أدبيات اللغة العربية
أدبيات اللغة العربية
أدبيات اللغة العربية
أدبيات اللغة العربية
تأليف
محمد عاطف ومحمد نصار وعبد الجواد عبد المتعال وأحمد إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم ونستعينك، ونصلي ونسلم على صفوتك من خليقتك سيدنا ومولانا محمد الذي آتيته جوامع الكلم، وأنزلت عليه كتابك المبين معجزا لجميع العالمين، وعلى آله وصحبه الذين قاموا بهديه خير قيام؛ فأشرقت بهم أنوار المدنية القويمة على جميع الأنام.
أما بعد، فهذا كتاب قد جمعناه لتلاميذ المدارس الثانوية، وصدرناه بمقدمة طويلة بينا فيها حالة اللغة العربية قبل الإسلام وبعده، وسعتها لتدوين العلوم على كثرتها واختلافها، وفضلها على المدنية التي عمت جميع الممالك الإسلامية إبان عظمتها واتساعها، ثم أتبعنا ذلك بتراجم بعض المشهورين من الشعراء والكتاب والخطباء والعلماء، ثم أثبتنا بعض المختارات من النثر والنظم في كل عصر؛ لتكون معتمد التلاميذ في معرفة كثير من مفردات اللغة النافعة، وأساليبها الحسنة المختلفة، ومعانيها الشريفة، وتراكيبها المتينة، فصار هذا الكتاب بذلك كتاب أدب ومطالعة ومختارات للحفظ، يجد فيه التلميذ ضالته التي ينشدها وبغيته التي يطلبها.
ولما كانت كل أعمال الإنسان في ابتدائها ناقصة لم تصل إلى درجة كمالها، كان لنا الأمل في أن يكون هذا الكتاب في المستقبل أكمل مما هو عليه الآن بعد إعادة طبعه، والله الموفق.
أدبيات اللغة العربية
(1) تقسيم الكلام العربي إلى منثور ومنظوم
كلام العرب نوعان: منثور، ومنظوم. فالمنظوم: هو الكلام الموزون المقفى، أي الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد وهو القافية. والمنثور: هو الكلام غير الموزون، وينقسم إلى سجع ومرسل. فالسجع: هو الذي يؤتى به قطعا ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة. والمرسل: هو الذي يطلق إطلاقا ولا يقطع أجزاء، بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها، والقرآن الكريم - وإن كان من المنثور - خارج عن نوعيه السابقين، فلا يسمى مرسلا مطلقا ولا مسجعا، بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها، ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها من غير التزام حرف يكون سجعا ولا قافية.
قال ابن رشيق في «العمدة»:
وكان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرا؛ لأنهم شعروا به، أي فطنوا.
وزعم الرواة أن الشعر كله إنما كان رجزا أو قطعا، وأنه إنما قصد على عهد هاشم بن عبد مناف، وكان أول من قصده مهلهل وامرؤ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مئة ونيف وخمسون سنة.
وأول من طول الرجز وجعله كالقصيد الأغلب العجلي شيئا يسيرا، وكان على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم أتى العجاج في الدولة الأموية فافتن فيه، فالأغلب والعجاج في الرجز كامرئ القيس ومهلهل في القصيد.
وسئل أبو عمرو بن العلاء الحضرمي: هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم؛ ليسمع منها. قيل: هل كانت توجز؟ قال: نعم؛ ليحفظ عنها. ويستحب عندهم الإطالة عند الإعذار والإنذار، والترغيب والإرهاب، والإصلاح بين القبائل كما فعل زهير والحارث بن حلزة ومن شابههما، وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع والطوال للمواقف المشهورة. (2) الكلام على النظم والنثر في عصر الجاهلية
النظم
كان الشاعر العربي يقول الشعر بالبديهة؛ لحدة خاطره، فيرتجل القول ارتجالا، وقد يتعمد القول في بعض الأحيان ويجهد خاطره فيه، فقد كان لزهير بن أبي سلمى قصائد لقبت بالحوليات، كان ينظم الواحدة منها ثم يهذبها بنفسه ثم يعرضها على أصحابه فلا يشهرها حتى يأتي عليها حول.
وقد ولج الشعراء في عصر الجاهلية أبوابا كثيرة من الشعر، فوصفوا، ومدحوا، وهجوا، وفخروا، ودونوا الأخبار، وضربوا الأمثال، ورغبوا، وأرهبوا، ولم يتركوا شيئا وقع تحت حسهم حتى تناولوه بمقالهم، فأجادوا وأبدعوا مع سهولة في اللفظ ومتانة في التركيب وتوخ للحقيقة وبعد عن الغلو. ولقد تركوا فيما تركوه من أشعارهم ما يمكن أن يستخرج منه بيان لعاداتهم وسائر أحوالهم، ومع أن منهم من سكن البادية على خشونة في العيش قد أتوا في كلامهم بالعجب العجاب من السهولة والانسجام ورائع الحكم ودقيق الشعور والوجدان، كما ترى ذلك فيما أوردناه في هذا الكتاب من كلامهم وجيد أشعارهم.
وكان الشعر ديوان علمهم، ومستودع حكمتهم، والضابط لأيامهم، وقيد كلامهم، والحاكم لهم، والشاهد عليهم، وله من نفوسهم أسمى مكانة وأرفع قدر. ومما يدلك على علو قدر الشعر أن القبيلة من العرب كانت إذا نبغ فيها شاعر أتتها القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن كما يصنعن بالأفراح، وتباشروا به؛ لأنه يحمي أعراضهم، ويدفع عن أحسابهم، ويخلد مآثرهم، ويشيد بذكرهم.
وكان للشعر تأثير في النفوس وسلطة عليها، حتى كانت تخشى بأسه الأمراء وتتحاماه الكبراء، وطالما وضع قوما ورفع آخرين. قال الجاحظ في كتاب «البيان والتبيين»:
ومما يدل على قدر الشعر عندهم بكاء سيد بني مازن مخارق بن شهاب حين أتاه محمد بن المكعبر العنبري الشاعر فقال له: إن بني يربوع قد أغاروا على إبلي، فاسع لي فيها، فقال: كيف وأنت جار بني ودان؟ فلما ولى عنه محمد حزن مخارق وبكى حتى بل لحيته، فقالت له ابنته: ما يبكيك؟ فقال: وكيف لا أبكي وقد استغاثني شاعر من شعراء العرب فلم أغثه؟! والله لئن هجاني ليقضمنني قوله، ولئن كف عني ليقتلنني شكره. ثم نهض فصاح في بني مازن؛ فردت عليه إبله.
ومما رواه صاحب «الأغاني» وغيره أن أعشى قيس كان يأتي سوق عكاظ كل عام، فيتجاذبه الناس في الطريق للضيافة؛ طمعا في مدحه إياهم والتنويه بهم في عكاظ، فمر يوما ببني كلاب وكان فيهم رجل يقال له المحلق وكان مئناثا مملقا له ثماني بنات لا يخطبهن أحد لمكان أبيهن من الفقر وخمول الذكر، فقالت له امرأته: ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر وإكرامه، فما رأيت أحدا أكرمه إلا وأكسبه خيرا؟ فقال: ويحك! ما عندي إلا ناقتي، فقالت: يخلفها الله عليك. فتلقاه قبل أن يسبقه أحد من الناس، وكان الأعشى كفيفا يقوده ابنه، فأخذ المحلق بخطام الناقة، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطام ناقتنا؟ فقيل: المحلق، قال: شريف كريم، ثم قال لابنه: خله يقتادها، فاقتادها إلى منزله وأكرمه ونحر له الناقة وجعلت البنات يدرن حوله ويبالغن في خدمته، فقال: ما هذه الجواري حولي؟ فقال المحلق: بنات أخيك، وهن ثمان نصيبهن قليل، فقال الأعشى: هل لك حاجة؟ فقال: تشيد بذكري؛ فلعلي أشهر فتخطب بناتي، فنهض الأعشى من عنده ولم يقل شيئا، فلما وافى عكاظ أنشد قصيدته التي أنشأها في مدحه، وهي نيف وأربعون بيتا، وفيها يقول:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق
فسارت القصيدة وشاعت في العرب، ولم تمض سنة على المحلق حتى زوج بناته ويسرت حاله. ا.ه.
وكان لشعراء العرب أنفة من التكسب بالشعر، حتى نشأ النابغة الذبياني قبيل الإسلام فمدح الملوك وقبل الصلة على الشعر، وجاء بعده الأعشى وقد أدرك الإسلام ولم يسلم فجعل الشعر متجرا وانتجع به أقاصي البلاد، وقصد ملك العجم فأثابه وأجزل عطيته، وكان زهير بن أبي سلمى ممن أفاد بشعره بمدائحه لهرم بن سنان. على أن شيئا من ذلك لم يضع من قدر الشعر ولم يحط من قيمته؛ لقلة من كانوا يتكسبون بشعرهم في ذلك العصر.
ومدة العصر الجاهلي نحو مئة وخمسين سنة، ومن أشهر ما قيل فيه من الشعر المعلقات السبع، وهي سبع قصائد من أجود الشعر العربي، وأحسنه أسلوبا، ويقال: إنها كتبت بالذهب على الحرير وعلقت على الكعبة؛ تنويها لها وتعظيما لشأنها، وكان العرب يتناشدونها في مجتمعاتهم مترنمين بما فيها من محاسن الشيم، معجبين بما اشتملت عليه من المعاني الشريفة والتشبيه الحسن البديع وحسن الوصف ودقة المعنى وغير ذلك من المحاسن. وأصحابها هم: امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير، وعمرو بن كلثوم، ولبيد، وعنترة، والحارث بن حلزة، وكلهم من فحول شعراء الجاهلية.
وممن اشتهر في العصر الجاهلي من الشعراء غير أصحاب المعلقات وكان من فحول الشعراء: النابغة الذبياني، والأعشى، والمهلهل، وعبيد بن الأبرص، والسموءل، والشنفرى، ودريد بن الصمة، وأوس بن حجر، وحاتم الطائي.
النثر
قد أثر عن العرب من منثورهم في العصر الجاهلي بعض الأمثال والحكم والخطب والوصايا مما علق بالضمير لحسنه وحرصت عليه النفس لنفاسته.
الأمثال:
جمع مثل، وهو جملة من القول مقتطعة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتنقل عما وردت فيه إلى ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها في لفظها. والعرب من أكثر الأمم أمثالا؛ للحكمة المودعة في نفوسهم، ولفصاحة ألسنتهم، وميلهم إلى الإيجاز في القول. وقد ألفت مجموعات للأمثال وطبع بعضها، ومن ذلك مجموعة للميداني جمع فيها أكثر من ستة آلاف مثل.
الحكم:
جمع حكمة، وهي الكلام المعقول الموافق للحق المصون عن الحشو. والعرب من أكثر الأمم إيرادا للحكمة في عبارات حسنة الأسلوب متينة التركيب، كلها من جوامع الكلم، صادرة عن خبرة ودراية وصفاء نفس.
الخطب والوصايا:
الخطب جمع خطبة، والوصايا جمع وصية، وكل من الخطبة والوصية يراد به جملة من القول يقصد فيها إلى الترغيب فيما ينفع الناس من أمور معاشهم ومعادهم والتنفير مما يضرهم، وقد تشتمل على الفخر والمدح ونحو ذلك.
والفرق بين الخطب والوصايا أن الخطب تكون في المشاهد والمجامع والأيام والمواسم والتفاخر والتشاجر ولدى الكبراء والأمراء، ومن الوفود في أمر مهم وخطب ملم. وأما الوصايا فإنها تكون لقوم مخصوصين في زمن مخصوص على شيء مخصوص، وكثيرا ما كانت تصدر من شخص لعشيرته أو سيد لقبيلته عند حلول مرض أو محاولة نقلة أو ما شابه ذلك.
وسيرد عليك في هذا الكتاب أمثلة لكل ما تقدم تفصل لك مجمله وتوضح لك مبهمه.
السبب الذي دعا العرب إلى الخطابة وما يتعلق بذلك:
1
لا يخفى ما كانت عليه العرب أيام جاهليتهم من الأنفة والتفاخر بالأحساب والأنساب والمحافظة على شرفهم وعلو مجدهم وسؤددهم، حتى حدث ما حدث بينهم من الوقائع العظيمة، ولا شك أن كل قوم يتفق لهم مثل ذلك هم أحوج الناس إلى ما يستنهض هممهم، ويوقظ أعينهم، ويقيم قاعدهم، ويشجع جبانهم، ويشد جنانهم، ويثير أشجانهم، ويستوقد نيرانهم؛ صيانة لعزهم أن يستهان، ولشوكتهم أن تستلان، وتشفيا بأخذ الثار، وتحرزا من عار الغلبة وذل الدمار، وكل ذلك من مقاصد الخطب والوصايا، فكانوا أحوج إليها بعد الشعر لتخليد مآثرهم وتأييد مفاخرهم.
ولقد كان لكل قبيلة من قبائلهم خطيب كما كان لكل قبيلة شاعر على ما ذكره الجاحظ في كتاب «البيان». وقد ألف في خطبهم كتب كثيرة، وذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» نبذة صالحة من خطب الجاهلية والإسلام، وكذا ابن عبد ربه في «العقد الفريد».
وكان للعرب اعتناء بالخطيب في جاهليتهم، وللخطباء عناية بخطبهم، فكانوا يتخيرون لها أجزل المعاني وينتخبون لها أحسن الألفاظ؛ تحصيلا لغرضهم، ونيلا لمقصدهم، فإن الألفاظ الرائقة والمعاني الجزلة أوقع في النفوس وأشد تأثيرا في القلوب؛ ولذلك ورد: «إن من البيان لسحرا.»
والأذن للكلام البليغ أصغى وأوعى، والترغيب في العاجل والإرهاب في الآجل اللذان هما من أهم مقاصد الخطابة ومطالبها العالية إن لم يكونا بعبارات تخلب القلوب وتأخذ بمجامعها فلا تأثير فيهما ولا فائدة منهما.
ومن عاداتهم في الخطابة أن الخطيب إذا تفاخر أو تنافر أو تشاجر رفع يده ووضعها وأدى كثيرا من مقاصده بحركات يده، فذاك أعون له على غرضه وأرهب للسامعين له وأوجب لتيقظهم.
ومن عاداتهم فيها أخذ المخصرة بأيديهم، وهي ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوها، وكانوا يعتمدون على الأرض بالعصي ويشيرون بالعصا والقنا، وكانوا يستحسنون في الخطيب أن يكون جهير الصوت؛ ولذا مدحوا سعة الفم وذموا صغره.
ومن فحول خطباء الجاهلية قس بن ساعدة الإيادي، وأكثم بن صيفي التميمي، وذو الإصبع العدواني، وعمرو بن كلثوم التغلبي، وقيس بن زهير. (3) أسواق العرب في الجاهلية واهتداؤهم إلى تهذيب لغتهم وتوحيدها وعنايتهم بذلك
كان للعرب أسواق يقيمونها في أوقات معينة وينتقلون من بعضها إلى بعض للبيع والشراء، وكان يحضرها العرب بما عندهم من المآثر والمفاخر ويتناشدون الأشعار ويلقون الخطب، وكانوا يتحاكمون إلى قضاة نصبوا أنفسهم لنقد الشعر وبيان غثه من سمينه وتفضيل شاعر على آخر، فكانوا يفضلون من سهلت عبارته وكان لها النصيب الأوفر من الفصاحة وحسن البيان مع التحرز من العيب والابتعاد عن النقص، ويتخيرون من لغات العرب ما حلا في الذوق وخف على السمع . فكانت هذه الأسواق أندية علمية ومجتمعات لغوية أدبية، اهتدى بها العرب إلى تهذيب لغتهم لفظا وأسلوبا وجعل لغة الشعر والخطابة لغة واحدة بين جميع القبائل باذلين في ذلك جهد المستطيع، منها مجنة وذو المجاز وعكاظ.
وأشهر هذه الأسواق سوق عكاظ من عكظه يعكظه عكظا: عركه، وهي موسم للعرب من أعظم مواسمهم، وعكاظ نخل في واد بين نخلة والطائف من بلاد الحجاز وبينه وبين الطائف عشرة أميال، وكانوا يتبايعون في هذه السوق ويتعاكظون ويتفاخرون ويتحاجون وينشد الشعراء ما تجدد لهم، وقد كثر ذلك في أشعارهم كقول حسان:
سأنشر إن حييت لهم كلاما
ينشر في المجنة مع عكاظ
وفيها كان يخطب كل خطيب مصقع. وكان كل شريف إنما يحضر سوق بلده إلا سوق عكاظ فإنهم كانوا يتواتون بها من كل جهة، ومن كان له أسير سعى في فدائه، ومن كانت له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة.
وكانت تقوم هذه السوق من أول ذي القعدة إلى العشرين منه على المشهور، واتخذت عكاظ سوقا بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، وتركت بعد أن نهبها الخوارج سنة تسع وعشرين ومئة.
ولعكاظ فضل على اللغة العربية في العصر الجاهلي، إذ لولاها لأصبحت لغة العرب لغات لا يتفاهم أصحابها وانفصلت كل منها عن الأخرى وقتا ما؛ ذلك لأن لغات القبائل العربية كان بينها تفاوت في اللهجة والأسلوب واللفظ، وكان هذا التفاوت يقل ويكثر تبعا لضعف وقوة العلاقات التي ترتبط بها قبيلتان أو عدة قبائل، وتبعا لاختلاف عوامل المكان والزمان والاجتماع التي يؤثر اختلافها أعظم تأثير في اللغة. فلما عظم شأن عكاظ وأمها الشعراء والخطباء من كل مكان، كان معظم همهم انتقاء الألفاظ الفصيحة المشهورة عند أكثر القبائل لا سيما قريش؛ طمعا في أن تنتشر أقوالهم بين العرب كافة. قال قتادة: كانت قريش تجتبي - أي تختار - أفضل لغات العرب حتى صار أفضل لغاتها لغتها فنزل القرآن الكريم بها، ولو اتبع كل شاعر أو خطيب لهجة قومه ولغة قبيلته وحدها لم يجد من يستحسنها غيرهم ووقفت عن الشهرة ولم تروها القبائل الأخرى فيفوته الافتخار بها.
وبذلك كان الشعراء والخطباء يبثون وحدة اللغة في أشعارهم وخطبهم فيما بين القبائل المختلفة متبعين في ذلك لغة قريش غالبا، وإنما اختاروا هذه اللغة على غيرها لما كان لها من السيادة على لغات قبائل الحجاز ونجد، ولما كان لقريش من رفيع القدر وعلو المنزلة بين جميع العرب. (4) تاريخ الكتابة والخط عند العرب
كان الغالب على العرب في بعض عصر الجاهلية الأمية، والذين يعرفون الكتابة والقراءة منهم نفر قليل جدا. والزمن الذي ابتدئ فيه باستعمال الخط العربي قديم غير معين. وأول من كتب بالعربية على أشهر الأقوال أهل اليمن قوم هود - عليه السلام - وكانوا يسمون خطهم ب «المسند» وهو الخط الحميري، وكانوا يكتبونه حروفا منفصلة ويمنعون العامة من تعلمه، حتى تعلمه ثلاثة نفر من طيئ فتصرفوا فيه وسموه ب «خط الجزم»؛ لأنه اقتطع من خط حمير، ثم علموه أهل الأنبار ومن الأنبار انتشرت الكتابة العربية، فأخذها عنهم أهل الحيرة وتداولوها، ولما قدم الحيرة حرب بن أمية القرشي جد معاوية بن أبي سفيان نقل هذه الكتابة من الحيرة إلى الحجاز بعد أن عاد إلى مكة.
والصحيح أن أهل الحجاز إنما لقنوا الكتابة من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير كما ذكره ابن خلدون، قال: وقد كان الخط العربي بالغا مبالغه من الإتقان والإحكام والجودة في دولة التبابعة؛ لما بلغت من الحضارة والترف، وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التبابعة والمجددين لملك العرب بأرض العراق. (5) العلوم والمعارف عند العرب في عصر الجاهلية
العرب غير البائدة يرجعون إلى أصلين، وهما: قحطان، وعدنان. أما قحطان - وهم عرب اليمن - فقد كانوا على جانب عظيم من المدنية والحضارة، والغالب منهم سكن البلاد المعمورة، وبنوا القصور، وشيدوا الحصون، وكانت لهم مدن عظيمة قد شرح حالها أهل الأخبار شرحا وافيا، وكان لهم ملوك وأقيال دوخوا البلاد وأوغلوا في الأرض واستولوا على كثير من أقطارها شرقا وغربا. كل ذلك يدل على وقوفهم على العلوم التي لا بد منها في حفظ النظام وعليها مدار المعاش وسياسة المدن وتدبير المنازل والجيوش وتأسيس الأمصار وإجراء المياه، مما لا يمكن وجوده مع الجهل وعدم المعرفة.
وأما بنو عدنان ومن جاورهم من عرب اليمن بعد أن فرقتهم حادثة سيل العرم، فقد كانوا على شريعة موروثة وعلم منزل، وهو ما جاء به إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - إلى أن اختل أمرهم وتغير حالهم فاشتغلوا بما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب أو ما حفظوه من أنسابهم وأيامهم أو ما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو من الحروب ونحو ذلك. وكان لهم حظ وافر من معرفة الطب المبني في غالب الأمر على التجربة، وكذلك التاريخ فقد تضمن شعرهم شيئا كثيرا منه. غير أن تدوين شيء من ذلك في عصر الجاهلين لم يكن؛ لغلبة الأمية والاعتماد على الذاكرة، وقد نقل ما نقل منه بالرواية والسماع، وكان يقال لهم «الأمة الأمية»، قال تعالى
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين . ا.ه. بتصرف من كتاب «بلوغ الأرب في أحوال العرب».
وقال ابن خلدون وياقوت: ما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان للعرب من الملك، ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتبابعة شاهدة بذلك، وقد ملكوا مصر والروم، واستعملوا عليها أحد القياصرة، وتوغلوا في الهند والصين وبلاد الفرس والترك والتبت، وأخذوا الأتاوى من القسطنطينية، وذكروا ذلك في أشعارهم، وغير ذلك مما لا نطيل به، ثم دولة مضر في الإسلام بني أمية وبني العباس. (6) حالة اللغة العربية وآدابها من ابتداء ظهور الإسلام إلى الدولة العباسية
جاء الإسلام ولغات العرب ولهجاتهم متشعبة، غير أن لغتين منها كانت لهما السيادة على سائرها؛ الأولى: لغة قريش، وكانت في مكة وما جاورها، والثانية: لغة حمير، وكانت في بلاد اليمن.
وقد تقدم في الكلام على عكاظ أن الشعراء والخطباء كانوا يؤثرون لغة قريش على سائر لغات العرب ويبثونها بين القبائل كافة في خطبهم وأشعارهم، وكان ذلك قبل ابتداء نزول القرآن الكريم بنحو خمس وعشرين سنة.
ولما كان القرآن الحكيم منزلا بلغة قريش أصبحت السيادة لها على لغة حمير وغلبت عليها وعلى جميع لغات العرب، ودان لها الخطباء والشعراء وسائر المتكلمين بالعربية، وصارت بعد ذلك هي اللغة المتداولة في المكاتبات والمؤلفات في جميع العلوم إلى يومنا هذا، والفضل في بقائها وحفظها إنما يرجع إلى الكتاب المجيد وحده، ولما فتح المسلمون بلاد الشام والعراق والفرس ومصر وأفريقية والمغرب وغير ذلك من البلاد، انتشرت اللغة العربية بانتشار العرب وتغلبت على لغاتها الأصلية، ولكنها لم تعم جميع الناس دفعة واحدة شأن كل لغة جديدة في مبدأ انتشارها.
ولقد كان هذا الانتشار سببا لظهور اللحن على لسان من تكلم بالعربية من غير أهلها، وكذا على لسان بعض أهلها من المخالطين لهؤلاء. وهذا أمر كان متوقع الحصول؛ لأن اللغة ملكة صناعية تؤخذ مفرداتها وأساليبها بالتلقين.
فالمتكلم من العرب حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطبتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. فلما خالط العرب غيرهم صار الناشئ منهم يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيعبر بها عن مقصوده ويسمع كيفيات العرب أيضا، فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه. ولقد وفى ابن خلدون في مقدمته هذا المقام حقه من البيان.
وإنك لترى اليوم من المتكلمين بلغتنا من الإفرنج ما يوضح لك ذلك من لهجتهم وأساليب عباراتهم، التي هي في الحقيقة أساليب لغتهم الأصلية صبغوها بصبغة عربية.
ولقد ظهر شيء من اللحن في كلام الموالي والمتعربين من أول عهد الإسلام، من ذلك ما روي أن رجلا لحن بحضرة النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: «أرشدوا أخاكم فقد خل.» وكتب كاتب لأبي موسى الأشعري إلى عمر - رضي الله عنه - فلحن، فكتب عمر إلى أبي موسى أن «اضرب كاتبك سوطا واحدا.» غير أن اللغة في العصر الأول كانت ملكتها مستحكمة وما ظهر من اللحن كان يسيرا، وفي أوائل الدولة الأموية أخذ اللحن يفشو وينتشر وانتقل من الأعاجم إلى العرب أنفسهم من أبناء الخلفاء والأمراء والخاصة والعامة. ومن شواهد ذلك أن زيادا لما أوفد ابنه عبيد الله إلى معاوية كتب إليه معاوية أن «ابنك كما وصفت ولكن قوم لسانه»، وجاء رجل إلى زياد - وهو أمير البصرة - فقال: «أصلح الله الأمير! توفي أبانا وترك بنونا»، فقال زياد متعجبا منكرا: «توفي أبانا وترك بنونا!» وقالت ابنة أبي الأسود الدؤلي له يوما: «ما أحسن السماء؟» فقولي: ما أحسن السماء! وافتحي فاك.» وسمع أبو الأسود قارئا يقرأ قوله تعالى:
أن الله بريء من المشركين ورسوله
بجر «رسوله»، فأكبر ذلك وقال: «عز وجه الله أن يبرأ من رسوله!» وكان هذا سببا في وضع علامات الإعراب للمصحف بأمر زياد.
وقال الحجاج يوما للشعبي: «كم عطاءك؟» فقال: «ألفين»، قال: «ويحك! كم عطاؤك؟» فقال: «ألفان»، قال: «كيف لحنت أولا؟» قال: «لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت.» وقيل لعبد الملك بن مروان: «لقد عجل إليك الشيب يا أمير المؤمنين»، فقال: «شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن.» وكان الوليد بن عبد الملك كثير اللحن وله في ذلك نوادر كثيرة.
الكتابة والخط
كان انتشار الكتابة قبل الإسلام قليلا بين العرب كما تقدم، ومنذ عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
انتشرت الكتابة للحاجة إليها في كتابة الوحي والرسائل التي كان ينفذها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى الملوك والأمراء، وقد أمر بعد غزوة بدر من لم يكن له فداء من الأسرى أن يعلم عشرة من أطفال المسلمين الكتابة.
ولما كثرت الفتوح في مدة أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - وضع ديوان الخراج وديوان الجيش لضبط الأعمال، وكان ذلك في المحرم سنة عشرين.
وقد كان ديوان الخراج والجبايات في بلاد العراق والشام ومصر يكتب فيه بغير العربية إلى زمن عبد الملك بن مروان وابنه الوليد حين ظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتابة والحساب، فنقل ديوان العراق من الفارسية إلى العربية، والذي نقله هو صالح بن عبد الرحمن كاتب الحجاج، وكان يكتب بالعربية والفارسية. ونقل ديوان الشام من الرومية إلى العربية، والذي نقله هو سليمان بن سعد والي الأردن، وأكمله لسنة من ابتدائه، ووقف عليه كاتب عبد الملك فقال لكتاب الروم: «اطلبوا العيش من غير هذه الصناعة، فقد قطعها الله عنكم.» ونقل ديوان مصر من القبطية إلى العربية، والذي نقله هو عبد الله بن عبد الملك بن مروان في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة سبع وثمانين، وأصبحت الدواوين الإسلامية بعد ذلك تكتب كلها بالعربية.
وأول كتاب كتب باللغة العربية هو القرآن الكريم، وقد كتبت المصاحف العثمانية بخط الجزم (وسمي بالخط الكوفي بعد إنشاء الكوفة)، واستعمل في عهد بني أمية مع ترقيه في درجات الحسن تبعا لحضارة الأمة. وقد كان المصحف خاليا من الشكل والنقط، غير أنه لكثرة المسلمين بسرعة انتشار الدين وظهور اللحن والتحريف خشي على القرآن الكريم من ذلك، فقام أبو الأسود الدؤلي ووضع له علامات الإعراب في أواخر الكلمات بصبغ يخالف لون المداد الذي كتب به المصحف، وجعل علامة الفتح نقطة فوق الحرف، والضم نقطة إلى جانبه، والكسر نقطة في أسفله، والتنوين مع الحركة نقطتين، وذلك في خلافة معاوية. ثم إن الحجاج في مدة عبد الملك بن مروان أمر نصر بن عاصم أن يضع له النقط والشكل لأوائل الكلمات وأواسطها، وخالف في ذلك طريقة أبي الأسود لئلا يلتبس النقط بالشكل.
وبعد ذلك جاء الخليل بن أحمد فتمم بقية علامات الإعجام (الشكل) كالشدة والصلة والقطعة، وهذب جميع العلامات فجعل الضمة واوا صغيرة فوق الحرف، والكسرة ياء صغيرة تحته، والفتحة ألفا مسطوحة فوقه، والشدة رأس سين، والصلة رأس صاد، وسمى كل هذه العلامات ب «الشكل» أخذا من «شكال الدابة» الذي تقيد به، فكأن شكل الكلمة يقيدها عن الاختلاف فيها.
وكان المعروف من الخط في ذلك العصر نوعين ؛ أحدهما يستعمل في كتابة المصاحف ونحوها والمسكوكات مما يحتاج فيه إلى التأنق والإجادة وحسن النسق، وثانيهما يستعمل في كتابة الرسائل ونحوها مما يطلب فيه الإسراع ولا يحتاج فيه إلى التأنق وزيادة التحسين. والنوع الأول هو المعروف بالخط الكوفي، وأما النوع الثاني فإنه أصل خط النسخ، ارتقى في الحسن والجودة شيئا فشيئا حتى تحول إلى ما هو عليه اليوم.
ثم إن الخط بنوعيه انتقل إلى الأمصار التي انتشر فيها الإسلام وتنوعت أشكاله ورسومه، فانتقل في عصر الأمويين إلى أفريقية وتولد منه الخط المغربي المستعمل الآن في المغرب الأقصى والجزائر وتونس وطرابلس.
النثر والنظم وفضل القرآن الكريم على اللغة العربية في تهذيبها وترقيتها
قد أخذت اللغة العربية عند ظهور الإسلام وجهة دينية من القيام بالدعوة إلى الدين والوعظ وتبيين العقائد الصحيحة وقواعد الإسلام وأصوله وأحكامه وحكمه وآدابه.
وإنك لترى في كلام الصدر الأول من أهل الإسلام الحث على اتباع الدين والتمسك به، وإعلاء كلمة الحق، والعمل للآخرة، والأخذ من الدنيا بنصيب، والتحذير من الاسترسال مع الشهوات والأهواء والنظر إلى خيرات الأقاليم التي فتحها المسلمون والتطلع إليها؛ خوف الوقوع في الزلل، فترى رسائل هذا العصر المنير وخطبه تردد صدى الكتاب العزيز حاثة على الفضيلة منفرة من الرذيلة، وكلها جاء فيه اللفظ تابعا للمعنى لم يتعمد فيه ضرب من ضروب الصنعة الكلامية، صادرة عن شعور حي ووجدان صادق، ولذا نفذت إلى سويداء القلوب وأصابت مواقع الوجدان. وإذا كان الكلام خارجا من القلب فإنه يقع في القلب، وإذا لم يكن صادرا إلا عن اللسان فإنه لا يتجاوز الآذان.
وقد قضت هذه الحكم والمواعظ والخطب والنصائح على الرذائل والأوهام بالزوال، وفسحت للفضائل والحقائق فرأت أهلا ومكانا سهلا، فتحلت بها النفوس والعقول، وقويت العزائم، وعلت الهمم فساد المسلمون جميع الأمم.
ويرى الناظر إلى حالة اللغة في عصر الدولة الأموية أنها انتقلت إلى حالة أجمل مما كانت عليه؛ لانتقال القوم من البداوة إلى الحضارة، ومن سكنى الخيام إلى سكنى القصور، فاتسعت مداركهم وزادت تجاربهم، وقوي فيه الخيال، وكثرت التصورات، وانتقلوا من حال إلى حال، فأشعر ذلك نفوسهم معاني جديدة ووجدانا وعلما لم يكونا من قبل، فاحتاجوا إلى العبارة عن ذلك بما يلائمه من الألفاظ والتراكيب، وساعدهم على صوغ العبارات في القالب اللائق بها قوة اللغة واتساعها وأخذهم بزمامها، وقد ظهر ذلك في خطبهم ورسائلهم ظهورا بينا.
