intramental
فحسب. أما الالتجاء إلى التجربة فهو «برجماتية» يرفضها ازدراء وترفع.
وهكذا نرى إلى أي حد يظل ألتوسير - في هذه المسألة بالذات - ديكارتيا مخلصا؛ وذلك أولا بسبب نزعته القبلية
a-priorisme
الواضحة، وجعله الحقيقة معيارا لذاتها، وتأكيده أن التجربة هي التي تكتسب مشروعيتها من حقيقة موجودة قبلها، بعكس ما يقول به التجريبيون من أن الحقيقة هي التي تكتسب مشروعيتها من تجربة سابقة عليها، وهو فضلا عن ذلك ديكارتي صميم حين يدلل على هذا كله بما يحدث في الرياضيات، ولا يكتفي بذلك، بل يواصل اتجاه ديكارت في اتخاذه من الرياضيات نموذجا لكل معرفة بشرية؛ على أن ألتوسير يعرض نفسه هنا لنفس النقد الذي طالما وجه إلى ديكارت، وأعني به أن ما يصدق على الرياضيات لا يتعين أن يصدق على بقية العلوم، وأنه إذا كانت العلوم الرياضية تكتفي بمعيار الاتساق الشكلي وتستمد حقيقتها كلها من داخل الذهن، فإن هناك علوما أخرى كثيرة تحتم الخروج عن الذهن، وتحيلنا إلى الواقع، ولا تجد غضاضة في الاستعانة بالتجربة من أجل تصحيح النظرية، ومن أجل أن تتمكن من التمييز بوضوح بين ما هو واقع فعلي وما هو مجرد إمكان ذهني .
وعلى أية حال، فها نحن أولاء نرى ليفي ستروس وألتوسير يتفقان معا على توجيه نقد شديد إلى النزعة التجريبية، ويضعان معيارا لصدق تحتل فيه التجربة - على أحسن الفروض - المرتبة بعد الجهد العقلي، وقد يبدو هذا متعارضا مع ما اعترف به ليفي ستروس ذاته من أن الوصول إلى البناء أمر يحتاج إلى مقارنة وتحليل دقيق لعدد من الأمثلة المدروسة، وما أكده من أن الباحث يلقى مشقة كبيرة حتى يتوصل إلى النسق أو التركيب الباطن للظاهرة التي يدرسها. ولكن حقيقة الأمر أنه ليس ثمة تعارض بين الموقفين؛ فالجهد الذي كان يبذله ستروس لا ينصب على دراسة الوقائع الخارجية بقدر ما ينصب على التفكير العقلي فيها. ومن المعترف به - كما سنرى فيما بعد - أن ستروس لم يكن من أولئك العلماء الأنثروبولوجيين الذين يقضون حياتهم في ملاحظة الجماعات البدائية وتسجيل عاداتها وطرائق حياتها إلخ، بل كان الجهد «الميداني» الذي بذله ضئيلا بالقياس إلى غيره من العلماء في هذا الميدان نفسه. أما الجهد الأكبر فكان في عملية التحليل الفكري الداخلي لتلك المادة غير المتسعة التي جمعها «من الميدان» ذاته. ومع ذلك بالرغم من المشقة العقلية الكبرى التي كان يعانيها في مقارنة الأمثلة المختلفة والجمع بين ظواهر شديدة التباعد من أجل التوصل إلى «البناء» الكامن فيها، فقد كان يؤكد دائما أن البناء موجود في الواقع بمعنى ما. وليس مجرد تركيب عقلي نقوم به للتسهيل أو التوضيح أو تقريب الظاهر إلى الأذهان. وهكذا يجمع البناء قدرا غير قليل من صفات القانون العلمي؛ فكل منهما يكشف عن ثبات من وراء التغير، وكل منهما يرد الكثرة الظاهرة إلى وحدة، وكل منهما عقلي في طريقة اكتشافه، وواقعي في وجوده خارج الذهن الخالص. ولكن البناء أهم من القانون العلمي؛ لأن هذا الأخير يلخص فئة معينة من الظواهر، على حين أن الأول يجمع بين فئات متباينة ومتباعدة، يستطيع العقل أن يكشف فيها كلها بناء واحدا.
