيقا بقيامه المتصل في ضوء الشمس، وإنما عللته بشيء آخر رأيته أدنى إلى الحق وأقرب إلى الصواب، وتستطيع أن تبذل من جهد علمي وفلسفي ومن براعة في المنطق ومهارة في الإقناع، وتستطيع أن تسوق إلي ما شئت وما لم تشأ من الحجج والبراهين، لتقنعني بأني لست أقل عبثا ولا مزاحا ولا استرسالا مع الخيال من ذلك الصديق العابث بعلماء الآثار، ولكنك لن تبلغ مما تريد شيئا، ولن تحولني عما استقر في نفسي من الرأي.
فأنا لا أشك في أن القوم قد صدقوني حين أنبئوني بأن تمثال الملك كان باسما فأصبح عابسا، وبأن وجه الملك كان راضيا فأصبح ساخطا متجهما، ثم أنا أشك في أن مصدر هذا التحول إنما هو ما أوحى به الريف المصري إلى تمثال الملك المصري العظيم، ومن وحي الطبيعة ما يرضي ويملأ النفوس سرورا وابتهاجا، ومن وحي الطبيعة ما يسخط ويملأ القلوب سخطا واكتئابا، ومن وحي الطبيعة ما يمنح النفس جناحين تسابق بهما الخيال في أجواز الكون، وفي هذا الشيء الذي يفتن به الفلاسفة والشعراء ويسمونه اللانهاية، ومن وحي الطبيعة ما يثقل النفس ويبهظها ويضطرها إلى السكون بعد الحركة، وإلى الجمود والهمود بعد المرح والنشاط، ويلصقها بمكان من العالم لا تعدوه، ويحد من حولها الآفاق، ويضطرها إلى أن تنظر إلى أسفل بعد أن كانت تنظر إلى أعلى، وإلى أن تفكر في آلام الأرض وآثامها بعد أن كانت تفكر فيما تزدان به السماء، مما يبعث الفرح والابتهاج، ومما يثير الأمل والرجاء.
وقد جلس صديقي أحمد أمين ذات يوم أو ذات ليلة لا أذكر في طرف ما يسميه اللسان من رأس البر، ونظر إلى البحر وأمواجه، ثم أخذ طرفه يمتد قليلا قليلا، وإذا هو يهيم في هذه الطبيعة التي لا تنتهي هياما فلسفيا جميلا رائعا، وإذا هيامه هذا يوحي إليه بذلك المقال القيم الذي نشرته «الثقافة» منذ حين.
فقد استمتع الصديق بجمال البحر وبجمال السماء وبجمال الأرض بين البحر والسماء، وأوحى إليه هذا كله فلسفة وحكمة، وأوحى إليه أدبا وفنا، وأوحى إليه أملا ورجاء. وكان تمثال الملك رمسيس الثاني قد بعد عهده بالحياة والأحياء منذ قرون طوال، لسنا ندري فيم كان يفكر وماذا كان يستوحي حين ألمت به تلك الملمة التي هدمت المعبد من حوله، وزلزلت الأرض من تحته، واضطرته إلى أن يضطجع وكان قائما، وأصابت جسمه ببعض الرضوض، ولكن من المرجح أن هذا الاضطراب العنيف قد أصابه بشيء من إغماء، ثم أخذت الأحداث تحدث، والخطوب يتبع بعضها بعضا، والتمثال ملقى في مكانه لم ينجده أحد، ولم يحاول أحد إنهاضه، وإنما ترك وشأنه، وتركت