وقد سلم ابن حيوس مما لزم الصاحب، لما كان مادحا لبني تغلب، وغير محتاج إلى بناء الفعل لما لم يسم فاعله في قوله:
إذا البيض كلت يوم حرب فإنها مواض قواض أن تغلب تغلب
ومولانا؛ فقد صان الله مواقفه المعظمة، ومقاماته المكرمة عن أن تكون الخدم بها إلا منقحة، والمدح لها إلا مهذبة مصححة، وحماها مما لم يزل سامعوه ينتقدونه فيحتاج قائلوه إلى الاعتذار عنه بما يتأولونه.
كان أبو المناقب الشاعر قد خدم المقام العالي المالكي الأفضلي - ثبت الله سلطانه - بعيدية أولها: نهنيك، كلا! بل يهنى بك الدهر فقيل له: إن لفظة (كلا) هاهنا غير مستحسنة، فوافق على ذلك وغيرها فقال: نهنيك والأولى نهني بك الدهر وهذا دليل على أن الأقدار بخدمة مولانا متطوعة، والأفكار إلى ما يرتضي غرضه بعالي مجلسه متوثبة متسرعة.
ويروى أن سيف الدولة علي بن حمدان قال لابن خالويه: لم يأت على تصريف: رحم، فهو راحم، ورحيم، ورحمان؛ إلا قولهم: سلم فهو سالم، وسليم، وسلمان، وندم فهو نادم، ونديم، وندمان. فقال ابن خالويه: أعرف رابعا في نسب الأمير، قال: وما هو؟ قال: حمد فهو حامد، وحميد، وحمدان.
وهذه الرواية وإن شهدت بفضيلة سيف الدولة وأدبه، فقد أعربت عن إغفاله تقصي النظر في نسبه.
وقد تقدم من وصف مولانا ما يدل على معجزاته، وعلم معه أن الاستدراك لا مجال له في معلوماته، ولو أودع هذا الباب ذكر خصائصه لأتى من توسيع القول وبسطه ما يقضي بتوفر حظ الإطناب وتضاعف قسطه.
يقال: إن رجلا سأل شرف الدولة مسلم بن قريش حاجة، وسار في موكبه إلى أن وصل إلى حضرته، فقال له: أيها الأمير لا تنس حاجتي، فقال له شرف الدولة: إذا قضيتها نسيتها! وهذا من الأجوبة الدالة على شرف القدر، واستيجاب الصدر، وهو جل البيت الثاني من قول ابن قابوس عمر بن مسلم في يحيى بن خالد البرمكي:
رأيت يحيى أتم الله نعمته ... عليه يأتي الذي لم يأته أحد
ينسى الذي كان من معروفه أبدا ... إلى الرجال، ولا ينسى الذي يعد
ومن أعلى رتب البلاغة نثر المنظوم ونظم المنثور، وقل من يجيد فيهما إلا من أعانته دربته، وساعده طبعه وفطرته.
وقد كان أبو سعد علي بن خلف صنف لبهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة كتابا في حل المنظوم، ولقبه بالمنثور البهائي واعتمد فيه على الحماسة، للألف لها، والأنس بها، كما فعل أبو علي الفارسي في كتاب الإيضاح الذي عمله لأبيه عضد الدولة فناخسروا؛ فإنه استشهد في باب (كان) بقول أبي تمام:
من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا
قال علي بن عيسى الربعي: قال لي أبو علي مرات: ما أفرق بين شعر الطائي والبحتري، وبين حجرين ملقيين في الطريق أتجنب أن أعثر بهما فأعدل! ثم اعتذر إلي من هذا البيت الذي ذكره في الإيضاح، فقال: يا أبا الحسن، لا تظن أني تغير رأي في الطائي، أو ناقضت لذكري هذا البيت، وإنما جرى في مجلس الأمير فعملته لأنه من حفظه لا أني جعلته شاهدا! ولعمري إن أبا تمام وغيره من المحدثين لا يستشهد بأشعارهم في النحو ولا اللغة؛ لأن الشواهد على ذلك إما لجاهلي، وإما لمخضرم: بفتح الراء وكسرها. قال الأخفش: يقال: ماء خضرم إذا تناهى في الكثرة والسعة، فمنه سمي الرجل الذي شهد الجاهلية والإسلام مخضرما؛ كأنه استوفى الأمرين.
قال: ويقال: أذن مخضرمة، إذا كانت مقطوعة، فكأنه قطع عن الجاهلية إلى الإسلام.
وإما لإسلامي كرؤبة، وذي الرمة، وجرير، والفرزدق.
على أن ابن جني قال في شرح منهوكة أبي نواس: وبلدة فيها زور.
قال بعض أهل علم العرب: لولا ما كان أبو نواس يخلط به شعره من الخلاعة لاحتج به في كتاب الله ﷿ _، وفي حديث رسول الله ﷺ.
رجع المملوك إلى حل المنظوم: فمن فصول المنثور البهائي المقدم ذكره:
1 / 47