وكانت موضوعاتها في الغالب الوعظ والإرشاد، والذود عن الحقوق، وإيقاف الأطماع عند حدها، وكبت الخارجين، وتأليف الأحزاب، وتوحيد الكلمة.
وكانت العبارات لا تزال آخذة أسلوبا حيا مؤثرا مع إحكام صنعة وحسن عبارة وجودة مقاطع. (7) الخطابة
كانت خطب الصدر الأول من الإسلام في أسمى طبقات الفصاحة والبلاغة كما ترى ذلك في خطب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين، كمعاوية وزياد وعبد الملك والحجاج وقطري بن الفجاءة وأبي حمزة وواصل بن عطاء. والفضل في ارتقاء الخطابة يرجع إلى الكتاب المبين من وجوه كما بين ذلك صاحب كتاب «أشهر مشاهير الإسلام»، قال في بيان هذه الوجوه: (1)
إن القرآن الكريم وإن نزل بلغة القوم التي بها يتخاطبون وبفصاحتها يتفاخرون، إلا أن أساليبه العالية التي أعجزت خطباءهم وفصحاءهم وأخذت بمجامع قلوبهم ألبستهم ملكة من البلاغة في تخير الأساليب غيرت ملكتهم الأولى، وأطلقت ألسنتهم من الوحشية والتعمق الذي كان ديدن كثير من خطبائهم، حتى إنهم كانوا يعيبون الخطيب المصقع إذا لم يكن في كلامه شيء من آي القرآن؛ روى الجاحظ أن العرب كانوا يستحسنون أن يكون في الخطب يوم الحفل وفي الكلام يوم الجمع آي من القرآن، فإن ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار وحسن الموقع. (2)
ما جاء في القرآن من الترغيب والإرهاب على الأسلوب البالغ حد الإيجاز، وما كان له من التأثير في الضمائر والأخذ بشكائم النفوس؛ أعانهم على التفنن في أسالب الوعظ الخطابي عند حلول الأزمات، أو الحاجة إلى تأليف قلوب الجماعات، حتى لقد كان الخطيب البليغ يدفع بالخطبة الواحدة من الملمات ما لا يدفع بالبيض المرهفات، ويملك من قلوب الرجال ما لا يملك بالبدر والأموال. (3)
إن الإسلام - بما هذب من أخلاقهم، وألان من طباعهم، وعدل من شيمهم - أدخل من الرقة على عواطفهم ما رق به كلامهم وكثر للمعاني المؤثرة في النفوس اختيارهم في مخاطبتهم وخطبهم. (4)
إن الإسلام - بما مهد لهم من سبيل الفتح ومخالطة الأمم، وبما منحهم من سعة السلطان والسيادة على الشعوب - وفر لهم الأسباب الداعية إلى التوسع في الخطابة بما تتطلبه حاجة التوسع من الملك وتقتضيه عادات الأمم المحكومة وأخلاقها. ا.ه. بتصرف يسير في العبارة.
وكان الخطباء في هذا العصر يمسكون بيدهم العصا أو المخصرة كما كان عليه خطباء الجاهلية، قال عبد الملك بن مروان: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي.
الرسائل
في صدر الإسلام كانوا يكتبون من فلان إلى فلان، وجرى على ذلك الصحابة والتابعون حتى ولي الوليد بن عبد الملك، فأمر ألا يكاتبه الناس بمثل ما يكاتب بعضهم بعضا، وبقي الحال كذلك إلا ما كان من عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد حيث اتبعا السنة الأولى، وبعد ذلك رجع الأمر إلى ما كان عليه الوليد.
وفي أواخر الدولة الأموية أخذت الرسائل أسلوبا غير الذي كانت عليه، ودخلتها الصنعة والقصد إلى تنميق اللفظ. وابتدأ ذلك الانقلاب بعبد الحميد بن يحيى الكاتب، وهو أول الطبقة الثانية من الكتاب، وكانت الرسائل قبل عبد الحميد موجزة غالبا ثم طولت لاقتضاء المقام تطويلها.
النظم
قد انصرف العرب عن الشعر والمنافسة فيه في أول عصر الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا، ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه النبي
صلى الله عليه وسلم
وأثاب عليه فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه. وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة، وكان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس، فيقف لاستماعه معجبا به. ثم جاء من بعد ذلك الملك والدولة العزيزة، وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها، ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم، ويحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على الآثار والأخبار واللغة وشرف اللسان، والعرب يطالبون وليدهم بحفظها. ولم يزل هذا الشأن أيام بني أمية وصدرا من دولة بني العباس. ا.ه. من المقدمة لابن خلدون، من الفصل الخمسين، من الكلام على العلوم.
وقال حماد الراوية: أمر النعمان فنسخت له أشعار العرب في الطنوج، أي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض.
فلما كان المختار بن عبيد قيل له: إن تحت القصر كنزا؛ فاحتفره فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالأشعار من أهل البصرة. وقال ابن خلدون أيضا: إن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم، فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، في ترسلهم وخطبهم ومحاورتهم للملوك؛ أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاورتهم.
والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة، والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن الكريم والحديث الشريف اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما؛ لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم، وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. ا.ه.
والشعراء الذين أدركوا الجاهلية والإسلام يسمون المخضرمين (من الخضرمة وهي الخلط؛ لأنهم جمعوا بين العصرين الجاهلي والإسلامي)، ومن أشهرهم: حسان بن ثابت، والنابغة الجعدي، وكعب بن زهير، والعباس بن مرداس، والحطيئة. وأما الذين لم يدركوا عصر الجاهلية بل نشئوا في الإسلام بعد هؤلاء المخضرمين، فإنهم يسمون بالإسلاميين ، ومن أشهرهم: جرير، والفرزدق، والأخطل، وذو الرمة، والكميت، وبشار بن برد آخرهم وهو ممن أدرك العصرين الأموي والعباسي.
وكلا الفريقين يستشهد بكلامه في اللغة ويحتج به.
وقد امتاز الشعر في هذا العصر ببلاغة في المعنى، ومتانة في التعبير، وإحكام في التركيب، مع رقة وحسن تصرف في القول، وسعة في التصور فاق في كل منها الشعر الجاهلي.
ولم يزل للشعر من المكانة في النفوس في العصر الأموي وصدر من العصر العباسي مثل ما كان له في العصر الجاهلي، وإن كان بعض المخضرمين كالحطيئة والإسلاميين كالأخطل وجرير اتخذوه صناعة للتكسب وطلب الرزق من السادات والأمراء والخلفاء؛ فإن ذلك لم يحط من قدره ولم يخضد من شوكته، ومن شواهد ذلك ما رواه الجاحظ في البيان عن أبي عبيدة قال: كان الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ يقول: نميري كما ترى، فما هو إلا أن قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
حتى صار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر.
وروى الجاحظ أيضا عن أبي عبيدة قال: كان الرجل من بني أنف الناقة إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع، فما هو إلا أن قال الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟
حتى صار الرجل منهم إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني أنف الناقة.
العلوم والمعارف
جاء القرآن المجيد بحكمه السامية، وأحكامه العادلة، كافلا لمن عمل به سعادة الدنيا والآخرة، فوجد فيه المسلمون غنيتهم، وجعلوه - هو والسنة النبوية - عمدتهم ومرجعهم مدة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية.
وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - يفهمون دقائق الكتاب، ويدركون حكمه وأسراره، ويعرفون أحكامه من غير احتياج إلى تعلم العلوم اللسانية كالنحو والصرف وعلوم البلاغة ومتن اللغة؛ لأن الكتاب كان متنزلا بلغتهم التي هم بها يتخاطبون، وكانوا على علم تام بالحوادث التي نزل فيها القرآن وبأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ وأنواع النسخ، والمحكم والمتشابه والمجمل والمفصل ... إلى آخر علومه التي أفردها الأئمة بالتأليف. وغاية الاشتغال بهذه العلوم اللسانية إنما هو الوصول إلى معرفة اللغة كما كانت تعرفها العرب، ولم يكن لديهم من بقايا قدمائهم في العلوم الدنيوية إلا البعض كالطب الذي ورثوه عن أسلافهم.
ولا يذهبن بك الوهم إلى أن الدين الإسلامي يصد عن الاشتغال بالعلوم والفنون الدنيوية، إذ الكتاب العزيز جاء حاثا على النظر في ملكوت السموات والأرض، منبها إلى الانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به من هذه الخليقة بصريح العبارة في الآيات العديدة، غير أن المسلمين في أول ظهور الإسلام كان يمنعهم عن الاشتغال بهذه العلوم انصرافهم إلى القيام بدعوته وتصديهم لتهذيب جميع العالم وترقيته وتخليص من حولهم من الأمم من شوائب الأوهام والرذائل، فكانوا خصماء للعالم كله. فلما تضمخ الخافقان بطيب عبيره، وارتوى الأفقان من عذيب نميره، واستقرت من الدين دعوته، وعلت كلمته، ونفذت شوكته؛ وجهت العناية إلى تلك العلوم الدنيوية في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، وقد ظهرت آثار العلوم العقلية في أوائل القرن الثاني، وترجمت جملة من الكتب العلمية والصناعية.
وكان الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - يستظهرون الأحاديث النبوية ولا يكتبونها، وجرى التابعون على سنتهم حتى كانت خلافة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فكتب إلى الآفاق: «انظروا حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
واجمعوه.» ودونه بأمره محمد بن شهاب الزهري المتوفى سنة 125، وكان ابتداء تدوين الحديث على رأس المئة، وبعد ذلك دونت كتب الحديث تباعا في عصر العباسيين، ووجهت إليها العناية حتى ضبطت ضبطا محكما.
وأما البراعة في الآداب من العلم بوقائع العرب وتاريخهم، وقول الشعر، وإنشاء البليغ من النثر؛ فإنها قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغا لم تبلغه أمة قط في مثل مدتها. وقد كان الخلفاء من بني أمية يعلون منزلتها ويرفعون مكانات الشعراء والخطباء والعلماء، وكذا الدولة العباسية، وأخبار المهدي مع المفضل وحماد وحديث الرشيد مع الأصمعي حلية تلك القلادة. وقال الإمام أبو الحسن بن سعيد العسكري: «بلغ من عناية بني أمية وشغفهم بالعلم أنهم ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر أو خبر أو يوم من أيام العرب؛ فيبردون فيه البريد إلى العراق حتى قال أبو عبيدة: ما كنا نفقد في كل يوم راكبا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة يسأله عن خبر أو نسب أو شعر، فقدم عليه رجل من عند أبناء الخلفاء من بني مروان، فقال له: من قتل عامرا وعمرا التغلبيين يوم قضة؟ فقال: قتلهما جحدر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، فشخص بها ثم عاد إليه فقال: أجل، قتلهما جحدر، ولكن كيف قتلهما جميعا؟ فقال: اعتوراه، فطعن هذا بالسنان وهذا بالزج فعادى بينهما، ثم قال: ولم يزل المأمون حين دخل العراق يراسل الأصمعي في أن يجيئه ويحرص على ذلك، والشيخ يعتذر بضعف وكبر ولم يجب، فكان الخليفة يجمع المسائل وينفذها إليه إلى البصرة. ا.ه. باختصار.
وقد كتب شيء من التاريخ في زمن معاوية - رضي الله عنه - وقال ابن خلكان إنه رأى تأليفا لوهب بن منبه المتوفى سنة 116 في أخبار ملوك حمير وأشعارهم.
وكان وضع علم العربية في آخر عهد الخلفاء الراشدين بسبب انتشار اللحن، وأول من وضعه وأسس قواعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وأخذه عنه أبو الأسود الدؤلي وأتمه.
قال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري في كتابه «تاريخ الأدباء» بعد كلام، ما نصه:
وسبب وضع علي - كرم الله وجهه - لهذا العلم ما روى أبو الأسود قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم)، فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه. ثم ألقى إلي الرقعة وفيها مكتوب: «الكلام كله: اسم وفعل وحرف، فالاسم: ما أنبأ عن المسمى، والفعل: ما أنبئ به، والحرف: ما أفاد معنى»، وقال لي: انح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر (وأراد بذلك الاسم المبهم). قال: ثم وضعت بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى أن وصلت إلى باب إن وأخواتها، فكتبتها ما خلا «لكن»، فلما عرضتها على أمير المؤمنين - عليه السلام - أمرني بضم «لكن» إليها، وكنت كلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلى أن حصلت ما فيه الكفاية، فقال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت! فلذا سمي «النحو». ا.ه.
وأخذ عن أبي الأسود جمع من الطلاب، من أشهرهم نصر بن عاصم المتوفى سنة 89 بالبصرة، وهو واضع النقط والشكل للمصحف كما تقدم، وجاء بعده جمع من أئمة العربية أحكموا ترتيب القواعد وأكثروا من الأدلة والشواهد، وسيرد عليك ترجمة بعضهم في هذا الكتاب. (8) حالة اللغة العربية وآدابها في عصر الدولة العباسية وما بعدها
جاءت الدولة العباسية وقد انتشرت العرب في أنحاء المعمورة وامتد ملكهم شرقا وغربا من الهند إلى الأندلس، ودانت لهم أمم كثيرة مختلفة اللغات واللهجات، دخل أكثرهم في الإسلام واختلطوا بالعرب وتكلموا بلغتهم؛ فكثر المتكلمون بالعربية من غير العرب، وهم كما تعلم من الأعاجم الذين لم تكن العربية ملكة فيهم كالعرب، فسرى الفساد إلى اللغة، وفشا اللحن والتحريف. وكان أول ما ظهر ذلك في المدن والأمصار، ثم دب إلى البدو بعد زمن طويل؛ لقلة اختلاطهم بالأعاجم، ومن لم يختلط منهم لم تفسد لغته. وكانت سرعة الفساد وبطؤه تابعين لكثرة المخالطة وقلتها.
ولما تغلب العجم من الديلم والسلجوقية على الممالك الإسلامية في بلاد فارس والعراق والشام زاد فساد اللغة، وكاد اللسان العربي يذهب لولا الكتاب المجيد. وبعد أن سقطت الدولة العباسية وتغلب التتر والمغول بالمشرق (ولم يكونوا وقت تغلبهم مسلمين، ثم دخلوا في الإسلام بعد ذلك)؛ أخذت اللغة العربية في البلاد الفارسية وما جاورها في الاضمحلال، حتى لم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق العجمى وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند وبلاد الروم، إلا في كتب الحديث والدين وبعض كتب العلم، حتى إن كثيرا من مؤلفاتها كتب بغير اللغة العربية كالتركية والفارسية والهندية، وذهبت أساليب اللغة من النثر والنظم إلا قليلا، وبقيت العربية ببلاد العرب والعراق العربي والشام ومصر وبلاد المغرب، ثم تشرف بالإسلام أولئك المتغلبون، فعاد في بلادهم إلى العربية بعض روائها، وفاض بعد أن غاض معين روائها.
غير أن لغة الكلام أصبحت بعيدة عن لغة الكتابة؛ لكثرة ما دخلها من التغيير والتبديل، واتسعت مسافة الخلف بينهما، فالكتابة لا تزال باللغة العربية الصحيحة في الكتب المعتبرة، وأما الكلام فقد تغلبت عليه اللغة العامية، وهي خليط من اللغة العربية بعد تحريف كلماتها وتغيير أساليبها ولهجتها مع بعض كلمات وأساليب من لغات أخرى امتزجت بها. وهذه اللغة العامية كل يوم في تقلب وتغير؛ لاختلاف المخالطين لأهلها من الأعاجم، وتفاوت سلطتهم قوة وضعفا؛ ولذا تجد اللغات العامية تختلف في لهجتها وبعض كلماتها باختلاف البلاد والعصور كما ترى ذلك في لغة أهل مصر والشام وبلاد المغرب إذا قارنتها بعضها ببعض، وفي لغة أهل الجزائر اليوم ولغتهم قبل ذلك بخمسين سنة.
ولقد أتى في مصر والشام زمن طويل على اللغة العامية زاحمت فيه اللغة العربية الصحيحة في الكتابة وفي بعض المؤلفات، كما ترى شيئا من ذلك في تواريخ ابن إياس والجبرتي والأنس الجليل، وربما تعمد مؤلفوها ذلك لإفهام العامة. وتراه أيضا في كتابة الدواوين بمصر في القرن الماضي، ولا تزال آثارها ظاهرة إلى اليوم ظهورا بينا في بعضها وقليلة أو نادرة في بعضها الآخر.
بل كانت لغة الدواوين في مصر بعضها لا يفهم لبعده عن كل من اللغة العامية واللغة الصحيحة.
ولكن عناية الله - تعالى - تداركت هذه اللغة الشريفة وهي على آخر رمق من حياتها بعلماء أفاضل أخذوا بناصرها من زمن غير بعيد، ونهضوا بها نهضة لم تكن في الحسبان حتى أرجعوا إليها بعض ما فقدته من قوتها.
النثر والنظم
اتسع نطاق النثر في العصر العباسي اتساعا عظيما، ودونت به جميع العلوم من دينية، وأدبية، ورياضية، وطبية، وفلسفية، وغير ذلك مما وضعه المسلمون أو ترجموه من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.
وقد استدعى هذا استعمال كثير من الألفاظ بحسب اصطلاحات العلوم والفنون، كما ترى ذلك في اصطلاحات علوم الدين والأدب والرياضة والطب والفلسفة من الألفاظ العرفية المستحدثة.
وكانت عبارة التأليف من ابتداء تدوين العلوم إلى حوالي القرن الرابع خالية من التعقيد، حسنة الأسلوب، متينة التركيب، قريبة المأخذ، لا سيما علوم الأدب والشريعة أصولا وفروعا حتى كتب القواعد النحوية من اللغة.
وكذا كان شأن الرسائل والتحرير في أي غرض كان في ذلك العصر الذي زهت فيه العلوم، وحييت الآداب، وعمت الحضارة والمدنية، وبلغ كل ذلك غايته من الارتقاء بين الأمة الإسلامية. غير أنه دخل شيء من التكلف في النثر والنظم، ولكنه كان مستترا بحسن السبك وإحكام الصنعة في الغالب، ولم يكن ليؤثر في جملة المنظوم والمنثور تأثيرا كبيرا؛ لقلته ولحسن التصرف فيه.
وبعد ذلك أخذت هذه الحياة الأدبية في الضعف تبعا لضعف الخلافة العباسية العربية، وكثر التكلف في الكتابة والنظم، ومال كثير من الكتاب إلى السجع، وكاد بعضهم يهمل جانب المعنى لاهيا عنه بالألفاظ وتنميقها والجناس ونحوه من المحسنات اللفظية، حتى صنفت كتب بالكلام المسجوع ك «تاريخ العتبي» و«الفتح القدسي»، لكن عبارة التأليف فيهما وفي كثير من الكتب لا تزال راقية عالية الأسلوب، وكذا بعض الرسائل والمحررات، حتى دخلت اللغة في دور الانحطاط بسقوط الدولة العباسية شيئا فشيئا إلى عصرنا هذا، حيث أخذت تستعيد بقدر الإمكان ما كان لها من حسن الأسلوب ومتانة التركيب، مع البعد عن تكلف السجع والجناس، والقصد إلى المعنى.
والفضل في ذلك يرجع للنهضة العامة في مصر والشام، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في الفصل السابق.
النظم
قد فسحت الحضارة وسعة العمران لشعراء الدولة العباسية مجالا لم ينفسح للشعراء قبلهم؛ فذهبوا فيه المذاهب، وتفننوا، وأبدعوا، وتصرفوا في المعاني، وأجادوا السبك، وأحكموا الصنعة، وفاقوا في الرقة والسهولة والتفنن في القول من تقدمهم من شعراء الدولة الأموية. ولا عجب في ذلك، فقد وصفوا ما شاهدوه مما امتلأت به أيدي الفاتحين من خيرات الأقاليم، وما وقع تحت حسهم من آثار الأمم التي تغلبوا عليها، واللغة في عنفوان شبابها والخلفاء من أكبر أنصارها (والناس على دين ملوكهم). وإنك لترى العجب في كلام شعراء العباسيين إلى نهاية القرن الثالث، فقد بلغوا الغاية في كل ما تكلموا فيه.
واستمر الشعر في قوته بعد القرن الثالث، غير أن الشعراء المجيدين أخذ عددهم يقل شيئا فشيئا حتى انتهوا بالطغرائي المتوفى سنة 513، وجاء بعد هؤلاء قوم اشتهروا ولكنهم لم يبلغوا شأو من تقدمهم، وكان آخرهم صفي الدين الحلي المتوفى سنة 740، وبعد ذلك أصبح النظم كالنثر في حكمه ضعفا وقوة حتى عصرنا هذا.
وشعراء الدولة العباسية يسمون ب «المولدين»، وقد امتاز شعرهم بالرقة والسهولة وعذوبة اللفظ والتوسع في التشبيه والمجاز والكناية والتوغل في الخيال مع القرب من الحقيقة أحيانا، وقد أكثر المتأخرون منهم من المحسنات البديعية، حتى صار لكلامهم مسحة ظاهرة من الحسن من دونها معنى تافه أو غلو غير مقبول.
وقد كان لكل شاعر طريقة امتاز بها في شعره، وقد جمع بعضهم بين النثر والنظم واتفق له في كل منهما كلام جيد كالبديع والخوارزمي والميكالي والشريف الرضي. ولقد كان للشعر مكانة في النفوس وسلطان عليها إلى صدر الدولة العباسية، ثم فقد تأثيره بعد ذلك؛ لكثرة المتبذلين من الشعراء في المدح والهجو، ولغلوهم في ذلك وكذبهم، ولانحطاطهم من أعين العظماء خصوصا غير العرب، الذين لا يقع من نفوسهم الشعر الجيد موقعه من نفس العربي.
وقد زاد المولدون أوزانا للنظم كالموشح والسلسلة والدوبيت، وتفننوا في النظم فخمسوا وشطروا وتصرفوا فيه تصرفا كثيرا.
وفحول شعراء المولدين والمجيدون من كتابهم كثيرون؛ فمن الفريق الأول بعد بشار بن برد: مسلم بن الوليد، وأبو نواس، وأبو العتاهية، وأبو تمام، والبحتري، وابن المعتز، وابن الرومي، والمتنبي، والشريف الرضي، وأبو العلاء المعري، وأبو فراس، والحسن بن هانئ الأندلسي، وابن خفاجة، والطغرائي.
ومن الفريق الثاني بعد عبد الحميد بن يحيى: إبراهيم الصولي، والحسن بن وهب، والجاحظ، وابن العميد، والصابئ، وابن عباد، والخوارزمي، والبديع، والحريري، والقاضي الفاضل، وعبد اللطيف البغدادي. (9) الخط العربي
في عصر العباسيين توجهت العناية إلى تجويد الخط وتحسينه، وخالفت أوضاعه في بغداد أوضاعه في الكوفة في الميل إلى إجادة الرسوم وجمال الشكل. واخترعت الأقلام المختلفة، فظهر قلم الثلث والثلثين والنصف نظرا لاستقامة ثلث الحروف أو ثلثيها أو نصفها، وغير ذلك من الأقلام الأخرى. واستمر الخط آخذا في الارتقاء والجودة حتى ظهر ببغداد الوزير الكاتب أبو علي محمد بن علي بن مقلة، المتوفى سنة 328، واخترع نوعا من الخط سمي بالخط البديع، وقد اشتهر بين الكتاب أن هذا الخط البديع هو خط النسخ الشائع اليوم، نقله ابن مقلة على الخط الكوفي، ونفى ذلك بعض الباحثين مستدلين بوجود خط النسخ قبل زمن ابن مقلة، كما شاهدوا ذلك في بعض الصحف والرسائل التي كتبت قبل ابن مقلة. والظاهر أن ابن مقلة لم يخترع خط النسخ اختراعا، ولكنه تصرف فيه تصرفا بديعا، ونقله إلى صورة امتاز بها عن أصله في الجودة والحسن، وهذا مقام لا يزال محتاجا إلى البحث والتحقيق. وكان ابن مقلة يضرب به المثل في حسن الخط، وتلاه في ذلك أبو الحسن علي بن هلال الكاتب الشهير المتوفى سنة 423، وقد أقر له أهل زمنه بالسابقة وعدم المشاركة في حسن الخط، وهو الذي هذب الخط العربي ونقحه بعد ابن مقلة.
ثم إن الخط الكوفي أهمل بتوالي الأيام وحل محله خط النسخ. وقد تفنن الترك في تحسين الخط وتنويعه، فاخترعوا خط التعليق، والرقعة، وأوصلوا النسخ والثلث إلى أقصى درجات الحسن والإتقان كما هو مشاهد الآن.
والخط العربي منتشر في البلاد الإسلامية كلها، تكتب به العربية، والتركية، والفارسية، والأفغانية، ولسان أردو بالهند، ولسان الملايو بجزيرة جاوة وما حولها.
العلوم والمعارف
قد اعتنى الخلفاء والعلماء في عصر الدولة العباسية بتدوين العلوم الإسلامية، فوضعوا أصول الفقه، وصنفوا في فروعه واستنبطوا أحكامه، ودونوا الأحاديث النبوية، وتفسير القرآن الكريم، وعلوم العربية، واستخرجت علوم البلاغة، ووضعت لها القوانين والشواهد، ووضع العروض، وحصرت أوزان الشعر العربية في دوائرها الخمس. وألفوا وترجموا كتبا في الطب والهيئة والهندسة وسائر العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية وتقويم البلدان والتاريخ العام وتاريخ الأشخاص.
واعتنوا باللغة وضبطها، وتصرفوا فيما ترجموه فنقحوا وهذبوا وزادوا واستنبطوا وأصلحوا كثيرا من أغلاطه. وقد وسعت اللغة العربية كل العلوم التي ألفت بها أو نقلت إليها، ولم يدخل من الألفاظ الأعجمية إلا شيء يسير، وأكثر ما وقع ذلك في الكتب التي عربها بعض من لا يحسنون العربية. وتفصيل الكلام على هذه العلوم واشتغال المسلمين بها وعنايتهم بتهذيب ما ترجموه منها وجعله صالحا لأن ينتفع به؛ كل ذلك يحتاج إلى تأليف الأسفار الكبار ليوفى حقه من البحث والشرح.
غير أنا ذاكرون مختصرا وجيزا مناسبا للمقام مقتطفا مما كتبه كبار مؤرخي المسلمين ومحققو المؤرخين من الإفرنج المنصفين وأفاضل الكتاب المعاصرين؛ في مآثر العرب وعلومهم ومعارفهم وما لهم من الفضل على العالم كله في ذلك كله، مازجين أحيانا كلامهم بعضه ببعض أو مصرحين بنسبة القول إلى قائله حسب اقتضاء المقام ذلك، فنقول:
أول من اعتنى بالعلوم وتدوينها من الخلفاء العباسيين أبو جعفر المنصور، وقد أخذ في إنشاء المدارس للطب وللشريعة، وكان مع براعته في الفقه وفرط شغفه به قد جعل جزءا من زمنه خاصا بتعلم العلوم الفلكية، وترجم في زمنه كتاب أوقليدس في الهندسة والهيئة والحساب.
وأكمل حفيده الرشيد ما شرع فيه، وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم وأنواعها، وكان باذلا جهده في إحياء العلوم والآداب ونشرها، وكتب في أيامه مصنفات كثيرة في العلوم الإسلامية وغيرها مما ترجم عن اليونانية، ومن ذلك كتاب «المجسطي» الذي ألفه بطليموس في الرياضة السماوية، وقيل: إن هذا الكتاب ترجم في زمن المأمون بأمره.
وكان المترجمون قوما من السريان غير مسلمين، وقد أحسن الخلفاء صلتهم، وأفاضوا عليهم النعم، وكان أكثرهم غير متمكن من العلوم التي نقلوها إلى العربية فوقع فيها الغلط الكثير، فصححه بعد ذلك الراسخون في العلم من العرب في عصر المأمون وما بعده، كما صححوا كثيرا من غلط اليونانيين أنفسهم.
وكان اشتغال العرب بالعلم للعمل به، فتناولوا الكتب التي ترجموها من قوم كان حظهم منها حفظها على أنها من نفائس الذخائر ومآثر الجيل الغابر، وقد ظهر أثر العمل في عصر الرشيد، ومن ذلك الساعة الدقاقة المتحركة بالماء التي أرسلها إلى شارلمان ملك فرنسا وعظيم أوروبا لعهده، ففزع الأوروبيون منها لذلك العهد وتوهموا أنها آلة سحرية قد كمنت فيها الشياطين، وأن ملك العرب ما أرسلها إليهم إلا لتغتالهم وتوقع بهم شر إيقاع. وقد اجتمع في حضرة الرشيد كثير من أكابر العلماء، وكان يأتي بهم ويرفع منزلتهم، وكلما سافر لحج بيت الله الحرام استصحب معه مئة من العلماء.
ولما أفضت الخلافة إلى المأمون وجه عنايته إلى العلوم والآداب وشغف بالعلم كل حياته، ولم يكن يجالس إلا العلماء، وقد جمع وترجم كثيرا من كتب الفرس واليونان في الهيئة والطبيعيات وتخطيط الأراضي والموسيقى، وغرس للعلم والأدب جنانا ناضرة، فزكا نبتها، وتفتح نورها، وطاب ثمرها، ووصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، ونالت به أكبر ثروتها، وكانت بغداد في عهده مدرسة علمية كما كانت دار خلافة، وكان من شروط صلحه مع ميشل الثالث أن يعطيه مكتبة من مكاتب الآستانة، وقد فعل. وقد ألف علماء العرب في زمنه أرصادا وأزياجا فلكية، وحسبوا الكسوف والخسوف وذوات الأذناب وغيرها، ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي، وقدروا ميل منطقة فلك البروج، وقاسوا الدرجة الأرضية، وأصلحوا بأمره غلط بعض الكتب التي ترجمت قبل زمنه.
وجاء الواثق بعد المأمون، وحذا حذوه في الاشتغال بالعلوم، واقتدى بالخلفاء الوزراء والأمراء في زمنهم وبعده، وأخذوا جميعا بناصر العلماء، وشدوا أزرهم، ورفعوا منزلتهم.
فأخذ العلماء في الاشتغال بكل علم وكل فن أمكن الاشتغال به في ذلك العصر، وبنوا علومهم على التجربة والمشاهدة. قال أحد فلاسفة الأوروبيين: «إن القاعدة عند العرب هي: جرب، وشاهد، ولاحظ تكن عارفا، وعند الأوروبي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحي: اقرأ في الكتب، وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالما.» ا.ه. فانظر الفرق وقارنه بما تجده الآن من فرط عنايتهم بالبحث وما ينجم عنه من إصلاحهم الخطأ فيما لا يحصى مما كانوا أثبتوه، حتى إن فطاحل منصفيهم لم يجدوا بدا من الاعتراف بإمكان أن يثبت لهم غدا ضد ما أثبتوه اليوم كما ثبت لهم اليوم ضد ما أثبتوه أمس، ولا من الإقرار بعدم الوقوف على كنه الكثير من ظواهر الكون التي ينتفعون بخواصها.
ومن العلوم التي كان للعرب فيها اليد البيضاء: علم الهيئة، والهندسة، وسائر العلوم الرياضية، فإن ما زادوه عليها من مخترعاتهم وما أصلحوه من أغلاط اليونانيين قبلهم جعل لهم الحظ الأوفر في هذه العلوم. قال ديلامبر في «تاريخ علم الهيئة»: «إذا عددت في اليونانيين اثنين أو ثلاثة من الراصدين، أمكنك أن تعد من العرب عددا كبيرا غير محصور»، وعن العرب أخذ الإفرنج الأرقام الحسابية وعلم الجبر والمقابلة الذي هو من وضع العرب، أخذوه باسمه ومسماه. وقال بعض المؤرخين إن ديوفنتوس الإسكندري من أهل القرن الرابع للميلاد هو أول من ألف في الجبر، وكتبه لا تزال موجودة إلى الآن. والحق أن هذه الكتب ليس فيها إلا قواعد استخراج القوى وحل بعض المسائل، وليس فيها أصول الفن وقواعده الأساسية التي امتاز بها وصار فنا مستقلا. ونظير ذلك علوم البلاغة، قالوا إن مؤسسها وواضعها هو الإمام عبد القاهر الجرجاني، مع أن العلماء قد سبقوه إلى الكلام في بعض مسائلها، ولكنهم لم يبلغوا بذلك أن جعلوها علما ذا أصول وقواعد كما جعلها.
وقد اكتشف العرب قوانين لثقل الأجسام، مائعها وجامدها، ووضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة، واخترعوا البندول للساعة، اخترعه ابن يونس المصري، والبوصلة البحرية، واخترعوا بيت الإبرة أيضا، وهم أول من استعمل الساعات الدقاقة للدلالة على أقسام الزمن، وأول من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض.
ومن علومهم التي وضعوها ولم يسبقوا إليها علم الكيميا الحقيقية، فهي من اكتشاف العرب دون سواهم، وعنهم أخذها الأوروبيون، وإنك لا تستطيع أن تعد مجربا واحدا عند اليونانيين، ولكنك تعد من المجربين مئين عند العرب.
