وتصور أنت موقع هذا الرفض من نفسي وأثره من قلبي وفيما كان يملأ نفسي وقلبي من غرور، ثم تصور أن حميدة كانت أبرع من ابنة عمي جمالا وأكثر منها مالا، وأذكى منها قلبا، وأحسن منها مستقبلا، وأنها مع ذلك سمعت رفض فهيمة فأنكرته وأظهرت إنكارها، وتعمدت أن يصل حديث هذا الإنكار إلى أهلي ثم إلي، وكان هذا الإنكار وما أظهرت من أمره وسيلة المودة ثم وسيلة الخطبة ثم وسيلة الزواج، وما زالت فهيمة تنتظر الزواج إلى الآن، ولكن حميدة قد طلقت. فانظر إلى الإحسان يكافأ بالإساءة، وإلى النعمة كيف تكافأ بالكفر، وإلى الجميل كيف يكافأ بالعقوق! ومع ذلك فإني لأنظر الآن في المرآة أمامي فأستكشف في وجهي وخلقي من الدمامة والقبح ما ينهض بألف عذر وعذر لابنة عمي، وما يثقلني بألوان الندم حين أفكر فيما جزيت حميدة به من العقوق.
أتعرف أني أسافر على سفينة إنجليزية؟ فقد تهيأت لهذه السفينة وأنبأني المنبئون بأن المسافرين على السفن الإنجليزية إذا استقبلوا المساء لبسوا له لباسا خاصا لا يقبلون في غرفة المائدة بدونه، فاتخذت لنفسي هذا اللباس واتخذته على أحسن ما يتخذه المترفون، فلما أقلعت السفينة وأقبل المساء عمدت إلى هذا اللباس فدخلت فيه، واتخذت ما يتصل به من زينة، وكانت صورة حميدة لا تفارقني، وكانت صورة فهيمة تعرض لي من حين إلى حين فلما تهيأت للخروج من غرفتي سمعت فهيمة تنكر قبحي ودمامتي، ورأيت حميدة تبسم لي وتشير إلي. هنالك نظرت في المرآة فرأيت، ثم استحييت ثم بكيت، ثم نزعت هذا اللباس نزعا، ولم أخرج إلى غرفة المائدة هذا المساء، ثم أصبحت فتكلفت المرض وأخذت نفسي بأن آكل في غرفتي، وأقسمت لا أغشى غرفة المائدة ولا مجالس السفينة؛ اجتنابا لسخرية النساء، فما أرى منذ الآن إلا أنهن جميعا فهيمة.
أترى إلى أي حد انتهى الاضطراب بعقل صديقك وبما له من حس وشعور؟ ولن تعلم حميدة من هذا شيئا، ولن تعرف حميدة أني أجد من الندم على فراقها ما يفسد علي حياتي إفسادا، ويوشك أن ينتهي بي إلى شر ما ينتهي إليه الأحياء.
ليتني سمعت لك! وليتني قنعت بما كنت أنعم به في مصر! فما أظن إلا أني مقدم على سراب أحسبه ماء، حتى إذا بلغته لم أجده شيئا.
وأخرى لم تعرفها أيها الصديق، ولا بد لك من أن تعرفها لتعلم أنا مكرهون على أكثر ما نأتي من الأمر، وأن اختيارنا لعب كله وغرور كله. فقد كنت أحسب أن الناس لا يعلمون من أمري إلا ما أريد أن يعلموا فأنبئهم به وأظهرهم عليه، وكنت أظن أن أكثر من عرفتهم في القاهرة وعرفوني يجهلون أمر زواجي جهلا تاما، وكنت واثقا بأني أستطيع أن أكذب على الجامعة إن أردت، وأن أزعم لها أني أعزب وأن أمسك علي زوجي وأسافر إلى أوربا لا أصطحبها. وكنت مع ذلك حريصا أشد الحرص على ألا أكذب على الجامعة ولم يكن يدفعني إلى هذا إلا حب الصدق وإيثار الخلق والضن بكرامة العلم وطلابه على الكذب الظاهر الخفي، وكنت أحمد من نفسي هذا الإقدام على التضحية، وهذا النصح للجامعة، وهذا الإلحاح في أن أكون صادقا معها في السر والعلانية معا.
