فعن طريق التنقل الدائم للأجسام وتبادل الحركة والسكون بينها - في إطار مجموع ثابت من الحركة - تفسر الظواهر الكونية كلها، كتكوين الأجرام السماوية والضوء والثقل والحرارة والألوان والروائح للأجسام. وهكذا يرتكز ديكارت على مبدأ ذي مظهر لاهوتي، هو مبدأ بساطة الطبيعة الإلهية؛ لكي يصل إلى تفسير لحوادث العالم خال تماما من الغيبيات، ويعد في عصره تعبيرا عن روح علمية أصيلة.
بل إن فكرة الإلهية ذاتها هي الفكرة التي أوضحنا من قبل مدى تعارضها مع روح الميتافيزيقا، والتي كانت تعبيرا عن إدراك ديكارت الكامل لأهمية الميكانيكا، وهي أهم العلوم في عصره، قد غلفت بدورها بغلالة لاهوتية؛ ذلك لأن ديكارت يعرض أصل الكون وتطوره في فلسفته الطبيعية وكأنه آلة كبرى تتكون تدريجيا. ولكنه كان حريصا على أن يجامل الأوساط اللاهوتية في تقديمه لهذه الفكرة ذات النتائج الخطيرة، فقال: إنه يعلم أن العالم قد خلق على أكمل صورة ممكنة، لكنه يود فقط أن يبحث في «احتمال» أن تكون الحالة الراهنة للعالم قد تطورت من حالة أخرى أقل كمالا. وهكذا اتبع ديكارت هنا أسلوبا حذرا يذكرنا بذلك الذي سبق أن اتبعه ناشر كتاب كبرنيكوس الأشهر في «دورات الأجرام السماوية» - وهو الأب «أوسياندر»
Oseander - عندما قال في تقديمه للكتاب: إن المؤلف على يقين من أن الأرض ثابتة، وأنها مركز الكون، ولكنه يود أن يتخيل فقط ماذا يكون عليه الأمر لو كانت تدور؛ أي إن أهم كشف علمي حديث قد عرض كما لو كان تدريبا عقليا فحسب، ولم يكن ذلك في الحالتين إلا نتيجة للصدمة العقلية التي ستحدثها الفكرة الجديدة، وخاصة في عقول رجال الكنيسة.
ويمكن القول: إن المكانة الكبرى التي أعطاها ديكارت للرياضيات في تفسيره للعالم، تدخل بدورها في هذا الباب، فديكارت يرى أن القوانين الرياضية هي ذاتها اللغة الإلهية كما تنطبع على العالم. وهكذا يضع ديكارت أساسا لاهوتيا قويا لفكرة علمية خالصة، هي الفكرة القائلة: إن مسار الظواهر الطبيعية تحكمه قوانين رياضية دقيقة، وتلك - كما نعلم - فكرة افتتنت بها عقول العلماء في عصر ديكارت. وكانت هي الكشف الكبير التي توصل إليه كبلر وجاليليو وباسكال، ومن بعدهم نيوتن، وقد استنتج
Bridoux
من ذلك وجود تطابق أساسي بين العقل الإلهي والعقل البشري عند ديكارت، ما دام كلاهما يعمل وفقا لقوانين رياضية شاملة، فقال: «إن التطابق بين أسرار الطبيعة وتسلل الرياضيات - الذي افتتن به ديكارت عندما شعر بوجوده - أصبح (بعد الوصول إلى المنهج) أمرا يقينيا ، فما دام العقل الإلهي متجانسا مع عقلي فإن أساليب العقل الإلهي في الخلق لا يمكن أن تكون مختلفة عن أساليب العقل البشري في العلم. وهكذا فإن «الميكانيكا الكبرى» التي ذكر ديكارت أن الوصول إليها يكفل لنا معرفة كاملة وشاملة بالكون، هي العلامة التي طبعها الله على ما خلق، وهي في الوقت ذاته نتاج عقلي البشري حين يسير وفقا لقوانينه الداخلية؛ ومن ثم فإنني أغدو على ثقة من أن كل الأشياء التي أكون عنها فكرة منظمة يمكن أن تكون ناتجة عن الله بنفس الطريقة التي أتصورها بها؛ أي إن العقل البشري وهو يمارس عمله في الخلق»،
9
وربما كان للمرء الحق في ألا يتفق مع صاحب النص السابق في قوله بالتجانس بين العقل الإلهي والعقل البشري، لا سيما وأن ديكارت لا يكف عن تأكيد التفاوت الهائل بين نطاق فهمنا المحدود والمقاصد الإلهية التي تتجاوز عقولنا إلى حد لا متناه، فضلا عن تأكيده أن الإرادة الإلهية لا تتقيد بشيء، وأن من الممكن - نظريا - أن يجعل الله مجموع الواحد والاثنين غير مساو للثلاثة (كما أوضحنا من قبل). ومع ذلك فسيظل من الصحيح أن الرياضة التي هي علامة الدقة العلمية بالنسبة إلى العقل الإنساني، هي أيضا لغة إلهية أو تعبير عن طريقة الله في تدبير الكون، والنتيجة العلمية لهذا الرأي هي تأكيد التفسير الرياضي للعالم، وصد أية هجمات لاهوتية يمكن أن توجه إلى هذا التفسير. (5)
وربما قيل: إن طريقة التعبير التي ضربنا لها أمثلة في النقطة السابقة كانت أصيلة لدى ديكارت، وأنه كان بالفعل يعني ما يقول. ولكن واقع الأمر هو أن ديكارت - شأنه شأن كثير من فلاسفة القرن السابع عشر - كان يعتمد أن يحجب الكثير من آرائه، وألا يصرح إلا بما يعتقد أنه يثير غضب السلطات المسيطرة في ذلك الحين. والواقع أن فيلسوف القرن السابع عشر كان يواجه في التعبير عن آرائه صعوبة كبرى ؛ فهو من جهة يتحمس بكل ما يملك من حب للحقيقة، للاتجاهات الجديدة ذات الطابع العلمي، ويود هو ذاته أن يسهم في هذه الاتجاهات كيما يساعد العقول على الخروج من ظلال العصور الوسطى والتحرر من سلطة أرسطو والمدرسة الغاشمة. ولكنه من جهة أخرى كان يرى أنه لا ينطق إلا باسم أقلية مستنيرة كانت حتى ذلك الحين ضئيلة الشأن. وكانت السيطرة الحقيقية للقوى التقليدية، وعلى رأسها الكنيسة التي كان رجالها يشغلون المناصب الرئيسية في الجامعات. وكان لهم نفوذ هائل على السلطات الحاكمة. وفيما بين حب الحقيقة والخوف من اضطهاد المتعصبين كان الفيلسوف يحاول أن يشق لنفسه طريقا أشبه بصراط يوم الحساب، حيث يمكن أن يؤدي به أقل انحراف إلى الجحيم. ولقد عرضنا في موضع آخر بتوسع لنموذج يمثل الطريقة التي حاول بها واحد من كبار فلاسفة ذلك القرن - وهو اسبينوزا - أن يوفق بين هذين المطلبين المتناقضين،
10
Shafi da ba'a sani ba