Tunanin da Mutane: Tarihin Tunanin Yamma
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Nau'ikan
من مبادئ الاختيار المعقولة، الشائعة جدا في أمريكا في هذه الأيام، هي أن ننتقي ما يقال عنه إنه «حي» بالنسبة إلينا في هذه الأيام، وأن ننبذ ما يقال عنه إنه «ميت». ونعتقد أن الأول هام، والثاني لا يهم إلا المتحذلق أو الأخصائي، ومن ثم يقال لنا: دعنا بكل وسيلة نأخذ عن أفلاطون «أفكاره الحية»، ولا نأخذ من أفكاره ما كان ينطبق على الإغريق في عهده فقط.
والصعوبة في ذلك هي في معرفة ما نعني ب «الحي» في مثل هذا المجال. قد نعني «ما تعتقد الغالبية العظمى من الناس في صدقه.» ونستطيع القول إن كل ما يحتاج عالم الطبيعة إلى معرفته - بهذا المعنى من الطبيعة عند الإغريق هو الجانب الذي ما زلنا نعتقد في صحته. ولكن حتى العالم قد يستطيع أن يتعلم الكثير من تاريخ العلم . يستطيع أن يتعلم كيف يمكن الوقوع في الخطأ بسهولة، وكيف أن الرأي الجديد السليم - حتى في مثل هذا الميدان - أمر شاق عسير. ويستطيع أن يتعلم أن العلم ليس برجا عاجيا، وإنما هو جزء من الحياة الإنسانية الكاملة.
ومهما يكن من أمر فإن علم الطبيعة مثل واضح للمعرفة التراكمية. ولم يكن أفلاطون عالما في الطبيعة، إنما كان فيلسوفا، همه الأول المشكلات التي تتعلق بالحياة الصحيحة والحياة الخاطئة، ووجود الإله، وخلود الروح، والعلاقات بين الدوام والتغير، وموضوعات أخرى من هذا القبيل. وهذه أمور من المعرفة اللاتراكمية، ليس من السهل فيها بأية حال من الأحوال أن نقرر ما هو حق وحي منها اليوم، وما هو باطل وميت. ومن الحقائق التي دلت عليها الخبرة أن قراء أفلاطون في القرن العشرين يتراوحون بين أولئك الذين يرون في كل ما كتب الحكمة السامية، وأولئك الذين يرونه كله هراء، وبين أولئك وهؤلاء درجات من التفاوت.
ويبدو أن أولئك الذين يتحدثون عن اختيار ما بقي من الماضي حيا اليوم يعنون بالحي أحيانا المألوف، ويعنون بالميت الغريب. خذ مثالا لذلك مأساة إغريقية قديمة: مسرحية أنتيجون لسوفوكليز. تعالج المسرحية جهود أنتيجون لضمان أداء طقوس الجناز الصحيحة إزاء جثة أخيها بولينيسيس، الذي قتل في الثورة التي قامت ضد كريون، الحاكم الشرعي لطيبة. ولما كان كريون يعتقد أن مصير بولينيسيس لا بد أن يشهر به ليكون مثالا لما يحدث للعصاة والخارجين على القانون؛ فقد رفض دفن الجثة بالطريقة الصحيحة، وعندما حاولت أنتيجون مستعطفة أن تؤدي طقوس الدفن لأخيها، حكم عليها بالموت.
إن إمكان شيوع مثل هذا الصراع بين أنتيجون وكريون وتطبيقه على قوم مثلنا أمر لا يحتاج إلى بيان؛ فإن أنتيجون تضع إحساسها الخاص بالخطأ والصواب تجاه ما يتطلبه النظام الشرعي الذي نعيش في ظله. وهناك - برغم هذا - من يرى أن ما يثير إحساسها بالخطأ والصواب في معاملة جثة أخيها - شيء غريب، بل تافه في نظر الأمريكان الحديثين، فيفوتهم لذلك مغزى الدراما، ما لم ينبهوا إليه. وطبقا لما يرى هؤلاء النقاد والمعلمون لا يمكن أن تكون هذه التحفة الفنية لسوفوكليز حية بالنسبة إلينا إلا إذا اتضح أن أنتيجون كانت فعلا أشبه بثورو أو غاندي، مشتركة في حركة من حركات «العصيان المدني».
ولم تكن أنتيجون بطبيعة الحال إحدى هؤلاء، وإنما كانت عذراء يونانية من عصر الإغريق العظيم، تتأثر تأثرا عميقا بآراء تتعلق بالكرامة البشرية غريبة عنا بعض الشيء. ولكن ما هو غريب في أنتيجون له لدينا أهمية قصوى؛ فالتاريخ - حتى تاريخ الفكر - نافع فوق كل شيء لأنه ينتزعنا من محيط حياتنا الضيق المحدود، ويبصرنا بمدى اتساع الخبرة البشرية، ومدى تعقيد ما نسميه في إهمال «الطبيعة البشرية»، وإلى أي حد يتشابه الناس ويمكن التنبؤ بتصرفاتهم، وإلى أي حد يختلفون ولا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم.
