وأنا أملي هذه الأسطر وقد تقدم الليل وهدأ من حولي كل شيء إلا هذه الصراصير التي تتغنى في الحديقة غناء متقطعا، والأصوات تصل إلي عن بعد فلا أكاد أسمعها إلا حين أصغي إليها، وإلا صرير القلم يمضي به صاحبي وهو يسمع ما أملي عليه ثم يقف إذا انتهى به إلى حيث انتهيت من الإملاء.
وقد أنفقت يوما طويلا ثقيلا تنقلت أثناءه بين ما أحب وما أكره من أعمال منها المنتج الخصب وفيها العقيم الجدب، وأشهد أن أحب شيء إلي وقد خرجت من هذا اليوم الثقيل الطويل ودخلت في هذا الليل الهادئ المطمئن أن أنسى - ولو إلى حين - يومي وما كان فيه، وأن أشغل نفسي عنه بما يلهي ويريح، ولي إلى ذلك سبيلان؛ فإما أن أقرأ وإما أن أستعرض ما قرأت، وقد كان بين ما قرأت في هذه الأيام الأخيرة قصتان تمثيليتان نشرتهما مجلة «الأليستراسيون» الفرنسية في أسبوعين متواليين أو متقاربين على أقل تقدير، وهاتان القصتان تختلفان في الموضوع وتختلفان في النتيجة وتختلفان في الأسلوب والقيمة الفنية، ولكنهما على اختلافهما في هذا كله تثيران نوعا واحدا من التفكير، ولعلهما تنتهيان آخر الأمر إلى نتيجة واحدة.
فأما إحداهما فتقص أمر امرأة زوجها أهلها من رجل لا تحبه، فأذعنت واستقبلت حياتها الجديدة عابسة ساخطة لا تفهم زوجها ولا تطمئن إليه، وسافرت معه كأنما تساق إلى السجن، ولكنها لقيت أثناء السفر شابا أعجبها وأعجبته، فأحبها وأحبته، وكانت لها وله صروف وخطوب، حتى إذا عادت إلى باريس وانغمست في حياتها المألوفة أحست فتورا في الحب، واستكشفت أن حبها لهذا الشاب لم يكن إلا تعلة ولهوا وسبيلا إلى إيقاظ قلبها النائم وإثارة عواطفها الراكدة، حتى إذا استيقظ هذا القلب وثارت هذه العواطف تبينت أنها تستطيع أن تحب هذا الزوج لولا أن هذا الشاب يحول بين هذا الحب وبين أن يزهر ويؤتي ثمره؛ فهي تبسم لزوجها وتعبس لحبيبها، وما تزال به تريد أن تصرفه فينصرف مضحيا بنفسه وقلبه وحبه.
وأما القصة الأخرى فتصور زوجين يحب كل منهما صاحبه أشد الحب ويؤثره على نفسه أشد الإيثار، ولكن أحدهما - وهو الرجل - مريض يخاف على نفسه الموت، وقد علم من امرأته أنها لن تحيا بعده وأنها جادة إن مات في اللحاق به، وهو يحبها ويحرص على أن تعيش عيشة كلها سعادة ولذة ونعمة، وهو يريد إذا مات أن تتعزى عنه امرأته وأن تحيا من جديد فتحب وتجني ثمار الحب، وهو مستعد لأن يضحي بكل شيء في سبيل هذه الغاية، ولكنه يريد أن يتحقق آخرته قبل أن يقدم على هذه التضحية، فيعرض نفسه على كبار الأطباء ويقضي هؤلاء في أمره بما كان يخاف فينبئونه بأنه مرتحل عن هذه الحياة بعد قليل، وإذن فلا بد من التضحية، وهو لا يتردد بل يقدم عليها شجاعا جريئا فيتكلف عشق امرأة تتردد على داره ويظهر الهيام بهذه المرأة حتى يخدعها من جهة ويثير غيرة امرأته وسخطها من جهة أخرى، ويمضي في تكلف هذا العشق إلى أبعد حد، فيهجر داره ويقيم عند صاحبته ويأبى على امرأته كل عودة، ثم يتم عمله هذا القاسي العنيف بالسفر مع صاحبته إلى ما وراء البحر، ولم لا؟ أليس قد قضي عليه بالموت؟ فيجب أن تكرهه امرأته قبل أن يموت، حتى إذا مات لم تلحق به، بل تعزت عنه واستقبلت حياتها في أمل ونشاط، وقد وفق فامرأته منصرفة عنه، وإن لم تكن ميالة إلى استئناف الحياة الغرامية والزوجية، وهي على كل حال لا تريد أن تموت ولا أن تلحق بزوجها.
