وبعد جدال قليل أمر المأمور من في مكتبه أن يخرجوا، وجعل يوسف يقص عليه الحادثة بالتفصيل، فروى له ما عرفه القارئ منها إلى أن كان على السطح فوق شباك، وكان يسمع كلاما صادرا منه فقال: ولما لم أستطع تفهم الكلام فكرت بطريقة لسماعه، وكان قرب ذلك الشباك شرفة «بلكون» فخطر لي أن أنزل إليها، وقد نبهني إلى هذه الفكرة ما عثرت عليه من الحبال المنصوبة على السطح لنشر «الغسيل»، فحللت بعضها وطويتها ثلاثا وعقدتها عقدا، وربطت طرف مثلوثها بأسفل العمود الذي كان الحبل مربوطا بأعلاه، وأدليت الطرف الآخر، ثم نزلت بواسطته إلى زاوية الشرفة؛ حيث لا يراني أحد ولا يشعر بي، وكان الشباك الذي يصدر منه الكلام قريبا جدا من زاوية الشرفة، فجعلت أتسمع.
وهنا روى يوسف بعض الحديث الذي علمه القارئ، وقال: ولما أدركت أني في خطر أسرعت وصعدت، وما بلغت إلى السطح إلا رأيت نفسي بين يدي بربريين وهما يستصرخان الخفير للقبض علي، فحاولت الإفلات منهما ولكني ما لبثت أن وقعت بين يدي الخفير، ولم أدر كيف وجد هناك في تلك اللحظة.
فقال له المأمور: سنرى كيف وجد الخفير هناك حينذاك.
وفي الحال استدعى الخفير، وأمره أن يروي حكاية قبضه على يوسف، فقال الخفير: كنت أتمشى في نقطتي فرأيت شبحا في الفضاء بين سطحي منزلين، فاستغربت أمره ورغبت أن أعلم سره؛ لأني توهمته طائرا، ثم ما لبثت أن رأيته قد مشى إلى أحد السطحين، وجعل يطوف عليه متسرقا فازدادت ريبتي فيه، ثم جعلت أنعم النظر في ما بين السطحين؛ لكي أعلم كيف انتقل من الفضاء إلى السطح، فلم أقدر أن أرى شيئا؛ لأنه لم يكن من نور إلا نور النجوم الضئيل، وما زلت أراه يظهر ويتوارى حتى ازددت رغبة في معرفة سره، فدخلت من بوابة المنزل، وصعدت إلى السطح بكل هدوء، فلم أجد أحدا، فجعلت أطوف فيه، ثم قرعت على باب غرفة من غرف السطح، فخرج منها بربريان فسألتهما في الأمر، فقالا: إنهما لم يشعرا بوجود إنس ولا جن، ثم تفرقنا جميعا في السطح نبحث عن ذلك الشبح، وتقدمت إلى الخلاء الذي بين السطحين لأرى كيف كان ذلك الشبح في الفضاء، فوجدت لوحا ملقى على السطحين، ففهمت أنه كان يعبر عليه من سطح إلى سطح، عند ذلك استصرخني البربريان، فأسرعت ووجدت هذا الفتى يحاول الإفلات منهما، فقبضت عليه وسقته إلى هنا صاغرا. - عافاك الله، لقد قمت بالواجب عليك خير قيام، اخرج الآن.
ولما خرج الخفير قال المأمور: إن حكاية الخفير تنطبق على حكايتك تماما، وقصتك معقولة، ولكنها لا تنفي الشبهة عنك. - أي شبهة يا سيدي؟ - شبهة التلصص. - ولكني رويت لك الحقيقة عن سبب تلصصي. - إذا كنت صادقا فيما رويت، فقد كنت متطفلا فيما لا يعنيك. - بل أعتقد أني فعلت الواجب علي. - لا واجب عليك . - يا لله، لم يعلم أحد غيري بالضيق الذي كانت فيه الفتاة؛ ولهذا حسبت نفسي مسئولا عن خلاصها. - هل عينتك الحكومة جاسوسا على الناس؟ - لا. - إذن لا مسئولية عليك، وليس في القانون ما يحملك أقل مسئولية. - نعم لا مسئولية قانونية علي، ولكن علي مسئولية أدبية. - نحن هنا لا نفهم إلا القانون الذي سنته الحكومة. - إذن القانون ناقص.
فضحك المأمور قائلا: لك أن تقدم هذه الملاحظة للحكومة، وتقترح عليها سن قانون يخولك التلصص على الناس، ولكني أثق أن الحكومة لا تفعل شيئا من هذا القبيل؛ لأن الناس أحرار في منازلهم.
فتغيظ يوسف وقال بحدة: إذن القانون يترك الفتاة فريسة لذلك الذئب؟ - لا، بل القانون يعاقبه على افتراسه لها. - ولكن شبح القانون لم يكن حاضرا ليردعه عن فريسته، ولو لم أكن أنا هناك وأتهدده لافترسها. - لو افترسها وثبت افتراسه لها لعوقب. - ولكنه قد يغويها ويفترسها ثم ينجو من العقاب، فإذن قد يعجز القانون عن حماية الفتاة من شره، ولم يبق من منقذ لها إلا العناية الإلهية، وأنا أعتقد أن العناية الإلهية استخدمتني لإنقاذها.
ففكر المأمور هنيهة ثم قال: أقول لك: إننا هنا منفذو قوانين لا مشترعون، والقانون يقضي علي بأن أكتب «محضرا» بهذه الحادثة، وبعد ذلك تقول ما شئت في المحكمة، وللمحكمة وحدها الحق بالنظر في قضيتك، قلت: إنك تهددت الرجل فبماذا تهددته؟ - شهرت عليه «مسدسا» لإرهابه وردعه، ولكني لم أطلقه. - أين المسدس؟ - رميته على السطح، وأعتقد أن أحد البربريين أخذه.
بعد أن كتب المأمور المحضر انصرف يوسف.
تناظر المنطاد وورقة الشجرة
Shafi da ba'a sani ba