وقد اشتغلوا بالطب والصيدلة، ولهم في ذلك المؤلفات العديدة النافعة، ومركبات الأدوية الصالحة. وهم أول من استحضر المياه والزيوت بالتقطير والتصعيد، وأول من استعمل السكر في الأدوية ، وكان غيرهم يستعمل العسل. وكان حكام الأندلس يعتنون بإدارة الصيدليات فيفحصون أدويتها إزالة للغش، ويسعرونها رفقا بالفقير، وفضلهم في الطب على أوروبا لا ينكر، وقد برعوا في الجراحة، وكان النساء بالأندلس يباشرن كثيرا من العمليات الجراحية بغيرهن من الإناث، وذلك ما يحث عليه أهل أوروبا وأمريكا اليوم. ولهم في هذه الفنون مؤلفون، يعدون في الطبقة الأولى من علماء العالم في العلوم التي اشتغلوا بها، ولا تزال مؤلفات كثير منهم باقية إلى اليوم، كقانون ابن سينا، ومفردات ابن البيطار. وإذا رجحت القول بأن يونان أخو قحطان غاضبه فرحل من اليمن، ونزل ما بين الإفرنجة والروم فاختلط نسبه بهم؛ كانت تلك الكتب اليونانية إنما هي بضاعة العرب ردت إليهم.
ولم يكن اشتغالهم بالجغرافية والتاريخ العام وتاريخ الأشخاص أقل من اشتغالهم بالعلوم السابقة، فلهم السياحات العديدة حول أفريقية وآسية وجانب من أوروبا، وقد رسموا ما اكتشفوه رسما حسنا، ولهم في تقويم البلدان مؤلفات عديدة بعضها مطبوع وبعضها غير مطبوع؛ فمن الأول «تقويم البلدان» لأبي الفداء، و«معجم ياقوت»، طبعا في أوروبا. ومن الثاني «نزهة المشتاق» للشريف الإدريسي محمد بن محمد الصقلي، كان في القرن السادس الهجري، وهو الذي صنع لرجار الفرنجي ملك صقلية سنة 1153 أول كرة أرضية عرفت في التاريخ، زنتها من الفضة 144 أقة، رسم فيها جميع أنحاء الأرض في زمانه رسما غائرا مشروحا بالاستيفاء، وصنف له أيضا كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» مرتبا على الأقاليم السبعة، وصف فيه البلاد والممالك مستوفاة مع ذكر المسافات بالميل والفرسخ. ومؤلفاتهم في التاريخ تفوق الحصر. والفضل الأول في الاشتغال بهذه العلوم يرجع إلى مدرسة بغداد التي كانت ينبوعا أصليا استمدت منه سائر المدارس الإسلامية. قال بعض مؤرخي الإفرنج: إن العرب استقاموا عدة قرون على الطريقة التي وضعها علماء مدرسة بغداد، واتبعوا قواعدهم، وهي الانتقال من النظر في المسببات إلى اجتلاء الأسباب، لا يعولون إلا على ما اتضحت صحته وعرفت حقيقته.
وقد أنشئت المدارس العديدة تباعا، وجمعت إليها العلماء، ولم يخل منها قطر من الأقطار الإسلامية ، وازدانت بهذه المدارس بغداد والبصرة والكوفة وبخارى وسمرقند وبلخ وأصفهان ودمشق وحلب في قارة آسية، والإسكندرية والقاهرة ومراكش وفاس وسبتة والقيروان في قارة أفريقيا، وأشبيلية وقرطبة وغرناطة وغيرها من مدن الأندلس العديدة في قارة أوروبا. وكان بالقاهرة وحدها عشرون مدرسة في القرن الرابع، وفي قرطبة وحدها من بلاد الأندلس ثمانون مدرسة في مدة الحكم بن عبد الرحمن الناصر المتوفى سنة 366.
وأصبحت الأندلس بعد ذلك في أواخر القرن الخامس غاصة بالمكاتب والمدارس الجامعة، ولم تخل مدينة من مدنها من مدارس متعددة. قال جيون في كلامه على حماية المسلمين للعلم في الشرق والغرب: «إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم ومساعدة الفقراء على طلبه. وكان عن ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في تحصيله انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة. أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (هو نظام الملك) مئتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد، وجعل لها خمسة عشر ألف دينار تصرف في شئونها كل سنة، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه، والمعلمون كانوا ينقدون أجورا وافرة.» ا.ه.
وجميع المدارس الطبية في البلاد الإسلامية أخذت نظام امتحانها عن مدرسة الطب في القاهرة، وكان من أشد النظامات وأدقها، ولم يكن لطبيب أن يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان، على شدته. وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوروبا على هذا النظام المحكم هي التي أنشأها العرب في ساليرت من بلاد إيطاليا. وأول مرصد فلكي أقيم في أوروبا هو الذي أقامه العرب في إشبيلية من بلاد الأندلس.
وقد تعددت المراصد الفلكية في البلاد الإسلامية شرقا وغربا، ومن أشهرها مرصد بغداد المنشأ على قنطرتها، وقد رصدت به عدة أرصاد وصححت جملة أزياج، ومرصد المراغة الذي أنشأه نصير الدين الطوسي بأمر هولاكو خان، ولما أتم كوپلاى خان أخو هولاكو فتح الصين نقل مؤلفات علماء بغداد إليها، ومرصد سمرقند الذي أنشأه تيمور لنك، ومرصد دمشق الذي أنشأه ألوغ بك مرزا محمد حفيد تيمور لنك، وكان من أعلم علماء الفلك، وله زيج مشهور معتبر إلى هذا العصر، وكان بمصر مرصد جبل المقطم، أنشأه ابن يونس الفلكي الشهير صاحب الزيج الحاكمي.
وأما دور الكتب فلم تكن عناية الدول الإسلامية بها أقل من عنايتهم بالمدارس، فقد كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مئة ألف مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير. ومكتبة الخلفاء في الأندلس بلغ ما فيها ستمئة ألف مجلد، وكان فهرسها أربعة وأربعين مجلدا. وقد حققوا أنه كان ببلاد الأندلس وحدها سبعون مكتبة عمومية، وكان في هذه المكاتب مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة، وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون ديارهم معاهد دراسة لما تحتوي عليه.
وأما ضخامة تآليفهم فما لا يحصره العد، وحسبك في المشرق كتاب «قيد الأوابد» للإمام البنجذيهي المتوفى سنة 559 من قرى خراسان في 400 مجلد، وفي الأندلس لأحمد بن أبان كتاب «العالم» نحو 100 سفر، بدأ فيه بالفلك وختم بالذرة، والأعجب الأغرب كتاب «فلك الأدب» الذي تعاقب على تأليفه من جهابذة الأندلسيين 6 في 115 سنة آخرها سنة 645ه.
ولقد أحرق أهل إسبانيا من الكتب الإسلامية بعد جلاء المسلمين عنها ما يدهش لبيان عدده السامع، ويحار المتأمل، ويتوقف قلم الكاتب.
جاء في المجلد الثالث من «المقتطف» وجه 7 ما نصه:
ليقل لنا أهل إسبانيا أين الثمانون ألف كتاب التي أمر كردينالهم شميتر بحرقها في ساحات غرناطة بعيد استظهارهم عليها، فأحرقوها وهم لا يعلمون ما يعملون، حتى أفنوا - على ما قال مؤرخهم ربلس - ألف ألف وخمسة آلاف مجلد كلها خطها أقلام العرب؟ وليتهم يخبرون كم من كتاب لعبت به نيرانهم بعد ذلك حتى لم يبقوا من معارف العرب ولم يذروا؟ وما يقولون عن السفن الثلاث التي ظفروا بها مشحونة بالمجلدات العربية الضخمة، وطالبة ديار سلطان مراكش، فسلبوها وألقوا كتبها في قصر الأسكوريال سنة 1671 ميلادية (الموافقة سنة 1082 هجرية) حتى لعبت بها النيران فأكلت ثلاثة أرباعها، ولم يستخلصوا منها إلا الربع الأخير؟ حينئذ استفاقوا من غفلتهم، وعلموا كبر جهالتهم؛ ففوضوا إلى ميخائيل القصيري الطرابلسي الماروني ترتيبها وكتابة أسمائها، فكتب لهم أسماء 1851 كتابا منها، فعلى ما في هذه الكتب وما بقي في أفريقية والمشرق قصر أهل هذه الأيام معارف العرب، وحتى هذه لم يستوعبوا جميع ما فيها. ا.ه.
وأما مكاتب بغداد فإنه لما فاجأها التتار بالهجوم بعد قتل الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين، جعلوا دأبهم السلب والنهب، وأخذوا كتب العلم التي كانت في خزائنها، وألقوها بدجلة، فعبرت عليها جنودهم.
فأضف هذه النفائس إلى ما أحرقه أهل إسبانيا، وتصور مقدار ذلك كله، ثم انسب ما بقي من الكتب الإسلامية إلى ما أتلف منها، وتفكر بعد ذلك في أن هذه الملايين من الكتب إنما خطت بالقلم قبل أن تعرف المطبعة، واحكم بعد ذلك - وأنت منصف في حكمك - بأن العرب لم تسبقهم أمة اعتنت بالعلم اعتناءهم واهتمت به اهتمامهم.
وتتميما للفائدة نذكر ما ورد في مجلة المقتطف في سنتها الثالثة في صفحة 91 و92 تحت عنوان «فضل العرب»، وهو خاتمة مقال نشر في تلك السنة في بيان مآثر العرب وعلومهم وبعض علمائهم، وقد اقتطفنا من هذا المقال الجامع شذرات ضمناها مقالنا السابق، وها هو ما ذكر تحت هذا العنوان:
في القرون الوسطى قصد أهل أوروبا مدارس الأندلسيين، وكانت على غاية الإتقان، وقرءوا العلم فيها ثم تزودوه منها إلى بلادهم. ففي سنة 873 للمسيح أمر هرتموت - رئيس دير ماري غالن - جماعة من رهبانه بدرس اللغة العربية لتحصيل معارفها. وكان الرهبان البندكتيون يطلبون العلوم العربية بشوق لا مزيد عليه، وأشهر من تعلم العلم من العرب البابا سلڤستر الثاني، وأصله رجل فرنسي يسمى جربرت طاف على قسم كبير من أوروبا طالبا المعارف حتى دبت قدمه في الأندلس، فرتع في مدارس إشبيلية وقرطبة، وصرف إلى العلوم رغبته، فلما ساغها هنيئا عاد إلى دياره، وما زال يسمو على أقرانه حتى تنصب بابا فشاد للعلم مدرستين؛ الأولى في إيطاليا، والأخرى في ريمز، وأدخل إلى أوروبا معارف العرب والأرقام الهندية التي نقلها عنهم. ثم ثارت الحمية في أهل إيطاليا وفرنسا وجرمانيا وإنجلترا، فطلبوا الأندلس من كل فج عميق، وتناولوا المعارف من أهلها.
قال مونتكلا في «تاريخ العلوم الرياضية»:
ولم يقم من الإفرنج عالم بالرياضيات إلا كان علمه من العرب مدة قرون عديدة. فمن جملة من نقل عنهم المعارف من أهل إيطاليا دوكريمونا، قرأ علم الهيئة والطب والفلسفة بطليطلة، وترجم عنهم المجسطي وكتب الرازي والشيخ الرئيس إلى اللاتينية، وليوندار البيزى نقل عنهم الحساب والجبر، وأرنولد الڤيلانوڤى نقل عنهم الهيئة والطبيعيات والطب. وممن نقل عنهم من الإنجليز راهب اسمه بلارد، وآخر اسمه مورلى، وآخر اسمه سكوت، وكذلك روجر باكون الشهير، فإن ما حصله من المعارف في الكيميا والفلسفة والرياضيات إنما استخلصه من كتبهم، وقد اقتبس من أقوال الحسن في البصريات، ومثله فيتليو الذي اشتهر بالبصريات؛ فإنه أخذ كثيرا عن الحسن. ولما عرف ملوك الإفرنج قيمة معارف العرب، أمروا بترجمة كتبهم، ومنهم نقل شارلمان وفردريك الثاني الجرماني وألفونس الثاني القسطلي.
والخلاصة أن الإفرنج نقلوا عن العرب، مما نقله العرب عن غيرهم أو استنبطوه بأنفسهم، الفلسفة، والهيئة، والطبيعيات، والرياضيات، والبصريات، والكيمياء، والطب، والصيدلة، والجغرافية، والزراعة، والفراسة. وأخذوا عنهم عمل الورق، والبارود، والسكر، والخزف، وتركيب الأدوية، ونسج كثير من المنسوجات. وأدخلوا منهم إلى بلادهم دود القز وكثيرا من الحبوب والأشجار كالأرز، وقصب السكر، والزعفران، والقطن، والسبانخ، والرمان، والتين. ونقلوا عنهم دبغ الأديم وتجفيفه، وقد استرد الإنجليز هذه الصناعة بعد فقدها من الأندلس بجلاء العرب عنها، ولا يزالون يسمون الجلود المدبوغة بها «موركو وكردوفان» نسبة إلى مراكش وقرطبة.
ولا تزال الألفاظ العربية مستعملة في أكثر مباحث الإفرنج الطبيعية كالسمت والنظير والسموت والمقنطرات وأسماء النجوم والكحول والقلى والجبر والقطن والشراب والكيمياء وغيرها. ولولا لغة العرب لبقيت لغة أهل إسبانيا قاصرة كما كانت، فأسماء أوزانهم وأقيستهم أكثرها عربي محرف كالقنطار والربع والشبر، وكذلك أسماء قطع الماء ونحوها كالبحيرة والبركة والجب والكهف وغيرها كثير.
فالمولدون كانوا في زمانهم حلقة من سلسلة العلوم اتصلت بها علوم الأولين بالمتأخرين، ولولاهم لفقد أكثر المعارف إن لم نقل كلها، وما أحسن قول جريدة مدرسة إدنبرج الكلية في هذا المعنى:
إنا لمدينون للعرب كثيرا ولو قال غيرنا خلاف ذلك، فإنهم الحلقة التي وصلت مدنية أوروبا قديما بمدنيتها حديثا، وبنجاحهم وسمو همتهم تحرك أهل أوروبا إلى إحراز المعارف واستفاقوا من نومهم العميق في الأعصار المظلمة. ونحن لهم مدينون أيضا بترقية العلوم الطبيعية والفنون الصادقة النافعة، وكثير من المصنوعات والمخترعات التي نفعت أوروبا كثيرا علما ومدنية. ا.ه.
أما تاريخ العلوم والآداب العربية من ابتداء الدولة العباسية إلى الآن، فإنه ينقسم إلى أربع مدد كبيرة:
المدة الأولى:
تبتدئ بخلافة أبي جعفر المنصور وتنتهي بمنتصف القرن الرابع تقريبا، فهي نحو 200 سنة، وهي المدة التي صعدت فيها العلوم والآداب إلى ذروة مجدها وأوج عزها، وفاضت فيها ينابيع المعارف على جميع البلاد الإسلامية، فأينعت جنانها، ودنت للقاطفين أفنانها. وفيها أشرقت شموس الأئمة المجتهدين وأجلاء المحدثين وكبار علماء الدين وأئمة العربية وفحول الشعراء وأعاظم الكتاب ورجال الأدب، وغيرهم من أساطين العلماء.
المدة الثانية:
تتلاقى مع المدة الأولى في نهايتها، وتنتهي بسقوط الدولة العباسية سنة 656، وفي هذه المدة ضعف أمر الخلافة العباسية باستيلاء الديلم والسلجوقيين على السلطة، ولم يكن هؤلاء الأعاجم يعرفون من قدر العلم كما كان يعرف الخلفاء من العرب؛ ففترت الهمم بعض الفتور، واقتصر كثير من أهل العلم على النظر في كتب من قبلهم ووشوها بالحواشي. غير أنه نبغ في هذه المدة عدد كبير في كل علم وفن لا سيما العلوم الرياضية والفلسفية، وكان ذلك من أثر تلك الجذوة التي اشتعلت في المدة الأولى، ولم يخمدها ضعف الخلفاء بل بقيت بعدهم زمنا يقتبس منها المقتبس حتى أطفأها التتار في بغداد والبلاد التي استولوا عليها من آسية، ثم دخلوا في الإسلام فتألق بعض وميضها كما سبق.
المدة الثالثة:
تبتدئ بسقوط الدولة العباسية وتنتهي باستيلاء محمد على باشا على مصر سنة 1220، وفي أول هذه المدة أعدمت المعارف العربية في بلاد فارس وما وراء النهر، وبقيت زاهية في مصر قليلا بفضل الجامع الأزهر كل هذه المدة، وكذلك في بلاد المغرب في دولة السعديين والأشراف بعدهم، وفي أواخر هذه المدة كانت العلوم العربية في آخر رمق من حياتها، ولكن كان يلوح في أثناء ذلك الزمن بصيص من نور العلم والعرفان ثم يختفي، فقد ظهر من أكابر العلماء أبو الفداء وابن خلدون والمقريزي وابن حجر والسيوطي وابن منظور صاحب «لسان العرب» والمجد صاحب «القاموس» وابن الوردي الفقيه.
المدة الرابعة:
تبتدئ باستيلاء محمد علي باشا على مصر، وفي هذه المدة أخذت المعارف والآداب تدب فيها الحياة وتنمو في مصر والشام بفضل ما طبع وألف من الكتب المختلفة النافعة. (10) امرؤ القيس (المتوفى سنة 566م)
هو امرؤ القيس بن حجر الكندي، وأمه فاطمة، وقيل: تملك بنت ربيعة بن الحارث أخت كليب ومهلهل، وقد ذكرها في قوله:
ألا هل أتاها والحوادث جمة
بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا
أي أقام بالحضر وترك أهله بالبادية. ومعنى «امرئ القيس» رجل الشدة، وقيل: القيس اسم صنم، وقد ولد ببلاد بني أسد، ولما شب تعلق بالشعر ونبغ فيه، وهو أول من استوقف على الطلول وشبه النساء بالظباء والمها، وأجاد الاستعارة والتشبيه. وكان أبوه ملك بني أسد فعسفهم عسفا شديدا فتمالئوا عليه وقتلوه، وقد كان طرد ابنه امرأ القيس لتشبيبه بالنساء في شعره وتنقله في أحياء العرب يستتبع صعاليكهم وذؤبانهم، وبينما هو يشرب الخمر بأرض اليمن بلغه قتل أبيه، فقال: ضيعني صغيرا وحملني ثقل الثار كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر، ثم إنه استنصر ببعض أقيال العرب ورؤساء القبائل، وما زال يتتبع بني أسد حتى ظفر بهم، وحصلت له بعد ذلك وقائع كثيرة، ثم مات بجبل يقال له عسيب، ودفن بأنقرة سنة 566م. وأشهر شعره المعلقة الطائرة الصيت، التي مطلعها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل (11) النابغة الذبياني (توفي سنة 604م )
اسمه زياد بن معاوية بن ضباب، ينتهي نسبه إلى ذبيان ثم لمضر، ويكنى أبا أمامة، وإنما سمي النابغة لقوله:
وحلت في بني القين بن جسر
وقد نبغت لهم منا شئون
وهو أحد الأشراف المقدمين على سائر الشعراء.
وقال عبد الملك بن مروان لما دخل عليه وفد الشام: أيكم يروي من اعتذار النابغة إلى النعمان:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب؟
فلم يجد فيهم من يرويه، فأقبل على عمر بن المنتشر وقال له: أترويه؟ قال: نعم. فأنشده القصيدة كلها، فقال: هذا أشعر العرب.
والنابغة هذا كان خاصا بالنعمان ومن ندمائه وأهل أنسه، ثم إنه وشي به إلى النعمان فهرب منه، ولم يرجع إليه إلا بعد أن بلغه أنه عليل لا يرجى فأقلقه ذلك، ولم يملك الصبر على البعد عنه مع علته، فسار إليه فألفاه محمولا على سرير ينقل ما بين العمران وقصور الحيرة، فقال لعصام حاجبه:
ألم أقسم عليك لتخبرني
أمحمول على النعش الهمام؟
فإني لا ألام على دخول
ولكن ما وراءك يا عصام؟
فإن يهلك أبو قابوس يهلك
ربيع الناس والبلد الحرام
ونمسك بعده بذناب عيش
أجب الظهر ليس له سنام
ومات النابغة الذبياني على جاهليته ولم يدرك الإسلام سنة 604 ميلادية. (12) زهير بن أبي سلمى (توفي سنة 631م)
هو أبو كعب وبجير، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح، ينتهي نسبه لنزار، وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء، وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني، وعن عمر بن عبد الله الليثي قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في مسيره إلى الجابية بعد قصة طويلة: هل تروي لشاعر الشعراء شيئا؟ قلت: ومن هو؟ قال: الذي يقول:
فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
قلت: ذاك زهير بن أبي سلمى، قال: هو شاعر الشعراء، قلت: وبم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، وكان لا يمدح أحدا إلا بما هو فيه. ولما سأل معاوية الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء، قال: هو زهير ، قال: وكيف ذاك؟ قال: بقوله:
فما يك من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وقال ابن الأعرابي: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره: كان أبوه شاعرا، وهو شاعر، وخاله شاعر، وابناه شاعران، وهما كعب وبجير، وأخته سلمى شاعرة، وأخته الخنساء شاعرة. وكان زهير يضرب به المثل في التنقيح فيقال «حوليات زهير» لأنه كان يعمل القصيدة ويعرضها في سنة كاملة. (13) أمية بن أبي الصلت (توفي سنة 9ه)
ينتهي نسبه إلى ثقيف، وأمه رقية بنت عبد شمس، وهو من أهل الطائف، ومن أكبر شعراء الجاهلية، وكان ينظر في الكتب ويقرؤها، ويقال إنه حرم الخمر، وشك في الأوثان، والتمس الدين، وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب، وكان يطمع أن يكون هو، فلما بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
حسده، وقال: كنت أرجو أن أكونه، وينسب إليه أنه هو القائل:
كل دين يوم القيامة عند الله
إلا دين الحنيفة زور
وأغلب شعره متعلق بذكر الآخرة، حتى قال الأصمعي: ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة. ولكن يقال إنه مات ولم يسلم، ومما قال في مرض موته:
كل عيش وإن تطاول دهرا
منتهى أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي
في رءوس الجبال أرعى الوعولا
ويقال: إنه قضى نحبه في قصر من قصور الطائف سنة 9 هجرية. ومن شعره قصيدته في الفخر التي يقول فيها:
ورثنا المجد عن كبرى نزار
فأورثنا مآثرنا بنينا (14) الخنساء (توفيت سنة 24ه)
اسمها تماضر بنت عمرو بن الشريد، ينتهي نسبها لمضر، والخنساء لقب غلب عليها، وقد أجمع أهل العلم بالشعر أنه لم يكن امرأة قط قبلها ولا بعدها أشعر منها، ووفدت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مع قومها فأسلمت معهم، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يستنشدها ويعجبه شعرها، وكانت تنشده وهو يقول: هيه يا خناس. ولما بلغها استشهاد بنيها الأربعة يوم القادسية بعد تحريضها لهم على القتال قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني معهم في مستقر رحمته! (15) سيدنا حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه
جده المنذر الخزرجي، ويكنى أبا الوليد، وهو من فحول الشعراء، وقد قيل إنه أشعر أهل المدر، وكان أحد المعمرين المخضرمين، عمر مئة وعشرين سنة نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام، وكذا أبوه وجده وأبو جده، لا يعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد وعاش كل منهم 120 سنة غيرهم. وعن أبي عبيدة قال: فضل حسان بن ثابت الشعراء بثلاثة: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي
صلى الله عليه وسلم
في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام، وفضله أوسع من أن تحيط به التآليف، وكانت وفاته بالمدينة المنورة قبل الأربعين من الهجرة في خلافة سيدنا علي - رضي الله تعالى عنه. (16) الأخطل (توفى سنة 712م)
هو أبو مالك غياث بن غوث بن الصلت، من تغلب. قال أبو عبيدة: إن سبب تلقيبه بالأخطل أنه هجا رجلا من قومه فقال له: يا غلام، إنك لأخطل (أي سفيه). وكان نصرانيا من أهل الجزيرة، ومات على دينه مع مخالطته لملوك المسلمين وأمرائهم وحظوته لديهم. وهو وجرير والفرزدق من طبقة واحدة وإن اختلف الناس في التفضيل بينهم، وقد عاشوا كلهم في زمن واحد، وإن كان الأخطل أكبرهم سنا، وقد كان يفضل الأعشى في الشعر على نفسه. وقال جرير وقد سأله ابنه عن الأخطل: أدركته وله ناب واحد، فلو أدركت له نابين لأكلني. ومما يحكى عن الأخطل أنه طلق امرأته وتزوج بمطلقة أعرابي، فبينا هي معه إذ ذكرت زوجها الأول فتنفست، فقال:
كلانا على هم يبيت كأنما
بجنبيه من مس الفراش قروح
على زوجها الماضي تنوح وإنني
على زوجتي الأخرى كذاك أنوح
وقد كانت منزلة الأخطل عند عبد الملك بن مروان رفيعة، يذكره إذا غاب ويقربه إذا حضر، وله كثير من النوادر يضيق المقام عن ذكرها. وكانت وفاته سنة 712 ميلادية. (17) جرير (توفى سنة 110ه)
هو ابن عطية بن الخطفي، وهو لقبه، واسمه حذيفة بن بدر بن عوف بن كليب، ينتهي نسبه لنزار، ويكنى أبا حزرة ، وهو والفرزدق والأخطل المقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية، ولم يتعرض لهم أحد من شعراء عصرهم إلا سقط وافتضح، وكان أبو عمرو يشبه جريرا بالأعشى، والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة، وقد حكم مروان بن أبي حفصة بين الثلاثة بقوله:
ذهب الفرزدق بالفخار وإنما
حلو الكلام ومره لجرير
ولقد هجا فأمض أخطل تغلب
وحوى اللهى بمديحه المشهور
فهو كما تراه حكم للفرزدق بالفخار، وللأخطل بالمدح والهجاء، وبجميع فنون الشعر لجرير. ومن كلامه في الفخر:
إذا غضبت عليك بنو تميم
لقيت الناس كلهم غضابا
وقال يهجو بني نمير:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
توفي سنة 110 هجرية. (18) الفرزدق (توفي سنة 110ه)
هو همام بن غالب بن صعصعة التميمي، وكان أبوه من سراة قومه. وروى الفرزدق - رحمه الله - عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة والحسين وابن عمر وأبي سعيد الخدري، ووفد على الوليد وسليمان ابني عبد الملك ومدحهما.
روى معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال: دخلت على الفرزدق فتحرك فإذا في رجليه قيد، قلت: ما هذا يا أبا فراس؟! قال: حلفت أن لا أخرجه من رجلي حتى أحفظ القرآن. واختلفت الناس في المفاضلة بينه وبين جرير، والأكثرون على أن جريرا أشعر منه، وقد أنصف الأصفهاني حيث قال: من كان يميل إلى جودة الشعر وفخامته وشدة أسره يقدم الفرزدق، ومن كان يميل إلى الكلام السمح الغزل يقدم جريرا. وله القصائد الغراء في الرثاء والفخر والهجو والمدح، فمن ذلك قصيدته المشهورة في مدح زين العابدين التي مطلعها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
توفي سنة 110 هجرية. (19) عبد الحميد الكاتب (توفي سنة 132ه)
هو أبو غالب عبد الحميد بن يحيى الكاتب البليغ المشهور، وبه يضرب المثل في البلاغة حتى قيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد، وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماما، وهو من أهل الشام، وكان أولا معلم صبية ينتقل في البلدان، وعنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل، وهو أول من أطال الرسائل واستعمل التحميدات في فصول الكتب فاستعمل الناس ذلك بعده، وكان كاتب مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي آخر ملوك بني أمية المعروف بالجعدي، فقال له يوما وقد أهدى له بعض العمال عبدا أسود فاستقله: اكتب إلى العامل كتابا مختصرا وذمه على ما فعل، فكتب إليه: لو وجدت لونا شرا من السواد وعددا أقل من الواحد لأهديته، والسلام. ومن كلامه أيضا: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة. وله رسائل بليغة، وكان حاضرا مع مروان في جميع وقائعه عند آخر أمره، وقتل معه سنة 132 بقرية يقال لها بوصير من أعمال الفيوم بمصر. (20) الإمام أبو حنيفة النعمان (80-150ه)
هو ابن ثابت، كان خزازا يبيع الخز. وقال الخطيب في تاريخه إن أبا حنيفة أدرك أربعة من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وهم: أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يأخذ عن أحد منهم ولم يلقه كما قرر ذلك أهل النقل. وذكر الخطيب في «تاريخ بغداد» أنه أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان، وروى عنه عبد الله بن المبارك والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم.
وكان - رحمه الله - عالما عاملا زاهدا عابدا ورعا كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى، ونقله أبو جعفر المنصور من الكوفة إلى بغداد على أن يوليه القضاء، فأبى وهو يقول له: اتق الله ولا ترع في أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب؟ فقال له المنصور: كذبت، أنت تصلح، فقال له: قد حكمت لي على نفسك، كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كذاب؟! وقيل إنه تولى القضاء أياما قليلة بعد إهانة لحقته بسبب امتناعه ثم توفي عقبها. وكان رضي الله عنه شديد الكرم، حسن المواساة لإخوانه ، ومن أحسن الناس منطقا وأحلاهم نغمة، ولد سنة 80 هجرية، وتوفي سنة 150.
وكانت وفاته ببغداد في السجن ليلي القضاء، وقيل إنه لم يمت في السجن. وتوفي في اليوم الذي ولد فيه الإمام الشافعي - رضي الله عنه. (21) بشار بن برد (توفي سنة 167ه)
هو أبو معاذ بشار بن برد الشاعر المشهور، بصري، قدم بغداد، وأصله من طخارستان من سبي المهلب بن أبي صفرة، وكان أكمه؛ ولد أعمى، وهو في أول مرتبة المحدثين من الشعراء المجيدين، فمن شعره في المشورة قصيدته المشهورة التي مطلعها:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ومن شعره أيضا قوله:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا: بمن لا ترى تهذي؟ فقلت لهم:
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وكان يمدح المهدي بن المنصور أمير المؤمنين، ورمي عنده بالزندقة فأمر بضربه فضرب سبعين سوطا، فمات من ذلك بالقرب من البصرة فجاء بعض أهله فحمله إلى البصرة ودفنه بها، وذلك سنة 167، وقد نيف على تسعين سنة. (22) الإمام مالك (90-179ه)
هو الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي نسبة لذي أصبح من الأذواء ملوك اليمن، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأعلام، أخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي وأفتى معه عند السلطان، وقال مالك: قل رجل كنت أتعلم منه ما مات حتى يجيئني ويستفتيني، وقال ابن وهب: سمعت مناديا ينادي بالمدينة: ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب.
وكان مالك - رضي الله عنه - إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا أحدث به إلا متمكنا على طهارة. وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائما أو مستعجلا، وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول: لا أركب في مدينة بها جثة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مدفونة. وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه، وكانت ولادته سنة 90 هجرية وتوفي سنة 179 بالمدينة ودفن بالبقيع. (23) سيبويه (121-161ه)
ولد ونشأ بقرية من قرى شيراز تعرف بالبيضاء، وكان ميلاده سنة 121، وقيل: بعد ذلك، ثم قدم البصرة لتلقي الحديث وروايته، ويقال إنه بينما هو يستملي على حماد قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء» (وأخذت: من المؤاخذة، أي المعاتبة)، قال سيبويه: أبو الدرداء بالرفع ظانا أنه اسم ليس، فقال حماد: لحنت يا سيبويه، ومن ثم عكف على الاشتغال على الخليل بن أحمد وغيره، وأخذ اللغة عن الأخفش الأكبر، ولم يزل مشتغلا حتى صار إمام الأئمة في علوم اللغة، ووضع كتابه في النحو الذي هو مرجع علماء النحو، وتوفي سنة 161 على المشهور. (24) الكسائي (توفي سنة 189ه)
هو أبو الحسن علي بن حمزة الكوفي المعروف بالكسائي أحد القراء السبعة، كان إماما في النحو واللغة والقراءات، ولم يكن له في الشعر يد حتى قيل: ليس في علماء العربية أجهل من الكسائي في الشعر. وكان يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب. وروى الكسائي عن أبي بكر بن عياش وحمزة الزيات وابن عيينة وغيرهم، وروى عنه الفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما. وتوفي سنة 189 بالري، وكان قد خرج إليها صحبة هارون الرشيد، ويقال: إن الرشيد كان يقول: دفنت الفقه والعربية بالري، لوفاة محمد بن الحسن الفقيه الحنفي يومئذ. (25) أبو نواس (145-198ه)
هو أبو علي الحسن بن هانئ الشاعر المشهور، كان جده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان، قيل إنه ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة، وروي أن الخصيب صاحب مصر سأل أبا نواس عن نسبه، فقال: أغناني أدبي عن نسبي. وما زالت العلماء والأشراف يروون شعره ويتفكهون به ويفضلونه على أشعار القدماء، وكان من أجود الناس بديهة وأرقهم حاشية حتى قال الجاحظ: لا أعرف بعد بشار مولدا أشعر من أبي نواس.
