ومن هؤلاء الشعراء من يحسن في كثير مما يتصرف فيه، ويتناول المعنى فيجيده ويستوفيه؛ فمن محاسن أحمد هذا ما كتب به مع تفاح أهداه إلى ابن عباد:
يا من تزينت الريا ... سة حين ألبس ثوبها
جاءتك جامدة المدا ... مِ فخذ عليها ذوبها
وهذا من قول الخليع:
الراح تفاح جرى ذائبا ... كذلك التفاح راح جمد
فاشرب على جامده ذوبه ... ولا تدع لذة يوم لغد
وقال السري:
وقد أضاءت نجوم مجلسنا ... حتى اكتسى غرة وأوضاحا
لو جمدت راحنا اغتدت ذهبا ... أو ذاب تفاحنا اغتدى راحا
والأصل في ذلك ما يحكى من قول كسرى: لست أدري: هل التفاح خمر جامد، أم الخمر تفاح ذائب؟.
وقد أكثر الشعراء من وصفها بذوب الجامد، فمنهم من يجعلها ذوب الذهب كقول الصنوبري:
رأيته والكأس في فيه قد ... صوبها كالكوكب الصائب
وجسمها من ذهب جامد ... وروحها من ذهب ذائب
وقول محمد بن عباد:
أبدى لنا من لطيف حكمته ... في جامد الماء ذائب الذهب
ومنهم من جعلها ذوب الورد كقوله:
لاح وفاحت روائح الند ... مختصر الخصر أهيف القد
وكم سقاني والليل معتكر ... في جامد الماء ذائب الورد
وقول الصنوبري:
من ينس لا أنس اتصال زماننا ... ويد السعود على الزمان مساعده
إذ نخبتي راح كورد ذائب ... وتحيتي ورد كراح جامده
وكل هذا تصرف في قول ابن المعتز:
وزنا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا
وعلى ذكر الذهب وذوبه فحدثني إبراهيم بن شغب أنه ليم فيما أنفقه على جارية له، فقال:
ما الذهب الصامت مستكثرا ... إذ هابه في الذهب الناطق
قال أبو بكر محمد بن عمار:
ملوك مناخ العز في عرصاتهم ... ومثوى المعالي بين تلك المعالم
إذا قصر الروع الخطى نهضت بهم ... طوال العوالي في طوال المعاصم
وأيد أبت من أن تؤوب ولم تفز ... بجز النواصي أو بجز الغلاصم
إذا ركبوا فانظروا أول طاعن ... وإن نزلوا فارصده آخر طاعم
وهذه قطعة اتسع فيها، وأحسن التصرف في معانيها، فقال في صفة الفرس:
خذوا بين إن لم تهدروا كل سابح ... لريح الصبا في إثره أنف راغم
من العابسات الدهم إلا التفاتة ... إلى غيره أهدت له ثغر باسم
طوى بي عرض البيد فوق قوائم ... توهمته منهن فوق قوادم
ومن جيد ما فيها:
وليل لنا بالسدتين معاطف ... من النهر ينساب انسياب الأراقم
بحيث اتخذنا الروض جارا تزورنا ... هداياه في أيدي الرياح النواسم
وبتنا ولا واش يحس كأننا ... حللنا مكان السر من صدر كاتم
ولأبي بكر هذا:
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ... ونحاه لا يردون حتى يصدرا
قداح زند المجد لا ينفك من ... نار الوغى إلا إلى نار القرى
أيقنت أني من ذراه بجنة ... لما سقاني من نداه الكوثرا
وقال أيضًا:
جنيت ثمار النصر طيبة الجنى ... ولا شجر غير المثقفة الملد
ببدر ولكن من مطالعه الوغى ... وليث ولكن من براثنه الهندي
ورب ظلام سرت فيه إلى العدا ... ولا نجم إلا ما تطلع من غمد
ومنها في ذكر بلدة افتتحها وأحرقها:
فأرملتها بالسيف ثم أعرتها ... من النار أثواب الحداد على الفقد
فيا حسن ذاك السيف في راحة الهدى ... ويا برد تلك النار في كبد المجد
فقوله أرملتها بالسيف، وألبستها حدادا بالنار، من أحسن تركيب وأبدع تشبيه. ولقد ذكر عبد الله بن محمد مثل ذلك، وهو وأبو بكر متقاربا الزمن، متباينا الوطن؛ فهذا بالعدوة الدنيا وهذا بالعدوة القصوى. فقال وأحسن ما شاء:
غادرتها دمنا على أطلاعها ... يبكى الخليط وتذكر الأشواق
وشرعت دين قراك في عرصاتها ... فالنار تضرم والدماء تراق
وعلى هذا البيت من البهجة، وحسن الديباجة، ما لا أعلم لأحد مثله. ولقد ذكرت بالنار قول الآخر في حريق جامع دمشق:
فأتته النيران طولا وعرضا ... عن يمين من قتره ويسار
ثم مرت على حدائق نخل ... فإذا الجمر موضع الجمار
ومن قول أبي بكر:
1 / 11