وفي رأينا أن محاولة ماير هذه وإن تكن تنطوي أحيانا على قدر من الإسراف، فإن فيها عناصر معقولة إلى حد بعيد، فأغلب الظن أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن نرى ذلك المفكر الذي قضى حياته في صحبة الملوك والأمراء، وشعر بسطوة القوة وتأثيرها وأهميتها، وخضع هو ذاته لتأثيرها، وجاهر باحترامه لها، نقول: إنه لم يكن من قبيل المصادفة أن يجعل ذلك المفكر من فكرة القوة أساسا لتفسيره للعالم، ومعيارا للتفرقة بين مراتب الكائنات.
وإذا فجوهر الأشياء جميعا - في رأي ليبنتس - هو القوة عنده تصور أسبق من تصور الحركة نفسه؛ إذ إن الحركة - رغم ما لها من أهمية في تفسير الظواهر - ينبغي أن ترد آخر الأمر إلى نوع من القوة أو النزوع. ومن المؤكد أن ليبنتس قد أدخل تغييرا أساسيا على مفهوم الجوهر حين عرفه على هذا النحو؛ إذ إن الجوهر في الفلسفات التقليدية كان هو العنصر أو الأساس الذي يظل ثابتا من وراء تغييرات الظواهر، على حين أنه يغدو - في معناه الجديد عند ليبنتس - متغيرا فعالا، خاليا تماما من أي عنصر سكوني.
ولم يكن تقريب ليبنتس بين هذه الوحدات الجوهرية الفردية وبين النفوس البشرية مجرد تشبيه فحسب. بل إنه يعني بالفعل أن ذلك النوع الخاص من الوجود - الذي نستشعره في أنفسنا - منتشر في الكون بأكمله ولكن بدرجات متفاوتة؛ ذلك لأن الطبيعة لا تعرف انفصالا ولا طفرات مفاجئة، بل إن «قانون الاتصال» يسري على كل أجزائها؛ ومن هنا قال ليبنتس بنوع من الحيوية أو الوجود الحي في الطبيعة بأسرها، وأكد أن الحياة النفسية منتشرة في جميع نظم الطبيعة، وإن كانت تتخذ صورا غامضة في الكائنات الدنيا، ولا ترقى إلى مرتبة روحية تكتفي بالإدراك وحده
، وأخرى يتوافر لديها الإدراك الذاتي أو الوعي
appercéption
الأولى يسميها بالذرات الروحية المحض أو الكمالات
entétéchies ، والثانية هي النفوس البشرية، التي تتميز عن الأولى بازدياد تميز إدراكها، وبوجود ملكة الذاكرة والوعي لديها، وبمزيد من الإرهاف في حواسها.
وربما رأى البعض - عن حق - أن فكرة بعث الحياة في الطبيعة، أو تصور كل ذرة في الكون على مثال النفس البشرية، تفتح الباب أمام التفسير الأسطوري للأشياء؛ إذ إن الأساطير ما هي إلا محاولة لبعث الحياة في الكون بأكمله، ولتشبيه طبائع الأشياء كلها بطبيعتنا الخاصة. غير أن من المؤكد - رغم ذلك - أن ليبنتس قد أضفى على رأيه هذا طابعا علميا مستمدا من قانون الاتصال الذي أشرنا إليه من قبل؛ فالطبيعة في رأيه تسير على نحو مطرد. وهذا مبدأ أساسي لا غنى عنه للروح العلمية الصحيحة. ومن الخطأ أن نتصور أن ذلك الجزء من المادة - الذي تتألف منه الأجسام البشرية - هو وحده الذي يرتبط بمبدأ نفسي أو روحي، وهو وحده ملكة الإحساس والإرادة، فمعقولية الطبيعة واتساقها مع نفسها تتنافى مع هذا التصور؛ وعلى ذلك فإن الروح العلمية الصحيحة - في رأي ليبنتس - هي التي تحتم القول بانتشار نوع من الحياة النفسية في الطبيعة بأسرها.
ومن المؤكد أن تطور علم الأحياء في عصر ليبنتس كان من أهم الأسباب التي دفعته إلى الأخذ بفكرة انتشار الحياة في الكون بأسره، فقد أتاح المجهر لبعض العلماء - وعلى رأسهم ليفنهوك
Leeuwenhoek - أن يكتشفوا كائنات عضوية دقيقة لا تراها العين المجردة في الأجسام المادية التي تبدو جامدة لا حياة فيها، ووجد ليبنتس في ذلك تأكيدا تجريبيا لرأيه القائل: إن المادة التي تبدو غير حية تنطوي على عالم كامل من الكائنات العضوية الدقيقة المشابهة في طبيعتها لنا. وهكذا تصور الكون كله على أنه جسم عضوي لا متناه يتضمن في ذاته أجساما عضوية صغيرة، وهذه بدورها تنقسم إلى أجسام عضوية لا متناهية في الصغر، فكل جزء من المادة ليس فقط قابلا للقسمة إلى ما لا نهاية، وكل جزء منه يقبل القسمة إلى أجزاء لكل منها حركته الخاصة ... «ومن هذا يتضح أن هناك عالما للمخلوقات وللأحياء وللحيوانات وللكمالات والنفوس في أصغر أجزاء المادة.» «ونستطيع أن نتصور كل جزء من المادة على أنه بستان مليء بالنباتات، أو حوض مليء بالأسماك، غير أن كل فرع من النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من هذه السوائل، هو بدوره بستان أو حوض هكذا، حتى التراب والهواء الواقعان بين النباتات، أو الماء الذي تسبح فيه الأسماك، يحتوي بدوره على مخلوقات دقيقة لا ترى.»
Shafi da ba'a sani ba