érudition ، وثانيهما أن يجد في هذه الشخصيات الثانوية - التي لم تكن تتابع حركة الرفض الناشئة في ذلك الحين - تأييدا لذلك التصوير البنائي الذي عبر عن روح عصر النهضة، ولو كان فوكو قد رجع إلى الشخصيات الكبيرة في ذلك العصر؛ لأدرك أن كل شيء كان موضوعا موضع الشك والتساؤل، وأن العقول الناضجة لم تكن سوى إشكالات وأسئلة قلقة حيث كانت العقول الهزيلة ترى كلا متكاملا مقفلا على ذاته. ومن الجائز أن هذه الأسئلة لم تكن تطرح دائما بطريقة صارخة، وأن الشك والقلق كان يخشى التعبير عن كل ما ينطوي عليه من هدم لنظام المعرفة القديم، ولكن من المؤكد أن اتجاه أقطاب عصر النهضة كان واضحا، وأن بركانا كان يغلي تحت السطح، على حين أن فوكو لم يركز نظرته إلا على ذلك السطح الساكن الراكد، فكان من الطبيعي ألا يتصور البناء الفكري لذلك العصر إلا على أنه أشبه بالفلك المقفل المستدير.
ومثل هذا يقال عن نظرته إلى العصر الكلاسيكي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث كان «النظام
Ordre » يسود جميع مجالات المعرفة والنشاط الذهني للإنسان؛ ففي وسعنا أن نوافق معه على أن النظام كان بالفعل حقيقة أساسية في ميادين الرياضيات والفلك والفيزياء. وفي الإبداع الفني (القواعد الكلاسيكية للعمل الفني) والميدان السياسي (نظام الحكم المطلق). ولكن هذا النظام بدوره لم يكن يخلو من قلق وتوثب وتحفز لكسر كل إطار يدور في داخله النظام الموجود، والدليل على ذلك أن الفترة الأخيرة من هذا العصر هي التي شهدت حركة التنوير، وهي حركة كان أهم ما يميزها هو تطلعها إلى عصر مقبل تتحطم فيه قيود النظام المستتب، سواء أكان ذلك في المجال العقلي أم في المجال السياسي والاجتماعي. ومن الظلم إدراج حركة التنوير - التي كانت تتضمن بذوره ثورة كاملة - ضمن إطار عصر يوصف بأنه عصر شكلت فيه المعرفة نسقا لا يحيل إلا إلى ذاته، ولا تستمد أية حقيقة فيه قيمتها إلا من موقعها في كل أوسع منها، وبأنه عصر لا تظهر فيه أدنى بادرة لفكرة التطور والتحول.
وحين ينتقل فوكو إلى القرن التاسع عشر، يصفه بأنه هو القرن الذي «اخترع» التاريخ واستعاض به عن النظام ؛ على أنه لما كانت نظرة فوكو في أساسها غير تاريخية، فإنه يسيء فهم البناء الأساسي لهذا العصر إلى حد بعيد، ومثال ذلك أنه لا يتحدث عن ماركس إلا في صفات قلائل، ويستبعده بسرعة على أساس أنه لم يأت بجديد بالقياس إلى ريكاردو، ويذهب إلى أنه لم يتجاوز نفس المشكلات، ونفس الإطار المعرفي، الذي دارت فيه أبحاث ريكاردو، ويصف الموجة التي أثارها الاثنان معا بأنها «زوبعة في فنجان»،
29
وليس من الصعب أن يدرك المرء الأسباب التي دعت به إلى إصدار مثل هذا الحكم الجائر، فتفكير ماركس يخرج عن إطار البناء الموحد الذي حدده للقرن التاسع عشر. كما أن ثبات البناء يقتضي ألا يكون قد حدث تحول أساسي في الموضوع الواحد بين شخصيتين كبيرتين مثل ريكاردو وماركس.
أما العصر الحاضر، فإن فوكو يقسم المجال المعرفي فيه إلى أبعاد ثلاثة، الأول منها هو العلوم الرياضية والفيزياء، والثاني هو العلوم التي أطلق عليها اسم «التجريبية» كالاقتصاد والبيولوجيا واللغويات، والثالث هو التفكير الفلسفي. وفي رأيه أن العلوم الإنسانية تبحث لنفسها عن مكان في هذه المجالات الثلاثة؛ إذ تحاول البحث عن صياغة رياضية، وتطبيق الأسلوب التجريبي، وإن كانت تخضع في كثير من الأحيان لإغراء الفكر التأملي. ولكن فوكو لم يتعمق في بحث المشكلات الجوهرية التي تواجه العلوم الإنسانية في عصرنا الحاضر، كالتضاد بين الفهم والتفسير، وبين فكرتي البناء الثابت والمنشأ التاريخي ... إلخ.
ومن خلال هذا العرض السريع للاتجاهات الأساسية في كتاب «الكلمات والأشياء»، نستطيع أن ندرك العيوب الأساسية التي اتسمت بها نظرته إلى بناء الفكر الأوروبي الحديث منذ عصر النهضة حتى اليوم.
فكتابه يحفل بمحاولات التقسيم الثلاثي الذي يسري - بطريقة واحدة - على جميع المجالات، وهي المحاولات التي اشتهر بها كانت في تقسيمه الثلاثي للمقولات الذهنية وتطبيقه لهذه التقسيمات على بحوثه في مختلف المجالات، كما اشتهر بها هيجل في التزامه للإيقاع الديالكتيكي الثلاثي الذي يظل يحكم المذهب من بدايته إلى نهايته؛ فالانتقال من عصر النهضة إلى العصر الحاضر كان انتقالا ثلاثيا مبنيا على نموذج هندسي، هو الانتقال من الشكل الكري المقفل
La sphére
Shafi da ba'a sani ba