لم يع يوسف من سباته إلا بعد حين، وأول ما شعر به أن يديه لم تزالا مقبوضتين، فحاول الإفلات فخانته قوته؛ لأن فعل الكلوروفورم لم ينقض تماما، وكان يفتح عينيه ويغمضهما فلا يرى إلا ظلاما في الحالتين، ثم ما لبث أن فهم أنه موثق اليدين والرجلين، ولم يشعر بوجود أحد غيره في ذلك المكان، فقال في نفسه: إذا لم أكن موءودا حيا وكان قضاتي عادلين يبقى لي أمل بالخلاص؛ لأني لم أرتكب وزرا ولم أسئ إلى أحد.
ثم ما لبث أن سمع حركة وصليل مفتاح في باب، ورأى ومضات نور ضئيلة، فتنهد الصعداء، وعند ذلك انفتح الباب فرأى يوسف شخصا مقنعا بقناع لا يشف عن وجهه، وفي يده الواحدة مصباح ضئيل النور جدا، وفي يده الأخرى كرسي صغير، فأجال يوسف نظره في المكان، فإذا هو غرفة فارغة ليس فيها شيء غيره.
ثم أوصد الرجل المقنع الباب، وجلس على كرسيه أمام يوسف وبقي صامتا والهلع يأخذ من فؤاد يوسف، فقال هذا بصوت خافت: هل أنت عزرائيل؟
فأجابه المقنع: كلا، بل أنا نائبه. - من أنت؟ - أنا من لا تعرفه ولم تره قط ولن تراه بعد الآن. - إذن لماذا أنت مقنع؟ - إني مقنع حتى إذا رأيت وجهي في المستقبل لا تعرفني. - إذن لم يزل لي مستقبل! - نعم، ولكن مستقبلك في يدك، فإذا أجبتني على ما أسألك بالصدق تعود من حيث أتيت. - وإلا؟ - فتهلك حيث أنت ولا يعلم بك إلا أسماك النيل.
فخفق فؤاد يوسف جزعا، وقال: سل. - أين أودعت هيفاء؟ قل الحقيقة؛ لأنه لا يطلق سراحك إلا متى عادت هيفاء إلى أهلها.
ففكر يوسف هنيهة ثم قال: وهل ترغم هيفاء على زواج من لا تريده؟ - ليس هذا شأنك. - ذلك شأني؛ لأن لي شرطا كما لك شرط، فهل يطلق سراحي حالما تهتدون إلى محل هيفاء. - لا أقدر أن أعدك بذلك، وإنما أنا مكلف بالاستعلام منك عن مقر هيفاء الحقيقي، وغيري مكلف باستردادها. - وبتزويجها من ذلك الزنيم؟ - لا أدري. - إذن لا أدلكم عليها. - إذن تموت الليلة، وستموت معذبا.
ثم نهض الرجل المقنع وهم بالخروج كأنه أنجز مهمته، فصاح به يوسف: دمي على رءوسكم يا لئام. - لا تصخب ولا تصرخ فليس من يسمع. - إلى أين يا لئيم؟ - سأعود مستعدا لإهلاكك؛ لأن مهمتي لم تنته. - والحكومة والبوليس والقضاء؟ - احتطنا لكل شيء؛ فما نحن أغبياء. - أين جورجي آجيوس؟ - لا أعرفه. - من تعرف؟ - لا أعرف إنسانا ولا إلها. - أفما أنت إنسان ذو قلب؟ - صرت عزرائيلا بلا قلب.
فاشتد جزع يوسف وقال: رحماك يا هذا لا أطلب منك كثيرا، أطلب أمرا صغيرا جدا وهو أن ترسل لي يهوذا الذي سلمني، فإذا كنت لا تعرفه فالذين تعرفهم يعرفونه. - لا تنتظر أن ترى هنا غيري، فاستعد للقاء ربك.
وخرج الرجل موصدا الباب وراءه، وعادت الظلماء تتكاثف على صدر يوسف.
تطريق فؤاد صلد
Shafi da ba'a sani ba