وكان أبو نواس يعجبه شعر النابغة ويفضله على زهير تفضيلا شديدا، وكان المأمون يقول: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس:
ألا كل حي هالك وابن هالك
وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
وكانت وفاته سنة 198 ببغداد. (26) الإمام الشافعي (150-204ه)
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس القرشي، يجتمع مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عبد مناف. وكان - رحمه الله - كثير المناقب، جم المفاخر، منقطع القرين، اجتمع فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وكلام الصحابة - رضي الله عنهم - وآثارهم وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة العربية والشعر حتى إن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمد بن حنبل، رضي الله عنه: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي.
وقال، رضي الله عنه: قدمت على مالك بن أنس وقد حفظت الموطأ، فقال لي: أحضر من يقرأ لك، فقلت: أنا قارئ، فقرأت عليه الموطأ حفظا، فقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام. وكان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا التفت إلى الشافعي فقال: سلوا هذا الغلام. وقال أحمد بن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منة. ففضائله أكثر من أن تعد. وولد سنة 150، وقيل إنه ولد في اليوم الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة. وكانت ولادته على الأصح بمدينة غزة، وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين، فنشأ بها وقرأ القرآن الكريم، وقدم بغداد سنة 195 فأقام بها سنتين، ثم خرج إلى مكة ثم عاد إلى بغداد، ثم خرج إلى مصر ولم يزل بها إلى أن توفي سنة 204. (27) الفراء (144-207ه)
هو أبو زكرياء يحيى بن زياد الأسلمي المعروف بالفراء، الديلمي الكوفي، كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، وحكي عن أبي العباس ثعلب أنه قال: «لولا الفراء لما كانت عربية» لأنه خلصها وضبطها ، ولولاه أيضا لسقطت؛ لأنها كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد، وتتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب. أخذ النحو عن أبي الحسن الكسائي، ولما اتصل بالمأمون أمره أن يؤلف ما يجمع أصول النحو وما سمع من العربية، فصنف «الحدود» وأمر المأمون بكتبه بالخزائن، ثم ألف كتاب «المعاني»، وله كتابان في الشكل، وله كتاب «اللغات»، وكتاب «الجمع والتثنية في القرآن»، وكتاب «الوقف والابتداء» وغير ذلك من الكتب، وتوفي سنة 207 في طريق مكة وعمره 63 سنة. (28) أبو العتاهية (130-211ه)
هو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم المعروف بأبي العتاهية، الشاعر المشهور، ولد سنة 130 ببلدة تسمى عين التمر بالحجاز قرب المدينة المنورة، ونشأ بالكوفة، وسكن بغداد، ومن شعره في حضرة الخليفة المهدي:
أتته الخلافة منقادة
إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره
لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه نيات القلوب
لما قبل الله أعمالها
وله في الزهد أشعار كثيرة، وهو من مقدمي المولدين في طبقة بشار وأبي نواس، وتوفي سنة 211 ببغداد، وقبل وفاته قال: أشتهي أن يجيء مخارق المغني ويغني عند رأسي بهذين البيتين:
إذا ما انقضت عني من الدهر مدتي
فإن عزاء الباكيات قليل
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي
ويحدث بعدي للخليل خليل (29) الأصمعي (122-216ه)
هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب، وأصمع جده الخامس، وينتهي نسبه إلى مضر بن نزار بن معد، وهو من أهل البصرة، وقدم بغداد في خلافة هارون الرشيد ثم عاد إلى البصرة، ولما كانت خلافة المأمون دعاه إليه فلم يجب، واحتج بكبر سنه وضعف قوته، فكان المأمون يجمع المشكل من المسائل ويرسلها إليه ليجيب عنها.
وقد كان الأصمعي إماما في اللغة والغرائب والملح، كثير الحفظ قوي الذاكرة حتى قال بعضهم: إنه كان يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، وقد ألف نحو الأربعين كتابا أغلبها في اللغة وما يختص بها.
ومما يحكى عنه أنه اجتمع مع أبي عبيدة عند الفضل بن الربيع وقد ألف كل منهما كتابا في الخيل، فسئل الأصمعي عن كتابه، فقال: هو مجلد واحد، وسئل أبو عبيدة عن كتابه، فقال: خمسون مجلدا، فقيل له: قم إلى هذا الفرس وأمسك كل عضو منه وسمه، فقال: لست بيطارا وإنما أخذت هذا عن العرب، فقيل للأصمعي: قم أنت وافعل، فقام وجعل يضع يده على كل عضو ويسميه وينشد ما قالت العرب فيه، فلما فرغ أعطي الفرس، ويقال إنه كان إذا أراد إغاظة أبي عبيدة يأتي إليه راكبا تلك الفرس. وتوفي سنة 216 بالبصرة. (30) أبو تمام (188-231ه)
اسمه حبيب بن أوس بن الحارث، ينتهي نسبه إلى طيئ، ولد سنة 188، ونشأ بمصر، وقد قيل إنه كان يسقي الماء بالجرة في جامع مصر، وقيل: كان يخدم حائكا ويعمل عنده، ثم اشتغل وتنقل إلى أن صار واحد عصره في ديباجة لفظه وفصاحة شعره وحسن أسلوبه، وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره، حتى قيل إنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد، وله كتاب «الحماسة» الذي دل على غزارة فضله وإتقان معرفته وحسن اختياره، وله مجموع سماه «فحول الشعراء» جمع فيه طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين. وتوفي سنة 231 هجرية. (31) الإمام أحمد بن حنبل (164-241ه)
هو أحمد بن محمد بن حنبل، ينتهي نسبه إلى عدنان، ولد في بغداد سنة 164، وكان إمام المحدثين، صنف كتابه «المسند» وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره، وكان يحفظ أحاديث كثيرة، وكان صاحب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ومن خواصه، ولم يزل مصاحبه إلى أن ارتحل الشافعي إلى مصر، وقال في حقه: خرجت من بغداد وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل. ودعي إلى القول بخلق القرآن فلم يجب؛ فضرب وحبس وهو مصر على الامتناع. أخذ عنه الحديث جماعة من الأماثل، منهم محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري، ولم يكن في آخر عصره مثله في العلم والورع . توفي سنة 241 ببغداد. (32) البخاري (194-256ه)
هو أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن البخاري، الحافظ الإمام في علم الحديث صاحب «الجامع الصحيح» و«التاريخ»، رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد واجتمع إليه أهلها، واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية. وحكى أبو عبد الله الحميدي في كتاب «جذوة المقتبس» والخطيب في «تاريخ بغداد» أن البخاري لما قدم بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وأعطوها لعشرة أنفس، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، وقد حضره كثير من أصحاب الحديث، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه واحد من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال: لا أعرفه، ثم سأله عن آخر، فقال: لا أعرفه أيضا، وهكذا حتى انتهى الجميع، فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم وقال له: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتم العشرة، وفعل بالآخرين كذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل، وروى عنه أبو عيسى الترمذي. وولد سنة 194 وتوفي سنة 256. (33) مسلم (206-261ه)
هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري صاحب «الصحيح»، أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين، رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر، وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري وأحمد بن حنبل وغيرهما، وقدم بغداد غير مرة فروى عنه أهلها، وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث. وتوفي مسلم المذكور سنة 261 بنيسابور وعمره خمس وخمسون سنة، وقال ابن الصلاح إنه ولد سنة 202. (34) ابن الرومي (221-284ه)
هو أبو الحسن علي بن العباس الشاعر المشهور، صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن قالب، وكان إذا أخذ المعنى لا يزال يستقصي فيه حتى لا يدع فيه فضلة ولا بقية. ومن كلامه وهو في مرض موته، وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة فزعم أنه غلط في بعض العقاقير، قوله:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة الأقدار
وكانت ولادته ببغداد سنة 221، وتوفي سنة 284. (35) ابن دريد (223-321ه)
هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية، ينتهي نسبه إلى قحطان، كان إمام عصره في اللغة والأدب والشعر، وقال المسعودي في كتاب «مروج الذهب» في حقه:
كان ابن دريد ببغداد ممن برع في زماننا في الشعر وانتهى في اللغة، وقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وكان يذهب في الشعر كل مذهب، وله تصانيف مشهورة منها كتاب «الجمهرة» وهو من الكتب المعتبرة في اللغة، وكتاب «الاشتقاق»، وكتاب «السرج واللجام» إلى غير ذلك من الكتب الجليلة. وكانت ولادته بالبصرة سنة 223، ونشأ بها، وتعلم فيها، وأخذ عن أبي حاتم السجستاني والرياشي وغيرهما، ثم انتقل مع عمه الحسين إلى عمان وأقام اثنتي عشرة سنة ثم عاد إلى البصرة، ثم خرج إلى نواحي فارس، ثم إلى بغداد ومات بها سنة 321، ورثاه أحد البرامكة وهو جحظة بقوله:
فقدت بابن دريد كل فائدة
لما غدا ثالث الأحجار والترب
وكنت أبكي لفقد الجود منفردا
فصرت أبكي لفقد الجود والأدب (36) ابن عبد ربه (246-328ه/861-940م)
هو الفقيه العالم أبو عمر أحمد بن عبد ربه، وقد اشتهر بأدبه في الأندلس، واتصلت شهرته إلى الشرق، وقد زاد في شهرته وأبقى ذكره الآن كتاب «العقد الفريد» المعروف في الأدب، وقد عمر أكثر من اثنتين وثمانين سنة كما يؤخذ من قوله في قصيدته:
وما لي لا أبلى لسبعين حجة
وعشر أتت من بعدها سنتان؟
ولست أبالي من تباريح علتي
إذا كان عقلي باقيا ولساني (37) أبو الطيب المتنبي (303-354ه)
اسمه أحمد بن الحسين بن الحسن الكندي الكوفي المتنبي الشاعر المشهور، وإنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم، فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيدية فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلا ثم استتابه وأطلقه، ولما أطلق من السجن التحق بالأمير سيف الدولة ثم فارقه، ودخل مصر سنة 346 ومدح كافورا الإخشيدي، ولما لم يرضه هجاه، وقصد بلاد فارس ومدح عضد الدولة بن بويه فأجزل صلته، ولما رجع من عنده عرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في عدة من أصحابه فقاتله فقتل المتنبي وابنه، وقيل إن السبب في قتله عضد الدولة، لأنه لما وفد عليه ووصله بثلاثة آلاف دينار وثلاثة أفراس مسرجة محلاة وثياب مفتخرة؛ دس عليه من سأله: أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال له: هذا أجزل إلا أنه عطاء متكلف وسيف الدولة كان يعطي طبعا، فغضب عضد الدولة من ذلك وجهز عليه قوما من بني ضبة فقتلوه بعد أن قاتل قتالا شديدا، وقد قال له غلامه لما انهزم: أين قولك:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والطعن والضرب والقرطاس والقلم
فقال: قتلتني، قتلك الله! ثم قاتل فقتل، وكان قتله سنة 354 ومولده سنة 303 بالكوفة. (38) أبو فراس (320-357ه)
هو الحارث بن أبي العلاء ابن عم ناصر الدولة وسيف الدولة، قال الثعالبي في وصفه: «كان فرد دهره وشمس عصره أدبا وفضلا وكرما ومجدا وبلاغة وبراعة وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة، ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز، وأبو فراس هذا يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام، وكان المتنبي يشهد له بالتقدم فلا ينبري لمباراته ولا يجترئ على مجاراته، وكان سيف الدولة يعجب جدا بمحاسنه ويميزه بالإكرام على سائر قومه ويستصحبه في غزواته ويستخلفه في أعماله.» وقد أسره الروم في بعض الوقائع وأقام بالأسر أربع سنين، وله في الأسر أشعار كثيرة من أجود ما قاله، ومن شعره حين حضرته الوفاة سنة 357 مخاطبا ابنته:
أبنيتي لا تجزعي
كل الأنام إلى ذهاب
نوحي علي بحسرة
من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني
فعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا
س لم يمتع بالشباب
وولد سنة 320. (39) أبو الفرج الأصفهاني (284-356ه)
هو علي بن الحسين، وجده السابع مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ولد بأصبهان، ونشأ ببغداد، وقد كان من أعيان الأدباء وأفراد المصنفين، وكان عالما بأيام الناس والأنساب والسير ، يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب شيئا كثيرا جدا، مع الإلمام بعلوم أخرى مثل اللغة والطب والنجوم، وكان له من جيد الشعر شيء كثير، وألف كثيرا من الكتب في العلوم المختلفة، وأشهر هذه الكتب كتاب «الأغاني» في واحد وعشرين مجلدا.
وقد كان أبو الفرج منقطعا إلى الوزير المهلبي وله فيه مدائح، وعاش فوق السبعين سنة، وتوفي سنة 356. (40) الخوارزمي (توفي سنة 383ه)
هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر المشهور، وهو ابن أخت أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب «التاريخ»، والخوارزمي المذكور كان أحد الشعراء المجيدين، إماما في اللغة والأنساب، أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب، وكان يشار إليه في عصره، وحكي أنه قصد حضرة الصاحب بن عباد وهو بأرجان، فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه: قل للصاحب: على الباب أحد الأدباء وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب وأعلمه، فقال الصاحب: قل له: قد ألزمت نفسي أن لا يدخل علي من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: ارجع إليه، وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فدخل الحاجب فأعاد إليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي، فأذن له في الدخول فدخل، فعرفه وانبسط له. ولما رجع من الشام سكن نيسابور ومات بها سنة 383. (41) بديع الزمان (توفي سنة 398ه)
هو أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني الحافظ المعروف ببديع الزمان، صاحب الرسائل الرائقة والمقامات الفائقة، وعلى منواله نسج الحريري مقاماته واحتذى حذوه واقتفى أثره، واعترف في خطبته بفضله وأنه الذي أرشده إلى سلوك ذلك المنهج. وهو أحد الفضلاء الفصحاء، روى عن أبي الحسين أحمد بن فارس صاحب «المجمل في اللغة» وعن غيره، وله الرسائل البديعة. وسكن هراة من بلاد خراسان، وكانت وفاته سنة 398 مسموما بمدينة هراة، وقيل إنه مات من السكتة، وعجل دفنه، فأفاق في قبره وسمع صوته بالليل، وإنه نبش عنه فوجدوه وقد قبض على لحيته ومات من هول القبر. (42) ابن زيدون (سنة 394-463ه)
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور، قال ابن بسام صاحب «الذخيرة» في حقه: كان أبو الوليد خاتمة شعراء بني مخزوم، وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة، وبرع أدبه، وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه، ثم انتقل عن قرطبة إلى المعتضد عباد صاحب أشبيلية، فجعله من خواصه يجالسه في خلواته، ويركن إلى إشاراته، وكان معه في صورة وزير، وله القصائد الطنانة، منها قصيدته النونية المشهورة التي منها:
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
بالأمس كنا وما يخشى تفرقنا
واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
وكانت ولادته سنة 394 بقرطبة، وتوفي سنة 463 بأشبيلية. (43) الشريف الرضي (359-406ه)
هو أبو الحسن محمد بن الطاهر، ينتهي نسبه إلى زين العابدين بن الحسين - رضي الله عنهما - وهو المعروف بالموسوي، صاحب ديوان الشعر المشهور، وقال الثعالبي في كتاب «اليتيمة» في ترجمته إنه ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل. وقال أيضا: إنه اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادات العراق، ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، ويشهد بذلك شعره وكلامه الذي يجمع إلى السلاسة متانة وإلى السهولة رصانة.
وكان والده يتولى قديما نقابة نقباء الطالبيين، ويحكم فيهم أجمعين، وينظر في المظالم، ثم ردت هذه الأعمال إلى ولده الرضي المذكور وأبوه حي.
ومن غرر شعره ما كتبه إلى الإمام أبي العباس أحمد بن المقتدر:
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق
وديوان شعره مشهور، وقد صنف كتابا في معاني القرآن الكريم، وصنف كتابا آخر في مجازاته. وكانت ولادته سنة 359 ببغداد، وتوفي سنة 406. ويقال إنه جمع كتاب «نهج البلاغة» من مختار كلام أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه.
وقال الإمام الذهبي في «ميزان الاعتدال»:
من طالع كتاب نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي، رضي الله تعالى عنه، فإن فيه السب الصريح والحط على السيدين أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما. ا.ه. (44) ابن سيناء (370-428ه)
هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سيناء البخاري المشهور بالشيخ الرئيس، كان من أشهر الحكماء والأطباء، فهو أبقراط الطب، وأرسطو الحكمة عند العرب والإفرنج، وقد جمع في فسيح صدره كتابات أرسطو وأوعى في خزانة معارفه حكمه وقواعده، وقد نقل الإفرنج عنه أكثر ما عندهم من كتابات جالينوس وأبقراط، ونشروا أشهر تآليفه في اللغة العربية، وترجموا أكثرها إلى لغاتهم، وكان هو المعول عليه شرقا وغربا في قواعد الحكمة والطب، وقد اعترف له الجميع بالفضل فافتخر به الشرق وأخذ عنه ومدحه الغرب وانتفع بتصانيفه.
وكان والده من أهل بلخ وانتقل إلى بخارى، وكان من العمال الكفاة. واشتغل ابن سيناء بالعلوم والفنون، ثم توجه نحوهم الحكيم أبو عبد الله الناتلي، فأنزله عنده، وابتدأ يقرأ عليه كتاب إيساغوجى، وأحكم عليه علم المنطق حتى برع، ويقال إنه فاقه كثيرا حتى أوضح له رموزا وفهمه إشكالات. ثم اشتغل بعد ذلك بالعلوم الطبيعية والإلهية، وفتح الله عليه أبواب العلوم، ثم رغب بعد ذلك في علم الطب، فتعلم حتى فاق فيه الأوائل والأواخر وأصبح عديم القرين ترد إليه الناس لتتعلم منه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، ويقال إن سنه إذ ذاك لم تزد عن ست عشرة سنة؛ لأنه لم يشتغل بغير المطالعة، وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد وصلى ودعا الله أن يسهلها عليه.
وقد عالج الأمير نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان من مرضه حين استحضره لما سمع بحكمته حتى برئ، فاتصل به، وقرب منه، ودخل إلى دار كتبه، وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن، فظفر بما حصل عليه منها من ثمرات العلوم. واتفق بعد ذلك أن حرقت خزانة هذه الكتب (ويقال إن أبا علي هو السبب في إحراقها لينفرد بما حصله منها)، ولما اضطربت أمور الدولة السامانية خرج أبو علي من بخارى إلى قصبة خوارزم، ولم يزل ينتقل في البلاد إلى أن ذهب إلى جرجان وصنف بها «الكتاب الأوسط» ولهذا يقال له الأوسط الجرجاني، ثم بعد ذلك ذهب إلى همذان وتقلد الوزارة لشمس الدولة، ثم ثارت العسكر عليه فأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أطلق فتوارى. ولما مرض شمس الدولة أحضره لمداواته واعتذر إليه وأعاده وزيرا، ولما مات شمس الدولة وتولى تاج الدولة ولم يستوزره توجه إلى أصبهان، وكان بها أبو جعفر فأحسن إليه.
وكانت ولادته سنة 370، وتوفي سنة 428 بهمذان بعد أن اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم إلى من عرفه، وأعتق مماليكه، وجعل يختم القرآن الكريم كل ثلاثة أيام مرة. (45) أبو العلا المعري (363-449ه)
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري اللغوي الشاعر، كان متضلعا من فنون الأدب، قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرة وعلى محمد بن عبد الله بحلب، وله التصانيف الكثيرة المشهورة، والرسائل المأثورة، وله من النظم «لزوم ما لا يلزم»، وله «سقط الزند»، وشرحه بنفسه وسماه «ضوء السقط» وله غير ذلك، وكان علامة عصره. وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي والخطيب أبو زكرياء التبريزي وغيرهما، وكانت ولادته سنة 363 بالمعرة، وعمي سنة 367 من الجدري. وقد اختصر ديوان أبي تمام والبحتري والمتنبي، وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وبعد أن لزم منزله سنة 401 سار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تزهدا؛ لأنه كان يعد ذبح الحيوان تعذيبا، وعمل الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ومن كلامه في اللزوم:
لا تطلبن بآلة لك رتبة
قلم البليغ بغير جد مغزل
سكن السماكان السماء كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل
وتوفي سنة 449 بالمعرة، وأوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد (46) حجة الإسلام الغزالي (450-505ه)
هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، الملقب حجة الإسلام، زين الدين الطوسي الفقيه الشافعي، ولم يكن للطائفة الشافعية في آخر عصره مثله، اشتغل في مبدأ أمره بطوس، ثم قدم نيسابور وجد في الاشتغال على إمام الحرمين أبي المعالي حتى تخرج في مدة قريبة وصار من الأعيان المشار إليهم في زمن أستاذه، ولم يزل ملازما له إلى أن توفي، فخرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير نظام الملك فأكرمه وعظمه وأقبل عليه، وكان بحضرة الوزير جماعة من الأفاضل، فجرى بينهم الجدال والمناظرة في عدة مجالس وظهر عليهم، واشتهر اسمه وسارت بذكره الركبان، ثم فوض إليه التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد، وأعجب به أهل العراق وارتفعت عندهم منزلته.
ثم ترك جميع ما كان عليه وسلك طريق الزهد والانقطاع، وقصد الحج، ولما رجع توجه إلى الشام فأقام بمدينة دمشق، ثم انتقل منها إلى بيت المقدس، واجتهد في العبادة، ثم قصد مصر وأقام بالإسكندرية مدة، ثم عاد إلى وطنه بطوس، واشتغل وصنف الكتب، التي أشهرها: «إحياء علوم الدين»، وكتاب «الوسيط»، و«البسيط»، و«الوجيز»، و«الخلاصة» في الفقه، و«المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»، و«مشكاة الأنوار»، و«المنقذ من الضلال»، إلى غير ذلك من الكتب النفيسة، ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه ووزع أوقاته على أعمال الخير والعبادة. وكانت ولادته سنة 450 هجرية، وتوفي سنة 505. (47) الطغرائي (توفي سنة 513ه)
هو العميد أبو إسماعيل الحسين بن علي الملقب مؤيد الدين المشهور بالطغرائي، كان غزير الفضل، لطيف الطبع، فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر. وقال أبو المعالي في كتابه «زينة الدهر»:
إن الطغرائي كان ينعت بالأستاذ، وكان وزير السلطان مسعود بن محمد السلجوقي بالموصل، ولما جرى بينه وبين أخيه السلطان محمد المصاف بالقرب من همذان وكانت النصرة لمحمود، وشي به فقتل، وكانت هذه الواقعة سنة 513، وقيل: سنة أربع عشرة، وقد جاوز ستين سنة. والطغرائي نسبة لمن يكتب الطغرى وهي الطرة التي تكتب في أعلى الكتب فوق البسملة بالقلم الغليظ، وهي لفظة أعجمية. وللطغرائي المذكور ديوان شعر جيد، ومن محاسن شعره قصيدته المعروفة بلامية العجم التي أولها:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... ... ... ... إلخ (48) الحريري (446-516ه)
هو أبو محمد القاسم الحريري البصري، صاحب المقامات، أحد أئمة عصره، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت على شيء كثير من كلام العرب؛ من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، وبها يستدل على فضل هذا الرجل، وعلى كثرة اطلاعه، وغزارة مادته. وسبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم قال: كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام، فدخل شيخ ذو طمرين، عليه أهبة السفر، رث الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج، فاستخبره عن كنيته، فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة ب «الحرامية»، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتهرت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين وزير الإمام المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين. وكانت ولادة الحريري سنة 446، وتوفي سنة 516 بالبصرة في سكة بني حرام.
وقد حاول كثير من الإفرنج ترجمة المقامات إلى لغتهم ولكن مثل هذا الكتاب لا يترجم، وللحريري غير المقامات كتب كثيرة، منها «درة الغواص» و«ملحة الإعراب» في النحو، وديوان شعر ورسائل. (49) ابن رشد (514-595ه)
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد أشهر فلاسفة العرب، ولد في قرطبة سنة 514 هجرية، وكان أبوه متوليا فيها الفتوى، أخذ عن أشهر الفلاسفة في عصره، وتخرج في الفقه والطب والفلسفة، وقربه المهدي يوسف لثقته به وحذقه، ورقاه أسمى المراتب فخلفه بها في فتوى الأندلس، ثم تولى الفتيا في مراكش وأقام فيها مدة، وسكن إشبيلية وكان له نفس الرعاية والاعتبار في أوائل عهد المنصور خلف المهدي يوسف، إلا أنه وشي به حسدا وعدوانا ففسد أمره عند المنصور فعزله عن رتبته ونفاه عدة سنين، ثم دعي إلى مراكش فشمل بالعطايا والمكارم، وتوفي بها بعد أمد وجيز سنة 595 هجرية.
وقد ذهب ابن رشد إلى أن أرسطو هو أعظم الفلاسفة، وترجم مؤلفاته وشرحها بضبط وترو، وله شرح أرجوزة في الطب للشيخ الرئيس ابن سيناء، وله كتاب «فصل المقال فيما بين الشريعة والطبيعة من الاتصال»، ومن أشهر مؤلفاته «الكليات» في الطب، وله غير ذلك كثير، وأصل مؤلفاته في العربية نادر الوجود ولكن الأوروبيين اهتموا بترجمتها إلى لغاتهم، فمن ذلك «شرح أقوال أرسطو مع الرد على الغزالي» فإنه ترجم إلى اللاتينية وحسب أحد عشر مجلدا وطبع بالبندقية سنة 1560 ميلادية، وكذلك كلياته ترجمت وطبعت بالبندقية أيضا.
وقد اهتم الأوروبيون بفلسفة ابن رشد اهتماما كبيرا، وكتب رينان الفرنسي الشهير كتابا سماه «ابن رشد ومذهبه»، ذكر فيه سيرته ومؤلفاته، وقال إنه كان أعظم فلاسفة القرون المتوسطة التابعين لأرسطو والناهجين سبيل الحرية في الأفكار والأقوال، وقد طبع هذا الكتاب بباريس سنة 1852. (50) ابن جبير (540-614ه)
هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني، ولد ببلنسية في سنة 540، وقد برع في العلم والشعر، ورحل إلى المشرق أكثر من مرة، فخرج من غرناطة في رحلته الأولى سنة 578، ووصل إلى الإسكندرية بعد ثلاثين يوما، وحج ورحل إلى الشام والعراق والجزيرة وغيرها، ثم عاد إلى الأندلس سنة 581، ثم سافر بعد ذلك إلى المشرق، وتوفي بالإسكندرية سنة 614. وهو ممن أثروا بالأدب ثم تزهد وأعرض عن الدنيا، وكان من أهل المروءات، مؤنسا للغرباء، عاشقا لقضاء حوائج الناس. (51) ابن الفارض (576-632ه)
هو أبو حفص وأبو القاسم عمر بن أبي الحسن المعروف بابن الفارض المنعوت بالشرف، له ديوان شعر لطيف، وأسلوبه فيه رائق ظريف، ينحو منحى طريقة الصوفية، ومن كلامه:
لم أخل من حسد عليك فلا تضع
سهري بتشييع الخيال المرجف
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى
جفني؟ وكيف يزور من لم يعرف
وكان - رحمه الله - صالحا، كثير الخير، حسن الصحبة، محمود العشيرة، جاور بمكة المكرمة زمانا. وكانت ولادته سنة 576 بالقاهرة، وتوفي بها سنة 632، ودفن بسفح المقطم. (52) ابن الأثير
يطلق هذا الاسم على كل واحد من إخوة ثلاثة، وهم: العالم المحدث أبو السعادات مجد الدين المبارك (544-606ه)، والمؤرخ المدقق أبو الحسن عز الدين علي (555-630ه)، والوزير الأديب ضياء الدين أبو الفتح نصر الله (...-637ه)، وهم أبناء أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، ولدوا جميعا بجزيرة ابن عمر بالجزيرة، ثم رحلوا مع أبيهم إلى الموصل واشتغلوا بها وحصلوا العلوم، وكانوا جميعا فقهاء محدثين أدباء مؤرخين، إلا أن كل واحد منهم تفرد بعلم وألف فيه مؤلفات لا تزال طائرة الصيت إلى يومنا هذا.
فتفرد المبارك بالحديث، وألف فيه كتاب «النهاية في غريب الحديث»، وقد كان اعتراه مرض كف يديه ورجليه فمنعه من الكتابة وأقام في داره، وفي هذه الحالة صنف كتبه، وكان له جماعة يعينونه عليها.
وتفرد علي بالتاريخ، وألف فيه عدة من الكتب بعد أن طاف كثيرا من البلاد وسمع الأخبار، ومن أشهر كتب التاريخ كتابه «الكامل».
وتفرد ضياء الدين بالأدب، ومن أشهر كتبه فيه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر»، وقد كان اتصل بخدمة صلاح الدين الأيوبي، ثم انتقل إلى ولده الملك الأفضل فاستوزره، وكانت وفاته سنة 637. (53) ابن الحاجب (570-646ه)
هو أبو عمرو عثمان بن عمر الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب الملقب جمال الدين، كان والده حاجبا للأمير عز الدين، وكان كرديا، واشتغل ولده أبو عمرو في صغره بالقرآن الكريم ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك ثم بالعربية والقراءات، وبرع في علومه وأتقنها غاية الإتقان، وكان ذلك بالقاهرة، ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها وأكب الخلق على الاشتغال عليه، وتبحر في الفنون، وكان الأغلب عليه علم العربية.
صنف مختصرا في مذهبه، ومقدمة وجيزة في النحو وسماها «الكافية»، وأخرى مثلها في التصريف وسماها «الشافية»، وشرح المقدمتين، وصنف في أصول الفقه، وخالف النحاة في مواضع وأورد عليهم إشكالات وإلزامات تبعد الإجابة عنها، وكان من أحسن خلق الله ذهنا، ثم عاد إلى القاهرة وأقام بها والناس ملازمون للاشتغال عليه، ثم انتقل إلى الإسكندرية للإقامة بها فلم تطل مدته هناك. وتوفي بها سنة 646، وولد سنة 570 بإسنا. (54) بهاء الدين زهير (581-656ه)
هو أبو الفضل زهير بن محمد بن علي الملقب بهاء الدين الكاتب، كان من فضلاء عصره، وأحسنهم نظما ونثرا وخطا، ومن أكبرهم مروءة، وكان قد اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح نجم الدين أبي الفتح أيوب ابن الملك الكامل بالديار المصرية، وتوجه في خدمته إلى البلاد الشرقية، وأقام بها إلى أن ملك الملك الصالح مدينة دمشق فانتقل إليها في خدمته، وأقام كذلك إلى أن جرت الواقعة المشهورة على الملك الصالح وخرجت عنه دمشق وخانه عسكره وقبض عليه ابن عمه الملك الناصر داود صاحب الكرك واعتقله بقلعة الكرك، فأقام بهاء الدين زهير المذكور بنابلس محافظة لصاحبه ولم يتصل بغيره، ولم يزل على ذلك حتى خرج الملك الصالح وملك الديار المصرية فقدم إليها في خدمته؛ لما كان عليه من مكارم الأخلاق ودماثة السجايا، ولذلك كان متمكنا من صاحبه، كبير القدر عنده، لا يطلع على سره الخفي غيره، ومن محاسن شعره ملغزا في القفل قوله:
وأسود عار أنحل البرد جسمه
وما زال من أوصافه الحرص والمنع
وأعجب شيء كونه الدهر حارسا
وليس له عين وليس له سمع
وولد بهاء الدين المذكور سنة 581 ومات سنة 656 بمصر. (55) أبو الفداء (672-732ه)
هو السلطان الإمام، والملك المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، وكانت ولادته بدمشق لأن أهله كانوا خرجوا من حماة خوفا من التتر. وكان أبو الفداء بطلا شجاعا، خدم الملك الناصر محمد بن قلاوون لما كان في الكرك، وساعده في محاربة التتر، فوعده بحماة التي كانت إقطاعا لأسرتهم ووفى له بذلك وجعله سلطانا عليها يفعل فيها ما يشاء من إقطاع وغيره، وليس لأحد من الدولة بمصر معه حكم، ولقبه بالسلطان المؤيد.
ويقال إن أجود ما كان يعرفه أبو الفداء علم الهيئة لأنه أتقنه، وإن كان قد شارك في سائر العلوم مشاركة جيدة، وله مؤلفات كثيرة في علوم مختلفة، أهمها «التاريخ» المتضمن التاريخ القديم وتاريخ الإسلام إلى سنة 1328 ميلادية، والجغرافية المتضمنة على الخصوص وصف مصر وسورية وبلاد العرب وفارس، وهي أحسن الجغرافيات الشرقية، وقد طبعت هي وتاريخه مرارا باللغة العربية واللغات الإفرنجية بعد ترجمتها. ومات في الستين من عمره سنة 732. (56) ابن خلدون (732-808ه)
هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد، وأصل بيته من إشبيلية من أعمال الأندلس، انتقلوا إلى تونس في أواسط القرن السابع للهجرة عند الجلاء، ونسبهم في حضرموت من عرب اليمن، وأول من رحل إلى الأندلس منهم هو خلدون الجد العاشر للمترجم.
