دعوته إلى الفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي. (3)
مناداته بفلسفة جديدة ترتكز على أساس متين من العلم الطبيعي، لا من الميتافيزيقا التجريدية.
ونستطيع أن نقول في صدد المسألة الأولى: إن طبيعة العلم قد أخذت تتغير بسرعة بعد وفاة بيكن بوقت قصير. صحيح أن الحركة العلمية الحديثة كانت قد بدأت قبله ومستقلة عنه. ومع ذلك فقد كان لتعاليمه تأثير بعيد في دفع هذه الحركة إلى الأمام، أسفر عن إنشاء الجمعية الملكية في لندن (وهي الجمعية التي أشاد مؤسسها بذكرى بيكن في يوم افتتاحها)، وظهور موجة طاغية من الأبحاث التجريبية والكشوف الفنية التفصيلية التي استلهمت تعاليمه، والتي مهدت لظهور الثورة الصناعية في إنجلترا بعد ذلك بقرن من الزمان .
أما مسألة الفصل بين الدين والعلم، فمن المؤكد أن بيكن قد أسدى بها إلى العلم خدمة كبرى، وجنبه تدخل رجال اللاهوت الذين كانوا يرون أنفسهم «علماء»، وأصحاب الرأي المطلق في كل كشف جديد؛ لأنهم حملة الأسرار الإلهية: ولا يستطيع أحد أن يشك في إيمان بيكن بتعاليم الدين، غير أنه كان في الوقت ذاته حريصا كل الحرص على إبعاد السلطة الدينية عن مجال الحقيقة العلمية، بحيث اكتفى في الشئون الدينية بالوحي، وترك للعقل مهمة بحث مادة العالم الطبيعي وكشف قوانينها؛ وبذلك صد عن الباحثين في مجال العلم هجمات رجال الدين دون استقرار لهؤلاء الأخيرين.
وأما فلسفة بيكن المرتكزة على أساس علمي فقد ظلت هي التيار السائد في الفلسفة الإنجليزية على التخصيص حتى اليوم. ويمكن القول إن المذاهب التجريبية بمناهجها في الملاحظة التسجيلية الدقيقة لعمليات الذهن البشري، وكذلك المذاهب الوضعية في تحليلاتها الدقيقة للغة العلمية، كل هذه قد تأثرت - بطريق مباشر أو غير مباشر - بدعوة بيكن الفلسفية الجديدة في مستهل العصر الحديث. (8) نصوص من «الأورجانون الجديد»
أوردنا خلال البحث نصوصا متعددة من كتاب «الأورجانون الجديد»؛ ولذا سنكتفي في هذا الجزء بنصوص قليلة، تكمل ما اقتبسناه من قبل: (1)
في القسم 84 من الباب الأول، يناقش بيكن فكرة احترام القدماء والخضوع للسلطة في ميدان الفلسفة، ويوضح مدى ضررها بالنسبة إلى تقدم المعرفة، فيقول:
إن الرأي الذي يرفع به الناس من قيمة القديم هو رأي باطل تماما، ولا ينطبق على لفظ «القديم» مطلقا؛ ذلك لأن شيخوخة العالم وتزايد عمره هو الذي يعد، في الواقع، «قديما»، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا هذا، لا للعمر المبكر للعالم في أيام القدماء؛ إذ إن هؤلاء الأخيرين هم بالنسبة إلينا قدماء سابقون. ولكنهم بالنسبة إلى العالم محدثون صغار، ولما كنا نتوقع من الشخص المتقدم في العمر معرفة أعظم بأمور البشر، وحكما أنضج من حكم الشاب ومعرفته؛ نظرا إلى ما اكتسبه الأول من تجارب وما مر به من حوادث منوعة متعددة، ولكثرة ما رآه وسمعه وفكر فيه، فإن لنا الحق في أن ننتظر من عصرنا (لو أنه أدرك قوته وجربها ومارسها) أمورا أعظم مما ننتظره من العصور القديمة، ما دام العالم قد ازداد اليوم قدما، وتضاعفت ذخيرته وتراكمت بفضل عدد لا نهاية له من التجارب والملاحظات. (2)
وفي القسم 129 من الباب الأول، يقارن بيكن بين تأثير المخترعات التي تبدو في ظاهرها بسيطة، بين تأثير الساسة والملوك ورجال الدين في شئون البشر؛ لكي ينتهي من ذلك إلى تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة عن طريق الاختراع، هو أسمى الغايات جميعا، فيقول: «نلاحظ أولا أن استحداث الاختراعات العظيمة يبدو عملا من أروع الأعمال البشرية، وعلى هذا النحو نظر الأقدمون إلى هذه المسألة؛ ذلك لأنهم كانوا يخلعون ألقاب الشرف الإلهية على أصحاب المخترعات. ولكنهم كانوا يكتفون بألقاب الشرف البطولية على أولئك الذين أثبتوا امتيازا في الشئون المدنية (كمؤسسي المدن والإمبراطوريات والمشرعين ومحرري بلادهم من بؤس مقيم وقاهري الطغاة وأمثالهم)، ولو قارن المرء بين الفئتين على النحو الصحيح؛ لوجد أن القدماء كانوا على حق في حكمهم؛ ذلك لأن الفوائد المكتسبة من الاختراعات يمكن أن تعم البشر عامة، على حين أن الفوائد المدنية تقتصر على مواضع خاصة بعينها. كما أن هذه الأخيرة لا تدوم إلا وقتا معلوما. أما الأولى فأثرها باق إلى أبد الدهر. كذلك فإن الإصلاح المدني قليلا ما يتم دون عنف واضطراب، على حين أن المخترعات نعمة وفائدة لا تؤذي ولا تضر أحدا.
وفضلا عن ذلك، فليتأمل المرء الفارق الهائل بين حياة الناس في أرقى البلاد الأوروبية، وبين حياتهم في أية منطقة همجية من جزر الهند الجديدة، وسيجد أن هذا الفارق قد بلغ من الضخامة حدا يجعل الإنسان أشبه ما يكون بالإله إلى الإنسان، ليس فقط بفضل تبادل المساعدة والمنافع، وإنما بفضل الحالة السائدة لدى الإنسان في كلتا الحالتين، وهي نتيجة فنون الإنسان وصنائعه لا نتيجة التربة أو المناخ.
Shafi da ba'a sani ba