أديب
1
زعموا أن من أظهر خصائص الأديب حرصه على أن يصل بين نفسه وبين الناس، فهو لا يحس شيئا إلا أذاعه ولا يشعر بشيء إلا أعلنه، وهو إذا نظر في كتاب أو خرج للتروض، أو تحدث إلى الناس، فأثار شيء من هذا في نفسه خاطرا من الخواطر، أو بعث في قلبه عاطفة من العواطف، أو حث عقله على الروية والتفكير، لم يسترح ولم يطمئن حتى يقيد هذا الرأي، أو تلك العاطفة أو ذلك الخاطر في دفتر من الدفاتر أو على قطعة من القرطاس.
ذلك لأنه مريض بهذه العلة التي يسمونها الأدب، فهو لا يحس لنفسه، وإنما يحس للناس، وهو لا يشعر لنفسه وإنما يشعر للناس، وهو لا يفكر لنفسه وإنما يفكر للناس. وهو بعبارة واضحة لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للناس، وهو حين يأتي من الأمر هذا كله يخادع نفسه أشد الخداع، ويضللها أقبح التضليل، فيزعم أنه مؤثر لا يريد أن يستمتع وحده بنعمة الإحساس والشعور والتفكير، وإنما يريد أن يشرك الناس في هذا الخير الذي أنتجته طبيعته الدقيقة الخصبة الغنية، فإذا كان متواضعا، معتدل الرأي في نفسه فهو شقي تعس محزون، يحب أن يعلن إلى الناس ما يجد من شقاء وتعس وحزن، لعلهم يرثون له أو يرأفون به أو يشفقون عليه. وربما لم ير في نفسه إيثارا، ولم يحس أنه شقي، وإنما آثر نفسه بالخير، وأحبها قليلا أو كثيرا، فهو يسجل ما يحس وما يشعر وما يفكر ليحفظه من الضياع، وليستطيع العودة إليه من حين إلى حين كلما خطر له أن يستعرض حياته الماضية، وكثيرا ما تعرض له الفرص التي تحمله على أن يستعرض حياته الماضية، والذاكرة قصيرة ضعيفة، فلم لا يسجل خواطره وعواطفه وآراءه التي يتكون منها تاريخه الفردي الخاص؛ ليعود إليه كلما دعاه إلى ذلك جد الحياة أو هزلها؟ وما أكثر ما يدعو جد الحياة وهزلها إلى أن يستعرض الإنسان حياته الماضية وما اختلف عليه فيها من الأحداث.
يخدع الأديب نفسه هذه الضروب من الخداع، ويعللها بهذه الألوان من التعلات، وحقيقة الأمر أنه يكتب لأنه أديب، لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كتب، يكتب لأنه محتاج إلى الكتابة كما يأكل ويشرب ويدخن لأنه محتاج إلى الطعام والشراب والتدخين، وهو حين يكتب قلما يفكر فيما يحسن أن يكتب، وما ينبغي ألا يعرفه القرطاس أو يجري به القلم، كما أنه حين يأكل ويشرب قلما يفكر فيما يلائم صحته وطبيعته ومزاجه من ألوان الطعام والشراب وأصناف التبغ، إنما هي حاجة تضطره إلى الحركة، فيتحرك وتدفعه إلى العمل فيعمل، فأما عواقب هذه الحركة ونتائج هذا العمل فأشياء قد يتاح الوقت للتفكير فيها في يوم من الأيام حين تصبح أمرا مقضيا لا منصرف عنه ولا سبيل إلى التخلص منه.