وولد ابن خلدون بتونس سنة 732 للهجرة، وربي في حجر والده، وقرأ القرآن الكريم بالقراءات السبع، ثم أخذ في دراسة الفقه والأدب فبرع فيهما، وكان كاتبا بليغا، وشاعرا نابغا، تنقل كثيرا في بلاد المغرب والأندلس، وتولى الكتابة لكثير من الملوك، ورأى من النعيم والبأساء ما يراه أهل النباهة والشرف والصدق في كل زمان من الملوك الذين تروج عندهم الوشايات، ثم حضر إلى مصر في سنة 784، وأخذ يعلم بالجامع الأزهر، ثم اتصل بالسلطان برقوق فأكرمه وأحسن مثواه، وفي سنة 786 ولاه القضاء بمصر، فعدل بين الناس، ولم تؤثر فيه وشاية الواشين وسعاية الساعين، ولم يزل بالقاهرة إلى أن مات سنة 806، وقيل: سنة 808.
وقد أبقى شهرته إلى الآن تاريخه المشهور ومقدمته التي تدل على أن الرجل كان أكبر من نظروا في الاجتماع في عصره. (57) وفود العرب على كسرى قبل الإسلام
روى ابن القطامي عن الكلبي قال: قدم النعمان بن المنذر على كسرى، وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا من ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثني فارس ولا غيرها، فقال كسرى وأخذته عزة الملك: يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حالة من يقدم علي من وفود الأمم، فوجدت للروم حظا في اجتماع ألفتها، وعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، ووثيق بنيانها، وأن لها دينا يبين حلالها وحرامها، ويرد سفيهها ويقيم جاهها، ورأيت الهند نحوا من ذلك في حكمتها وطبها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها وعجيب صناعتها، وطيب أشجارها، ودقيق حسابها، وكثرة عددها، وكذلك الصين في اجتماعها، وكثرة صناعات أيديها، وفروسيتها، وهمتها في آلة الحرب، وصناعة الحديد، وأن لها ملكا يجمعها، والترك والخزر - على ما بهم من سوء الحال في المعاش، وقلة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس - لهم ملوك تضم قواصيهم، وتدبر أمرهم.
ولم أر للعرب شيئا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة، ومع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها، وخوف دائها، وإن قرى أحدهم ضيفا عدها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدها غنيمة. تنطق بذلك أشعارهم وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التنوخية التي أسس جدي اجتماعها وشد مملكتها ومنعها من عدوها، فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإن لها - مع ذلك - آثارا ولبوسا وقرى وحصونا وأمورا تشبه بعض أمور الناس يعني اليمن، ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس!
قال النعمان: أصلح الله الملك! حق لأمة الملك منها أن يسمو فضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها، إلا أن عندي جوابا في كل ما نطق به الملك في غير رد عليه ولا تكذيب له، فإن أمنني من غضبه نطقت به. قال كسرى: قل، فأنت آمن. قال النعمان: أما أمتك - أيها الملك - فليست تنازع في الفضل؛ لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها، وبسطة محلها، وبحبوحة عزها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت، فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى: بماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها.
فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد، ووطدوا الملك، وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجنتهم السيوف، وعدتهم الصبر، إذ غيرها من الأمم إنما عزها الحجارة والطين وجزائر البحور.
وأما حسن وجوهها وألوانها، فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة، والصين المنحفة، والترك المشوهة، والروم المقشرة.
وأما أنسابها وأحسابها، فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرا من أولها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيا فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبا فأبا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم؛ فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه.
وأما سخاؤها، فإن أدناهم رجلا الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه، فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزي بالشربة فيعقرها له، ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر.
وأما حكمة ألسنتهم، فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم، ورونق كلامهم، وحسنه ووزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات، ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر ولا يقطع بمثلها بلد قفر.
وأما دينها وشريعتها، فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهرا حرما، وبلدا محرما، وبيتا محجوجا ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغمه منه، فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى.
وأما وفاؤها، فإن أحدكم يلحظ اللحظة، ويومئ الإيماءة، فهي ولث (أي عهد) وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودا من الأرض فيكون رهنا بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلا استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره فيصاب، فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله.
وأما قولك أيها الملك: يئدون أولادهم، فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث؛ أنفة من العار وغيرة من الأزواج.
وأما قولك إن أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارا له، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم، مع أنها أكثر البهائم شحوما، وأطيبها لحوما، وأرقها ألبانا، وأقلها غائلة، وأحلاها مضغة، وأنه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه.
وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم؛ فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفا وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمتهم. وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطث (أي الضرب الشديد بالرجل على الأرض) بالعسف.
وأما اليمن التي وصفها الملك، فإنما أتى جد الملك إليها الذي أتاه عند غلبة الحبش له على ملك متسق وأمر مجتمع، فأتاه مسلوبا طريدا مستصرخا، ولولا ما وتر به من يليه من العرب لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار.
قال: فعجب كسرى لما أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرئاسة في أهل إقليمك، ثم كساه من كسوته، وسرحه إلى موضعه من الحيرة.
فلما قدم النعمان الحيرة، وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين، وإلى الحارث بن ظالم وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي، وعمرو بن معديكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المري؛ فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم، وقرب جوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات تخوفت أن يكون لها غور، أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولا كبعض طماطمته في تأديتهم الخراج إليه، كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله، فاقتص عليهم مقالات كسرى وما رد عليه، فقالوا: أيها الملك، وفقك الله، ما أحسن ما رددت وأبلغ ما حججته به! فمرنا بأمرك، وادعنا إلى ما شئت.
قال: إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إلي مما سدد الله به أمركم، وأصلح به شأنكم، وأدام به عزكم، والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط، وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه؛ فإنه ملك عظيم السلطان، كثير الأعوان، مترف معجب بنفسه، ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك، تظهر به دماثة حلومكم، وفضل منزلتكم، وعظيم أخطاركم، وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها، فإنما دعاني إلى التقدمة إليكم علمي بميل كل رجل منكم إلى التقدم قبل صاحبه، فلا يكونن ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعنا؛ فإنه ملك مترف، وقادر مسلط. ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائف حلل الملوك، كل رجل منهم حلة، وعممه عمامة، وختمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجيبة، وكتب معهم كتابا:
أما بعد، فإن الملك ألقى إلي من أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم مما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها، وحمت ما يليها بفضل قوتها، تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة. وقد أوفدت أيها الملك رهطا من العرب، لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم، فليسمع الملك، وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، وليكرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم.
فخرج القوم في أهبتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسا يسمع منهم. فلما أن كان بعد ذلك بأيام، أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته فحضروا وجلسوا على كراسي عن يمينه وشماله، ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم النعمان بها في كتابه، وأقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم في الكلام.
فقام أكثم بن صيفي فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها. الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء. آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر. حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي. من فسدت بطانته كان كالغاص بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها. شر الملوك من خافه البريء. المرء يعجز لا محالة. أفضل الأولاد البررة. خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة. أحق الجنود بالنصر من حسنت سريرته. يكفيك من الزاد ما بلغك المحل. حسبك من شر سماعه. الصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة الإيجاز. من شدد نفر، ومن تراخى تألف.
فتعجب كسرى من أكثم، ثم قال: ويحك يا أكثم! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه! قال أكثم: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد. قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى. قال أكثم: رب قول أنفذ من صول.
ثم قام حاجب بن زرارة التميمي، قال: ورى زندك، وعلت يدك، وهيب سلطانك، إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرتها، ومنعت درتها. وهي لك وامقة ما تألفتها، مسترسلة ما لاينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، وهي الصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة. نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك. ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة. إن نؤب لك حامدين خيرا فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم نخص بالذم دونها. قال كسرى: يا حاجب، ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها. قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها. قال كسرى: وذلك.
ثم قام الحارث البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها، وعلو سنائها! من طال رشاؤه كثر متحه، ومن ذهب ماله قل منحه. تناقل الأقاويل يعرف اللب، وهذا مقام سيوجف بما تنطق به الركب، وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب. ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون. خيولنا جمة، وجيوشنا فخمة. إن استنجدتنا فغير ربض، وإن استطرقتنا فغير جهض، وإن طلبتنا فغير غمض. لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر. رماحنا طوال، وأعمارنا قصار. قال كسرى: أنفس عزيزة، وأمة ضعيفة. قال الحارث: أيها الملك، وأنى يكون لضعيف عزة، أو لصغير مرة؟! قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغررا بنفسه على الموت، فهي منية استقبلها، وجنان استدبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدما وأحبسها وهي تصرف بها، حتى إذا جاشت نارها، وسعرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحي، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض خضخاضها حتى أنغمس في غمرات لججها، وأكون فلكا لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دما، وأترك حماتها جزر السباع وكل نسر قشعم. ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعاله أنطق من لسانه. قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدا أحشد، ولا شهودا أوفد.
ثم قام عمرو بن الشريد السلمي فقال: أيها الملك، نعم بالك، ودام في السرور حالك! إن عاقبة الكلام متدبرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير ثقلة، وفي قليل بلغة، وفي الملوك سورة العز، وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل. لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرض لرفدك. إن في أموالنا منتقدا، وعلى عزنا معتمدا. إن أورينا نارا أثقبنا، وإن أود دهر بنا اعتدلنا. إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك كافحون، حتى يحمد الصدر، ويستطاب الخبر. قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمك.
قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديا، وبأيسر إفراطي مخبرا! ولم يلم من غربت نفسه عما يعلم ، ورضي من القصد بما بلغ. قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به. اجلس.
ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال: أحضر الله الملك إسعادا، وأرشده إرشادا! إن لكل منطق فرصة، ولكل حاجة غصة، وعي المنطق أشد من عي السكوت، وعثار القول أنكأ من عثار الوعث، وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نهوى، وغصة المنطق بما لا نهوى غير مستساغة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعي أنني له مطيق أحب إلي من تكلفي ما أتخوف ويتخوف مني. وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان! أنفسنا بالطاعة لك باخعة، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة. قال له كسرى: نطقت بعقل، وسمرت بفضل، وعلوت بنبل. ثم قام علقمة بن علاثة العامري فقال: نهجت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد! إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج، وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه. إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا، والوفادة قربتنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك، بل لو قست كل رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا، لوجدت له في آبائه دنيا أندادا وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسؤدد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف. يحمى حماه، ويروي نداماه، ويذود أعداه. لا تخمد ناره، ولا يحترز منه جاره. أيها الملك، من يبل العرب يعرف فضلهم، فاصطنع العرب، فإنها الجبال الرواسي عزا، والبحور الزواخر طميا، والنجوم الزواهر شرفا، والحصى عددا، فإن تعرف لهم فضلهم يعزوك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك. قال كسرى وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه: حسبك، أبلغت وأحسنت.
ثم قام قيس بن مسعود الشيباني فقال: أطاب الله بك المراشد، وجنبك المصائب، ووقاك مكروه الشصائب! ما أحقنا إذ أتيناك بإسماعك ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقدا في قلبك، لم نقدم أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنا في المنطق غير محجمين، وفي الناس غير مقصرين ، إن جورينا فغير مسبوقين، وإن سومينا فغير مغلوبين. قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين. وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد. قال قيس: أيها الملك، ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به، أو كخافر أخفر بذمته. قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة. قال قيس: أيها الملك، ما أنا فيما أخفر من ذمتي أحق بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك وانتهك من حرمتك. قال كسرى: ذلك لأن من ائتمن الخانة، واستنجد الأثمة ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء، كيف رأيت حاجب بن زرارة لم يحكم قواه فيبرم، ويعهد فيوفي، ويعد فينجز؟ قال: وما أحقه بذلك وما رأيته إلا لي. قال كسرى: القوم بزل فأفضلها أشدها.
ثم قام عامر بن الطفيل العامري فقال: كثر فنون المنطق، وليس القول أعمى من حندس الظلماء، وإنما الفخر في الفعال، والعجز في النجدة، والسؤدد مطاوعة القدرة. وما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا، وبالحرا إن أدالت الأيام، وثابت الأحلام، أن تحدث لنا أمورا لها أعلام. قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر، على أمر يذكر. قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟ قال: ما لي علم بأكثر مما خبرني به مخبر. قال كسرى: متى تكاهنت يا بن الطفيل؟ قال: لست بكاهن، ولكني بالرمح طاعن. قال كسرى: فإن أتاك آت من جهة عينك العوراء، ما أنت صانع؟ قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عيث ولكن مطاوعة العبث.
ثم قام عمرو بن معديكرب الزبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه، فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النجدة الارتياد ، وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقيف الخبرة خير من اعتساف الحيرة، فاجتبذ طاعتنا بلفظك، واكتظم بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك يسلس لك قيادنا، فإنا أناس لم يوقس صفاتنا قراع مناقير من أراد لنا قضما، ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضما.
ثم قام الحارث بن ظالم المري فقال: إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق، ومن خطل الرأي خفة الملك المسلط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك عن ائتلاف، وانقيادنا لك عن تصاف، ما أنت لقبول ذلك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود، وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل أو زلل. قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم. قال: إن في أسماء آبائك لدليلا على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر. قال الحارث: إن في الحق مغضبة، والسرو التغافل، ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة، فلتشبه أفعالك مجلسك. قال كسرى: هذا فتى القوم.
ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم، وتفنن فيه متكلموكم، ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف أودكم، ولم يحكم أمركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم، وغلب على طباعكم؛ لم أجز لكم كثيرا مما تكلمتم به، وإني لأكره أن أجبه وفودي أو أحنق صدورهم، والذي أحب من إصلاح مدبركم، وتألف شواذكم، والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم. وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب، وصفحت عما كان فيه من خلل، فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم، وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم، فإن في ذلك صلاح العامة. (58) قصيدة السموءل في الفخر
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما قل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلا وكهول
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
لنا جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به
إلى النجم فرع لا ينال طويل
هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره
يعز على من رامه ويطول
وإنا لقوم لا نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا
وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل يوما حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا
وليست على غير الظبات تسيل
صفونا ولم نكدر وأخلص سرنا
إناث أطابت حملنا وفحول
علونا إلى خير الظهور وحطنا
لوقت إلى خير البطون نزول
فنحن كماء المزن ما في نصابنا
كهام ولا فينا يعد بخيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقول
إذا سيد منا خلا قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول
وما أخمدت نار لنا دون طارق
ولا ذمنا في النازلين نزيل
وأيامنا مشهورة في عدونا
لها غرر معلومة وحجول
وأسيافنا في كل شرق ومغرب
بها من قراع الدارعين فلول
معودة أن لا تسل نصالها
فتغمد حتى يستباح قتيل
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
فليس سواء عالم وجهول
فإن بني الديان قطب لقومهم
تدور رحاهم حولهم وتجول (59) خطبة قس بن ساعدة الإيادي (جاهلي)
يأيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم شيئا فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، جمع وأشتات، وآيات بعد آيات. إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا؛ ليل داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟! أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا هناك فناموا؟ أقسم قس قسما حقا، لا خائنا فيه ولا آثما؛ إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيا قد حان حينه، وأظلكم أوانه، وأدرككم إبانه، فطوبى لمن أدركه فآمن به وهداه، وويل لمن خالفه وعصاه.
ثم قال: تبا لأرباب الغفلة، والأمم الخالية، والقرون الماضية! يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيد؟ وزخرف ونجد؟ أين المال والولد؟ أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال: أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا؟! طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم بطوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خالية، عمرتها الذئاب العاوية، كلا بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود.
ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولي
ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي
ي ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر (60) وأصيبت أعرابية بابنها وهي حاجة فلما دفنته قامت على قبره وقالت
والله يا بني، لقد غذوتك رضيعا، وفقدتك سريعا، وكأنه لم يكن بين الحالين مدة ألتذ بعيشك فيها، فأصبحت بعد النضارة والغضارة ورونق الحياة والتنسم في طيب روائحها، تحت أطباق الثرى جسدا هامدا، ورفاتا سحيقا، وصعيدا جرزا. أي بني، لقد سحبت الدنيا عليك أذيال الفنا، وأسكنتك دار البلى، ورمتني بعدك نكبة الردى. أي بني، لقد أسفر لي عن وجه الدنيا صباح داج ظلامه. ثم قالت: أي رب، ومنك العدل، ومن خلقك الجور، وهبته لي قرة عين، فلم تمتعني به كثيرا، بل سلبتنيه وشيكا، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فرحم الله من تراحم على من استودعته الردم، ووسدته الثرى! اللهم ارحم غربته، وآنس وحشته، واستر عورته، يوم تكشف الهنات والسوءات.
فلما أرادت الرجوع إلى أهلها قالت: أي بني، إني قد تزودت لسفري، فليت شعري، ما زادك لبعد طريقك، ويوم معادك؟! اللهم إني أسألك له الرضى برضائي عنه. ثم قالت: استودعتك من استودعك في أحشائي جنينا، وأثكل الوالدات، ما أمض حرارة قلوبهن، وأقلق مضاجعهن، وأطول ليلهن، وأقصر نهارهن، وأقل أنسهن، وأشد وحشتهن، وأبعدهن من السرور، وأقربهن من الأحزان!
وقالت الجمانة بنت قيس بن زهير تنصح جدها الربيع بن زياد
إن كان قيس أبي، فإنك - يا ربيع - جدي، وما يجب له من حق الأبوة علي إلا كالذي يجب عليك من حق البنوة لي. والرأي الصحيح تبعثه العناية، وتجلي عن محضه النصيحة. إنك قد ظلمت قيسا بأخذ درعه، وأجد مكافأته إياك سوء عزمه، والمعارض منتصر، والبادي أظلم، وليس قيس ممن يخوف بالوعيد ولا يردعه التهديد، فلا تركنن إلى منابذته، فالحزم في متاركته، والحرب متلفة للعباد، ذهابة بالطارف والتلاد، والسلم أرخى للبال، وأبقى لأنفس الرجال. وبحق أقول: لقد صدعت بحكم، وما يدفع قولي إلا غير ذي فهم. ثم أنشأت تقول:
أبي لا يرى أن يترك الدهر درعه
وجدي يرى أن يأخذ الدرع من أبي
فرأي أبي رأي البخيل بماله
وشيمة جدي شيمة الخائف الأبي
وقالت بنت حاتم للنبي
صلى الله عليه وسلم
يا محمد، هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفك العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت حاتم طي. فقال لها النبي
صلى الله عليه وسلم : يا جارية، هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه. خلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق.
وقال زهير بن أبي سلمى من معلقته المشهورة
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه
يطيع العوالي ركبت كل لهذم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم (61) غيلان بن سلمة عند كسرى (جاهلي)
خرج أبو سفيان في جماعة من قريش يريدون العراق بتجارة، فلما ساروا ثلاثا جمعهم أبو سفيان فقال لهم: إنا من مسيرنا هذا لعلى خطر ما قدومنا على ملك جبار لم يأذن لنا في القدوم عليه، وليست بلاده لنا بمتجر، ولكن أيكم يذهب بالعير، فإن أصيب فنحن براء من دمه، وإن غنم فله نصف الربح؟ فقال غيلان بن سلمة: دعوني إذن فأنا لها، فلما قدم بلاد كسرى تخلق ولبس ثوبين أصفرين، وشهر أمره، وجلس بباب كسرى حتى أذن له، فدخل عليه وبينهما شباك من ذهب، فخرج إليه الترجمان وقال له: يقول لك الملك: ما أدخلك بلادي بغير إذني؟ فقال: قل له: لست من أهل عداوة لك، ولا أتيتك جاسوسا لضد من أضدادك، وإنما جئت بتجارة تستمتع بها، فإن أردتها فهي لك، وإن لم تردها وأذنت في بيعها لرعيتك بعتها، وإن لم تأذن في ذلك رددتها. قال: فإنه ليتكلم إذ سمع صوت كسرى فسجد، فقال له الترجمان: يقول لك الملك: لم سجدت؟ فقال: سمعت صوتا عاليا حيث لا ينبغي لأحد أن يعلو صوته إجلالا للملك، فعلمت أنه لم يقدم على رفع الصوت هناك غير الملك، فسجدت إعظاما له. قال: فاستحسن كسرى ما فعل، وأمر له بمرفقة توضع تحته. فلما أتي بها رأى عليها صورة الملك، فوضعها على رأسه، فاستجهله كسرى واستحمقه، وقال للترجمان: قل له: إنما بعثنا بهذه لتجلس عليها، قال: قد علمت، ولكني لما أتيت بها رأيت عليها صورة الملك فلم يكن حق صورته على مثلي أن يجلس عليها ولكن كان حقها التعظيم، فوضعتها على رأسي لأنه أشرف أعضائي وأكرمها علي. فاستحسن فعله جدا، ثم قال له: ألك ولد؟ قال: نعم. قال: فأيهم أحب إليك؟ قال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يؤوب. فقال كسرى: زه، ما أدخلك علي، ودلك على هذا القول والفعل إلا حظك، فهذا فعل الحكماء وكلامهم، وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم، فما غذاؤك؟ قال: خبز البر. قال: هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر. ثم اشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها وكساه، وبعث معه من الفرس من بنى له أطما بالطائف، فكان أول أطم بني بها. (62) صورة كتاب أرسله الإسكندر إلى شيخه الحكيم أرسطو يستشيره فيما يفعله بأبناء ملوك فارس بعد أن قتل آباءهم وتغلب على بلادهم (جاهلي)
عليك - أيها الحكيم - منا السلام، أما بعد: فإن الأفلاك الدائرة، والعلل السماوية وإن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائنين، فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك، غير جاحدين لفضلك والإقرار بمنزلتك والاستنامة إلى مشورتك والاقتداء برأيك والاعتماد لأمرك وفهمك؛ لما بلونا من إجداء ذلك علينا وذقنا من جنى منفعته، حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترسخه في أذهاننا كالغذاء لنا، فما ننفك نعول عليه ونستمد منه استمداد الجداول من البحور، وتعويل الفروع على الأصول، وقوة الأشكال بالأشكال. وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج، وأتيح لنا من الظفر والقهر، وبلغنا في العدو من النكاية والبطش ما يعجز القول عن وصفه، ويقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به. وكان من ذلك أن جاوزنا أرض سورية والجزيرة إلى بابل وأرض فارس، فلما حللنا بعقوة أهلها وساحة بلادهم لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا وطلبا للحظوة عندنا، فأمرنا بصلب من جاء به وشهرته؛ لسوء بلائه وقلة ارعوائه ووفائه، ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم وأحرارهم وذوي الشرف منهم، فرأينا رجالا عظيمة أجسامهم وأحلامهم، حاضرة ألبابهم وأذهانهم، رائعة مناظرهم ومناطقهم، دليلا على أن ما يظهر من روائهم ومنطقهم وراءه من قوة أيديهم وشدة نجدتهم وبأسهم ما لا يكون معه لنا سبيل إلى غلبتهم وإعطائهم بأيديهم لولا أن القضاء أدالنا منهم، وأظفرنا بهم، وأظهرنا عليهم، ولم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم، ونجتث أصلهم، ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم؛ لتسكن القلوب بذلك إلى الأمن من جرائرهم وبوائقهم، فرأينا أن لا نعجل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم دون الاستظهار عليه بمشورتك. فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك، وتقليبك إياه بجلي نظرك. والسلام لأهل السلام، فليكن علينا وعليك. (63) إجابة الحكيم أرسطو إلى الملك بعد ديباجة طويلة
إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل، وإن لفارس قسمها من النجدة والقوة، وإنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء على أعقابهم، وتورث سفلتهم منازل عليتهم، وتغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم، ولم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم وأشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة وذل الوجوه. فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة والحركة! فإنهم إن نجم منهم بعد اليوم على جندك وأهل بلادك ناجم، دهمهم منه ما لا روية فيه ولا بقية معه، فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره، واعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء والأحرار فوزع بينهم مملكتهم، وألزم اسم الملك كل من وليته منهم، واعقد التاج على رأسه وإن صغر ملكه؛ فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه، والمعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره، فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه وبين صاحبه تدابرا وتقاطعا وتغالبا على الملك وتفاخرا بالمال والجند، حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك وأوتارهم فيك، ويعود حربهم لك حربا بينهم، وحنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم، ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة إلا أحدثوا لك بها استقامة، إن دنوت منهم دنوا لك، وإن نأيت عنهم تعززوا بك، حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك، ويسترهبه بجندك، وفي ذلك شاغل لهم عنك، وأمان لإحداثهم بعدك، وإن كان لا أمان للدهر، ولا ثقة بالأيام.
وقد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا وعلي حقا من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه، ومحضته النصيحة فيه، والملك أعلى عينا، وأنفذ روية، وأفضل رأيا، وأبعد همة فيما استعان بي عليه، وكلفني تبيينه والمشورة عليه فيه. لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم وعواقب الصنع، وتوطيد الملك، وتنفيس الأجل، ودرك الأمل ما تأتي فيه قدرته على غاية أقصى ما تناله قدرة البشر! والسلام الذي لا انقضاء له ولا انتهاء ولا غاية ولا فناء فليكن على الملك. (64) إن غدا لناظره قريب
أي لمنتظره، يقال: نظرته، أي انتظرته، وأول من قال ذلك قراد بن أجدع، وذلك أن النعمان بن المنذر خرج يتصيد على فرسه «اليحموم»، فأجراه على أثر عير، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر عليه، وانفرد عن أصحابه، وأخذته السماء، فطلب ملجأ يلجأ إليه، فدفع إلى بناء فإذا فيه رجل من طيئ يقال له حنظلة ومعه امرأة له، فقال لهما: هل من مأوى؟ فقال حنظلة: نعم، فخرج إليه فأنزله، ولم يكن للطائي غير شاة وهو لا يعرف النعمان، فقال لامرأته: أرى رجلا ذا هيئة، وما أخلقه أن يكون شريفا خطيرا! فما الحيلة؟ قالت: عندي شيء من طحين كنت ادخرته، فاذبح الشاة لأتخذ من الطحين ملة. قال: فأخرجت المرأة الدقيق فخبزت منه ملة، وقام الطائي إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها فاتخذ من لحمها مرقة مضيرة، وأطعمه من لحمها، وسقاه من لبنها، واحتال له شرابا فسقاه، وجعل يحدثه بقية ليلته، فلما أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طيئ، اطلب ثوابك، أنا الملك النعمان، قال: أفعل إن شاء الله، ثم لحق الخيل فمضى نحو الحيرة.
ومكث الطائي بعد ذلك زمانا حتى أصابته نكبة وجهد وساءت حاله، فقالت له امرأته: لو أتيت الملك لأحسن إليك، فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة فوافق يوم بؤس النعمان، فإذا هو واقف في خيله في السلاح، فلما نظر إليه النعمان عرفه، وساءه مكانه، فوقف الطائي المنزول به بين يدي النعمان، فقال له: أنت الطائي المنزول به؟ قال: نعم ، قال: أفلا جئت في غير هذا اليوم! قال: أبيت اللعن! وما كان علمي بهذا اليوم؟ قال: والله، لو سنح لي في هذا اليوم قابوس ابني لم أجد بدا من قتله، فاطلب حاجتك من الدنيا وسل ما بدا لك، فإنك مقتول، قال: أبيت اللعن! وما أصنع بالدنيا بعد نفسي؟! قال النعمان: إنه لا سبيل إليها ، قال: فإن كان لا بد فأجلني حتى ألم بأهلي، فأوصي إليهم وأهيئ حالهم ثم أنصرف إليك، قال النعمان: فأقم لي كفيلا بموافاتك، فالتفت الطائي إلى شريك بن عمرو بن قيس من بني شيبان، وكان يكنى أبا الحوفزان، وكان صاحب الردافة، وهو واقف بجنب النعمان، فقال له:
يا شريكا يابن عمرو
هل من الموت محالة؟
يا أخا كل مضاف
يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فك ال
يوم ضيفا قد أتى له
طالما عالج كرب ال
موت لا ينعم باله
فأبى شريك أن يتكفل به، فوثب إليه رجل من كلب يقال له قراد بن أجدع، فقال للنعمان: أبيت اللعن! هو علي، قال النعمان: أفعلت؟ قال: نعم، فضمنه إياه ثم أمر للطائي بخمسمئة ناقة، فمضى الطائي إلى أهله، وجعل الأجل حولا من يومه ذلك إلى مثل ذلك اليوم من قابل، فلما حال عليه الحول وبقي من الأجل يوم قال النعمان لقراد: ما أراك إلا هالكا غدا، فقال قراد:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى
فإن غدا لناظره قريب
فلما أصبح النعمان ركب في خيله ورجله متسلحا كما كان يفعل حتى أتى الغريين فوقف بينهما، وأخرج معه قرادا وأمر بقتله، فقال له وزراؤه: ليس لك أن تقتله حتى يستوفي يومه، فتركه، وكان النعمان يشتهي أن يقتل قراد ليفلت الطائي من القتل، فلما كادت الشمس تجب وقراد قائم مجرد في إزار على النطع والسياف إلى جنبه، أقبلت امرأته وهي تقول:
أيا عين بكي لي قراد بن أجدعا
رهينا لقتل لا رهينا مودعا
أتته المنايا بغتة دون قومه
فأمسى أسيرا حاضر البيت أضرعا
فبينما هم كذلك إذ رفع لهم شخص من بعيد، وقد أمر النعمان بقتل قراد، فقيل له: ليس لك أن تقتله حتى يأتيك الشخص فتعلم من هو، فكف حتى انتهى إليهم الرجل، فإذا هو الطائي، فلما نظر إليه النعمان شق عليه مجيئه، فقال له: ما حملك على الرجوع بعد إفلاتك من القتل؟ قال: الوفاء، قال: وما دعاك إلى الوفاء؟ قال : ديني، قال النعمان: وما دينك؟ قال: النصرانية، قال النعمان: فاعرضها علي، فعرضها عليه فتنصر النعمان هو وأهل الحيرة أجمعون وكان قبل ذلك على دين الجاهلية، فترك القتل منذ ذلك اليوم، وأبطل تلك السنة وأمر بهدم الغريين، وعفا عن قراد والطائي، وقال: والله، ما أدري أيهما أوفى وأكرم، أهذا الذي نجا من القتل فعاد، أم الذي ضمنه؟ والله، لا أكون ألأم الثلاثة، فأنشأ الطائي يقول:
ما كنت أخلف ظنه بعد الذي
أسدى إلى من الفعال الخالي
ولقد دعتني للخلاف ضلالتي
فأبيت غير تمجدي وفعالي
إني امرؤ مني الوفاء سجية
وجزاء كل مكارم بذال
وقال أيضا يمدح قرادا:
ألا إنما يسمو إلى المجد والعلا
مخاريق أمثال القراد بن أجدعا
مخاريق أمثال القراد وأهله
فإنهم الأخيار من رهط تبعا
انتهى. هذا هو المشهور، والصحيح أن صاحب الغريين ويوم البؤس هو المنذر الأكبر. (65) إن أخاك من آساك
يقال: آسيت فلانا بمالي أو غيره، إذا جعلته أسوة لك، وواسيت لغة فيه، ومعنى المثل أن أخاك حقيقة من قدمك وآثرك على نفسه، يضرب في الحث على مراعاة الإخوان. وأول من قال ذلك خزيم بن نوفل الهمداني، وذلك أن النعمان بن ثواب العبدي ثم الشني كان له بنون ثلاثة: سعد وسعيد وساعدة، وكان أبوهم ذا شرف وحكمة، وكان يوصي بنيه ويحملهم على أدبه، أما ابنه سعد فكان شجاعا بطلا من شياطين العرب لا يقام لسبيله ولم تفته طلبته قط ولم يفر عن قرن، وأما سعيد فكان يشبه أباه في شرفه وسؤدده. وأما ساعدة فكان صاحب شراب وندامى وإخوان. فلما رأى الشيخ حال بنيه دعا سعدا، وكان صاحب حرب، فقال: يا بني، إن الصارم ينبو، والجواد يكبو، والأثر يعفو، فإذا شهدت حربا فرأيت نارها تستعر، وبطلها يخطر، وبحرها يزخر، وضعيفها ينصر، وجبانها يجسر؛ فأقلل المكث والانتظار، فإن الفرار غير عار إذا لم تكن طالب ثار، فإنما ينصرون هم، وإياك أن تكون صيد رماحها، ونطيح نطاحها. وقال لابنه سعيد، وكان جوادا: يا بني، لا يبخل الجواد، فابذل الطارف والتلاد ، وأقلل التلاح تذكر بالسماح، وابل إخوانك فإن وافيهم قليل، واصنع المعروف عند محتمله. وقال لابنه ساعدة، وكان صاحب شراب: يا بني، إن كثرة الشراب تفسد القلب، وتقلل الكسب، فأبصر نديمك، واحم حريمك، وأعن غريمك، واعلم أن الظمأ القامح خير من الري الفاضح، وعليك بالقصد فإن فيه بلاغا.
