ففكر صديق هنيهة، ثم قال: لقد دبرت لك دائنا. - من هو؟ - جارك يوسف نفسه. - ولكنه تاجر مثلي لا يستغني عن جنيه واحد. - ليس ضروريا أن يدفع من صندوقه بارة واحدة. - إذن كيف؟ - أنتم التجار تتبادلون الصكوك. - نعم. - فأعطه صكا بقيمة ألف أو ألفي جنيه مثلا، وهو يعطيك صكا بمثل المبلغ «تقطعه» في أحد البنوك. - ولكن هناك عقبتين، الأولى: أن يوسف قد لا يعطيني صكا، والثانية: أن البنك قد لا يقطع الصك على يوسف. - هل يعلم يوسف بأزمتك؟ - لا يعلم بها أحد غيرك. - إذن، إذا احتلت عليه فلا يبخل عليك بصك منه إذا رأى بيده صكا مثله منك؛ لأنه رجل طيب القلب وسليم النية جدا، أما البنك فلا يتردد على ما أظن في قطع صك لتاجر جديد يعرف البنك أنه يحرص على سمعته والثقة به، جرب هذه الطريقة فقد تنجح، وإن لم تنجح فلا تخسر شيئا وبعدها نفكر بطريقة أخرى. - إنها لفكرة حسنة جدا، فإن نجحت أبشرك بنيل متمناك يا صديق.
فضحك صديق، وقال: إني أسر بذكائك يا فهد، لقد تفاهمنا بلا كلام، وإذا صح هذا الحلم فلك مني جائزة.
قصور في الهواء
في صباح اليوم التالي كان الدكتور صديق هيزلي مختليا بليلى في غرفة المقابلة، وقد ساقهما الحديث إلى الخطاب التالي ...
قال صديق: يلوح لي أنك تعتقدين أن السعادة قائمة باللذة النفسية وحدها، وأن لذة النفس مقصورة على إحراز المعرفة والعلم. - نعم، وهل تنكر أن هذه اللذة هي أعظم اللذات؟ - لا أنكر، ولكني أعتقد أيضا أن النفس وهي مقيمة في الجسد تتألم أيضا إذا تألم الجسد، فهل تسر نفسك وأنت جائعة أو عليلة؟ - لا، ولست أقول: إن لذة النفس تقضي بإهمال الجسد وتركه لآلام الجوع والبرد، بل يجب الاعتناء بالجسد ما دام غلافا للنفس. - إذن للجسد حق بنصيب من اللذة كحق النفس. - بلا شك. - ولا تنكرين الفرق بين العيشة القشفة وعيشة الرخاء. - متى كنت أنكر الفرق بينهما؟ ولكني أقول: إن لذة النفس أعظم وأهم وألزم من لذة الجسد. - وأنا أقول كذلك أيضا. - وإذا خيرت بينهما؟ - أختارهما معا. - وإذا لم يصح لك إلا إحداهما؟ - لا أدري أيهما أختار، ولكني ما دمت أستطيع الحصول عليهما معا فأختارهما معا. - طبعا. - حسن، أنت حاصلة على لذة النفس بالعلم والأدب والفضيلة. - أحمد الله على ذلك. - فإذا حصلت على لذة الجسد أيضا في العيشة الهنيئة، فهل تفقدين لذة النفس؟ - لماذا أفقدها؟ - وإذا تيسرت لك هذه اللذة الجسدية بلا عناء ولا تكلف مشقة، فهل ترفضينها؟ - ما أنا مجنونة حتى أرفضها. - ما قولك إذا وقعت في يدك مائة ألف جنيه بلا تعب ولا نصب، وكانت لك حلالا؟! - أستعين بها على لذة نفسي. - حسن جدا، أنا أضع في يدك الآن مائة ألف جنيه.
ثم تناول صديق من جيبه ورقة مطوية، وقال: في هذه الورقة مائة ألف جنيه لك. - لا أعني أنك تقدم لي مائة ألف جنيه، وما خطر لي أنك تفعل ذلك؛ لأننا كنا نفرض فروضا، ونضرب أمثالا للاتفاق على حقيقة، فدع ورقتك معك. - ليست ورقتي بل هي ورقتك، وما أنا أقدم لك من مالي بل أقدم لك مالك. - لا أفهم، ماذا تقول؟ - طبعا؛ لأنك لا تعلمين شيئا عن نسبك. - نسبي؟ - نعم نسبك، فهل تعلمين من هو أبوك الحقيقي؟ - لا أعرفه؛ لأني تيتمت طفلة، ولكن قيل لي: إنه كان يدعى حنا فرزدق. - لم يكن في الوجود هذا الشخص، وإنما اختلق اختلاقا للتمويه على حقيقة نسبك. - وماذا تعرف عن حقيقة نسبي؟ - أعرف ما لا يعرفه أحد غيري الآن، وكان يعرفه اثنان قبلي وهما أمك وأبي.
وكانت ليلى تمتقع لحظة ثم يشرق محياها لحظة أخرى، فقالت: ما الذي تعرفه؟ - أعرف أنك ابنة غير شرعية لرجل كبير.
فاقشعرت ليلى وقالت: من هو هذا؟ وكيف تثبت هذا الزعم؟ - إذا أحببت أن تقرئي هذه الورقة ثم هذه أيضا تفهمين كل شيء.
فتناولت ليلى الورقة من يده (وهي وصية خالها لابنه صديق)، وقرأت حكاية مولدها كما كتبها خالها أبو صديق؛ لكي يقرأها ابنه بعد موته، وكانت تقرأ مدهوشة متحيرة متلونة من شدة التأثرات المتضاربة.
ثم رفعت نظرها إلى صديق، وقالت: ما أدراني أن تكون هذه الورقة ملفقة؟ - لو كنت لا تعرفين خط أبي ولا تعتقدين أن أبي لا يكذب، ولا قصد له سوى الحرص على سعادتك لكان يحق لك أن توجسي وتسيئي الظن بهذه الورقة، وما قولك بهذه الوصية الناطقة (أي: وصية الأمير إبراهيم الخزامي لأمها)؟
Shafi da ba'a sani ba