وأتى يحيط بجلاله وصف وقد عم عدله الآفاق، فساوى بين البعيد والقريب، وتأرجت الأرض بالثناء عليه فكاد النسيم يتضرع بالطيب، وحاز العزة الباذخة التي استحقها وراثة وإلهامًا، واستولى على الرتبة الشامخة التي يتعاظمها كل ملك ويتحامى:
فعلت فما يسمو إليها مرتق ... وغلت فلست ترى لها مبتاعا
فمهابته مقابلة العظمة بالخشوع والسجود، ومخافته محرمة على الأجفان لذيذ الهجوع والهجود، وفواضله الوسيعة قد طبقت جميع الأرض من السهول والنجود، وخلائقه الشريفة مزرية بالجوهر الفاخر والروض الممطور المجود، فلا سبيل إلى استيعاب أوصافه الباهرة واستقصائها، كما لا مطمع في عد كواكب السماء وإحصائها. على أن مفاخره أعلى من النجوم محلا، وأكثر منها عددا، ومكارمه أوسع من البحار الزاخرة مدى، وأغزر منها مددا، ولا اختلاف بين ذوي الفهم والتصور، ولا ارتياب عند أولي التأمل والتدبر أن الله تعالى اصطفاه ليملكه الأرض وحده، وأن ذلك مما لا يستطيع أحد إنكاره ولا جحده، لما أوتيه من القوى اللاهوتية، ومنحه من الخصائص الملكوتية. والله ﷿ يقضي بدوام سلطانه القاهر وخلوده، ويملأ آفاق الدنيا بجيوشه المنصورة وجنوده، حتى لا تبقى أمة من الأمم إلا وقد ذلت منه لمسترقها ومالكها، لا بقعة من الأرض إلا وقد وسمت بحوافر خيوله وسنابكها؛ ليستهم النعمة به كافة الخلق وجميع البرية، ويعلم الكافة من شريف سيرته ما لا عهد لهم بمثله في الطباع البشرية، وهو بكرمه يرفع هذا الدعاء الذي يصعد إليه ويترقى، ويجعل هذا الابتهال مستقبلا بالإجابة متلقي، ويسهل بذلك نفاذ الأقضية والأقدار، ويعجل المصلحة بتيسيره لأهل هذه الدار. بفضله وطوله وقدرته وحوله.
ولما كانت خدمة مقامه الأكرم من أنواع العبادة وأسباب الطاعة، والتوفر عليها كفريضة الحج الواجبة على ذوي القدرة والاستطاعة؛ تعين على كل مملوك أن يعتمد ذلك على حسب إمكانه، ويحرص على أدائه بقلبه ويده ولسانه، واثقًا أن المواقف الشريفة تقبل جهد المقل في خدمتها، والمقامات الكريمة ترضى قدرة المستطيع وإن قلت في مقابلة عظمتها:
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
فلذلك خدم المملوك بلمعة من الأدب الذي نفقت في أيام مولانا سوقه، وضحت للمتوسلين به سبيله وطريقه، وجعل خدمته مشتملة على أشياء قد عهد فيما يماثلها أن يمال إليه ويصغى، وألف فيما يجانسها أن يحافظ عليه ولا يلغى، وكان اعتماده على البدائع التي ظهرت في دولته كوامنها، وبرزت في مملكته مخبآتها ودفائنها، فإن أورد قديما فلما هو عليه من بديع المعنى وحسن السبك، وأنه مما لم يبتذله الاشتهار كما ابتذلت الرواية: قفا نبك. أو لأن فيما أورده لمحدث شبها له ومثلا، فقصد بذكره أن ينظم للمحاسن عقدا، ويجمع لها شملا، أو لأن المملوك أو من يماثله من المحدثين أغربوا فيما انتقدوه فيه، وتنبهوا منه على ما لم يسبقوا إليه، ولولا ذلك لما عرض له، ولا ألم به؛ إذ كانت خزائن مولانا قد اشتملت عليه عن معاد ذلك ومنقوله والله ﷿ يوفق المملوك لما يحظيه ويزلفه، ويسعده بارتضاء ما يخدم به ويؤلفه بمنه وكرمه.
من المحاسن العصرية في المملكة المصرية
قد خدم مجلس مولانا الملك بغرائب من المدح كان البيان بها ضنينا، وأنتج الدهر له من بدائع القول ما لم يزل ف حشاه جنينا، مما استقرت الخدم به عند حفظتها، وحصلت مصونة تحت أيدي خزنتها، من منثور يتناقل في الآفاق ويتهادى، ويحدث لسامعه طربا لم يكن لمثله معتادا:
وقواف ليست تفارق معنا ... هـ على أنها تجوب البلادا
ولولا ذلك لقصر المملوك هذا الفصل منها على الجوهر الشفاف، وأورد من الصفات الشريفة ما ينسب المفرق فيه إلى التقصير إذا نسب غيره إلى الإسراف. فهو يذكر غررًا لا يتحيز إلى فن مفرد، ويورد متخيرا يعرب عن حسن المطلب وجودة المقصد، ويفتتح ذلك بأحق الأشياء بالتقديم، وأولاها بالتشريف والتعظيم.
قال محمود بن القاضي الموفق في مولانا الملك ثبت الله دولته:
مليك تذل الحادثات لعزه ... يعيد ويبدي والليالي رواغم
فكم كربة يوم النزال تكشفت ... بحملاته وهي الغواشي الغواشم
تداركنا والمكرمات دواثر ... يصم صداها والمعالي معالم
1 / 18