ثم إن أباهم النعمان بن ثواب توفي، فقال ابنه سعيد، وكان جوادا سيدا: لآخذن بوصية أبي، ولأبلون إخواني وثقاتي في نفسي، فعمد إلى كبش فذبحه ثم وضعه في ناحية خبائه، وغشاه ثوبا، ثم دعا بعض ثقاته فقال: يا فلان، إن أخاك من وفى لك بعهده، وحاطك برفده، ونصرك بوده، قال: صدقت، فهل حدث أمر؟ قال: نعم، إني قتلت فلانا، وهو الذي تراه في ناحية الخباء، ولا بد من التعاون عليه حتى يوارى، فما عندك؟ قال: يا لها سوأة وقعت فيها! قال: فإني أريد أن تعينني عليه حتى أغيبه، قال: لست لك في هذا بصاحب، فتركه وخرج، فبعث إلى آخر من ثقاته فأخبره بذلك وسأل معونته، فرد عليه مثل ذلك، حتى بعث إلى عدد منهم كلهم يرد عليه مثل جواب الأول، ثم بعث إلى رجل من إخوانه يقال له خزيم بن نوفل، وقال له: يا خزيم، ما لي عندك؟ قال: ما يسرك، وما ذاك؟ قال: إني قتلت فلانا وهو الذي تراه مسجى، قال: أيسر خطب، فتريد ماذا؟ قال: أريد أن تعينني حتى أغيبه، قال: هان ما فزعت فيه إلى أخيك، وغلام سعيد قائم معهما، فقال له خزيم: هل اطلع على هذا الأمر أحد غير غلامك هذا؟ قال: لا، قال: انظر ما تقول، قال: ما قلت إلا حقا، فأهوى خزيم إلى غلامه فضربه بالسيف وقتله، وقال: ليس عبد أخا لك، فأرسلها مثلا، وارتاع سعيد وفزع لقتل غلامه، فقال: ويحك! ما صنعت؟! وجعل يلومه، فقال خزيم: إن أخاك من آساك، فأرسلها مثلا، قال سعيد: فإني أردت تجربتك، ثم كشف عن الكبش، وخبره بما لقي من إخوانه وثقاته وما ردوا عليه، فقال خزيم: سبق السيف العذل، فذهبت مثلا. (66) ألا من يشتري سهرا بنوم؟
قالوا: إن أول من قال ذلك ذو رعين الحميري، وذلك أن حمير تفرقت على ملكها حسان وخالفت أمره لسوء سيرته فيهم، ومالوا إلى أخيه عمرو، وحملوه على قتل أخيه حسان وأشاروا عليه بذلك ورغبوه في الملك، ووعدوه حسن الطاعة والمؤازرة، فنهاه ذو رعين من بين حمير عن قتل أخيه، وعلم أنه إن قتل أخاه ندم ونفر عنه النوم وانتقضت عليه أموره، وأنه سيعاقب الذي أشار عليه بذلك ويعرف غشهم له. فلما رأى ذو رعين أنه لا يقبل ذلك منه وخشي العواقب، قال هذين البيتين الآتيين وكتبهما في صحيفة وختم عليها بخاتم عمرو، وقال: هذه وديعة لي عندك إلى أن أطلبها منك، فأخذها عمرو فدفعها إلى خازنه وأمره برفعها إلى الخزانة والاحتفاظ بها إلى أن يسأل عنها.
فلما قتل أخاه وجلس مكانه في الملك منع منه النوم، وسلط عليه السهر، فلما اشتد ذلك عليه لم يدع باليمن طبيبا ولا كاهنا ولا منجما ولا عرافا ولا عائفا إلا جمعهم، ثم أخبرهم بقصته، وشكا إليهم ما به، فقالوا له: ما قتل رجل أخاه أو ذا رحم منه على نحو ما قتلت أخاك إلا أصابه السهر ومنع منه النوم، فلما قالوا له ذلك أقبل على من كان أشار عليه بقتل أخيه وساعده عليه من أقيال حمير فقتلهم حتى أفناهم، فلما وصل إلى ذي رعين قال له: أيها الملك، إن لي عندك براءة مما تريد أن تصنع بي، قال: وما براءتك وأمانك؟ قال: مر خازنك أن يخرج الصحيفة التي استودعتكها يوم كذا وكذا، فأمر خازنه فأخرجها فنظر إلى خاتمه عليها ثم فضها فإذا فيها:
ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
فأما حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين
ثم قال: أيها الملك، قد نهيتك عن قتل أخيك، وعلمت أنك إن فعلت ذلك أصابك الذي قد أصابك، فكتبت هذين البيتين براءة لي عندك مما علمت أنك تصنع بمن أشار عليك بقتل أخيك، فقبل ذلك منه، وعفا عنه، وأحسن جائزته. (67) إن العصا من العصية
قال أبو عبيد: هكذا قال الأصمعي، وأنا أحسبه العصية من العصا، إلا أن يراد أن الشيء الجليل يكون في بدء أمره صغيرا، كما قالوا: إن القرم من الأفيل، فيجوز حينئذ على هذا المعنى أن يقال: العصا من العصية. قال المفضل: أول من قال ذلك الأفعى الجرهمي، وذلك أن نزارا لما حضرته الوفاة جمع بنيه مضر وإيادا وربيعة وأنمارا، فقال: يا بني، هذه القبة الحمراء - وكانت من أدم - لمضر، وهذا الفرس الأدهم والخباء الأسود لربيعة، وهذه الخادم - وكانت شمطاء - لإياد، وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه، فإن أشكل عليكم كيف تقتسمون فأتوا الأفعى الجرهمي ومنزله بنجران. فتشاجروا في ميراثه، فتوجهوا إلى الأفعى الجرهمي، فبينما هم في مسيرهم إليه إذ رأى مضر أثر كلأ قد رعي فقال: إن البعير الذي رعى هذا لأعور، قال ربيعة: إنه لأزور، قال إياد: إنه لأبتر، قال أنمار: إنه لشرود، فساروا قليلا فإذا هم برجل ينشد جمله فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعور؟ قال: نعم، قال ربيعة: أهو أزور؟ قال: نعم، قال إياد: أهو أبتر؟ قال: نعم، قال أنمار: أهو شرود؟ قال: نعم، وهذه والله صفة بعيري، فدلوني عليه، قالوا: والله ما رأيناه، قال: هذا والله الكذب، وتعلق بهم وقال: كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته؟ فساروا حتى قدموا نجران، فلما نزلوا نادى صاحب البعير: هؤلاء أخذوا جملي ووصفوا لي صفته، ثم قالوا: لم نره، فاختصموا إلى الأفعى، وهو حكم العرب، فقال الأفعى: كيف وصفتموه ولم تروه؟ قال مضر: رأيته رعى جانبا وترك جانبا فعلمت أنه أعور، وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدته؛ فعلمت أنه أزور؛ لأنه أفسده لشدة وطئه لازوراره، وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره، ولو كان ذيالا لمصع به، وقال أنمار: عرفت أنه شرود لأنه كان يرعى في المكان الملتف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه وأخبث نبتا؛ فعلمت أنه شرود. فقال للرجل: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه.
ثم سألهم: من أنتم ؟ فأخبروه، فرحب بهم، ثم أخبروه بما جاء بهم، فقال: أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى؟ ثم أنزلهم فذبح لهم شاة وأتاهم بخمر، وجلس لهم الأفعى حيث لا يرى وهو يسمع كلامهم، فقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أطيب منه لولا أن شاته غذيت بلبن كلبة، فقال مضر: لم أر كاليوم خمرا أطيب منه لولا أن حبلتها نبتت على قبر، فقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أسرى منه لولا أنه ليس لأبيه الذي يدعى له، فقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا من كلامنا، وكان كلامهم بأذنه فقال: ما هؤلاء إلا شياطين، ثم دعا القهرمان فقال: ما هذه الخمر؟ وما أمرها؟ قال: هي من حبلة غرستها على قبر أبيك لم يكن عندنا شراب أطيب من شرابها، وقال للراعي: ما أمر هذه الشاة؟ قال: هي عناق أرضعتها بلبن كلبة، وذلك أن أمها كانت قد ماتت ولم يكن في الغنم شاة ولدت غيرها، ثم أتى أمه فسألها عن أبيه، فأخبرته أنها كانت تحت ملك كثير المال، وكان لا يولد له، قالت: فخفت أن يموت ولا ولد له فيذهب الملك، فأمكنت من نفسي ابن عم له كان نازلا عليه.
فخرج الأفعى إليهم، فقص القوم عليه قصتهم وأخبروه بما أوصى به أبوهم، فقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر، فذهب بالدنانير والإبل الحمر، فسمي مضر الحمراء لذلك، وقال: وأما صاحب الفرس الأدهم والخباء الأسود فله كل شيء أسود، فصارت لربيعة الخيل الدهم، فقيل ربيعة الفرس، وما أشبه الخادم الشمطاء فهو لإياد، فصار له الماشية البلق من الحبلق والنقد فسمي إياد الشمطاء، وقضى لأنمار بالدراهم وبما فضل فسمي أنمار الفضل. فصدروا من عنده على ذلك، فقال الأفعى: إن العصا من العصية، وإن خشينا من أخشن، ومساعدة الخاطل تعد من الباطل، فأرسلهن مثلا، وخشين وأخشن جبلان أحدهما أصغر من الآخر، والخاطل الجاهل، والخطل في الكلام اضطرابه، والعصية تصغير تكبير مثل: أنا عذيقها المرجب وجذيلها المحكك، والمراد أنهم يشبهون أباهم في جودة الرأي، وقيل: إن العصا اسم فرس، والعصية اسم أمه، يراد أنه يحكي الأم في كرم العرق وشرف العتق. (68) خطب يسير في خطب كبير
قاله قصير بن سعد اللخمي لجذيمة بن مالك بن نصر الذي يقال له جذيمة الأبرش وجذيمة الوضاح، والعرب تقول للذي به البرص: به وضح؛ تفاديا من ذكر البرص.
وكان جذيمة ملك ما على شاطئ الفرات، وكانت الزباء ملكة الجزيرة، وكانت من أهل باجرما وتتكلم بالعربية، وكان جذيمة قد وترها بقتل أبيها، فلما استجمع أمرها، وانتظم شمل ملكها، أحبت أن تغزو جذيمة، ثم رأت أن تكتب إليه أنها لم تجد ملك النساء إلا قبيحا في السماع وضعفا في السلطان، وأنها لم تجد لملكها موضعا ولا لنفسها كفوا غيرك، فأقبل إلي لأجمع ملكي إلى ملكك، وأصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك. تريد بذلك الغدر. فلما أتى كتابها جذيمة وقدم عليه رسلها، استخفه ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، فجمع أهل الحجا والرأي من ثقاته، وهو يومئذ ببقة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه، وعرضته عليه، فاجتمع رأيهم على أن يسير إليها فيستولي على ملكها، وكان فيهم قصير وكان أريبا حازما أثيرا عند جذيمة، فخالفهم فيما أشاروا به، وقال: رأي فاتر وغدر حاضر، فذهبت كلمته مثلا، ثم قال لجذيمة: الرأي أن تكتب إليها، فإن كانت صادقة في قولها فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك ولم تقع في حبالتها وقد وترتها وقتلت أباها، فلم يوافق جذيمة ما أشار به، فقال قصير:
إني امرؤ لا يميل العجز ترويتي
إذا أتت دون شأيي مرة الرزم
فقال جذيمة: لا، ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح، فذهبت كلمته مثلا، ودعا جذيمة عمرو بن عدي ابن أخته فاستشاره فشجعه على المسير، وقال: إن قومي مع الزباء، ولو قد رأوك صاروا معك، فأحب جذيمة ما قاله، وعصى قصيرا، فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر، فذهبت مثلا، واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه، وجعل عمرو ابن عبد الجن معه على جنوده وخيوله ، وسار جذيمة في وجوه أصحابه، فأخذ على شاطئ الفرات من الجانب الغربي، فلما نزل دعا قصيرا فقال: ما الرأي يا قصير؟ فقال قصير: ببقة خلفت الرأي، فذهبت مثلا، قال: وما ظنك بالزباء؟ قال: القول رداف، والحزم عثراته تخاف، فذهبت مثلا. واستقبله رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير، كيف ترى؟ قال: خطب يسير في خطب كبير، فذهبت مثلا، وستلقاك الخيول فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك وأحاطت بك من خلفك فالقوم غادرون بك، فاركب العصا فإنه لا يشق غبارها، فذهبت مثلا، وكانت العصا فرسا لجذيمة لا تجارى، وإني راكبها ومسايرك عليها. فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة على متن العصا موليا فقال: ويل أمه! حزما على متن العصا، فذهبت مثلا، وجرت به إلى غروب الشمس، ثم نفقت، وقد قطعت أرضا بعيدة، فبنى عليها برجا يقال له برج العصا، وقالت العرب: خير ما جاءت به العصا، فذهبت مثلا، وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيل حتى دخل على الزباء، فرآها على غير أهبة العروس، فقال: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى، فذهبت مثلا. ودعت بالسيف والنطع ثم قالت: إن دماء الملوك شفاء من الكلب، فأمرت بطست من ذهب قد أعدته له فسقته الخمر حتى سكر وأخذت الخمر منه مأخذها، فأمرت براهشيه فقطعا، وقدمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في القتال تكرمة للملك، فلما ضعفت يداه سقطتا فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه أهله، فذهبت مثلا، فهلك جذيمة، وجعلت الزباء دمه في ربعة لها.
وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة، فقال له قصير: أثائر أنت؟ قال: بل ثائر سائر، فذهبت مثلا، ووافق قصير الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة مع عمرو بن عدي اللخمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجرمي، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي، فقال قصير لعمرو بن عدي: تهيأ واستعد ولا تطلن دم خالك، قال: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلا. وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن هلاكها، فقالت: أرى هلاكك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون ذلك، فحذرت عمرا، واتخذت لها نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني. ودعت رجلا مصورا من أجود أهل بلادهم تصويرا وأحسنهم عملا، فجهزته وأحسنت إليه، وقالت: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنكرا فتخلو بحشمه وتنضم إليهم وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالصور، ثم أثبت لي عمرو بن عدي معرفة فصوره جالسا وقائما وراكبا ومتفضلا ومتسلحا بهيئته ولبسته ولونه، فإذا أحكمت ذلك فأقبل إلي. فانطلق المصور حتى قدم على عمرو بن عدي وصنع ما أمرته به الزباء، وبلغ من ذلك ما أوصته به، ثم رجع إلى الزباء بعمل ما وجهته له من الصورة على ما وصفت وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي، فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته وعلمت علمه. فقال قصير لعمرو بن عدي: اجدع أنفي، واضرب ظهري، ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، وما أنت لذلك مستحقا عندي، فقال قصير: خل عني إذن وخلاك ذم، فذهبت مثلا، فقال له عمرو: فأنت أبصر، فجدع قصير أنفه، وأثر آثارا بظهره، فقالت العرب: لأمر ما جدع قصير أنفه، وفي ذلك يقول المتلمس:
وفي طلب الأوتار ما حز أنفه
قصير ورام الموت بالسيف بيهس
ثم خرج قصير كأنه هارب، وأظهر أن عمرا فعل ذلك به، وأنه زعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء، فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إن قصيرا بالباب، فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع، وظهره قد ضرب، فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني قد غررت خاله، وزينت له المصير إليك وغششته ومالأتك، ففعل بي ما ترين، فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك. فأكرمته وأصابت عنده من الحزم والرأي ما أرادت، فلما عرف أنها استرسلت إليه ووثقت به قال: إن لي بالعراق أموالا كثيرة وطرائف وثيابا وعطرا، فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي وأحمل إليك من بزورها وطرائفها وثيابها وطيبها، وتصيبين في ذلك أرباحا عظاما، وبعض ما لا غنى بالملوك عنه، وكان أكثر ما يطرفها من التمر الصرفان وكان يعجبها، فلم يزل يزين ذلك حتى أذنت له ودفعت له أموالا وجهزت معه عبيدا، فسار قصير بما دفعت إليه حتى قدم العراق وأتى الحيرة متنكرا، فدخل على عمرو فأخبره الخبر، وقال: جهزني بصنوف البز والأمتعة؛ لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك إلى الزباء فأعجبها ما رأت وسرها، وازدادت به ثقة وجهزته ثانية فسار حتى قدم على عمرو فجهزه وعاد إليها، ثم عاد الثالثة وقال لعمرو: اجمع لي ثقات أصحابك، وهيئ الغرائر والمسوح، واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، فإذا دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيف. ففعل عمرو ذلك، وحمل الرجال في الغرائر بالسلاح، وسار يكمن النهار ويسير الليل، فلما صار قريبا من مدينتها تقدم قصير فبشرها وأعلمها بما جاء به من المتاع والطرائف، وقال لها: آخر البز على القلوص، فأرسلها مثلا، وسألها أن تخرج فتنظر إلى ما جاء به، وقال لها: جئت بما صاء وصمت، فذهبت مثلا، ثم خرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت: يا قصير:
ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلا يحملن أم حديدا
أم صرفانا تارزا شديدا
فقال قصير في نفسه:
بل الرجال قبضا قعودا
فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها بعيرا مر على بواب المدينة، وكان بيده منخسة، فنخس بها الغرارة فأصابت خاصرة الرجل الذي فيها، فسمع منه صوت، فقال البواب بالرومية ما معناه: شر في الجوالق، فأرسلها مثلا. فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت ودل قصير عمرا على باب النفق الذي كانت الزباء تدخله، وأرته إياه قبل ذلك، وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء تريد النفق، فأبصرت عمرا فعرفته بالصورة التي صورت لها، فمصت خاتمها وكان فيه السم، وقالت: بيدي لا بيد ابن عدي، فذهبت كلمتها مثلا، وتلقاها عمرو فجللها بالسيف وقتلها، وأصاب ما أصاب من المدينة وأهلها، وانكفأ راجعا إلى العراق. (69) صارت الفتيان حمما
هذا من قول الحمراء بنت ضمرة بن جابر، وذلك أن بني تميم قتلوا سعد بن هند أخا عمرو بن هند الملك، فنذر عمرو ليقتلن بأخيه مئة من بني تميم، فجمع أهل مملكته فسار إليهم، فبلغهم الخبر، فتفرقوا في نواحي بلادهم، فأتى دارهم فلم يجد إلا عجوزا كبيرة، وهي الحمراء بنت ضمرة، فلما نظر إليها وإلى حمرتها قال لها: إني لأحسبك أعجمية، فقالت: لا، والذي أسأله أن يخفض جناحك، ويهد عمادك، ويضع وسادك، ويسلبك بلادك، ما أنا بأعجمية، قال: فمن أنت؟ قالت: أنا بنت ضمرة بن جابر، ساد معدا كابرا عن كابر، وأنا أخت ضمرة بن ضمرة، قال: فمن زوجك؟ قالت: هوذة بن جرول، قال: وأين هو الآن؟ أما تعرفين مكانه؟ قالت: هذه كلمة أحمق، لو كنت أعلم مكانه حال بينك وبيني، قال: وأي رجل هو؟ قالت: هذه أحمق من الأولى، أعن هوذة يسأل؟ هو والله طيب العرق، سمين العرق، لا ينام ليلة يخاف ، ولا يشبع ليلة يضاف، يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، فقال عمرو: أما والله لولا أني أخاف أن تلدي مثل أبيك وأخيك وزوجك لاستبقيتك، فقالت: وأنت والله لا تقتل إلا نساء أعاليها ثدي وأسافلها دمي، والله ما أدركت ثارا، ولا محوت عارا، وما من فعلت هذه به بغافل عنك، ومع اليوم غد.
فأمر بإحراقها فلما نظرت إلى النار قالت: ألا فتى مكان عجوز؟ فذهبت مثلا، ثم مكثت ساعة فلم يفدها أحد فقالت: هيهات! صارت الفتيان حمما، فذهبت مثلا، ثم ألقيت في النار، ولبث عمرو عامة يومه لا يقدر على أحد حتى إذا كان في آخر النهار أقبل راكب يسمى عمارا توضع به راحلته حتى أناخ إليه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا رجل من البراجم؟ قال: فما جاء بك إلينا؟ قال: سطع الدخان، وكنت طويت منذ أيام فظننته طعاما، فقال عمرو: إن الشقي وافد البراجم، فذهبت مثلا، وأمر به فألقي في النار، فقال بعضهم: ما بلغنا أنه أصاب من بني تميم غيره، وإنما أحرق النساء والصبيان، وفي ذلك يقول جرير:
وأخزاكم عمرو كما قد خزيتم
وأدرك عمارا شقي البراجم
ولذلك عيرت بنو تميم بحب الطعام لما لقي هذا الرجل، قال الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم
فسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بلحم أو بتمر
أو الشيء الملفف في البجاد
تراه ينقب الآفاق حولا
ليأكل رأس لقمان بن عاد (70) عند جهينة الخبر اليقين
قال هشام بن الكلبي: كان من حديثه أن حصين بن عمرو بن معاوية بن كلاب خرج ومعه رجل من جهينة يقال له الأخنس بن كعب، وكان الأخنس قد أحدث في قومه حدثا فخرج هاربا، فلقيه الحصين فقال: من أنت ثكلتك أمك؟ فقال له الأخنس: بل من أنت ثكلتك أمك؟ فردد هذا القول حتى قال الأخنس بن كعب: فأخبرني من أنت وإلا أنفذت قلبك بهذا السنان، فقال له الحصين: أنا الحصين بن عمرو الكلابي - ويقال: بل هو الحصين بن سبيع الغطفاني - فقال له الأخنس : فما الذي تريد؟ قال: خرجت لما يخرج له الفتيان، قال الأخنس: وأنا خرجت لمثل ذلك، فقال له الحصين: هل لك أن نتعاقد أن لا نلقى أحدا من عشيرتك أو عشيرتي إلا سلبناه؟ قال: نعم، فتعاقدا على ذلك، وكلاهما فاتك يحذر صاحبه، فلقيا رجلا فسلباه، فقال لهما: هل لكما أن تردا علي بعض ما أخذتما منى وأدلكما على مغنم؟ قالا: نعم، فقال: هذا رجل من لخم قد قدم من عند بعض الملوك بمغنم كثير، وهو خلفي في موضع كذا وكذا، فردا عليه بعض ماله وطلبا اللخمي فوجداه نازلا في ظل شجرة، وقدامه طعام وشراب، فحيياه وحياهما، وعرض عليهما الطعام، فكره كل واحد أن ينزل قبل صاحبه فيفتك به، فنزلا جميعا فأكلا وشربا مع اللخمي. ثم إن الأخنس ذهب لبعض شأنه، فرجع واللخمي يتشحط في دمه، فقال الجهني - وهو الأخنس - وسل سيفه لأن سيف صاحبه كان مسلولا: ويحك! ويحك! فتكت برجل قد تحرمنا بطعامه وشرابه! فقال: اقعد يا أخا جهينة، فلهذا وشبهه خرجنا، فشربا ساعة وتحدثا.
ثم إن الحصين قال: يا أخا جهينة، أتدري ما صعلة وما صعل؟ قال الجهني: هذا يوم شرب وأكل، فسكت الحصين، حتى إذا ظن أن الجهنى قد نسى ما يراد به، قال: يا أخا جهينة، هل أنت للطير زاجر؟ قال: وما ذاك؟ قال: ما تقول هذه العقاب الكاسر؟ قال الجهني: وأين تراها؟ قال: هي ذه، وتطاول ورفع رأسه إلى السماء، فوضع الجهني بادرة السيف في نحره، فقال: أنا الزاجر والناحر، واحتوى على متاعه ومتاع اللخمي، وانصرف راجعا إلى قومه، فمر ببطنين من قيس يقال لهما مراح وأنمار، فإذا هو بامرأة تنشد الحصين بن سبيع، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا صخرة امرأة الحصين، قال: أنا قتلته، فقالت: كذبت، ما مثلك يقتل مثله، أما لو لم يكن الحي خلوا ما تكلمت بهذا، فانصرف إلى قومه فأصلح أمرهم، ثم جاءهم فوقف حيث يسمعهم، وقال:
وكم من ضيغم ورد هموس
أبي شبلين مسكنه العرين
علوت بياض مفرقه بعضب
فأضحى في الفلاة له سكون
وأضحت عرسه ولها عليه
بعيد هدوء ليلتها رنين!
وكم من فارس لا تزدريه
إذا شخصت لموقعه العيون
كصخرة إذ تسائل في مراح
وأنمار وعلمهما ظنون!
تسائل عن حصين كل ركب
وعند جهينة الخبر اليقين
فمن يك سائلا عنه فعندى
لصاحبه البيان المستبين
جهينة معشري وهم ملوك
إذا طلبوا المعالي لم يهونوا
قال الأصمعي وابن الأعرابي: هو جفينة بالفاء، وكان عنده خبر رجل مقتول، وفيه يقول الشاعر:
تسائل عن أبيها كل ركب
وعند جفينة الخبر اليقين
قال: فسألوا جفينة، فأخبرهم خبر القتيل. وقال بعضهم: هو حفينة بالحاء المهملة. يضرب في معرفة الشيء حقيقة. (71) كلاهما وتمرا
ويروى: كليهما. أول من قال ذلك عمرو بن حمران الجعدي، وكان حمران رجلا لسنا ماردا، وأنه خطب «صدوف»، وهي امرأة كانت تأبد الكلام وتسجع في المنطق، وكانت ذات مال كثير، وقد أتاها قوم كثير يخطبونها فردتهم، وكانت تتعنت خطابها في المسألة، وتقول: لا أتزوج إلا من يعلم ما أسأله عنه ويجيبني بكلام على حده لا يعدوه. فلما انتهى إليها حمران قام قائما لا يجلس، وكان لا يأتيها خاطب إلا جلس قبل إذنها، فقالت: ما يمنعك من الجلوس؟ قال: حتى يؤذن لي، قالت: وهل عليك أمير؟ قال: رب المنزل أحق بفنائه، ورب الماء أحق بسقائه، وكل له ما في وعائه، فقالت: اجلس، فجلس، قالت له: ما أردت؟ قال: حاجة، ولم آتك لجاجة، قالت: تسرها أم تعلنها؟ قال: تسر وتعلن، قالت: فما حاجتك؟ قال: قضاؤها هين، وأمرها بين، وأنت بها أخبر، وبنجحها أبصر، قالت: فأخبرني بها، قال: قد عرضت وإن شئت بينت، قالت: من أنت؟ قال: أنا بشر، ولدت صغيرا، ونشأت كبيرا، ورأيت كثيرا، قالت: فما اسمك؟ قال: من شاء أحدث اسما، وقال ظلما، ولم يكن الاسم عليه حتما، قالت: فمن أبوك؟ قال: والدي الذي ولدني، ووالده جدي فلم يعش بعدي، قالت: فما مالك؟ قال: بعضه ورثته، وأكثره اكتسبته، قالت: فممن أنت؟ قال: من بشر كثير عدده، معروف ولده، قليل صعده، يغنيه أبده، قالت: ما ورثك أبوك عن أوليه؟ قال: حسن الهمم، قالت: فأين تنزل؟ قال: على بساط واسع، في بلد شاسع، قريبه بعيد، وبعيده قريب، قالت: فمن قومك؟ قال: الذين أنتمي إليهم، وأجني عليهم، وولدت لديهم، قالت: فهل لك امرأة؟ قال: لو كانت لي لم أطلب غيرها، ولم أضيع خيرها، قالت: كأنك ليست لك حاجة، قال: لو لم تكن لي حاجة لم أنخ ببابك، ولم أتعرض لجوابك، وأتعلق بأسبابك، قالت: إنك لحمران بن الأقرع الجعدي، قال: إن ذلك ليقال. فزوجته نفسها، وفوضت إليه أمرها.
ثم إنها ولدت له غلاما فسماه عمرا، فنشأ ماردا مفوها، فلما أدرك جعله أبوه راعيا يرعى له الإبل، فبينا هو يوما إذ رفع إليه رجل قد أضر به العطش والسغوب، وعمرو قاعد وبين يديه زبد وتمر وتامك، فدنا منه الرجل فقال: أطعمنى من هذا الزبد والتامك، فقال عمرو: نعم، كلاهما وتمرا. فأطعم الرجل حتى انتهى، وسقاه لبنا حتى روي، وأقام عنده أياما، فذهبت كلمته مثلا. ورفع «كلاهما»: أى لك كلاهما، ونصب «تمرا» على معنى: أزيدك تمرا، ومن روى «كليهما» فإنما نصبه على معنى: أطعمك كليهما وتمرا، وقال قوم: من رفع حكى أن الرجل قال: أنلني مما بين يديك، فقال عمرو: أيما أحب إليك زبد أم سنام؟ فقال الرجل: كلاهما وتمرا، أي مطلوبي كلاهما وأزيد معهما تمرا، أو وزدني تمرا. (72) إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
المنبت: المنقطع عن أصحابه في السفر، والظهر: الدابة. قاله عليه الصلاة والسلام لرجل اجتهد في العبادة حتى هجمت عيناه، أي غارتا، فلما رآه قال له: إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، إن المنبت، أي الذي يجد في سيره حتى ينبت أخيرا، سماه بما تئول إليه عاقبته كقوله تعالى:
إنك ميت وإنهم ميتون .
يضرب لمن يبالغ في طلب الشيء ويفرط حتى ربما يفوته على نفسه. (73) إن الدواهي في الآفات تهترس
ويروى: «ترتهس»، وهو قلب تهترس: من الهرس، وهو الدق. يعني أن الآفات يموج بعضها في بعض ويدق بعضها بعضا كثرة. يضرب عند اشتداد الزمان واضطراب الفتن. وأصله أن رجلا مر بآخر وهو يقول: يا رب، إما مهرة أو مهرا، فأنكر عليه ذلك، وقال: لا يكون الجنين إلا مهرة أو مهرا، فلما ظهر الجنين كان مشيأ الخلق مختلفه، فقال الرجل عند ذلك:
قد طرقت بجنين نصفه فرس
إن الدواهي في الآفات تهترس (74) إن البلاء موكل بالمنطق
قال المفضل : يقال: إن أول من قال ذلك أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - فيما ذكره ابن عباس، قال: حدثني علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لما أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر وكان نسابة فسلم فردوا عليه السلام، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، فقال: أمن هامتها أم من لهازمها؟ قالوا: من هامتها العظمى، قال: فأي هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يقال له: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم بسطام ذو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فلستم ذهلا الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه غلام قد بقل وجهه يقال له دغفل، فقال:
إن على سائلنا أن نسأله
والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا، إنك قد سألتنا فلم نكتمك شيئا، فمن الرجل أنت؟ قال: رجل من قريش، قال: بخ بخ! أهل الشرف والرئاسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من تيم بن مرة، قال: أمكنت والله الرامي من ضفا الثغرة، أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر وكان يدعى مجمعا؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال: لا، قال: أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الذي كأن في وجهه قمرا يضيء ليل الظلام الداجي؟ قال: لا، قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا، قال: واجتذب أبو بكر زمام ناقته فرجع إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال دغفل : صادف درء السيل درءا يصدعه، أما والله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش أو ما أنا بدغفل، قال: فتبسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم . قال علي: قلت لأبي بكر: لقد وقعت من الأعرابي على باقعة، قال: أجل، إن لكل طامة طامة، وإن البلاء موكل بالمنطق.