إذا كان هذا كله صحيحا، وأكبر الظن أنه صحيح، فيجب أن يكون صاحبي الذي أريد أن أتحدث إليك عنه أديبا، فلست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلا أضنته علة الأدب، واستأثرت بقلبه ولبه ونفسه كصاحبي هذا؛ كان لا يحسن شيئا، ولا يشعر بشيء، ولا يقرأ شيئا، ولا يرى شيئا، ولا يسمع شيئا إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارة أدق في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس وما شعر وما قرأ وما رأى وما سمع. وكان يجد مشقة شديدة في إخفاء تفكيره هذا على الناس، فكثيرا ما كان يقول لأصحابه إذا رأى شيئا أسخطه أو أرضاه: ما أخلق هذا الشيء أن ينشئ صورة أدبية ممتعة للسخط أو للرضاء! وكان يقضي نهاره في السعي والعمل والحديث حتى إذا انقضى النهار ، وتقدم الليل وفرغ من أهله ومن الناس وخلا إلى نفسه، أسرع إلى قلمه وقرطاسه وأخذ يكتب ويكتب ويكتب حتى يبلغ منه الإعياء وتضطرب يده على القرطاس بما لا يعلم ولا يفهم، وتختلط الحروف أمام عينيه الزائغتين، ويأخذه دوار، فإذا القلم قد سقط من يده، وإذا هو مضطر إلى أن يأوي إلى مضجعه ليستريح. ولم يكن نومه بأهدأ من يقظته، فقد كان يكتب نائما كما كان يكتب يقظا، وما كانت أحلامه في الليل إلا فصولا ومقالات، وخطبا ومحاضرات؛ ينمق هذه ويدبج تلك، كما كان يفعل حين كانت تجتمع له قواه العاملة كلها، وكثيرا ما كان يحدث أصدقاءه بأطراف غريبة قيمة من هذه الفصول والمقالات التي كانت تمليها عليه أحلامه فيجدون فيها لذة ومتاعا.
وكثيرا ما كان يقرأ عليهم فصولا من النثر ومقطوعات من الشعر أملتها عليه يقظته، وسجلتها يده حين كان يخلو إلى نفسه بعد أن يكون قد ملأ عينيه وأذنيه وحسه وشعوره وقلبه وعقله بما يحيط به من الأشياء وبما يحسه من الناس ومن الحياة.
وكان أصدقاؤه إذا سمعوا منه هواجس الأحلام أو خواطر اليقظة ألحوا عليه في أن يذيع ذلك وينشره، فيبتسم ثم يهزأ، ثم يمتنع عليهم ويلح في الامتناع؛ لأنه كان يؤمن بأن ما يكتبه لم يصل بعد إلى أن يكون خليقا بأن يقدم إلى المطبعة، فهو كان يخاف المطبعة ويكبرها ويحيطها بشيء من التقديس غريب، وكان يتحدث بأن ما يقدم إلى المطبعة من الآثار المكتوبة أشبه شيء بما كان يقدمه الوثنيون القدماء إلى آلهتهم من الضحية والقربان، وبما يتقدم به الآن المؤمنون المترفون إلى إلههم من الصلاة والدعاء، فمن الحق أن تصطفى الضحية وأن يتخير القربان، وأن تكون الصلاة قطعة من النفس وأن يكون الدعاء صورة للقلب والعقل جميعا.
وكان صاحبنا يرى أن ليس فيما كتب ضحية تصطفى ولا قربان يختار، وأنه لم يوفق إلى أن يودع القرطاس من نفسه، أو يسطر عليه صورة قلبه وعقله. فما زالت الآماد بينه وبين المطبعة بعيدة، وما زالت الأستار والسجف دونه مسدلة.
فليكتب إذن لنفسه لا للمطبعة، فإذا ضاق بنفسه وبما تملي فليظهر أصدقاءه على شيء منه وليرض هذه الحاجة القوية التي نحسها جميعا إلى أن نشرك الناس فيما نجد من حس أو شعور. والحق أن صاحبي لم يكن يقدم على هذا إلا كارها مضطرا حين لا يجد بدا من الإقدام، أو حين يسأله أصدقاؤه عما أحدث بعدهم، وكان حياؤه يمنعه من إظهار عقله وقلبه، كما يمنعه من عرض جسمه عاريا على الناس. ولكن أصدقاءه لم يكونوا في حاجة إلى أن يروا شخصه عاريا، وكانت حاجتهم شديدة إلى أن يروا نفسه كما هي؛ لأنها كانت جميلة خلابة تروعهم حينا، وتثير في نفوسهم الحب والمودة دائما.
Shafi da ba'a sani ba