أنا أعلم أنك تحب هذه الحديقة وتجد لذة في أن تخلو فيها إلى نفسك فتقص عليها ما تتصور من الأحداث والخطوب، أو تعيد عليها ما تسمع من القصص والأحاديث، وما ملت بك إليها إلا لأني أعلم أنك تحبها وتؤثر أن تقضي فيها ساعات بعيدا عن الناس، قريبا منهم في وقت واحد، أنا أعلم أنك لا تحب العزلة الخالصة ، ولا تحب الخلطة الخالصة، ولكني أحس الآن كأن مكانك ينبو بك، وكأنك لا تطمئن إلى الحديقة أو كأن الحديقة لا تريد أن تتلقاك بما تعودت أن تتلقاك به من البشر والأنس والحنان.
أحس أن جسمك كله يضطرب كأنه يكره السكون، ويدفع إلى الحركة دفعا، ماذا تنكر من هذه الحديقة؟ أو ماذا تنكر منك هذه الحديقة؟ لم لا تريد أن تخلو إلي كما تخلو إلى نفسك، وأن تقص علي كما تقص على نفسك ما تعيده عليك الذاكرة أو ما يخلقه لك الخيال.
ها أنت ذا أشبه شيء بالجواد الجموح الذي يعض شكيمته، ويضرب الأرض بسنابكه، ويكاد يخرج من جلده مرحا وشوقا إلى العدو، إلى أين تريد أن نمضي؟
وهو يقول هذا كله في لهجة جد واقتناع ويقين حتى ينسيني مكاني منه، ومكانه مني، ومكاننا من القاهرة، وحتى يقنعني بأننا صبيان، أو شابان نقصد إلى النزهة في ريفنا ذلك البعيد، وقد سمعت منه، وآمنت له، وهممت أن أجيبه، ولكنه منطلق لا يريد أن يقف، متدفق لا يريد أن يهدأ، يسأل ولا ينتظر الجواب، وإنما يجيب وهو يمضي في حديثه لا يلوي على شيء، وأنا أسمعه وأتبعه، وهو يسرع في الحديث، وكأنه يسرع في الحركة، حتى يعييني سماعه، ويعجزني اتباعه، ولكنه ماض في حديثه، ماض في حلمه، لا يقف عند شيء ولا يلوي على شيء، والغريب أنه كان يتحدث فيثير في نفسي مثل ما يثير في نفسه من الذكرى، ثم يتحدث عني وعما أحب فكأنما أنا أتحدث عن نفسي.
قال: فإنك لا تريد البقاء في هذه الحديقة لأن نفسك لا تتهيأ للخلوة ولا للحديث الهادئ المطمئن، وإنما أنت اليوم مهيأ للحركة والنشاط الجسمي، وما أرى أنك تستريح حتى تكلف نفسك بالمشي جهدا ثقيلا، ولولا أنك شديد الحياء، وأنك تخشى المصاعب والعقبات، لآثرت العدو ولكلفت بالجري السريع. فهلم إلى الطريق العامة فليس لك في هذه الحديقة أرب منذ اليوم.
هلم وليكن مشينا سريعا يشبه العدو، ولكنك لم تطاوعني إلا قليلا، وهأنذا أحس أن قدميك تثقلان وأن نشاطك ينال منه الفتور، وأنك تؤثر مشيا رزينا هو إلى التلكؤ أدنى منه إلى الجد والسرعة، لقد فهمت أن مكانك من هذه البيوت الأربعة التي تنتظم على شاطئ القناة في نسق بديع وقد امتدت أمامها حدائقها الواسعة ذات الشجر الملتف والأغصان المتدلية على الأسوار، وأنت تريد أن تسعى سعيا هينا إلى جانب هذه الأسوار وأن تداعب بيدك هذه الأوراق الخضر النضر لأنك تجد في مسها راحة ولذة ونعيما لنفسك وهدوءا لقلبك الذي قلما يظفر بالهدوء.
تريد أن تقف وأن تعبث بهذا اللبلاب الذي يتلوى على سور المأمور، تريد أن تداعبه وتلاعبه وتقوم اعوجاجه وتصلح التواءه، ولكنك تعلم أنه لا يستقيم، ولا يحب الاعتدال. ثم أنت تريد أن تطيل الوقوف عند بيت الملاحظ، وما أظن إلا أن نفسك تنازعك إلى أن تطرق الباب، وتدعو عثمان أو محمودا، فمن يدري! لعل أحدهما أن يستجيب لك وأن يدعوك إلى الدخول لتتحدث إليه، أو إليه وإلى أخيه ساعة من نهار. إنك لشديد المكر، وإن نفسك لشديدة الالتواء، لم تكذب على نفسك؟ وتكذب علي؟ إنك لا تريد عثمان، ولا تحب الحديث إلى محمود، وإنما تريد أن تدخل الدار وتقطع إليها هذه الحديقة العريضة متلكئا بعض الشيء، متكلفا بعض الأناة والمهل، حتى إذا بلغت الدار وأجلست في هذه الحجرة المتواضعة التي لا تمس القدم فيها أرضا عارية كالتي تمسها حيث تلعب في بيتك أو حيث تجلس عند الدكان، وإنما تمس أرضا قد رصفت بالحجارة وفرشت عليها البسط، وهناك في هذه الحجرة لا تلقي إلى صاحبيك إلا إحدى أذنيك، أو بعض ما تستطيع أن تلقيه منها، فأما أذنك الأخرى فمرسلة إلى آخر الدار، ومعها نفسك كلها، قل الحق. إنك لا تريد عثمان ولا تبتغي الحديث إلى محمود، وإنما تريد أن تسمع أحد هذين الصوتين اللذين تشيع فيهما العذوبة كما تشيع النضرة في الغصن المورق اللدن، بل أنت أسعد الناس إن أتيح لك الاستماع إلى الصوتين جميعا.
