وربما أراد الأب بريمون بقوله: «إنه لا حاجة لفهم معنى الشعر، فالسحر المنبعث عن موسيقاه يؤثر في النفس تأثيرا مباشرا»، ربما أراد بقوله هذا أن يعبر عن تأثر النفس بانعكاس الجمال المحجوب في الطبيعة عليها، ويظهر أن هذا الجمال الغامض إنما هو موسيقى الطبيعة، تعزف على أوتار النفس معزوفات غامضة من نوع ذلك الجمال.
على أن هذا، وإن يكن حقيقيا، لا ينبغي جعله أساسا للشعر؛ فالموسيقى هي عنصر من الشعر لا كله، وهذا العنصر غامض ككل شيء يسمع ولا يرى، ومن الخرق الفاضح أن نكتفي من الشعر بموسيقاه، ونقدم فيه وصف ما لا يوصف على سائر عناصره؛ فللشعر عناصر متساوية يجب أن تجري كلها في حلبة واحدة، فلا تنحط الفكرة عن الموسيقى أو الصورة عن الفكرة.
ومن الخرق أيضا أن نتخذ الشذوذ قاعدة للشعر، فنذهب مثلا مذهب الأب بريمون القائل: إن الشعر الجميل يخلو أحيانا من المعنى، أو إذا انطوت أجزاؤه على معنى لا ينطوي عليه في مجموعه؛ فالشعر إذا اقتصر على الموسيقى لا يلبث أن يشيع الملل حتى في الأذن، ولا بد هنا من القول إن الشعر يرافق جميع وجوه التفكير؛ فالشاعر قد يطرق باب الفلسفة ولا ينحط عن الشعر، على أن هذا الشاعر ليس بأبي العلاء المعري مثلا؛ فأبو العلاء يقتحم الفلسفة في شعره، فيناقش فيها كالمعلم العالم، ولا يلزم المزاج الفني فيلمع إلى الفكرة التي تبدو له بتعبير يستخدم فيه جميع أنواع المجازات والاستعارة والرموز، بحيث يحدث التأثير النفساني المنشود.
وقد يطرق الشاعر أيضا باب الزراعة ولا ينحط عن الشعر؛ كما فعل فرجيل في «الجيورجيات»؛ فقد نظم هذا الشاعر قصيدته هذه ليحمل الرومانيين على تعشق الأرض نزولا على رغبة أوغسطس، على أنه سير معارفه الزراعية في موكب من الألفاظ الموسيقية، حمله من عذوبة الحنان ورائع الوصف ما أدرج قصيدته في عداد الروائع الشعرية الخالدة.
وما أقوله عن فرجيل أقوله عن جميع الشعراء الأقدمين والمتأخرين، الذين استخدموا مواهبهم لاكتشاف كنوز الطبيعة والحياة، فالطبيعة هي قيثارة الشاعر، وعبثا يحاول الشاعر البحث عن أوتاره في غير هذه القيثارة، والشاعر الحقيقي هو تاريخ عصره ملحنا؛ فلولا الشعر ما عرف تاريخ العرب في الجاهلية، ولولاه ما عرف تاريخ الفروسية والكرامات في الرومان، ولولاه ما عرف تاريخ الإغريق، ولما أراد الكاتب الفرنسي إتيان باسكيه وضع كتاب عن الحياة الوطنية في القرون الوسطى، اضطر إلى قراءة الملاحم الشعرية
Les chansons de geste .
قرأت أخيرا مقالا للكاتب الفرنسي إدمون جالو عن شاعر عظيم من شعراء القرن الثاني عشر يدعى شوتا روستافيلي، عاش تحت السماء التي أظلت الفردوس الأرضي، وجبل أرارات الذي وقف عليه فلك نوح، يقول إدمون جالو إن لهذا الشاعر الذي اكتشف أخيرا قصيدة أو ملحمة رائعة، هي أمدوحة للإنسان كما كيفته أواخر القرون الوسطى، في قوته، وشعوره بالشمم والعدل، وسذاجته على عتبة الانبعاث، قال: «حالما نقرأ هذه القصيدة «إنسان في جلد نمر»، نقع في ذهول حيال هذه السكرة الشرقية، ذلك أننا - نحن الغربيين المساكين - فقدنا عادة التشنج الكلامي، ونكاد نختنق في هذا الجو من البخور والألوان.» ونحن الشرقيين فقدنا بدورنا ذلك التشنج الكلامي، ونكاد نذوب في هذا الجو من البخور والألوان الغربية، هذا الجو الذي اجتاحت غيومه السامة بلدان الشرق مندفعة بقوة الاجتياح السياسي.
وإني لأتساءل ماذا ترانا نستطيع بهذا القاموس الضيق، هذا القاموس المستورد نتشبث فيه للتعبير عن أعمق حقايق النفس، فنرفع الكلفة بيننا وبين اللغة، ولا نتورع عن سلوك مهامه غائمة كأننا في حلم؟ وقد يخيل إلينا ونحن نسلك هذه المهامه أننا نسير في الطريق الشعري السوي، بينا نحن في الحقيقة لا نحاول إلا الخروج عن أنفسنا، مستعبدين لنظريات خاطئة، بل مضرة تحرر منها حتى مبدعوها أنفسهم؛ فبول فاليري، الذي جاءنا بمشاريع نظريات خلقت في الأدب العربي جيلا مضعضعا، لم يحد عن صراط ماليرب، ولم يتمرد على القاعدة الكلاسيكية في النظم. وإني لأجد في شعر فاليري أبياتا كثيرة يستطاع دسها في شعر لامارتين، كما أني أجد في شعر البرناسيين، أمثال غوتيه وبودلير، ما يستطاع نسبته إلى شعر أعدائهم الرومانطيقيين؛ كلامارتين وهوغو وفينيي، وشعر الرمزيين؛ كفيرلين ومالارمي.
قلت في مستهل هذا الحديث إني لا أكتب هذه المقدمة لأحدد الشعر، أو لأجيء بنظرية أتعصب لها، وأعلن لأجلها حربا؛ بل أكتبها لأرد صادرا إلى مصدره، لأرد الشعر إلى الطبيعة أمه، فمنذ اليوم الذي تأزمت فيه المشادة بين أدباء الغرب، وطلعت وحوش النظريات من أوجارها، يكشر بعضها في وجه البعض الآخر؛ التوى الشعر عن قصده، وأصبح زيا يتلون بتلون الأهواء، ولكن النفس لا تخطئ؛ لأنها معكس ومصهر لحقايق أبدية هي الطبيعة والحياة، ففيما المدارس الشعرية منصرفة إلى التطاحن، إذا بطائفة من مبدعي هذه المدارس ترتفع عن الفرضيات الزائلة إلى المصدر الأبدي؛ فرأينا بودلير البرناسي يصدر عن نفسه ويلتقي فرلين الرمزي على صعيد واحد، ورأينا جميع الشعراء الحقيقيين من زعماء المدارس يتفلون في الأودية المظلمة، ويجتمعون أنقياء على قمة واحدة هي الشعر.
فالمدارس الشعرية سجون ونظرياتها قيود، والشاعر لا يعيش في جو العبودية هذا، فالطبيعة هي جوه الفسيح تتكيف إحساساته بتكيف المظاهر المتقلبة فيه، وإذا خرج الشاعر من هذا الجو خرج من نفسه وكذب على نفسه.
Shafi da ba'a sani ba