وتبقى الكلمة الأخيرة - بعد هذا كله - للعقل، فبالرغم من تأكيد ستروس وجود البناء في الظواهر ذاتها، وبالرغم من إصراره على أنه ليس مجرد تركيب أو نموذج ذهني نبسط به الوقائع لكي يسهل علينا فهمها، فإن البناء ما كان يمكن أن يوجد في ظواهر على هذا القدر من التباعد (كوجود بناء واحد لنظام القرابة في مجتمع بدائي، وللنسق اللغوي في هذا المجتمع) لو لم يكن راجعا إلى تركيب الذهن البشري ذاته، ولو لم تكن مبادئ العقل واحدة في كل هذه المجالات، ولو لم تكن العملية التي يصوغ بها عقلنا نواتجه المتباينة عملية واحدة في صميمها؛ فالبناء موجود في الواقع بالفعل. ولكنه موجود فيه لأن هذا الواقع - في مجال الظواهر الإنسانية - إنتاج لذهن بشري يعمل دائما - وفي كل الميادين - بطريقة واحدة؛ ولهذا كانت البنائية تحارب النزعة التجريبية وترفض كل تفسيراتها لطبيعة المعرفة وعلاقتها بالواقع.
ومن النتائج الهامة لموقف المعارضة الذي وقفته البنائية من النزعة التجريبية، رفضها التام للنظرة التجريبية إلى علاقة الجزء بالكل؛ فالتجريبيون يرون أن الأطراف في أية علاقة سابقون على العلاقة ذاتها؛ أي إن تجمع الأطراف هو الذي يضفي على العلاقة طابعها الخاص، ويستحيل تصور هذه العلاقة مستقلة عن الأطراف الداخلين فيها، على حين أن كلا من هذه الأطراف له استقلاله الخاص، ويمكن تصوره بمعزل عن العلاقة التي يدخل فيها؛ أي إن العلاقات كلها، في رأي النزعة التجريبية، خارجية أما البنائيون فيرون أن العلاقة ليست مجرد مجموع لعناصر مستقلة قائمة بذاتها. بل إن هذه العناصر تخضع لقوانين تتحكم في بناء العلاقة التي تجمعها، وهذه القوانين تضفي على البناء سمات كلية تتميز عن سمات عناصره مأخوذة على حدة، كما تتميز عن مجموع هذه العناصر، ويضرب بياجيه مثلا لهذه الصفة بالأعداد الصحيحة في الحساب، فهذه الأعداد لا توجد بمعزل عن بعضها البعض، ولم يكتشف كل منها مستقلا بتعاقب عشوائي. بل إنها لا تظهر إلا في ترتيب معين. وهذا الترتيب يرتبط بسمات «بنائية» تختلف عن سمات الأرقام المنفردة.
4
وهكذا تنقد البنائية المبدأ الشائع بين التجريبيين، الذي يجعل أطراف العلاقة مستقلين عن العلاقة ذاتها، ويؤكد أن هؤلاء الأطراف أشبه «بالذرات» القائمة بذاتها، والتي لا تتغير طبيعتها بدخولها في أية علاقة (وهو المعروف بمبدأ الذرية التجريبية). ولكن هل يعني هذا النقد أن البنائية تنحاز إلى الرأي المضاد، الذي عرفناه في النظرية الجشطلتية في علم النفس، والذي يؤكد أولوية الكل على الأجزاء، ويجعل منه أكثر من مجرد تجميع لعناصر مستقلة؟ الواقع أن هذا القول بأسبقية الكل يقربنا إلى حد ما من فكرة البناء. غير أن مفهوم البناء ينطوي على ما هو أكثر من تغليب الكل على الأجزاء، واتخاذ الموقف المضاد - بطريقة آلية - للموقف التجريبي؛ فالبنائية لا تكتفي بأن تضع الكل في البداية، دون أن تحدد خصائصه وسماته الداخلية. بل إن أهم المشكلات في نظرها هي العلاقات الداخلية بين العناصر؛ فهي تركز بحثها على العمليات الطبيعية أو المنطقية التي يتكون بها الكل، والقوانين المتحكمة في تركيبه،
Shafi da ba'a sani ba