أيهما آثر عندك وأحب إليك؟ صوت هذه الفتاة الناهد التي تسمى عزيزة والتي توشك أن تلعب معك ومع أخويها لولا ما تأخذها به أمها التركية وأبوها الألباني من تكلف الوقار والاحتشام، فهي تجلس إليكم وتسمع منكم وقد تشارككم في الحديث، وقد يضحكها ما تخوضون فيه، فإذا ضحكها يضطرب في الحجرة مشرقا صافيا مضيئا كأنه البلور، أم صوت أختها أمينة هذه التي نيفت على العشرين، وجاوزت طور اللعب، وتزوجت ثم طلقها زوجها فعادت إلى أسرتها كئيبة محزونة هادئة الصوت، ولكن صوتها الهادئ يثير في قلبك وجلا، وفي نفسك اضطرابا، وفي أعماق ضميرك قلقا لا تتبين أصله، ولا سره، ولكنك تخافه وتحبه معا. أي الصوتين آثر عندك وأحب إليك؟ إني لأخشى أن تكون فاجر النفس ماجن القلب، مسرفا فيما تتيح لضميرك من حرية. إنك لتحب الصوتين جميعا، وتألف الأختين جميعا، وتحب أن تنعم ما وسعك من النعيم بما تثيران في نفسك من هذه العواطف الحادة المبهمة الغامضة، وإنك لتسمع لهما إذا تحدثتا أو ضحكتا أو جاءتا بشيء من الحركة فتعي عنهما هذا كله، وتسجله في نفسك تسجيلا حتى إذا عدت إلى دارك، وأويت إلى مكانك الذي تعودت أن تعتزل فيه، أخذت تعيد في نفسك ما سمعت من كلام، ومن ضحك، ومن غناء، وأخذت تتخيل ما أحسست به من حركة، وأخذت تتعمق هذا كله، وتستخرج منه صورا ومعاني وعواطف وخواطر لا تحصى ولا تستقصى، ولكنها تنسيك نفسك وأهلك ودارك، وتنتهي بك إلى عالم غريب هو أحب إليك ألف مرة من هذا العالم الذي تعيش فيه، قل الحق! ألست أصور ما تجد، وأقص ما تحس، وأحدثك بما تحب أن أتحدث إليك فيه؟ ولكنك قد أطلت الجلوس بين عثمان ومحمود، والاستماع لعزيزة وأمينة، وهذا صوت المؤذن ينتهي إلينا داعيا إلى صلاة الظهر، وسيقبل الملاحظ بعد وقت قصير، ولئن بقينا لندعين إلى الغداء، وأنا أعرف أن حياءك وأدبك يأبيان عليك أن تستجيب لهذا الدعاء، وأن نفسك تنازعك إلى البقاء. وما أظن إلا أنك لو أرسلت نفسك على سجيتها لأقمت، ولاحتملت ساعة الغداء هذه الثقيلة لتستمتع بعدها بساعات طوال، تنعم فيها بهذين الصوتين وما فيهما من فتنة وروعة وحنان، ولكن لا سبيل إلى الإقامة، وماذا نصنع بحيائنا؟ وماذا نصنع بأدبنا، وكيف تلقى أمك؟ وكيف تجيبها؟ وكيف تثبت للومها العنيف حين تصور لك أن الفتيان الذين يحسن أدبهم لا يبقون في الزيارة إلى أن يدركهم الغداء، ولا يستجيبون إلى الطعام، إذا لم تسبق دعوتهم إليه.
هلم أيها الصديق البائس الحزين ودع أمينة وعزيزة، فقد يتاح لك أن تراهما إذا كان الغد أو إذا كان المساء، فأما الآن فصدقني ليس لنا في هذه الدار مقام.
أما الآن وقد تجاوزنا عتبة الدار، وأغلق من دوننا الباب، ورجع عثمان ومحمود أدراجهما في الحديقة واستقبلنا القناة، فوقفنا على شاطئها لحظة مترددين، أنعود إلى حيث كنا بعد أن تقدم النهار؟ أم نمضي عن يمين إلى المدينة وإن عرضنا ذلك لشيء غير قليل من اللوم.
Shafi da ba'a sani ba