وكثيرا ما وجدت في هذه التضحية التي كنت أحبها وأرضى عنها مظهرا من مظاهر الغرور، ومصدرا من مصادر العجب والتيه والإكبار للنفس، وكنت أقول لنفسي إذا خلوت إليها: ليس كل الناس قادرا على أن يبلغ من حب الصدق وإيثاره هذا الحد، فأنا إذا شخص نادر وفرد ممتاز، ومن حق الجامعة أن تفخر منذ الآن بخلقي، كما أنها ستفخر بعد قليل بجدي واجتهادي وكفايتي في البحث وقدرتي على الدرس والتحصيل.
وكان هذا الخاطر الجميل يملؤني ثقة بنفسي وإكبارا لها ورضى عنها، ولعل ذلك كان يظهر فيما كنت آتي من حركة وما كنت ألقي من جمل. بل لعل هذا كان يظهر فيما كان وجهي يأخذ أحيانا من الصور والأشكال، ولكن لا تسل عما أدركني من الدهش، وما أصابني من خيبة الأمل، وما ملأ قلبي ذات يوم من الحيرة والاضطراب حين دعاني سكرتير الجامعة لأزوره، فلما لقيته لم يظهر الراحة للقائي، ولم يتكلف الأنس بمقدمي، كما كان قد تعود من قبل، وإنما لقيني فاترا وحدثني بصوت متكسر؛ ثم لم يلبث أن أظهر من التجهم والتكبر والاستطالة ما أنكرت، ثم لم يلبث أن أن ألقى علي حديثه قصيرا متقطعا سريعا كأنه الصواعق يتلو بعضها بعضا، وقد اتخذ صورة الأستاذ ولهجته، وصوت الواعظ الغالي في التأنيب، فما ينبغي لطالب العلم أن يكذب وهو القدوة، وما ينبغي له أن يغش وهو الأسوة، وقد كانت الجامعة مخدوعة لي. فالآن وقد تبين لها الحق وانكشف لها السر تستطيع الجامعة أن تزهد في زهدا، وأن تنصرف عني انصرافا، بين الذين تقدموا للامتحان ونجحوا فيه من يستطيعون أن يشغلوا مكاني في البعثة، وأن يطلبوا العلم صادقين غير كاذبين، ومخلصين غير متورطين في الغش ولا متكلفين للخداع، والجامعة تؤثر ألف مرة ومرة أن تعدل عن إرسال البعوث، وأن تغلق أبوابها إغلاقا في وجه الطلاب الذين يختلفون إليها على أن تهيئ للأمة أساتذة يقيمون حياتهم العملية على الكذب والغش، وعلى الخداع والنفاق.
ولست أخفي عليك أني ضقت بهذا الواعظ الثرثار، وتعجلته إتمام الحديث والانتهاء إلى ما يريد. فلم يتردد في أن يلقي إلي ما عنده إلقاء فيه كثير من الازدراء، قال: زعموا أنك متزوج يا سيدي، وقد زعمت لنا أنك حر طليق.
هنا أريد أن أستغفرك أيها الصديق، وما أدري أتغفر لي؟ فقد أسأت بك الظن واتهمتك بأنك أقدمت على الوشاية بي مخلصا حسن النية تريد أن تحول بيني وبين الظلم، كما أقدمت أنا على تطليق حميدة مخلصا حسن النية أريد أن أفرغ للعلم وأن أتجنب الخيانة والإثم.
نعم، أسأت بك الظن واتهمتك، ورأيت ما بيننا من الصلات وقد تصرم وتقطعت أسبابه، وأحسست شيئا من الحزن لكذب ظني بك وخيبة أملي فيك. وكان هذا كله سريعا مسرفا في الإسراع لم أكد أتنبه إليه، ولم يتنبه سكرتير الجامعة إلى أن شيئا غيره وغير حديثه كان يشغلني، فقد أخذت أسأله من زعم لك هذا السخف؟ ومن ألقى إليك هذا الهذيان؟ وكيف تسمع الجامعة لكل ما يلقى من القول إليها! وكيف تصدق كل ما يرفع إليها من الحديث! وما ينبغي لك أن تلومني هذا اللوم، وتؤنبني هذا التأنيب، قبل أن تتحقق أنك تتهمني بما لا أستطيع له دفعا، وتأخذني بما لا أجد منه مخرجا!
Shafi da ba'a sani ba