وإذا نحن أخذنا المألوف، أو الأشياء التي نجد فيها أدنى مشقة لقبولها كأمور إنسانية، مبدأ للاختيار في معمعان وقائع التاريخ، هبطنا كثيرا بقيمة أي دراسة للماضي. ولو كانت معرفتنا بالناس حقا تراكمية فقط، كمعرفتنا بعلم الطبيعة، لأمكننا الاحتفاظ بالجوانب الحية ونبذ الجوانب الميتة من سجل الماضي. غير أن معرفتنا بالناس ليست تراكمية، ولا نستطيع أن نأخذ عقلا بأي مبدأ «بسيط» عند الاختيار بين الحي والميت، والصالح وغير الصالح، والهام وغير الهام. ولكن لا بد من نوع من أنواع الاختبار، وكل من يكتب التاريخ أو يقرؤه يقوم بالاختيار. وإنما ينبغي أن يتسع مجال الاختيار، ولا بد أن تكون النماذج المختارة طيبة بقدر الإمكان، ولا يكون الاختيار مقررا بأي نظام مقيد من نظم الأفكار، ولا ينبغي أن يهمل تاريخ الفكر الديمقراطي تاريخ الفكر غير الديمقراطي.
وهناك مبدأ آخر للاختيار - في تاريخ الفكر على الأقل - وذلك أن تأخذ الشخصيات التي يعدها الرأي العام المثقف اليوم أصولا ككبار المفكرين والكتاب ونعرض ما كتبوه في وضوح وإيجاز بقدر الإمكان. وهذا عمل يستحق الأداء، وقد تم أداؤه بإجادة. غير أن ذلك ليس ما نعنيه في هذا الكتاب بتاريخ الفكر، إنما هو تاريخ الفلسفة أو تاريخ الأدب أو تاريخ النظريات السياسية. أما ما نعنيه بتاريخ الفكر فهو شيء أكثر من ناحية وأقل من ناحية أخرى من سجل ما أنجزته كبار العقول في ميادين المعرفة اللاتراكمية. هو أكثر من ذلك لأنه يحاول أن يكتشف ما تحسه وما تفكر فيه وما تعمله العامة من الرجال والنساء دون العباقرة والعظماء. وهو أقل من ذلك لأنه لا يستطيع - دون أن يصل إلى أبعاد لا حد لها - أن يحلل تحليلا كاملا التفكير الشكلي عند العظماء وأشباه العظماء من المفكرين كما يحلل هذا الفكر المحترفون والفنيون في الكتب المعتمدة في الفلسفة والفن والأدب. لا يهمنا هنا تفكير أفلاطون في حد ذاته كما يهمنا أن نعرف إلى أي حد كان هذا التفكير جزءا من أسلوب العيش الإغريقي، وإلى أي حد ينبذ هذا التفكير ذلك الأسلوب والعيش، وإلى أي حد كانت عامة المتعلمين تقبله في المجتمعات التي جاءت فيما بعد - وباختصار نحن أقل اهتماما بأفلاطون في حد ذاته منا بما أفاد الناس من أفلاطون أو كانت أو نيتشه.
وأخيرا - وهذه أشد المشكلات تعقيدا - هناك ذلك النوع من الاختيار من بين تفصيلات الماضي التي لا تكاد تنتهي، ذلك الاختيار الذي يرتب هذه التفصيلات بقصد التدليل على شيء ما. إن كل المؤرخين في الواقع يرتبون مادتهم بطريقة تسوق القارئ إلى أن يعتقد أن بعض الفروض الخاصة بالناس ومصيرهم هي فروض صادقة، وكثيرا ما تكون هذه الفروض ضخمة وفلسفية إلى أبعد الحدود؛ فقد استخدم سنت أوغسطين في كتابه «مدينة الله» وقائع التاريخ التي جمعها لكي يبرهن على أن المسيحية لم تضعف الإمبراطورية الرومانية، وأن الإمبراطورية إنما سقطت لأن الله ينزل العقوبة بالأشرار. أما جورج بانكروفت في تاريخه للولايات المتحدة فيستخدم وقائعه المختارة لكي يبين أننا نحن الأمريكيين الشعب المختار حقا للإله الديمقراطي الحق، وأن «مصيرنا الواضح» هو أن نقود العالم إلى حياة أفضل. أما الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر في القرن التاسع عشر فقد وجد أن التاريخ يبين بجلاء أن الناس يتقدمون من المجتمعات المقاتلة المتنافسة إلى المجتمعات المسالمة المتعاونة الصناعية.
ولا يزال التاريخ - وربما سوف يبقى دائما - أقرب إلى المعرفة اللاتراكمية منه إلى المعرفة التراكمية. نعم إن بعض طرائقه في البحث، وطرائقه في الحكم على صحة الدلالة، هي علمية أو تراكمية. ولكن المؤرخ - إن عاجلا أو آجلا - لا بد أن يقابل هذه المشكلة: ماذا تعني دلائله إذا قيست بمقاييس الحب والكراهية الإنسانية، ومقاييس الآمال والمخاوف. إنه لا بد - عاجلا أو آجلا - أن يقيم، وأن يحكم بالطيب والخبيث، وأن يدخل الفرض في حسابه. أما العلم - كعلم في حد ذاته - فلا يفعل شيئا من هذا، وإنما يقتصر على إقامة قواعد عامة أو قوانين وصفية في أساسها، وليست تقويمية.
Shafi da ba'a sani ba