الأرض تراكم عليه ترابها شيئا فشيئا، حتى التهمته فيما تلتهم، وغيبته فيما تغيب، واستقرت من فوقه كأنه ليس تحتها، واستقر الناس من فوقها كأنما ليس تحتها شيء، فجعلوا يبنون ويهدمون، وجعلوا يزرعون ويحصدون، وجعلوا يعيشون ويموتون، وجعلوا يتصرفون في الحياة وتتصرف فيهم الحياة، كأن شيئا لم يكن في مكانهم هذا منذ قرون طوال، وذات يوم من هذا الصيف قل الماء، وبخل به المهندسون على الفلاحين، فأشرف الزرع على التلف، واشتد الضيق على أصحاب الزرع، وجعل اليأس يسعى إلى نفوسهم، وأخذت الدنيا تظلم في وجوههم، فنار الحرب مشبوبة قريبا من مصر أو بعيدا عنها، ولكن المصريين يصلونها من قرب أو من بعد، فالحياة تشتد، والأسعار ترتفع، وموارد الدولة تقل، ومطالبة الدولة بضرائبها تلح، والفلاح مضطر إلى أن يدفع الضريبة أولا، وإلى أن يطعم ماشيته ثانيا، وإلى أن يطعم زوجه وبنيه ثالثا، وإلى أن يعيش هو آخر الأمر، وكيف السبيل إلى ذلك إذا قل الماء وبخل به المهندسون لأنه قليل، أو لأن هناك أرضا ربما كانت أحق به وأولى من أرض هؤلاء الفلاحين البائسين، أو لأن هناك أرضا قد يكون إرسال الماء إليها وتوفيره عليها خليقا أن يرقى بالمهندس من درجة إلى درجة وأن يبلغه بعض ما يشتهيه من رضا فلان أو فلان؟! كيف السبيل إلى أداء الضريبة، وحماية الماشية من أن تنفق، وحماية الأهل من أن يجوعوا، وإقامة الأود، لتزرع الأرض، ويحصد الزرع، ويباع الحصاد، وتأخذ الدولة ما يرضيها، ويعود الفلاح بما يبقى له بعد ذلك على ما حوله ومن حوله بشيء من حياة؟
في هذا كله كان الفلاحون يتحدثون مصبحين وممسين، وبهذا كله كان الفلاحون يشقون مصبحين وممسين أيضا، ويخطر لبعضهم أن يحتفر بئرا لعله يظفر بشيء من هذا الماء الذي يجري به النيل العظيم، ولكنه لا يصل إلى هذه الأرض القريبة من النيل إلا في قلة وشح شديد، ويقوم بعض هؤلاء الفلاحين على مكان من الأرض يحتفرون فيه أبؤرهم هذه، وإنهم لفي ذلك تعمل فئوسهم، وتتعب أجسامهم، وتتسلى قلوبهم الحزينة بهذا التعب عما يشقون به من ألم ويأس، وإذا تمثال الملك يظهر لهم مضطجعا هادئا مبتسما مشرقا، وكأنه قد سمع غناءهم الحزين وشكاتهم المرة وحديثهم البائس، فلم يكد يتبين من هذا كله شيئا، ولكن نفسه - إن كان للتمثال نفس - قد اتجهت إلى أن تفهم عن هؤلاء القوم ما كانوا يقولون، وإلى أن تتذوق من هؤلاء القوم ما كانوا يتغنون به من غناء فيه العزاء حينا وفيه الشكوى حينا آخر، وفيه توطين النفس على اليأس والقنوط في كثير من الأحيان.
