فالعالم الأوروبي قد تنقل في ثلاثة أطوار عقلية منذ عصر الإصلاح: طور لم يكن فيه سلطان للعقل في تفسير الوجود، وطور ثار فيه العقل لحقوقه المشروعة ثم بالغ في الثورة حتى أوشك أن يستبد بكل سلطان، وطور ثارت فيه البديهة الإنسانية لتذكر العقل بالحقيقة التي نسيها في شططه وغلوائه، وهي أن البديهة الإنسانية تشاطر العقل حقوقه في تفسير العالم والاتصال بخفايا الوجود.
ففي الطور الأول كان السلطان للكهنة ورجال الدين، وكانت النصوص التي يساء فهمها، ويساء العمل بها هي مرجع المراجع كلها في العلم والحكمة والفنون والآداب.
وفي الطور الثاني تفرد العقل بتفسير كل شيء وزعم أن العلوم التجريبية وحدها كفيلة بالكشف عن جميع الحقوق وجميع الأسرار.
وفي الطور الثالث صنع «رد الفعل» صنيعه المعهود في أمثال هذه الأطوار، فثار المفكرون أنفسهم على العقلية
Rationalism
كما ثار الفنانون على الواقعية
Realism ، وسمعنا بضروب شتى من دعوات المثاليين والنفسانيين والروحانيين وفلاسفة المنطق الحديث الذي يدين بالبصيرة كما يدين بالقياس والتحليل.
في هذه الفترة ظهر الرمزيون في الآداب الفرنسية وكان لهم حق في الظهور.
بل ظهروا «متأخرين» عن رواد هذا المذهب في الآداب الأوروبية الأخرى، وفي عالم الفنون التي لها تأثير بين على الآداب.
فكانت موسيقى «فاجنر» تدوي بين أرجاء القارة الأوروبية قبل أن تتحول الموسيقى الفرنسية من لغة الطرب والمشاهد الواقعية إلى لغة الأغوار والكنايات، وكان كولردج وبروننج وسوينبرن وتنيسون من أعلام الشعر الإنجليزي يتناولون المعاني الغامضة تارة بالرمز والكناية وتارة بالكلمات التي تماثلها في الغموض. ويكفي أن يذكر القراء تأثير دافيدهيوم في روسو وفولتير، وتأثير بيرون في لامرتين، ليذكر أن المدرسة الرمزية في الآداب الفرنسية لم تكن فريدة بين الآداب الأوروبية حين ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وراجت إلى أوائل القرن العشرين.
Shafi da ba'a sani ba