وعلى أية حال؛ ففي استطاعة المرء أن يدرك بسهولة أن هذا الاهتمام بالبناءات التجريدية قد انبثق - في حالة البنائية - من دراسة متعمقة لعدد كبير من الظواهر الإنسانية الأصيلة، كالأساطير والأحلام والطقوس البدائية، ولو قارنا بين موقف البنائية وموقف الوضعية المنطقية في هذا الصدد لاتضح لنا أن هذه الأخيرة هي الأحق - بغير جدال - بأن توصف بتجاهلها للإنسان، فقد استبعدت الوضعية المنطقية - باسم العلم أو النظرة العلمية - كل هذه الظواهر من مجال «ما له معنى»، وأبت أن تعترف لها بأي نوع من الحقيقة؛ حرصا منها على فهمها الخاص الشديد الضيق للحقيقة وللمعرفة العلمية التي تنحصر فيما يقبل التحقيق
verification ، أما البنائية فكانت علمية بمعنى أوسع بكثير، يتسع لأنواع من النشاط ومن التجارب الإنسانية التي ظلت تعد حتى ذلك الحين داخلة في باب «اللامنطقي» أو «اللامعقول»، وأتاح لها هذا التوسيع لحدود النشاط العقلي أن ترد اعتبار الإنسانية طوال الجزء الأكبر من تاريخها، وهو ذلك الجزء الذي كان تسوده الأساطير والطقوس والنظم البدائية، كما أتاح لها الوصول إلى معنى جديد للمعقولية، وهو ذلك الذي يهتدي إلى تركيبات عقلية في تلك الظواهر التي تبدو في الظاهر أبعد ما تكون عن العقل.
ولقد انتهى «سيباج
Sebag » في دفاع آخر عن البنائية ضد تهمة إنكار الإنسان إلى نتيجة مماثلة ولكن من زاوية أخرى، فهو يعترف بأن البناءات - التي هي ذات تركيب رياضي ومنطقي - يمكن أن تفهم على أنها مستقلة عن إنتاج الإنسان لها؛ ومن ثم فلا يمكن تفسير مصدر إلا عن طريق الاعتراف بوجودها «قبليا» على نحو لا يخفف من غموض المشكلة الأصلية في شيء، أو عن طريق افتراض لاهوتي هو وجود إله يجعل تركيب الأشياء ذاتها قابلا للحساب الرياضي
Dieu calculateur ،
48
وهو فرض يعبر عن العجز عن حل المشكلة؛ على أن «سيباج» يرد على هذا النقد معترفا بأن كل ما ينتمي إلى مجال الإنسان لا بد أن يكون من صنع الإنسان؛ ومن ثم فلا يصح أن نتصور البنائية على أنها نظرية تجعل أصل الأنساق التي تفسر بها الظواهر الإنسانية خارجا عن نطاق الإنسان، فمسألة ارتباط اللغة والأسطورة والدين والمجتمع بالإنسان ونشاطه العقلي هي مسألة لا جدال فيها . ولكن من الواجب أن نفرق بين مقاصدنا أو نوايانا الخاصة حين نستخدم اللغة أو الأسطورة مثلا، وبين ذلك النسق الذي ينبغي أن نراعيه كلما نطقنا كلاما لغويا أو عرضنا موضوعا أسطوريا، فلكي يكون كلامي مفهوما ينبغي أن ألتزم قواعد معينة، وحتى لو كنت من أنصار التجديد في اللغة فلا بد أن أخضع في هذا التجديد لمبادئ معينة في النسق اللغوي ذاته، ومعنى ذلك أن العلاقة بين الناتج وعملية الإنتاج تصبح في هذه الحالة معكوسة؛ إذ إن الناتج (هو النسق اللغوي) هو الذي يتحكم في عملية الإنتاج (أي التجديد اللغوي واستخدام اللغة بوجه عام) لا العكس. وهذا هو المعنى الذي يمكن أن يقال به: إن البناء يؤدي عمله على نحو مستقل عن الإنسان،
49
أما القول بوجود بناءات خارجة عن أفعال الأفراد والجماعات الإنسانية التي تتعلق بها هذه البناءات، فإنه يعبر عن فهم مثالي مشوه للبنائية؛ إذ إنه يؤدي إلى تجاهل العناصر والمعلومات التي لا غناء لنا عنها في ذلك الجهد النظري الذي نبذله من أجل استخلاص البناء،
50
Shafi da ba'a sani ba