وقد صرف الناس عن بئرهم حين رأوا تمثال الملك، وشغلوا عن نفوسهم وأحزانها، وشغلوا عن الأرض وما تحمل من زرع، وانصرفوا إلى هذا التمثال يعجبون به، ويطيلون النظر فيه، ثم يحبونه ويكبرونه ويستنقذونه من هذا الطين الذي أخذه من جميع أقطاره، ويقيمونه وينقلونه إلى حيث أرادت مصلحة الآثار أن يستقر، وتتبعه جموعهم رجالا ونساء وأطفالا، حافين به يتغنون ويتصايحون، حتى إذا بلغ التمثال مكانه الذي هيئ له نظروا إليه نظرات طوالا ثم تفرقوا عنه ومضوا إلى أعمالهم. وقام التمثال في مكانه الجديد وقد أحس ما أحس، وسمع ما سمع، ورأى ما رأى، فلم يحس إلا شرا، ولم يسمع إلا شكاة، ولم ير إلا بؤسا، وإذا هو يفكر في هذا كله، وأكبر الظن أنه ذكر مصر وأهل هذه الأرض كما كان يعرفهم حين كان قائما في معبده قبل أن تزلزل به الأرض زلزالها، وأكبر الظن أنه وازن بين حال الناس في تلك الأيام البعيدة وبين حال الناس في هذه الأيام القريبة، وأكبر الظن أن نتيجة الموازنة لم تسره ولم تبعث في نفسه الرضا، وإنما ساءته وملأت قلبه حزنا وسخطا، وقد كان الناس في تلك الأيام البعيدة أشقياء بائسين، وهم الآن في هذه الأيام القريبة أشقياء بائسون، وإذن ففيم تمضي الأيام؟ وفيم تتابع القرون؟ وفيم ترقى الحضارة؟ وفيم يتكشف العلم عن المعجزات؟ وفيم تتطور النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ ما خطب هذا كله، وما نفع هذا كله، إذا كان الناس مضطرين إلى أن يحتفظوا ببؤسهم وشقائهم قرونا وقرونا وقرونا؟
في هذا كله فكر تمثال الملك، وبهذا كله ابتأس تمثال الملك، ولهذا كله أظلم وجه التمثال بعد إشراق، وعبس بعد ابتسام.
وأكبر الظن أن الأمر لم يقف بتمثال الملك عند هذا الحد، ولن يقف به عند هذا الحد؛ فإن نفوس التماثيل - وتماثيل الملوك خاصة، وتماثيل الفراعنة بنوع أخص - أذكى من نفوس عامة الناس وخاصتهم، وأنفذ إلى حقائق الأشياء، ووسائلها إلى العلم بحقائق الأشياء كثيرة جدا متنوعة جدا، فهي تفهم عن الناس إذا تكلموا مهما تختلف لغاتهم، وهي تفهم عن الطير إذا تغنت، وهي تفهم عن حفيف الورق وهفيف الغصون، وهي تفهم عن النسيم حين يضطرب في الجو، وهي تفهم عن هذا العشب الملقى بين أيديها حين يناجي بعضه بعضا في أصوات لا تسمعها آذان الناس، ولكن تسمعها آذان التماثيل، ثم هي تفهم عن الصراصير حين تصوت، وعن الضفادع حين تنق، وعن الخفراء حين يجتمعون ليسمروا إذا تقدم الليل.
وقد فهم التمثال أشياء كثيرة من وسائله تلك، وقد أحس التمثال أن بؤس الناس وشقاءهم، أو بؤس هذه الطبقة من الناس وشقاءها لم يزالا كما كانا، لم يتغير منهما شيء، شقاء في الليل بالتفكير والعناء والحزن، وشقاء في النهار بالجد والكد والعمل المرهق المضني، والأرض مع هذا كله تنبت الزرع وتؤتي الثمرات، وتغل المال الكثير الذي يستطيع أن يسع الناس جميعا، وأن يطعمهم من جوع ويرويهم من ظمأ ويعصمهم من العاديات، فأين يذهب هذا المال؟ وفيم ينفق؟ وما بال الناس لا يزالون أشقياء بائسين؟
سمع التمثال جواب هذه الأسئلة من الخفراء حين اجتمعوا يسمرون بعد أن تقدم الليل، وحين تحدثوا عن بؤس هذه الأسرة التي باعت آخر ما كان عندها من متاع، وعن ثروة هذه الأسرة التي اشترت أرضا إلى أرض وسيارة إلى سيارات، وعن أمر هذا الفتى الذي سيق إلى المحاكمة في دجاجة سرقها، وعن أمر ذلك الفتى الذي اعترف بأنه سرق من بعض ذوي قرباه مقدارا من المال ودفنه في حقل من الحقول، وعن أرض هؤلاء الفلاحين التي يميتها العطش، وأرض أولئك الباشوات التي يكاد يفسدها الإسراف في الري، وعن أشياء أخرى كثيرة، منها ما يمكن أن يقال، ومنها ما يحسن ألا يقال.
Shafi da ba'a sani ba