42
والواقع أن حرص ألتوسير الشديد على كشف «البناء» العلمي المنضبط في كتابات ماركس، قد أدى به إلى السير في متعرجات الاستدلال الفلسفي، التي يتوه فيها القارئ معه دون أن يعرف كيف يعود إلى الواقع الذي بدأ منه. وفي خلال هذا المسار المتعرج، والذي ينبغي أن نعترف لألتوسير بالقدرة على سلوكه دون أن يفقد الخيط الجامع بين أطراف براهينه، وبالتمكن التام من شاد الاستدلالات تجريدا، في خلال ذلك يحس القارئ بأن النهاية شيء والبداية شيء آخر، وبأن البناء الشكلي للتفسير أخذ يطغى بالتدريج على المضمون الفكري، حتى يتحول الأمر في النهاية إلى مجرد الاستمتاع بالجمال الشكلي لهذا البناء مع نسيان الهدف الأصلي الذي كان ماركس يضعه نصب عينيه في كل ما كتب.
أما هذا الهدف الأصلي، فهو الإنسان أولا وأخيرا، ومهما قيل عن وجود بناء علمي موضوعي لا شأن له بالاعتبارات العاطفية الإنسانية عند ماركس (وكثير من هذا الذي يقال صحيح)، فإن كل بناء شيده ماركس كان له - في النهاية - هدف إنساني. صحيح أن ماركس قد استبعد الاعتبارات العاطفية من تفكيره، ولم يكن في مرحلته الناضجة يهتم بتحقيق صورة مثالية للإنسان بقدر ما كان يهتم بكشف القوانين العلمية الموضوعية للعلاقات الاجتماعية التي تعلو على الأشخاص، كل هذا صحيح. ولكن هذه الحجج «العلمية» كلها كانت تستهدف - آخر الأمر - القيام بثورة «إنسانية» تؤدي إلى إقامة علاقات اجتماعية يختفي فيها استغلال الإنسان للإنسان، ولو لم يتذكر المرء هذا الهدف النهائي للماركسية على الدوام؛ لكان - على حد تعبير أحد نقاد ألتوسير - كالمستجير من دجماطيقية النزعة الإنسانية بدجماطيقية أخرى أفدح وأخطر، هي دجماطيقية الشكلية التجريدية.
43
والواقع أن ألتوسير كان على حق في محاولته تخليص فكر ماركس من التشويهات التي أصابته على يد أولئك الذين كان هدفهم الأوحد تحقيق غايات علمية وبرجماتية؛ بحيث نسبوا إليه نزعة إنسانية شبه مثالية لكي يرضوا مجتمعا متشبعا بالأفكار والمبادئ الليبرالية، ويقربوا أفكاره إلى عقول الناس في مثل هذا المجتمع، وبهذا المعنى كان تفسير ألتوسير نوعا من العودة إلى الأصالة بعد التشويهات العملية، التي لا تقيم وزنا كبيرا للمذهب في صورته النقية، ولا يملك المرء إلا أن يتعرف بأن ألتوسير كان على حق - ولو بصورة جزئية - حين هاجم أولئك الذين انطلقوا - في تفسيرهم لماركس - من مفهوم مجرد للإنسان، وارتكزوا على مفاهيم مثل «الاغتراب» لم يحاولوا أن يربطوها بجذور اجتماعية ملموسة. وكان على حق حين أكد أن العلم الإنساني الذي شيده ماركس في «رأس المال» لم ينطلق من مفهوم الإنسان، حتى لو كان ذلك هو الإنسان الواقعي في علاقاته الإنتاجية المحددة، بل انطلق من تحليل بناء الإنتاج ومن فكرة الطبقات الاجتماعية. ومن القوانين الموضوعية للاقتصاد التي توجد مستقلة عن وعي الإنسان بها، بل وتتحكم في هذا الوعي.