وفي قصة المثل أمثال: قوله: «لا حر بوادي عوف» يتمثل به في هضم من يتعاظم بنواحي من يقدر على قهره، وقوله: «إن على سائلنا أن نسأله» ومحل التمثل به ظاهر، وقوله: «والعبء لا تعرفه أو تحمله» يتمثل به في طلب الاختبار وترك الاكتفاء بما يبدو، فإن الشيء الذي تريد حمله فيكون عبئا ربما يكون كبيرا في النظر خفيفا في الوزن، وربما كان ثقيل الوزن وهو صغير الحجم. (75) أن ترد الماء بماء أكيس
يتمثل به عند الأمر بالاقتصاد في المعيشة والمحافظة على قليله وإن كان واثقا بحصول كثير له في المستقبل، وأصله في المسافر عرف قربه من المنهل فأسرف في استعمال ما حمل من الماء. (76) إنما يعاتب الأديم ذو البشرة
المعاتبة: المعاودة، وبشرة الأديم: ظاهره الذي عليه الشعر، أي إنما يعاد إلى الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته. يضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب. قال الأصمعي: كل ما كان في الأديم محتمل ما سلمت البشرة، فإذا نغلت البشرة بطل الأديم. ومن هنا أخذ العتاب بين الإخوان لذكر الهفوات ثم الاعتذار أو الاعتراف والمسامحة والعود إلى المصافاة، فيكون ذلك بمنزلة دبغ الجلد لإزالة فضلاته. (77) إن العصا قرعت لذي الحلم
قيل: إن أول من قرعت له العصا عمرو بن مالك بن ضبيعة أخو سعد بن مالك الكناني، وذلك أن سعدا أتى النعمان بن المنذر ومعه خيل له قادها وأخرى عراها، فقيل له: لم عريت هذه وقدت هذه؟ قال: لم أقد هذه لأمنعها ولم أعر هذه لأهبها. ثم دخل على النعمان، فسأله عن أرضه، فقال: أما مطرها فغزير، وأما نبتها فكثير، فقال له النعمان: إنك لقوال، وإن شئت أتيتك بما تعيا عن جوابه، قال: نعم، فأمر وصيفا له أن يلطمه، فلطمه لطمة، فقال: ما جواب هذه؟ قال: سفيه مأمور، قال: الطمه أخرى، فلطمه، قال: ما جواب هذه؟ قال: لو أخذ بالأولى لم يعد للأخرى. وإنما أراد النعمان أن يتعدى سعد في المنطق فيقتله. قال: الطمه ثالثة، فلطمه، قال: ما جواب هذه؟ قال: رب يؤدب عبده، قال: الطمه أخرى، فلطمه، قال: ما جواب هذه؟ قال: ملكت فأسجح، فأرسلها مثلا، قال النعمان: أصبت فامكث عندي، وأعجبه ما رأى منه، فمكث عنده ما مكث، ثم بدا للنعمان أن يبعث رائدا، فبعث عمرا أخا سعد فأبطأ عليه فأغضبه ذلك، فأقسم لئن جاء ذاما للكلأ أو حامدا له ليقتلنه، فقدم عمرو، وكان سعد عند الملك، فقال سعد: أتأذن أن أكلمه؟ قال: إذن يقطع لسانك، قال: فأشير إليه؟ قال: إذن تقطع يدك، قال: فأقرع له العصا؟ قال: فاقرعها، فتناول سعد عصا جليسه وقرع بعصاه قرعة واحدة، فعرف أنه يقول له: مكانك، ثم قرع بالعصا ثلاث قرعات، ثم رفعها إلى السماء ومسح عصاه بالأرض، فعرف أنه يقول له: لم أجد جدبا، ثم قرع العصا مرارا ثم رفعها شيئا وأومأ إلى الأرض، فعرف أنه يقول: ولا نباتا، ثم قرع العصا قرعة وأقبل نحو الملك، فعرف أنه يقول: كلمه، فأقبل عمرو حتى قام بين يدي الملك، فقال له: أخبرني هل حمدت خصبا أو ذممت جدبا؟ فقال عمرو: لم أذمم هزلا، ولم أحمد بقلا، الأرض مشكلة، لا خصبها يعرف، ولا جدبها يوصف، رائدها واقف، ومنكرها عارف، وآمنها خائف. قال الملك: أولى لك! فقال سعد بن مالك يذكر قرع العصا:
قرعت العصا حتى تبين صاحبي
ولم تك لولا ذاك في القوم تقرع
فقال: رأيت الأرض ليست بممحل
ولا سارح فيها على الرعي يشبع
سواء فلا جدب فيعرف جدبها
ولا صابها غيث غزير فتمرع
فتحيا بها حوباء نفس كريمة
وقد كاد لولا ذاك فيهم يقطع
هذا قول بعضهم. وقال آخرون في قولهم «إن العصا قرعت لذي الحلم»: إن ذا الحلم هذا هو عامر بن الظرب العدواني، وكان من حكماء العرب ، لا تعدل بفهمه فهما ولا بحكمه حكما، فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئا، فقال لبنيه إنه قد كبرت سني، وعرض لي سهو، فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المجن بالعصا. وقيل: كانت له جارية يقال لها «خصيلة»، فقال لها: إذا أنا خولطت فاقرعي لي بالعصا، وأتي عامر بخنثى ليحكم فيه، فلم يدر ما الحكم، فجعل ينحر لهم ويطعمهم ويدافعهم بالقضاء، فقالت خصيلة: ما شأنك؟ قد أتلفت مالك، فخبرها أنه لا يدري ما حكم الخنثى، فقالت: أتبعه مباله. قال الشعبي: فحدثني ابن عباس بها قال: فلما جاء الله بالإسلام صارت سنة فيه. وعامر هو الذي يقول:
أرى شعرات على حاجبي
بيضا نبتن جميعا تؤاما
ظللت أهاهي بهن الكلا
ب أحسبهن صوارا قياما
وأحسب أنفي إذا ما مشي
ت شخصا أمامي رآني فقاما
يقال: إنه عاش ثلثمئة سنة. وهو الذي يقول:
تقول ابنتي لما رأتني كأنني
سليم أفاع ليله غير مودع
وما الموت أفناني ولكن تتابعت
علي سنون من مصيف ومربع
ثلاث مئين قد مررن كواملا
وها أنا هذا أرتجي مر أربع
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه
إذا رام تطيارا يقال له: قع
أخبر أخبار القرون التي مضت
ولا بد يوما أن يطار بمصرعي
قال ابن الأعرابي: أول من قرعت له العصا عامر بن الظرب العدواني، وربيعة تقول: بل هو قيس بن خالد بن ذي الجدين، وتميم تقول: بل هو ربيعة بن مخاشن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم، واليمن تقول: بل هو عمرو بن حممة الدوسي. قال: وكانت حكام تميم في الجاهلية أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، وربيعة بن مخاشن، وضمرة بن ضمرة، غير أن ضمرة حكم فأخذ رشوة فغدر. وحكام قيس: عامر بن الظرب، وغيلان بن سلمة الثقفي، وكانت له ثلاثة أيام: يوم يحكم فيه بين الناس، ويوم ينشد فيه شعره، ويوم ينظر فيه إلى جماله، وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة، فخيره النبي
صلى الله عليه وسلم ، فاختار أربعا ، فصارت سنة. وحكام قريش: عبد المطلب، وأبو طالب، والعاصي بن وائل. وحكيمات العرب: صخرة بنت لقمان، وهند بنت الخس، وجمعة بنت حابس، وابنة عامر بن الظرب الذي يقال له ذو الحلم، قال المتلمس يريده:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الإنسان إلا ليعلما
والمثل يضرب لمن إذا نبه انتبه. (78) إياك أعني واسمعي يا جارة
أول من قال ذلك سهل بن مالك الفزاري، وذلك أنه خرج يريد النعمان، فمر ببعض أحياء طيئ، فسأل عن سيد الحي فقيل له: حارثة بن لأم، فأم رحله فلم يصبه شاهدا، فقالت له أخته: انزل في الرحب والسعة، فنزل فأكرمته ولاطفته، ثم خرجت من خبائها فرأى أجمل أهل دهرها وأكملهم، وكانت عقيلة قومها وسيدة نسائها، فوقع في نفسه منها شيء، فجعل لا يدري كيف يرسل إليها ولا ما يوافقها من ذلك، فجلس بفناء الخباء يوما وهي تسمع كلامه، فجعل ينشد ويقول:
يا أخت خير البدو والحضارة
كيف ترين في فتى فزارة؟
أصبح يهوى حرة معطارة
إياك أعني واسمعي يا جارة
فلما سمعت قوله عرفت أنه إياها يعني، فقالت: ماذا بقول ذي عقل أريب، ولا رأي مصيب، ولا أنف نجيب، فأقم ما أقمت مكرما ثم ارتحل متى شئت مسلما. ويقال: أجابته نظما فقالت:
إني أقول يا فتى فزارة
لا أبتغي الزوج ولا الدعارة
ولا فراق أهل هذي الجارة
فارحل إلى أهلك باستخارة
فاستحيا الفتى، وقال: ما أردت منكرا، واسوأتاه! قالت: صدقت، فكأنها استحيت من تسرعها إلى تهمته، فارتحل، فأتى النعمان فحياه وأكرمه، فلما رجع نزل على أخيها، فبينا هو مقيم عندهم تطلعت إليه نفسها، وكان جميلا، فأرسلت إليه أن اخطبني إن كان لك إلي حاجة يوما من الدهر فإني سريعة إلى ما تريد، فخطبها وتزوجها وسار بها إلى قومه. يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئا غيره. (79) إن كنت كذوبا فكن ذكورا
يضرب للرجل يكذب ثم ينسى فيحدث بخلاف ذلك. (80) إذا اشتريت فاذكر السوق
يعني إذا اشتريت فاذكر البيع لتجتنب العيوب. (81) بلغ السيل الزبى
هي جمع زبية، وهي حفرة تحفر للأسد إذا أرادوا صيده، وأصلها الرابية لا يعلوها الماء، فإذا بلغها السيل كان جارفا مجحفا. يضرب لمن جاوز الحد.
قال المؤرج: حدثني سعيد بن سماك بن حرب عن أبيه عن ابن المعتمر قال: أتي معاذ بن جبل بثلاثة نفر قتلهم أسد في زبية، فلم يدر كيف يفتيهم، فسأل عليا - رضي الله عنه - وهو محتب بفناء الكعبة، فقال: قصوا علي خبركم، قالوا: صدنا أسدا في زبية، فاجتمعنا عليه، فتدافع الناس عليه، فرموا برجل فيها، فتعلق الرجل بآخر، وتعلق الآخر بآخر، فهووا فيها ثلاثتهم، فقضى فيها علي - رضي الله عنه - أن للأول ربع الدية، وللثاني النصف، وللثالث الدية كلها، فأخبر النبي
صلى الله عليه وسلم
بقضائه، فقال: لقد أرشدك الله للحق. (82) تطلب أثرا بعد عين
العين: المعاينة. يضرب لمن ترك شيئا يراه ثم تبع أثره بعد فوت عينه.
قال الباهلي: أول من قال ذلك مالك بن عمرو العاملي. وفي كتاب أبي عبيد مالك بن عمرو الباهلي، قال:
وذلك أن بعض ملوك غسان كان يطلب في عاملة ذحلا، فأخذ منهم رجلين يقال لهما مالك وسماك ابنا عمرو، فاحتبسهما عنده زمانا، ثم دعاهما فقال لهما: إني قاتل أحدكما، فأيكما أقتل؟ فجعل كل واحد منهما يقول: اقتلني مكان أخي، فلما رأى ذلك قتل سماكا وخلى سبيل مالك، فقال سماك حين ظن أنه مقتول:
ألا من شجت ليلة عامدة
كما أبدا ليلة واحدة
فأبلغ قضاعة إن جئتهم
وخص سراة بني ساعدة
وأبلغ نزارا على نأيها
بأن الرماح هي العائدة
وأقسم لو قتلوا مالكا
لكنت لهم حية راصدة
برأس سبيل على مرقب
ويوما على طرق واردة
فأم سماك فلا تجزعي
فللموت ما تلد الوالدة
وانصرف مالك إلى قومه، فلبث فيهم زمانا، ثم إن ركبا مروا وأحدهم يتغنى بهذا البيت:
وأقسم لو قتلوا مالكا
لكنت لهم حية راصدة
فسمعت بذلك أم سماك فقالت: يا مالك، قبح الله الحياة بعد سماك! اخرج في الطلب بأخيك، فخرج في الطلب، فلقي قاتل أخيه يسير في ناس من قومه، فقال: من أحس لي الجمل الأحمر، فقالوا له، وعرفوه: يا مالك، لك مئة من الإبل فكف، فقال: لا أطلب أثرا بعد عين، فذهبت مثلا، ثم حمل على قاتل أخيه فقتله، وقال في ذلك:
يا راكبا بلغا ولا تدعا
بني قمير وإن همو جزعوا
فليجدوا مثل ما وجدت فقد
كنت حزينا قد مسني وجع
لا أسمع اللهو في الحديث ولا
ينفعني في الفراش مضطجع
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا
وجد عجول أضلها ربع
ولا كبير أضل ناقته
يوم توافى الحجيج واجتمعوا
ينظر في أوجه الركاب فلا
يعرف شيئا والوجه ملتمع
جللته صارم الحديدة كال
ملح وفيه سفاسق
2
لمع
بين ضمير وباب جلق في
أثوابه من دمائه بقع
أضربه باديا نواجذه
يدعو صداه والرأس منصدع
بني قمير قتلت سيدكم
فاليوم لا رنة ولا جزع
فاليوم قمنا على السواء فإن
تجووا فدهري ودهركم جرع (83) جاورينا واخبرينا
قال يونس: كان رجلان يتعشقان امرأة، وكان أحدهما جميلا وسيما، وكان الآخر دميما تقتحمه العين، فكان الجميل منهما يقول: عاشرينا وانظري إلينا، وكان الدميم يقول: جاورينا واخبرينا، فكانت تدني الجميل، فقالت: لأختبرنهما، فقالت لكل واحد منهما أن ينحر جزورا، فأتتهما متنكرة، فبدأت بالجميل فوجدته عند القدر يلحس الدسم ويأكل الشحم، ويقول: احتفظوا كل بيضاء ليه، يعني الشحم، فاستطعمته فأمر لها بثيل الجزور، فوضع في قصعتها، ثم أتت الدميم فإذا هو يقسم لحم الجزور ويعطي كل من سأله، فسألته فأمر لها بأطايب الجزور فوضع في قصعتها، فرفعت الذي أعطاها كل واحد منهما على حدة، فلما أصبحا غدوا إليها فوضعت بين يدي كل واحد منهما ما أعطاها، وأقصت الجميل، وقربت الدميم ، ويقال إنها تزوجته. يضرب في القبيح المنظر الجميل المخبر. (84) الجرع أروى والرشيف أنقع
الرشف والرشيف: المص للماء، والجرع: بلعه، والنقع: تسكين الماء للعطش، أي أن الشراب الذي يترشف قليلا قليلا أقطع للعطش وأنجع وإن كان فيه بطء، وقوله: أروى، أي أسرع ريا، وقوله: أنقع، أي أثبت وأدوم ريا، من قولهم: سم ناقع، أي ثابت . يضرب لمن يقع في غنيمة فيؤمر بالمبادرة والاقتطاع لما قدر عليه قبل أن يأتيه من ينازعه. وقيل: معناه أن الاقتصاد في المعيشة أبلغ وأدوم من الإسراف فيها. (85) الجار ثم الدار
هذا كقولهم: الرفيق قبل الطريق، وكلاهما يروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال أبو عبيد: كان بعض فقهاء أهل الشام يحدث بهذا الحديث، ويقول: معناه إذا أردت شراء دار فسل عن جوارها قبل شرائها. (86) حسبك من شر سماعه
أي اكتف من الشر بسماعه ولا تعاينه، ويجوز أن يريد: يكفيك سماع الشر، وإن لم تقدم عليه ولم تنسب إليه. قال أبو عبيد: أخبرني هشام بن الكلبي أن المثل لأم الربيع بن زياد العبسي، وذلك أن ابنها الربيع كان أخذ من قيس بن زهير بن جذيمة درعا، فعرض قيس لأم الربيع وهي على راحلتها في مسير لها، فأراد أن يذهب بها ليرتهنها بالدرع، فقالت له: أين عزب عنك عقلك يا قيس؟! أترى بني زياد مصالحيك وقد ذهبت بأمهم يمينا وشمالا، وقال الناس ما قالوا أو شاءوا، وإن حسبك من شر سماعه؟ فذهبت كلمتها مثلا، تقول: كفى بالمقالة عارا وإن كان باطلا. يضرب عند العار والمقالة السيئة وما يخاف منها. وقال بعض النساء الشواعر:
سائل بنا في قومنا
وليكف من شر سماعه
وكان المفضل فيما حكي عنه يذكر هذا الحديث ويسمي أم الربيع ويقول: هي فاطمة بنت الخرشب، من بني أنمار بن بغيض. (87) حلمي أصم وأذني غير صماء
أي أعرض عن الخنا بحلمي وإن سمعته بأذني. (88) حسبك من غنى شبع وري
أي اقنع من الغنى بما يشبعك ويرويك، وجد بما فضل. وهذا المثل لامرئ القيس يذكر معزى كانت له فيقول:
إذا ما لم تكن إبل فمعزى
كأن قرون جلتها العصي
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا
وحسبك من غنى شبع وري
قال أبو عبيد: وهذا يحتمل معنيين، أحدهما يقول: أعط كل ما كان لك وراء الشبع والري، والآخر: القناعة باليسير، يقول: اكتف به ولا تطلب ما سوى ذلك. والأول الوجه، لقوله في شعر له آخر، وهو:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
فقد أخبر ببعد همته وقدره في نفسه. (89) الحديث ذو شجون
أي ذو طرق، الواحد شجن بسكون الجيم، والشواجن: أودية كثيرة الشجر، الواحدة شاجنة، وأصل هذه الكلمة الاتصال والالتفاف، ومنه الشجنة، والشجنة: الشجرة الملتفة الأغصان. يضرب هذا المثل في الحديث يتذكر به غيره. وقد نظم الشيخ أبو بكر علي بن الحسين القهستاني هذا المثل ومثلا آخر في بيت واحد وأحسن ما شاء، وهو:
تذكر نجدا والحديث شجون
فجن اشتياقا والجنون فنون
وأول من قال هذا المثل ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وكان له ابنان، يقال لأحدهما سعد وللآخر سعيد، فنفرت إبل لضبة تحت الليل، فوجه ابنيه في طلبها فتفرقا، فوجدها سعد فردها، ومضى سعيد في طلبها فلقيه الحارث بن كعب، وكان على الغلام بردان فسأله الحارث إياهما فأبى عليه فقتله وأخذ برديه، فكان ضبة إذا أمسى فرأى تحت الليل سوادا قال: أسعد أم سعيد؟ فذهب قوله مثلا يضرب في النجاح والخيبة. فمكث ضبة بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه حج فوافى عكاظ فلقي بها الحارث بن كعب ورأى عليه بردى ابنه سعيد فعرفهما، فقال له: هل أنت مخبري ما هذان البردان اللذان عليك؟ قال: بلى، لقيت غلاما وهما عليه، فسألته إياهما فأبى علي فقتلته وأخذت برديه هذين، فقال ضبة: بسيفك هذا؟ قال: نعم، فقال: فأعطنيه أنظر إليه فإني أظنه صارما، فأعطاه الحارث سيفه، فلما أخذه من يده هزه وقال: الحديث ذو شجون، ثم ضربه به حتى قتله، فقيل له: يا ضبة أفي الشهر الحرام؟! فقال: سبق السيف العذل. فهو أول من سارت عنه هذه الأمثال الثلاثة. قال الفرزدق:
لا تأمنن الحرب إن استعارها
كضبة إذ قال الحديث شجون (90) خطبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يوم السقيفة
حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، نحن المهاجرون، أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسهم رحما برسول الله
صلى الله عليه وسلم . أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو، آويتم، وواسيتم، فجزاكم الله خيرا! فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء. لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله. (91) خطبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عند وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وإن الله قد تقدم إليكم في أمره فلا تدعوه جزعا، وإن الله قد اختار لنبيه ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلف فيكم كتابه وسنة نبيه، فمن أخذ بهما عرف، ومن فرق بينهما أنكر.
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط
ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم، ولا يفتننكم عن دينكم، فعاجلوه بالذي تعجزونه، ولا تستنظروه فيلحق بكم. (92) عهد أبي بكر - رضي الله عنه - عند موته
مما روي عنه - رضي الله عنه - حيث عهد عند موته، وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر: إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذلك علمي به، ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب،
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ومما يؤثر من هذه الآداب ويقدم قول عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في أول خطبة خطبها:
قال العتبي: لم أر أقل منها في اللفظ، ولا أكثر في المعنى، حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه. ثم نزل.
قال أبو الحسن: قد روينا هذه الخطبة التي عزاها إلى عمر بن الخطاب عن أبي بكر - رضي الله عنهما - وهو الصحيح.
قال أبو العباس: ومن ذلك رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري، وهي التي جمع فيها جمل الأحكام واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إماما، ولا يجد محق عنها معدلا، ولا ظالم عن حدودها محيصا. (93) رسالة عمر - رضي الله عنه - في القضاء لأبي موسى الأشعري
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له: آس بين الناس في وجهك، وعدلك، ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا. لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشياء والأمثال، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق. واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه ، وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والأيمان. وإياك والغلق والضجر، والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ، ويحسن به الذخر. فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله - عز وجل - في عاجل رزقه وخزائن رحمته. والسلام. (94) خطبة لسيدنا علي
تحدث ابن عائشة في إسناد ذكره أن عليا - رضي الله عنه - انتهى إليه أن خيلا لمعاوية وردت الأنبار، فقتلوا عاملا له يقال له حسان بن حسان، فخرج مغضبا يجر ثوبه حتى أتى النخيلة، واتبعه الناس، فرقي رباوة من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه
صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيماء الخسف، وديث بالصغار. وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فوالذي نفسي بيده، ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخو غامد، قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسان بن حسان، ورجالا منهم كثيرا ونساء، والذي نفسي بيده، لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فتنتزع أحجالهما ورعاثهما ثم انصرفوا موفورين، لم يكلم أحد منهم منهم كلما. فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما، بل كان به عندي جديرا.
يا عجبا كل العجب! عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان؛ من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضا ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله - عز وجل - فيكم وترضون. إذا قلت لكم: اغزوهم في الشتاء، قلتم: هذا أوان قر وصر، وإن قلت لكم: اغزوهم في الصيف، قلتم: هذا حمارة القيظ، أنظرنا ينصرم الحر عنا! فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فأنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال، والله لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظا، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا رأي له في الحرب. لله درهم! ومن ذا يكون أعلم بها مني، أو أشد لها مراسا؟ فوالله، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع. يقولها ثلاثا. فقام إليه رجل ومعه أخوه (الرجل وأخوه يعرفان بابني عفيف من الأنصار)، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا وأخي هذا كما قال الله تعالى:
رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ، فمرنا بأمرك، فوالله، لننتهين إليه ولو حال بيننا وبينه جمر الغضى، وشوك القتاد. فدعا لهما بخير، ثم قال لهما: وأين تقعان مما أريد؟! ثم نزل. (95) تواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
بلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن قوما يفضلونه على أبي بكر الصديق، رضي الله عنه؛ فوثب مغضبا حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه
صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: أيها الناس، إني سأخبركم عني وعن أبي بكر؛ إنه لما توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ارتدت العرب، ومنعت شاتها وبعيرها، وأجمع رأينا كلنا - أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم - أن قلنا له: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب. فقال أبو بكر الصديق: أوكلكم رأيه على هذا؟ فقلنا: نعم. فقال: والله، لأن أخر من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن يكون هذا رأيي. ثم صعد المنبر، فحمد الله وكبره، وصلى على نبيه
صلى الله عليه وسلم ، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. أيها الناس، أئن كثر أعداؤكم وقل عددكم، ركب الشيطان منكم هذا المركب؟ والله، ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق، ووعده الصدق؛
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، و
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . والله أيها الناس، لو أفردت من جميعكم لجاهدتهم في الله حق جهاده حتى أبلي بنفسي عذرا، أو أقتل قتلا. والله أيها الناس، لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم بالله، وهو خير معين. ثم نزل فجاهد في الله حق جهاده حتى أذعنت العرب بالحق. (96) وكتب أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ينصحانه رضي الله تعالى عنهم
بسم الله الرحمن الرحيم
من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، (أما بعد) فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، فأصبحت - وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها - يجلس بين يديك الصديق والعدو، والشريف والوضيع، ولكل حصة من العدل، فانظر كيف أنت يا عمر عند ذلك؟ وإنا نحذرك يوما تعنو فيه الوجوه، وتجب له القلوب، وتنقطع فيه الحجج بحجة ملك قهرهم بجبروته، والخلق داخرون له يرجون رحمته ويخافون عقابه. وإنا كنا نتحدث أن أمر هذه الأمة يرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة. وإنا نعوذ بالله أن تنزل كتابنا سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، فإنا إنما كتبنا إليك نصيحة لك. والسلام.
فكتب إليهما:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل، سلام عليكما، أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، (أما بعد) فقد جاءني كتابكما تزعمان أنه بلغكما أني وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها يجلس بين يدي الصديق والعدو، والشريف والوضيع، وكتبتما أن انظر كيف أنت يا عمر عند ذلك، وأنه لا حول ولا قوة لعمر عند ذلك إلا بالله، كتبتما تحذراني ما حذرت به الأمم قبلنا، وقديما كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد ، ويأتيان بكل موعود، حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة أو النار، ثم توفى كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب، كتبتما تزعمان أن أمر هذه الأمة يرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بذاك، وليس هذا ذلك الزمان، ولكن زمان ذلك حين تظهر الرغبة والرهبة، وكتبتما تعوذان بالله أن أنزل كتابكما مني سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما. وإنما كتبتما نصيحة لي، وقد صدقتما، فتعهداني منكما بكتاب، ولا غنى بي عنكما. والسلام عليكما. (97) خطبة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه
إن لكل شيء آفة، وإن لكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون ظنانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، طغام مثل النعام، يتبعون أول ناعق، أحب مواردهم إليهم النازح. لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم علي، ولكن وقمكم وقمعكم وزجركم زجر النعام المخزمة، والله إني لأقرب ناصرا وأعز نفرا، وأقمن إن قلت هلم أن تجاب دعوتي من عمر. هل تفقدون من حقوقكم شيئا؟ فما لي لا أفعل في الحق ما أشاء؟ إذن فلم كنت إماما؟! (98) ومن كلام سيدنا علي بن أبي طالب - عليه السلام - في التحريض على الحرب كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين
معاشر المسلمين، استشعروا الخشية، وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجذ؛ فإنه أنبى للسيوف عن الهام، وأكملوا اللأمة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها، والحظوا الخزر، واطعنوا الشزر، ونافحوا بالظبا، وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا أنكم بعين الله، ومع ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فعاودوا الكر، واستحيوا من الفر، فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب، وطيبوا عن أنفسكم نفسا، وامشوا إلى الموت مشيا سجحا، وعليكم بهذا السواد الأعظم، والرواق المطنب، فاضربوا ثبجه؛ فإن الشيطان كامن في كسره، قد قدم للوثبة يدا، وأخر للنكوص رجلا، فصمدا صمدا، حتى ينجلي لكم عمود الحق،
وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم . (99) ومن كلام له عليه السلام
وقد قام إليه رجل من أصحابه، فقال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أي الأمرين أرشد؟ فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى، ثم قال: هذا جزاء من ترك العقدة، أما والله لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيرا، فإن استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي، كناقش الشوكة بالشوكة، وهو يعلم أن ضلعها معها. اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوي، وكلت النزعة بأشطان الركي. أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه؟ وقرءوا القرآن فأحكموه؟ وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا وصفا صفا؟ بعض هلك وبعض نجا، لا يبشرون بالأحياء، ولا يعزون بالموتى، مره العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك إخوانى الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم، ونعض الأيدى على فراقهم. إن الشيطان يسني لكم طرقه، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة، ويعطيكم بالجماعة الفرقة، فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته، واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم، واعقلوها على أنفسكم. (100) ومن كلام له - عليه السلام - لعمر بن الخطاب وقد استشاره في غزوة الفرس بنفسه
إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ وطلع حيثما طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا، والعرب اليوم - وإن كانوا قليلا - فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.
إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله - سبحانه - هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم، فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة. (101) ومن خطبة له - عليه السلام - خطبها بصفين
أما بعد، فقد جعل الله لي عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله - سبحانه - دون خلقه؛ لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه وتوسعا بما هو من المزيد أهله، ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض، وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم، وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن؛ فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها وأجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن؛ فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس؛ فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه؛ فليس أحد وإن اشتد على رضاء الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما الله أهله من الطاعة، ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يعان على ما حمله الله من حقه، ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه.
فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته، فقال عليه السلام: إن من حق من عظم جلال الله في نفسه وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه، وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ولطف إحسانه إليه، فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حق الله عليه عظما، وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك، ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطا لله - سبحانه - عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء، وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى. (102) ومن وصية له - عليه السلام - وصى بها جيشا بعثه إلى العدو
فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم، فليكن معسكركم في قبيل الأشراف وسفاح الجبال أو أثناء الأنهار؛ كيما يكون لكم ردءا، ودونكم مردا، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب؛ لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن. واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم. وإياكم والتفرق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعا، وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعا، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة ولا تذوقوا النوم إلا غرارا أو مضمضة.
ومن وصية له عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وإنما ذكرنا هنا جملا منها ليعلم بها أنه كان يقيم عماد الحق، ويشرع أمثلة العدل في صغير الأمور وكبيرها، ودقيقها وجليلها:
انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعن مسلما، ولا تجتازن عليه كارها، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ولا تخدج بالتحية لهم، ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه وتوعده أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه؛ فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها، ولا تسوءن صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال بذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه، فإن استقالك فأقله، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله. ولا تأخذن عودا ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة ولا ذات عوار، ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه رافقا بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولا توكل بها إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا غير معنف ولا مجحف ولا ملغب ولا متعب.
ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر الله، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصليها، ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوبا، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب، وليستأن بالنقب والظالع، وليوردها ما تمر به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق، وليروحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف والأعشاب، حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات غير متعبات ولا مجهودات لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وآله - فإن ذلك أعظم لأجرك، وأقرب لرشدك إن شاء الله.
وقال عليه السلام وقد سمع رجلا يذم الدنيا: أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، المخدوع بأباطيلها ثم تذمها، أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟! أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك! وكم مرضت بيديك! تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثلت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية، وابتكرت بفجيعة ترغيبا وترهيبا وتخويفا وتحذيرا، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا. (103) عهد أمير المؤمنين الإمام علي - كرم الله وجهه ورضي عنه - للأشتر النخعي
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها، وإصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله - سبحانه - بيده وقلبه ولسانه، فإنه - جل اسمه - قد تكفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه. وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات، ويزعها عند الجمحات؛ فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله. ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسنة عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك؛ فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم.
ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة، ولا تقولن: إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير. وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك.
وإياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل محتال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إن لا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المظلومين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأخف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم. وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يصح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.
إن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيرا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لا يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفا، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم لك بمر الحق، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع. والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فان كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة.
ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه، واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجمع لك حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده. ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء مما مضى من تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها.
وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلا قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه وآله - عهدا منه عندنا محفوظا. فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله - تعالى - لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب؛ لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم بالترفق بأيديهم مما لا يبلغ رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزومه الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل، فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأطهرهم جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، ممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف.
ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفا تتعاهدهم به وإن قل، فإنه داعية إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهلهم ، حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.
وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن فعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله تعالى. ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما. واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله - سبحانه - لقوم أحب إرشادهم:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر عن الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشيف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيح علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، لتأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا، فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا.
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك. ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فإن شكوا ثفلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلدك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عول فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران يحتمل ما حملته، وإنما يأتي خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر. ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك، فيما يأخذ لك ويعطى منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم في العامة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره. واجعل لرأس كل من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتت عليه صغيرها، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيرا، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته. وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله - منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه، فنكل به وعاقب في غير إسراف. ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا، واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحتقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله - سبحانه - يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع.» ثم احتمل الخرق منهم والعي، وسنح عنك الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في إجمال وإعذار.
ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة عمالك بما يعيأ عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك. وأمض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه. واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله - تعالى - أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية . وليكن في خاصة ما تخلص لله به دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله - سبحانه - من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله - حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: «صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما.»
وأما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك! مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤنة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة. وإن ظنت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقا برعيتك وإعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.
ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمنا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن. وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين؛ لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه. ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة. ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك فيه من الله طلبة، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.
إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله - سبحانه - يتولى الحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم.
وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله سبحانه:
كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل عمل موقعه. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم. املك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.
والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا - صلى الله عليه وآله - أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا يكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إلى الله راغبون، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.
