وقد وجد عبد الشكور منفذه إلى نبيل، وترك للأيام أن تلج به إلى هذا المنفذ. •••
كانت وظيفة عبد الشكور في قسم الأقطان، وقد أراد صبحي أن يرى مقدار كفاءته.
وانقضت بضعة أسابيع، وبدأ موسم شراء الأقطان، وتحرى عبد الشكور أن يبتعد في مشتريات البنك عن شقلبان؛ حتى لا يرى سبيلا إلى أبيه، بل تحرى أن يبتعد عن المركز جميعا الذي يعرف أغلب أهله ويعرفونه؛ فقد كان حريصا أن يقطع ما بينه وبين هذه الأيام بكل ما وسعه من جهد.
بدأ عبد الشكور جهاده الوظيفي في الصعيد، وكان هذا أمرا طبيعيا؛ فقد كان موسم القطن يبدأ في الصعيد قبل الوجه البحري بفترة طويلة. وقد استطاع بسابق خبرته في الصفقات ضئيلة الشأن أن يكون ماهرا غاية المهارة في عقد الصفقات الكبيرة، واضعا في الحسبان أن أكبر مالك لا تزيد أرضه عن مائتي فدان بعد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.
وقد استطاع عبد الشكور أن يثبت لصبحي نجاحه الفائق في عقد الصفقات، فكان أكثر زملائه نشاطا.
وكان يراعي في أول الأمر أن يكون صادقا مع البنك، متلمسا سرقة المشترى في السمسرة التي حرص ألا يعلم عنها البنك شيئا؛ حتى إذا انتهى من الصعيد انتقل إلى الدلتا في نشاط منقطع النظير؛ مما عاد على البنك بمكاسب لم يحققها البنك في هذا المضمار من قبل؛ الأمر الذي وفر لعبد الشكور قدرا من المال اعتبره هو في البداية جديرا بكل احترام وإجلال؛ فإن كمية النقود التي أتيحت له لم يسبق له أن رآها بله أن يملكها.
كانت أنباء صديقيه قد وصلت إليه، وأصبح قادرا أن يستأجر شقة صغيرة كل الصغر في حي الزمالك، بإيجار لو سمع به أبوه لأصابته سكتة قلبية؛ فقد كان يدفع عشرة جنيهات إيجارا للشقة التي كانت تتكون من غرفة نوم واحدة وغرفة للطعام وصالة صغيرة، وحمام لولا صاحب البيت ما عرف عبد الشكور كيف يتعامل معه.
وكانت الشقة خالية فنقل إليها سريره المتهالك وكرسيين أثارا مع السرير سخرية البواب في العمارة الجديدة.
كان لا بد أن يؤثث الشقة الجديدة بما يليق بأناقتها وفخامة العمارة التي تحتويها. وفي هذا التأثيث عرف طريقه إلى نبيل. - أجرت شقة بالزمالك. - الزمالك مرة واحدة. - إن لم يكن السكن جميلا فما قيمة حياة الإنسان. - كم إيجارها؟ - ولا يهمك. المهم أريد أن أؤثثها، وليس لي إلا أنت لتشتري لها أثاثا يبدو لائقا بالحي ويكون في الوقت نفسه ملائما لعبد الشكور. - أي عبد الشكور تقصد؛ الذي رأيته قبل أن يعين أم الذي أجر شقة في الزمالك؟ - كل ما أرجوه منك أن تنسى عبد الشكور الذي كنت من القلة النادرة الذين رأوه بمصر قبل التعيين. - طبعا أنت تقصد بمصر القاهرة. - الذين عرفوني من بلدتنا وما حول بلدتنا لن يروني أبدا على كل حال. - وأبوك وأمك. - يكفيهما أنني وفرت عليهما اللقمة التي كنت أقتطعها من قوتهما. - كنت أظن نفسي عاقا لأنني لا أزور أهلي وأكتفي برؤية أبي حين يأتي لمحاسبة صبحي بك! - كن وفيا لنفسك أولا، أما الآخرون فعليهم أن يدبروا أمر أنفسهم. - ألم يعرف أبوك أنك عينت وأنك استأجرت شقة في الزمالك؟ - ولماذا يعرف؟ - ألم يعرف على الأقل إن كنت على قيد الحياة أم لحقت بالرفيق الأعلى؟ - المؤكد أنه يعلم أنني لم أمت وإلا حملت إليه ليتولى دفني. - واضح أنك أرحت نفسك تماما. - لا. اطمئن. المهم قل لي ماذا ستفعل معي في مسألة الأثاث؟ - الأثاث أمره هين. - كيف؟ - عندنا في البنك قسم خاص بشراء احتياجات البنك في هذا المضمار، ورئيس هذا القسم حمدي خميس، وهو الذي يشتري ما يحتاجه صبحي من أثاث. - يا نهار أسود! وما لي أنا لصبحي بك وما يشتريه من أثاث. لو اشترى حمدي مثلما يشتري لصبحي بك لما أكمل ما معي ثمن كرسي واحد للشقة. - على مهلك، على مهلك، إن كل العاملين في البنك يلجئون إليه، وخبرته بالأثاث الرخيص أعظم من خبرته في الأثاث الغالي. - وصبحي بك. - إنه يشتري له ما يحتاجه المطبخ والخدم، أما أثاث صبحي بك فتشتريه صافيناز هانم التي تختار دائما أغلى الأثاث مما لا نعرفه ولا نعرف أسماء الماركات التي ينتسب إليها. - هل صافيناز هانم مسرفة؟ - مصيرك ترى حساب صبحي بك بالبنك لتعلم أن دخله لا يكفي طلبات زوجته وحدها. - والأولاد؟ - المهم عند صافيناز هانم نفسها أولا ولبسها وأثاث بينها والولائم التي تقيمها. - والأولاد؟ - كلاهما أيضا مسرف وإنما في حدود مطاقة بالنسبة لأبيهما. - عرفت أن عنده ولدا وبنتا. - الولد في السادسة عشرة، والبنت في الرابعة عشرة. - اسم الولد رأفت، أظن. - على اسم خال صافيناز هانم التركي. - الاسم مشترك، لا تعرف إن كان اسم أنثى أو اسم رجل. - لا يهم، المهم أنه اسم تركي. - اسم البنت سمعته ولكني لم أستطع أن أحفظه. - هان زاده، على اسم ستها من أمها طبعا.
سرح عبد الشكور لحظات. واضح أن صافيناز هانم هي العنصر الأساسي في بيت صبحي بك، وواضح أيضا أنها خاربة بيت زوجها. وهذه ماذا أصنع لها؟ لا بد أنني واجد لها سكة، وحين أجدها تكون أهم طريق لصبحي. ولو أنني من الآن أكاد أكون قد عرفت أحسن وسيلة لصبحي وصافيناز معا. لأطويه وأطويها تحت جناحي ما علي إلا أن ... وارتاع من صمته وسرحته المليئين بالضجيج على صوت نبيل يصيح به: هيه، أين ذهبت؟ - معك. - بجسمك. - وبعقلي. هل سترسلني إلى حمدي خميس؟ - بل يأتي هو إليك. إنك في مكتب المدير، وأنا أريد أن تكون شقتك عظيمة؛ فأنا أعتبرها كشقتي تماما.
Shafi da ba'a sani ba