ولكن عندما يصل الأمر بهذا التفسير إلى رفع شعار «موت الإنسان» (بالمعنى المحدد في الفقرة السابقة)، فإن المرء لا يملك إلا أن يعد هذا تطرفا غير مشروع؛ فالقضية الكامنة من وراء هذا الشعار - وهي أن هناك تعارضا بين الاعتراف بالإنسان كنقطة بداية للبحث، وبين الوصول إلى الحقائق الموضوعية للمجتمع - هي ذاتها قضية مشكوك فيها إلى حد بعيد، وإذا كانت تلك الحقائق الموضوعية الذي ركز عليها ألتوسير تفسيره هي البناء الطبقي وعلاقات الإنتاج وقوانينها اللاشخصية، فمن المهم أن نذكر أن عملية الإنتاج نفسها عملية إنسانية، بل هي التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات التي لا «تنتج» شيئا لكي تعيش، وتلك حقيقة أكدها ماركس نفسه، وخطورة هذا التطرف في التفسير تكمن في أنه يصور الأمر كما لو كانت في المجتمع قوى تعمل بذاتها - بصورة تلقائية لها قوانينها الخاصة - على نحو مستقل عن الإنسان الذي هو في نهاية الأمر صانعها وسبب وجودها.
ولذلك نعتقد أن «ميلو
Milhau » كان على حق حين انتقد تطرف ألتوسير في إنكار النزعة الإنسانية بقوله: «إذا اعترفنا بأن الماركسية منظورا إليها على أنها تصور علمي لتطور المجتمع لم تكن نزعة إنسانية بمعنى نظرية تستمد نقطة انطلاقها من الإنسان، وإذا سلمنا بأنها على عكس ذلك، هي الدراسة العلمية لتطور المجتمع في تحديداته الذاتية والموضوعية، فإنه يظل من الصحيح رغم ذلك أن هناك نزعة إنسانية ماركسية تعبر عن أماني الطبقات المضطهدة في صراعها من أجل التحرر . هذه النزعة الإنسانية ليست إضافة ذات طابع روحي تلصق أو تلحق بنظرية علمية، بل هي تركز نظريا على حقيقة واقعة، هي وجود أفراد من البشر يسلكون في العمل المنتج وفي صراع الطبقات بكل أشكاله وفقا لشروط محددة لا تتوقف عليهم، وتترتب على سلوكهم هذا تغييرات على مستويات متعددة، سواء أكان سلوكهم واعيا أم لم يكن، وسواء أكانت هذه التغيرات متعمدة أم لم تكن، وهذه التغيرات بدورها تتخذ موضوعا لدراسات تجريبية وعينية، وفقا لمقولات المادية التاريخية، (مما يؤدي إلى ظهور) دراسة إنسانية علمية لا يمكن أن تستمد مبادئها إلا من المادية الجدلية والمادية التاريخية مفهومتين بمعناهما الشامل.»
44
وهكذا يكون من الممكن التوفيق بين الاهتمام بالقوانين الموضوعية للمجتمع والاهتمام بالإنسان. أما حين يصل الأمر عند ألتوسير إلى حد استبعاد مفاهيم أساسية عند ماركس، مثل مفهوم النزعة الإنسانية والاغتراب و«البراكسيس» والنزعة التاريخية على أساس أنها كلها تمثل مرحلة «أيديولوجية» سابقة على الماركسية الناضجة، وعلى أساس أنها تشكل عقبة في وجه الفهم البنائي العقلاني للمجتمع، فإن هذا يعني أن صاحب هذا التفسير لا يتحدث عن ماركس الحقيقي بقدر ما يتحدث عن ماركس كما يتلاءم مع تفكير المفسر ذاته؛ أعني ماركس التجريدي الذي وضع الإنسان وواقعه العيني «بين قوسين»، واكتفى ببناء طاغ على الإنسان، ولتحقيق ذلك لجأ ألتوسير إلى التمييز بين ما قاله ماركس فعلا، وما كان يعنيه «حقيقة» ولكن بصورة ضمنية، ومثل هذا التمييز بين التعبير الصريح للمفكر وبين «ما يقصده بالفعل» هو دائما محفوف بالخطر، يكون من الصعب معه وضع حد فاصل بين التفكير الأصلي للفيلسوف المراد تفسيره، وبين الاتجاهات الخاصة التي يريد المفسر - بناء على تكوينه الفكري الخاص - أن ينسبها إليه، وبقدر ما يكون في مثل هذا التفسير من جدة ومن أصالة - وهي صفات تتوافر في ألتوسير بغير شك - فإنه يظل على الدوام معرضا للانحراف عن نقط البداية التي انطلق منها، ولفقدان الطريق الموصل إلى حل للمشكلات التي بدأ بالتصدي لها.
Shafi da ba'a sani ba