ولكنه أراد شيئا وأراد القضاء شيئا آخر، فما كاد يترك وطنه حتى كذب الأطباء وعادت إليه صحته وقوته ونشاطه وقوي مع هذا كله حبه لامرأته وحب صاحبته له، فيعود إلى فرنسا ولا يتردد في أن يضحي بهذه المرأة التي آمنت بحبه وأنقذته من الموت ليستأنف الحياة مع زوجه وقد عاد إليها موفور الصحة مستكمل القوة، وتقبل صاحبته هذه التضحية فتنصرف كما انصرف الفتى في القصة الماضية. فأنت ترى أن إحدى القصتين تضحي برجل والأخرى تضحي بامرأة، وكلتاهما تمثل الأثرة في الحب، وقد انتهت إلى أقصاها، وتتخذ من الأخلاق العامة المألوفة وسيلة إلى هذه الأثرة. تلك تضحي بصاحبها لتعود إلى زوجها فتعيش عيشة ترضاها الأخلاق والعرف ويرضاها الدين، وهذا يضحي بصاحبته، بل يتعمد خداعها ثم يضحي بها ليعود إلى امرأته ويحيا حياة ملائمة للخلق والعرف والدين، ومع ذلك فمن المحقق أن الكاتبين لم يتفقا على موضوع القصتين ولم يأخذ أحدهما عن صاحبه، ومن المحقق أيضا أن جمهور النظارة في باريس أحب القصتين وأعجب بهما وضمن لهما حظا غير قليل من الفوز والبقاء.
فتوارد الخواطر هذا وإعجاب الجمهور بنتيجته خليق أن يدعو إلى شيء من التفكير، ذلك أنه إذا كان من الحق أن لكل شيء سببا، وأن حادثة لا تقع إلا وقد سبقتها علة دعت إلى وقوعها؛ فلا بد من أن يكون هناك سبب دعا إلى هذا التوافق بين الكاتبين، وإلى أن يعجب الجمهور بقصتهما إعجابا متقاربا، وهذا السبب هو فيما أظن الذوق العام، وما يختلف عليه من ألوان التطور.
كثيرا ما نسأل أنفسنا: أيهما أشد تأثيرا في صاحبه؟ أهو صاحب الفن يبتكر من آياته الفنية ما يخلب الناس ويستهويهم؛ فتؤثر في حياتهم العقلية والشعرية، ويسيرهم كما يريد، أم هو الجمهور تؤثر فيه الظروف المختلفة فتكون مزاجه وذوقه تكوينا خاصا، ويقوى هذا الذوق وذلك المزاج حتى يتشخصا في الكاتب، أو الشاعر، أو المصور، أو المثال؛ فإذا هو ترجمان يعرب عن نفس هذا الجمهور ومرآه يعكس ذوقه ومزاجه؟
فأما حين يكون الكاتب مبتكرا يؤثر في الجمهور غالبا إياه على أمره، فإنما يعجب الجمهور به لأنه غريب قد ظهر قويا أقوى من الجمهور، فالجمهور يذعن له ويؤمن بقوته ويعجب بآثاره كما يعجب بآثار القوي بعد أن يجاهده ويصارعه ويمتنع عليه فلا يجد سبيلا إلى المقاومة، فيضطر إلى الإذعان والخضوع. وأما حين يكون الكاتب أو الشاعر ترجمان الجمهور ومرآته، فالجمهور لا يعجب بالكاتب أو الشاعر وإنما يعجب بنفسه، يعجب بصورته التي يراها في المرآة. ومن الواضح أن الكاتب أو الشاعر الذي يكره الجمهور على ما يريده ويغتصب إعجابه اغتصابا ويرسم له طريقه العقلية والشعورية هو الكاتب أو الشاعر الخليق بالبقاء حقا، ومن الواضح أن هذا الكاتب أو الشاعر لا يتاح للناس إلا قليلا في أوقات متقطعة، فإن وجد فهو ثقيل على الجمهور بغيض إليه وربما لم يظفر بحقه من الطاعة والرضا والإعجاب إلا بعد موته بزمن يقصر أو يطول، ومن الواضح أن الكاتب أو الشاعر الذي تكون آثاره الفنية صدى لنفس بيئته ليس غير هو الذي يستأثر بالرضا والإعجاب ويستمتع بلذتهما في حياته، ولكنه لا يكاد يدع هذه الحياة حتى ينساه الذين كانوا يكلفون به ويتهالكون عليه.
