ولمهيار مما لا يجوز أن يتمثل بثانيه إلا شاعر:
أبكيك لا ما تستحق وجهد ما ... تسع الصبابة أن تسيل محاجري
وأشارك النواح فيك بأنني ... أبكيك، والتأبين نوح الشاعر
وهذا المعنى أيضا مما تصرف فيه فقال:
خان بكاء العين أجفانه ... فناح، والنوح بكاء الفم
وقال:
خان بكاء العين أجفانه ... فناح، والنوح بكاء الفم
وقال:
إن أنفدت عيني عليك دموعها ... فليبكينك بالقوافي مقولي
وما أحسن قوله في هذه القصيدة:
ما كنت أحسب ... والزمان مقاتلي
يرمي ويخطئ
أن يومك مقتلي
وقال:
أمر بفي عليك الزلال ... وآلم جلدي وقع الشفوف
أتحمل فقدك ذاك العظيم ... جوارح جسمي هذا الضعيف؟!
وهذا ينشد مطلقا ومقيدا؛ فإذا أطلق كان من الأول من المتقارب، وإذا قيد كان من الثاني منه.
وقال:
نعم! هذه يا دهر أم المصائب ... فلا توعدني بعدها بالنوائب
هتك بها ستر المجامل بيننا ... ولم تلتفت فيها لقينا المراقب
سددت طريق الفضل من كل وجهة ... وملت على العلياء من كل جانب
أمن بعده يا دهر أحظى براجع ... من العيش أو آسى على إثر ذاهب؟
تنافث عن جمر الغضا ناد باته ... كأن فؤادي في حلوق النوادب
بكت أدمعا بيضا ودمت جباهها ... فتحسبها تبكي دما بالحواجب
متى دنس الحزن السلو غسلته ... فعاد جديدا بالدموع السواكب
وهذا تصرف في معنى قول ابن المعتز: إذا دنس الليل أثوابها=غدت في ثياب صباح جديد وقال:
ذهب الذي كانت تجاملني له الدْ ... دُنيا وتسقط دوني الأخطار
عجبا، يكون الجو بعدك ساكنا ... واليوم أبيض ما عليه غبار
وكأن كفك لم تبن في ظهرها ... قبل الملوك وتشهد الآثار
ويخف بين بنانها إن حملت ... ضبط الحسام ويثقل الدينار
وقال:
بكر النعي فسك فيه مسامعي ... وأعاد صبحي جنح ليل أليل
الغاية في هذا المعنى قول أبي تمام: أصم بك الناعي وإن كان أسمعا
رحل الحمام بها غنيمة فائز ... ما ثار قط بمثلها عن منزل
كانت يد الدين الحنيف وسيفه ... فلأبكين على الأشل الأعزل
ولابن حيوس:
وليس يعلو قرى الغبراء من أحد ... ولا يكون لأضياف المنون قرى
حوادث لم تميز في تصرفها ... من ضيع الحزم ممن أكثر الحذرا
قضى وما إن قضى من لذة وطرا ... وكم قضت منه آمال الورى وطرا
ومن كلام حسن بن عبد الصمد المعروف بابن أبي الخشباء: غي بدع من الزمان أن تنتكث حباله، وتصرد نباله، وتفهق بالغدر فجاجه، ويجدح بالسم أجاكه، وتراش في قصد الكرام سهامه، ويثار في قبض النفوس عجامه، ولذلك عرفت النفوس مواقع نكره، وأنست بغرائب غدره ومكره، واطمأنت الضلوع وقد أصمت صوائبه، وهجعت العيون وقد استيقظت نوائبه، ولما طرق الحادث بمن لا أسميه تفاديا من تحقيق الخبر بمصرعه، وصونا له عن مورد الحمام ومشرعه؛ رأيت المحامد ذات نور خامد، والمآثر ذات عقد متناثر، والقمر وقد سئم هالته، والصبح وقد خلع الليل عليه غلالته. وشاهدت الفضل وقد أسودت سحنته، واشتدت على الزمان إحنته؛ إذ طرق بما يتجاوز القدر ويوحش الأضالع من صحبة الصدر. هذا - والله - هو المصاب الذي تستعذب فيه الحلوم هفواتها، وتفارق له القلوب سويداواتها، وتستخف النوفس فيه حمل الأوزار، وتأنف العيون من لقائه بغير الدموع الغزار، حتى تجعل ذلك دابها، وتخضب بالنجيع أهدابها، إلا أنه نزل بمن لا يصبح الجزع مالكه، ولا تخطب الخطوب تهالكه، فلذلك ساغ للعبيد أن يخلوا الخدم من الإرشاد إلى مواقف التسليم، والحض على الصبر على الحادث الأليم، ويقتصروا على الرغبة إلى الله ي أن يهب له عقبى الدار، ويغفل عنه جوامح الأقدار، ويسعد بني الدنيا بسعادة حده، ويصون عن درجة الكسوف شموس مجده:
إذا صفحت عنك الليالي وأعربت ... بحفظك فينا هان كل مضيع
ولابن سنان:
وكيف يفوز الغيث فيك بمنة ... إذا كنت لا أرضى سحائب أدمعي
وليس بكاء العين إلا خيانة ... ولا اللؤم إلا أنها بقيت معي
وأين وفائي! لا مدى الدمع بالغ ... رضاي ولا جهد الصبابة مقنعي
1 / 58