كل هذا حق فيما يظهر، وكل هذا واضح أيضا، ولكن المسألة التي لا تزال غامضة هي الصلة بين الكتاب والشعراء وبين الذين يقرءون آثارهم أو يسمعون لها، هذه الصلة التي تجعل بعضهم محببا إلى الناس وتجعل بعضهم الآخر بغيضا، وتطيل أمد هذا الحب والبغض أو تقصره، وهي الذوق فما هو؟ ومن أين يأتي؟ وإلى أي غاية ينتهي؟ وما المؤثرات المختلفة التي تكونه وتسلك به سبل التطور المختلفة المتباينة؟ أهو عقل خالص قوامه البحث والنقد والتقدير والحكم؟ كلا، فلو كان الذوق كله عقلا لضاعت آيات فنية خالدة، ولما استطاع هذا الجيل أن يعجب بكبار الشعراء والخالدين من أصحاب الفن، ومع ذلك فقد كان أفلاطون يمقت هوميروس وشعره ويحظر درس هذا الشعر في مدينته الفاضلة، ولكنه على ذلك كان يستشهد به ويستخلص منه حكما لا تفنى. أهو شعور خالص قوامه الحس والتأثر والانفعال الذاتي الذي لا روية فيه ولا اختيار؟ كلا، فلو كان كذلك لضاعت آثار كبار الشعراء والخالدين من أصحاب الفن، والمثل الذي قدمناه نفسه يدل على هذا أيضا، فلم يكن أفلاطون يصدر عن شعوره وانفعاله السريع الذي لا روية فيه حين كان يستشهد بأبيات هوميروس، وإنما كان يصدر عن عقله الفلسفي وعن حكمه وتقديره.
فليس الذوق إذن عقلا خالصا ولا شعورا خالصا وإنما هو مزاج من العقل والشعور، ولكن أي عقل وأي شعور هنا؟ يجب أن نلاحظ أن ليس للناس ذوق واحد ولكن لهم أذواقا مختلفة متباينة تختلف باختلاف بيئاتهم وظروف حياتهم، كما تختلف باختلاف حظوظهم من الثقافة وباختلاف حظوظهم من لين الحياة وشدتها ومن نزوع الحضارة بوجه عام، ولا بد من عودة إلى هذه الأذواق المختلفة إن أردنا استقصاءها، فلندعها الآن ولنقف عند هذا الذوق الذي يمكن الجمهور من أن يعجب بأثر فني أو يسخط عليه، فهذا الذوق يجب أن يكون مشتركا بين الناس ليدفع أيديهم إلى التصفيق إن أعجبوا، وأفواههم إلى الصفير إن سخطوا، وهو مشترك بالفعل ولكن الغريب من أمره أنك مهما تلاحظ من إجماع الناس على الإعجاب بأثر فني أو السخط عليه فلن توفق إذا طلبت إلى كل واحد منهم أن يرد إعجابه أو سخطه إلى تعليل يشتركون فيه.
Shafi da ba'a sani ba