ومن ظريف أخبار ابن أبي عتيق أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة واليا عليها اجتمع الأشراف عليه من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملا أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاء، ففعل وأجلهم ثلاثا، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، وقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي، فقالت: أوما تدري ما حدث؟ وأخبرته الخبر، فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه، فقالت: إنا نخاف أن لا تغني شيئا وننكظ (أي نعجل)، فقال: إنه لا بأس عليك، ثم مضى إلى عثمان فأستأذن عليه فأخبره أن أحذ ما أقدمه عليه حب التسليم عليه، وقال له: إن أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء، فقال: إن أهلك أشاروا علي بذلك، قال: فإنك قد وفقت، ولكني رسول امرأة إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير أن لا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال عثمان: إذن أدعها لك، قال: إذن لا يدعها الناس، ولكن تدعو بها فتنظر إليها، فإن كانت ممن يترك تركتها، قال: فادع بها، قال: فأمرها ابن أبي عتيق فتقشفت وأخذت سبحة في يدها، وصارت إليه، وحدثته عن مآثر آبائه، ففكه لها، فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلت، فأعجب بذلك، فقال لها: فاحدي للأمير، فحركه حداؤها، ثم قال لها: غيري للأمير، فجعل يعجب بذلك عثمان، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها؟ فقال له: قل لها فلتقل، فأمرها فتغنت:
سددن خصاص الخيم لما دخلنه
بكل لبان واضح وجبين
فنزل عثمان بن حيان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: لا والله، ما مثلك يخرج عن المدينة، فقال له ابن أبي عتيق: إذن يقول الناس: أذن لسلامة في المقام ومنع غيرها، فقال له عثمان: قد أذنت لهم جميعا. (104) بعض أخبار الحجاج لما ولي العراق
قال التوزي: بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه، إذ أتى آت فقال: هذا الحجاج قد قدم أميرا على العراق! فإذا به قد دخل المسجد معتما بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه، متقلدا سيفا، متنكبا قوسا، يؤم المنبر . فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية! حيث تستعمل مثل هذا على العراق، حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أحصبه لكم؟ فقالوا: أمهل حتى ننظر. فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه، ونهض فقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال: يا أهل الكوفة، إني لأرى رءوسا قد أينعت، وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
ثم قال:
قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الدوى
مهاجر ليس بأعرابي
وقال:
قد شمرت عن ساقها فشدوا
وجدت الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وتر عرد
مثل ذراع البكر أو أشد
لا بد مما ليس منه بد
إني والله يا أهل العراق، ما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة. وإن أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا، فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال. والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية
كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، وإني والله ما أقول إلا وفيت، ولا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت. وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة. وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه. يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم. فلم يقل أحد منهم شيئا، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئا، هذا أدب ابن نهية؟ أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن! اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله سلام عليكم، لم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام.» (زعم أبو العباس أن «ابن نهية» رجل كان على الشرطة بالبصرة قبل الحجاج.)
ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبرا فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابن هو أقوى على الأسفار مني، فتقبله بدلا مني. فقال له الحجاج: نفعل أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي الذي يقول أبوه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولا فوطئ بطنه، فكسر ضلعين من أضلاعه. فقال: ردوه، فلما رد قال له الحجاج: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلا يوم الدار، إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحا للمسلمين، يا حرسي، اضربا عنقه. فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل، ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:
تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ
عميرا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما
ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فأضحى ولو كانت خراسان دونه
رآها مكان السوق أو هي أقربا (105) خطبة طارق قبل فتوح الأندلس
لما بلغ طارقا دنو لذريق قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم، ثم قال: أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهب ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها عنكم الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس ، أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفر من حظي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله - تعالى - ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين. واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله - تعالى - فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله. (106) صفة الإمام العادل
كتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - لما ولي الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه الحسن، رحمه الله:
اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع المهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارا، ويعلمهم كبارا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها؛ حملته كرها ووضعته كرها، وربته طفلا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده.
والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وفرق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه؛ يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريدا وحيدا، فتزود له ما يصحبك
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه . واذكر يا أمير المؤمنين
إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور
فالأسرار ظاهرة، والكتاب
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . فالآن يا أمير المؤمنين، وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم
لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة
فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك. ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك.
لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين،
وقد عنت الوجوه للحي القيوم . إني يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي، فلم آلك شفقة ونصحا، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. (107) وللفرزدق في وصف الإمام زين العابدين رضي الله تعالى عنه
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت
عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
في كفه خيزران ريحه عبق
من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته
فما يكلم إلا حين يبتسم
ينشق نور الهدى من نور غرته
كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم
مشتقة من كرام القوم نبعته
طابت عناصره والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
بجده أنبياء الله قد ختموا
الله شرفه قدرا وعظمه
جرى بذاك له في لوحه القلم
وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما
يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره
يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا افترضوا
حلو الشمائل يحلو عنده نعم
ما قال لا قط إلا في تشهده
لولا التشهد كانت لاؤه نعم
عم البرية بالإحسان فانقشعت
عنها الغياهب والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم
كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جوابا بعد غايتهم
ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت
والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم
سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
في كل بدء ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم
خلق كريم وأيد بالندى هضم
أي الخلائق ليست في رقابهم
لأولية هذا أوله نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا
فالدين من بيت هذا ناله الأمم (108) وخطب واصل بن عطاء وكان ألثغ بالراء فكان لذلك يتجنبها في كلامه
الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعا، وعدله اصطناعا، فأحسن كل شيء خلقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته، وذل كل شيء لسلطانه، ووسع كل شيء فضله، لا يعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، إلها تقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، علا عن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبيه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يعصى فيحلم، ويدعى فيسمع، ويقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما يفعلون. وأشهد شهادة حق وقول صدق، بإخلاص نية وصحة طوية، أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخالصته وصفيه، ابتعثه إلى خلقه بالبينة والهدى ودين الحق، فبلغ مألكته، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضيا على سنته، موفيا على قصده، حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد. أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله، والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، وأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد. ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاع قليل، ومدة إلى حين، وكل شيء منها يزول، فكم عاينتم من أعاجيبها! وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها! أذاقتهم حلوا، ومزجت لهم سما. أين الملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد؟ قبضتهم بمحملها، وطحنتهم بكلكلها، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقا، ومن العزة ذلا، ومن الحياة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لهم نبسا. فتزودوا عافاكم الله! فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه،
أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب . إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين، كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلي عليكم فأنصتوا له، واسمعوا لعلكم تفلحون، أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم،
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد . ثم قال: نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم، وأدخلنا وإياكم جنات النعيم! (109) كتاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى بعض إخوانه يعاتبه
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، وذلك أنك ابتدأتني بلطف عن غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء عن غير جريرة، فأطمعني أولك في إخائك، وأيأسني آخرك عن وفائك، فلا أنا في اليوم مجمع لك اطراحا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة، فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشك فيك، فاجتمعنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف. والسلام. (110) وكتب وهو في السجن إلى أبي مسلم صاحب الدعوة يستعطفه
بسم الله الرحمن الرحيم
من الأسير في يديه بلا ذنب إليه ولا خلاف عليه، (أما بعد) فآتاك الله حفظ الوصية، ومنحك نصيحة الرعية، وألهمك عدل القضية، فإنك مستودع الودائع، ومولي الصنائع، فاحفظ ودائعك بحسن صنائعك، فالودائع عارية والصنائع مرعية، وما النعم عليك وعلينا فيك بمنزور نداها، ولا بمبلوغ مداها، فنبه للتفكير قلبك، واتق الله ربك، وأعط من نفسك من هو تحتك ما تحب أن يعطيك من هو فوقك من العدل والرأفة والأمن من المخافة، فقد أنعم الله عليك بأن فوض أمرنا إليك، فاعرف لنا لين شكر المودة، واغتفار مس الشدة، والرضا بما رضيت، والقناعة بما هويت، فإن علينا من سمك الحديد وثقله أذى شديدا، مع معالجة الأغلال، وقلة رحمة العمال، الذين تسهيلهم الغلظة، وتيسيرهم الفظاظة، وإيرادهم علينا الغموم، وتوجيههم إلينا الهموم، زيارتهم الحراسة، وبشارتهم الإياسة. فإليك بعد الله نرفع كربة الشكوى، ونشكو شدة البلوى، فمتى تمل إلينا طرفا، وتولنا منك عطفا، تجد عندنا نصحا صريحا، وودا صحيحا، لا يضيع مثلك مثله، ولا ينفي مثلك أهله، فارع حرمة من أدركت بحرمته، واعرف حجة من فلجت بحجته، فإن الناس من حوضك رواء، ونحن منه ظماء، يمشون في الأبراد، ونحن نحجل في الأقياد، بعد الخير والسعة، والخفض والدعة، والله المستعان، وعليه التكلان. صريح الأخبار، منجى الأبرار، الناس من دولتنا في رخاء، ونحن منها في بلاء، حين أمن الخائفون، ورجع الهاربون. رزقنا الله منك التحنن، وظاهر علينا من التمنن، فإنك أمين مستودع، ورائد مصطنع. والسلام ورحمة الله. (111) رسالة عبد الحميد الكاتب التي أوصى فيها الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ومن بعد الملوك المكرمين أصنافا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروات، والعلم والرزانة، بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم، وتعمر بلدانهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم!
وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج في نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره ، أن يكون حليما في موضع الحلم، فهيما في موضع الحكم، مقداما في موضع الإقدام، محجاما في موضع الإحجام، مؤثرا للعفاف، والعدل والإنصاف، كتوما للأسرار، وفيا عند الشدائد، عالما بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق في أماكنها، قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به، يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته وعتاده، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفهموا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله - عز وجل - والفرائض، ثم العربية فإنها نفاق ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج، وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مذلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدناءة، واربئوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات، وإياكم والكبر والسخف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة، وتحابوا في الله - عز وجل - في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم.
وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه، حتى يرجع إليه حاله، ويثوب إليه أمره، وإن أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظموه وشاوروه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه، فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه، وليحذر السقطة والزلة، والملل عند تغير الحال، فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى الفراء، وهو لكم أفسد منه لها، فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه، وشكره، واحتماله، ونصيحته، وكتمان سره، وتدبير أمره، ما هو جزاء لحقه، ويصدق ذلك فعله عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه. فاستشعروا ذلك - وفقكم الله - من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء، فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة! وإذا ولي الرجل منكم، أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر، فليراقب الله - عز وجل - وليؤثر طاعته، وليكن على الضعيف رفيقا، وللمظلوم منصفا، فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله. ثم ليكن بالعدل حاكما، وللأشراف مكرما، وللفيء موفرا، وللبلاد عامرا، وللرعية متألفا، وعن أذاهم متخلفا، وليكن في مجلسه متواضعا حليما، وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه دقيقا. وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال على صرفه عما يهواه من القبيح بألطف حيلة، وأجمل وسيلة. وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها، فإن كانت رموحا لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبا اتقاها من بين يديها، وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها، فإن استمرت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم، وجربهم وداخلهم.
والكاتب - لفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوله من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته - أولى بالرفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جوابا، ولا تعرف صوابا، ولا تفهم خطابا، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها. ألا فارفقوا - رحمكم الله - في النظر، وأعملوا ما أمكنكم فيه من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة، ويصير منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله. ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه، وملبسه، ومركبه، ومطعمه، ومشربه، وخدمه وغير ذلك من فنون أمره؛ قدر حقه، فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير. واستعينوا على أفعالكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف، وسوء عاقبة الترف، فإنهما يعقبان الفقر، ويذلان الرقاب، ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكتاب، وأرباب الآداب.
وللأمور أشباه، وبعضها دليل على بعض، فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة. واعلموا أن للتدبير آفة متلفة، وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويته، فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي في منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه، فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعة للشاغل عن إكثاره، وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده، مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه، فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره، فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يكله الله - عز وجل - إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف. ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لأعباء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته، فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله - جل ثناؤه - من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه، ولا يكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشيره.
وحمد الله واجب على الجميع، وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته. وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: من تلزمه النصيحة يلزمه العمل، وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله - عز وجل - فلذلك جعلته آخره، وتممته به، تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده! والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (112) مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان
قال ابن عبد ربه في «العقد الفريد»:
هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه، وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت، فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا بيعتهم، ونقضوا موثقهم، وطردوا العمال، والتووا بما عليهم من الخراج. وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم على أن أقال عثرتهم، واغتفر زلتهم، واحتمل دالتهم؛ تطولا بالفضل، واتساعا بالعفو، وأخذا بالحجة، ورفقا بالسياسة، ولذلك لم يزل مذ حمله الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية رفيقا بمدار سلطانه، بصيرا بأهل زمانه، باسطا للمعدلة في رعيته، تسكن إلى كنفه، وتأنس بعفوه، وتثق بحلمه، فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة، فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة؛ أثرة للحق، وقياما بالعدل، وأخذا بالحزم.
فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه والثقة بعفوه أن كسروا الخراج، وطردوا العمال، وسألوا ما ليس لهم من الحق، ثم خلطوا احتجاجا باعتذار، وخصومة بإقرار، وتنصلا باعتلال، فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه، وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه، فأعلمهم الحال، واستفهم للرعية، ثم أمر الموالي بالابتداء، وقال للعباس بن محمد: أي عم، تعقب قولنا، وكن حكما بيننا.
وأرسل إلى ولديه موسى وهارون فأحضرهما الأمر، وشاركهما في الرأي، وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب.
فقال «سلام» صاحب المظالم: أيها المهدي، إن في كل أمر غاية، ولكل قوم صناعة استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفدت أعمارهم، وذهبوا بها وذهبت بهم، وعرفوا بها وعرفت بهم، ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية وطلبت معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب، وساسة الأمور، وقادة الجنود، وفرسان الهزاهز، وإخوان التجارب، وأبطال الوقائع، الذين رشحتهم سجالها، وفيأتهم ظلالها، وعضتهم شدائدها، وقرمتهم نواجذها، فلو عجمت ما قبلهم، وكشفت ما عندهم، لوجدت نظائر تؤيد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوي قلبك. فأما نحن معاشر عمالك وأصحاب دواوينك فحسن بنا وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك.
فأجابه المهدي: إن في كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حال تدبيرا يبطل الآخر الأول، ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا.
قال: نعم، أيها المهدي، أنت متبع الرأي، وثيق العقدة، قوي المنة، بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الروية، مؤيد البديهة، موفق العزيمة، معان بالظفر، مهدي إلى الخير، إن هممت ففي عزمك مواقع الظن، وإن اجتمعت صدع فعلك ملتبس الشك، فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك، وقل ينطق الله بالحق لسانك، فإن جنودك جمة، وخزائنك عامرة، ونفسك سخية، وأمرك نافذ.
فأجابه المهدي: إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة، لا يهلك عليهما رأي، ولا يتغيل معهما حزم، فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يحضركم، فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك.
قال الربيع: أيها المهدي، إن تصاريف وجوه الرأي كثيرة، وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة، ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة، متراخية الشقة، متفاوتة السبيل، فإذا ارتأيت من محكم التدبير، ومبرم التقدير، ولباب الصواب رأيا قد أحكمه نظرك، وقلبه تدبيرك، فليس وراءه مذهب طاعن، ولا دونه معلق لخصومة عائب، ثم أجبت البرد به، وانطوت الرسل عليه؛ كان بالحرى ألا يصل إليهم محكمه إلا وقد حدث منهم ما ينقضه، فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم، وشوارد آثارهم، ومصادر أمورهم، فتحدث رأيا غيره، وتبتدع تدبيرا سواه. وقد انفرجت الحلق وتحللت العقد، واسترخى الحقاب وامتد الزمان، ثم لعلما موقع الآخرة كمصدر الأولى، ولكن الرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفكر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحيل في أمرهم، إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل، وعقل كامل، وورع واسع، ليس موصوفا بهوى في سواك، ولا متهما في أثرة عليك، ولا ظنينا على دخلة مكروهة، ولا منسوبا إلى بدعة محذورة، فيقدح في ملكك، ويريض الأمور لغيرك. ثم تسند إليه أمورهم، وتفوض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم، وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عند استحالة الأمور واشتداد الأحوال، التي ينقض أمر الغائب عنها، ويثبت رأي الشاهد لها. فإنه إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة، وقويت المكيدة، ونفذ العمل، وأحد النظر إن شاء الله.
قال الفضل بن العباس: أيها المهدي، إن ولي الأمور، وسائس الحروب، ربما نحى جنوده، وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه، ولا ضغطة حال اضطرته، فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديما منها، فاقدا لها، لا يثق بقوة، ولا يصول بعدة، ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار، وتغرير القتال، ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون والعطاء لما يسألون، فيفسد عليك أدبهم، وتجرئ من رعيتك غيرهم، ولكن اغزهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارعهم باللين، وخاتلهم بالرفق، وأبرق لهم بالقول، وأرعد نحوهم بالفعل، وابعث البعوث، وجند الجنود، وكتب الكتائب، واعقد الألوية، وانصب الرايات، وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش مع أحنق قوادك عليهم، وأسوئهم أثرا فيهم، ثم ادسس الرسل، وابثث الكتب، وضع بعضهم على طمع من وعدك، وبعضا على خوف من وعيدك، وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم، واغرس أشجار التنافس بينهم، حتى تملأ القلوب من الوحشة، وتنطوي الصدور على البغضة، ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة، فإن مرام الظفر بالغيلة، والقتال بالحيلة، والمناصبة بالكتب، والمكايدة بالرسل، والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب، القوي الموقع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحيل، المبني على اللين، الذي يستميل القلوب، ويسترق العقول والآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي المواتاة؛ أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح. كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل، ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة، أحكم عملا وألطف منظرا وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال، والتغرير والخطار. وليعلم المهدي أنه إن وجه لقتالهم رجلا، لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة، وتقدم على أسفار ضيقة، وأموال متفرقة، وقواد غششة، إن ائتمنهم استنفدوا ماله، وإن استنصحهم كانوا عليه لا له.
قال المهدي: هذا رأي قد أسفر نوره، وأبرق ضوءه، وتمثل صوابه للعيون، ومجد حقه في القلوب، ولكن فوق كل ذي علم عليم. ثم نظر إلى ابنه علي فقال: ما تقول؟
قال علي: أيها المهدي، إن أهل خراسان لم يخلعوا عن طاعتك، ولم ينصبوا من دونك أحدا يقدح في تغيير ملكك، ويريض الأمور لفساد دولتك، ولو فعلوا لكان الخطب أيسر، والشأن أصغر، والحال أدل؛ لأن الله مع حقه الذي لا يخذله، وعند موعده الذي لا يخلفه، ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم واليا، وجعل العدل بينك وبينهم حاكما، طلبوا حقا، وسألوا إنصافا، فإن أجبت إلى دعوتهم، ونفست عنهم قبل أن يتلاحم منهم حال، أو يحدث من عندهم فتق، أطعت أمر الرب، وأطفأت ثائرة الحرب، ووفرت خزائن المال، وطرحت تغرير القتال، وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجية حلمك، وإسجاح خليقتك، ومعدلة نظرك، فأمنت أن تنسب إلى ضعف، وأن يكون ذلك فيما بقي دربة. وإن منعتهم ما طلبوا، ولم تجبهم إلى ما سألوا، اعتدلت بك وبهم الحال، وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته، مقرين بمملكته، مذعنين بطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديته، فيملكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الحيل معهم، ثم يجازيهم السوء في حد المنازعة، ومضمار المخاطرة؟ أيريد المهدي - وفقه الله - الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر منها مما يطلب منهم، وأضعاف ما يدعي قبلهم، ولو نالها فحملت إليه، أو وضعت بخرائطها بين يديه، ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها؛ لكان مما إليه ينسب وبه يعرف من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه.
فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا وتحامل ولاتنا، فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف، وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالا لغيرهم، وعظة لسواهم؛ فيعلم المهدي أنه لو أتى بهم مغلولين في الحديد، مقرنين في الأصفاد، ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه، ولإقالة عثرتهم صفحه، واستبقاهم لما هم فيه من حزبه، أو لمن بإزائهم من عدوه، لما كان بدعا من رأيه، ولا مستنكرا من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوا، وأشدها وقعا، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه عفو ولا يتكاءده صفح، وإن عظم الذنب وجل الخطب؛ فالرأي للمهدي - وفقه الله تعالى - أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم، برا بهم، وتوسعا لهم، فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه، الذين بعزتهم يصول، وبحجتهم يقول. وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه، وتعرضوا له من معاصيه، وانطووا فيه عن إجابته، ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم، أو نقل من حاله لهم، أو تغير من نعمته بهم؛ كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدهما خبل عارض، ولهو حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزدد أخوه إلا رقة له، ولطفا به، واحتيالا لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفا عليه، وبرا به، ومرحمة له.
فقال المهدي: أما علي فقد كوى سمت اللبان، وفض القلوب في أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر. فقال: ما ترى يا أبا محمد؟ يعني موسى ابنه.
فقال موسى: أيها المهدي، لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم. الحال من القوم ينادي بمضمرة شر، وخفية حقد، قد جعلوا المعاذير عليها سترا، واتخذوا العلل من دونها حجابا؛ رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير، والأمور بالتطويل، فيكسروا حيل المهدي فيهم، ويفنوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادتهم، وتستفحل حربهم، وتستمر الأمور بهم، والمهدي من قولهم في حال غرة، ولباس أمنة، قد فتر لها، وأنس بها، وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت به قلوبهم، وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال، والإضمار للقراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد؛ لرهبوا عواقب أخبار الولاة، وغب سكون الأمور، فليشدد المهدي - وفقه الله - أزره لهم، ويكتب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم، وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة إلى فسادهم، وقوة على معصيتهم، وداعية إلى عودتهم، وسببا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود الذين أقرهم وتلك العادة، وأجراهم على ذلك الأرب، ولم يبرح في فتق حادث، وخلاف حاضر، لا يصلح عليه دين، ولا تستقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار الدربة، لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة، والمؤنة الشديدة. والرأي للمهدي - وفقه الله - أن لا يقيل عثرتهم، ولا يقبل معذرتهم، حتى تطأهم الجيوش، وتأخذهم السيوف، ويستحر بهم القتل، ويحدق بهم الموت، ويحيط بهم البلاء، ويطبق عليهم الذل، فإن فعل المهدي بهم ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم، وهزيمة لكل بادرة شر فيهم، واحتمال المهدي في مؤونة غزوتهم هذه تضع عنه غزوات كثيرة ونفقات عظيمة.
قال المهدي: قد قال القوم، فاحكم يا أبا الفضل.
فقال العباس بن محمد: أيها المهدي، أما «الموالي» فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدوا أمورا قصر بنظرهم عنها أنه لم تأت تجاربهم عليها. وأما «الفضل» فأشار بالأموال ألا تنفق، والجنود ألا تفرق، وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا، ولا يبذل لهم ما سألوا، وجاء بأمر بين ذلك، استصغارا لأمرهم واستهانة بحربهم، وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها. وأما «علي» فأشار باللين وإفراط الرفق. وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسفه حقه اللين بحتا والخير محضا، لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب عن لينه، ولا بشر يحبسهم إلى خيره؛ فقد ملكهم الخلع لعذرهم ووسع لهم الفرجة لثنى أعناقهم. فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير خوف اضطرهم ولا شدة، فنزوة في رءوسهم، يستدعون بها البلاء إلى أنفسهم، ويستصرخون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح، فذلك ما عليه الظن بهم والرأي فيهم وما قد يشبه أن يكون من مثلهم؛ لأن الله - تعالى - خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر، ولا تدركه الفكر، ولا تعلمه نفس، ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها، فلولا أنه خلق نارا جعلها لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة، لما أجابوا ولا قبلوا.
وأما «موسى» فأشار بأن يعصبوا بشدة لا لين فيها، وأن يرموا بشر لا خير معه. وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته الخوف مفردا والشر مجردا ليس معهما طمع ولا لين يثنيهم، اشتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحمية من الشدة، والأنفة من الذلة، والامتعاض من القهر، فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف، والاستبسال في القتال، والاستسلام للموت، وإما أن ينقادوا بالكره، ويذعنوا بالقهر، على بغضة لازمة، وعداوة باقية، تورث النفاق، وتعقب الشقاق، فإذا أمكنتهم فرصة، أو ثابت لهم قدرة، أو قويت لهم حال، عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد مما كان.
وقال في قول الفضل: أيها المهدي، أكفى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بان، قد أجمع رأيه، وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم ما سألوا من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل.
قال المهدي: ذلك رأي.
قال هارون: ما خلطت الشدة - أيها المهدي - باللين فصارت الشدة أمر فطام لما تكره، وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب، ولكن أرى غير ذلك.
قال المهدي: لقد قلت قولا بديعا، وخالفت فيه أهل بيتك جميعا، والمرء مؤتمن بما قال وظنين بما ادعى، حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة، فاخرج عما قلت.
قال هارون: أيها المهدي، إن الحرب خدعة، والأعاجم قوم مكرة، وربما اعتدلت الحال بهم، واتفقت الأهواء منهم، فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون، وربما افترقت الحالان، وخالف القلب اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تبطن، واستسر بمدخولة لا تعلن، والطبيب الرفيق بطبه ، البصير بأمره، العالم بمقدم يده، وموضع ميسمه، لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء. فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يفر باطن أمرهم فر المسنة، ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء، بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل، وموالاة العيون، حتى تهتك حجب عيونهم، وتكشف أغطية أمورهم. فإن انفرجت الحال وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه، وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلونه؛ عصبهم بشدة لا لين فيها، ورماهم بعقوبة لا عفو معها، وإن انفرجت العيون، واهتصرت الستور، ورفعت الحجب، والحال فيهم مريعة، والأمور بهم معتدلة في أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها، وظلامات يدعونها، وحقوق يسألونها بماتة سابقتهم ودالة مناصحتهم؛ فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يتسع لهم بما طلبوا، ويتجافى لهم عما كرهوا، ويشعب من أمرهم ما صدعوا، ويرتق من فتقهم ما قطعوا، ويولي عليهم من أحبوا، ويداوي بذلك مرض قلوبهم، وفساد أمورهم، فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق، والوالد الشفيق، والراعي المجرب الذي يحتال لمرابض غنمه، وضوال رعيته، حتى يبرئ المريضة من داء علتها، ويرد الصحيحة إلى أنس جماعتها.
ثم إن خراسان بخاصة الدين لهم دالة محمولة، وماتة مقبولة، ووسيلة معروفة، وحقوق واجبة؛ لأنهم أيدي دولته، وسيوف دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله، فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم، ولا المؤاخذة لهم، ولا التوغير بهم، ولا المكافأة بإساءتهم؛ لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ، أحزم في الرأي وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها بكثيرها وتجتمع أطرافها إلى جمهورها.
قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح من الماء، وانسل انسلال السيف فيما ادعى، فدعوا ما سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنى بعده هارون، ولكن من لأعنة الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس، إن أمعن بهم اللجاج وأفرطت بهم الدالة؟
قال صالح: لسنا نبلغ - أيها المهدي - بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك ، وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجال العجم ذو دين فاضل ورأي كامل، وتدبير قوي، تقلده حربك، وتستودعه جندك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة، ويضطلع بالأعباء الثقيلة. وأنت - بحمد الله - ميمون النقيبة، مبارك العزيمة، مخبور التجارب، محمود العواقب، معصوم العزم، فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله ما تحب وجمع لك منه ما تريد.
قال المهدي: إني لأرجو ذلك؛ لقديم عادة الله فيه، وحسن معونته عليه، ولكن أحب الموافقة على الرأي، والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم.
قال محمد بن الليث: أهل خراسان - أيها المهدي - قوم ذوو عزة ومنعة، وشياطين خدعة، زروع الحمية فيهم نابتة، وملابس الأنفة عليهم ظاهرة، فالروية عنهم عازبة، والعجلة عنهم حاضرة، تسبق سيولهم مطرهم، وسيوفهم عذلهم؛ لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يلجمون إلا بشدة ولا يفطمون إلا بالمر، وإن ولى المهدي عليهم وضيعا لم تنقد له العظماء، وإن ولى أمرهم شريفا تحامل على الضعفاء، وإن أخر المهدي أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه، ناصحا يتفق عليه أمرهم، وثقة تجتمع له أملاؤهم، بلا أنفة تلزمهم، ولا حمية تدخلهم، ولا مصيبة تنفرهم؛ تنفست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم، فدخل بذلك من الفساد الكبير والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد، ولا يستصلحه وإن جهد، إلا بعد دهر طويل، وشر كبير.
وليس المهدي - وفقه الله - فاطما عاداتهم ولا قارعا صفاتهم بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عدل في ذلك بهما: أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك، ويد ممثلة لعينك ، وصخرة لا تزعزع، وبهمة لا تثنى، وبازل لا يفزعه صوت الجلجل، نقي العرض، نزيه النفس، جليل الخطر، قد اتضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة بهمته، فجعل الغرض الأقصى لعينه نصبا، والغرض الأدنى لقدمه موطئا، فليس يقبل عملا ولا يتعدى أملا، وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك، رجل قد غذي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل دولتك، ونشأ على قوائم أدبك، فإن قلدته أمرهم، وحملته ثقلهم، وأسندت إليه ثغرهم؛ كان قفلا فتحه أمرك، وبابا أغلقه نهيك، فجعل العدل عليه وعليهم أميرا، والإنصاف بينه وبينهم حاكما.
وإذا حكم المنصفة وسلك المعدلة فأعطاهم ما لهم وأخذ منهم ما عليهم، غرس في الذي لك بين صدورهم، وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم طاعة راسخة العروق، باسقة الفروع، متماثلة في حواشي عوامهم، متمكنة من قلوب خواصهم، فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه، ولا يلزمهم حق إلا أدوه، وهذا أحدهما. والآخر عود من غيضتك، ونبعة من أرومتك، فتي السن، كهل الحلم، راجح العقل، محمود الصرامة، مأمون الخلاف، يجرد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون، وهو فلان أيها المهدي، فسلطه - أعزك الله - عليهم، ووجهه بالجيوش إليهم، ولا تمنعك ضراعة سنه وحداثة مولده؛ فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير من الشك والجهل مع الكهولة. وإنما أحداثكم - أهل البيت - فيما طبعكم الله عليه واختصكم به من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس؛ كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب، فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم، مزروع في قلوبكم، مستحكم لكم، متكامل عندكم، بطبائع لازمة وغرائز ثابتة.
قال معاوية بن عبد الله: فتاء أهل بيتك - أيها المهدي - في الحلم على ما ذكر، وأهل خراسان في حال عز على ما وصف، ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلا ليس بقديم الذكر في الجنود، ولا بنبيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء؛ دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مهولان: أحدهما أن الأعداء يغتمزونها منه، ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه، قبل الاختبار لأمره والتكشف لحاله والعلم بطباعه. والأمر الآخر أن الجنود التي يقود، والجيوش التي يسوس، إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصيت والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم، واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم، وربما وقع البوار قبل الاختبار. وبباب المهدي - وفقه الله - رجل مهيب نبيه حنيك صيت، له نسب زاك وصوت عال، قد قاد الجيوش وساس الحروب، وتألف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمقة ووثقوا به كل الثقة، فلو ولاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم.
قال المهدي: جانبت قصد الرمية، وأبيت إلا عصبية، إذ رأي الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا، ولكن أين تركتم ولي العهد؟
قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده، ونسيج وحده، ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله - عز وجل - حجب عن خلقه وستر من دون عباده علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري عليه المقادير من حوادث الأمور، وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك، فكرهنا شسوعه عن محلة الملك ودار السلطان، ومقر الإمامة والولاية، وموضع المدائن والخزائن، ومستقر الجنود، ومعدن الجود، ومجمع الأموال، التي جعلها الله قطبا لمدار الملك، ومصيدة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثوار الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، وأبناء الموت، وقلنا: إن وجه المهدي ولى عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطع المهدي أن يعقبهم بغيره، إلا أن ينهد إليهم بنفسه، وهذا خطر عظيم وهول شديد إن تنفست الأيام بمقامه، واستدارت الحال بإمامه، حتى يقع عوض لا يستغنى عنه، أو يحدث أمر لا بد منه، صار ما بعده مما هو أعظم هولا وأجل خطرا له تبعا وبه متصلا.
قال المهدي: الخطب أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه، نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم ومحتوم من الأمر، قد أنبأت به الكتب، ونبأت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا، وتكامل بحذافيره عندنا، فبه ندبر، وعلى الله نتوكل. إنه لا بد لولي عهدي، وولي عهد عقبي بعدي، أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجه نحوها بالجنود. أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله، ويعمل فيهم حيله، ثم يخرج نشطا إليهم حنقا عليهم، يريد ألا يدع أحدا من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال، إلا توطأه بحر القتل، وألبسه قناع القهر، وقلده طوق الذل، ولا أحدا من الذين عملوا في قص جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق، إلا أجرى عليهم ديم فضله، وجداول نهله، فإذا خرج مزمعا به مجمعا عليه لم يسر إلا قليلا حتى تأتيه أن قد عملت حيله، وكدحت كتبه، ونفذت مكايده، فهدأت نافرة القلوب، ووقعت طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا، فيميل نظرا لهم، وبرا بهم، وتعطفا عليهم، إلى عدو قد أخاف سبيلهم، وقطع طريقهم، ومنع حجاجهم بيت الله الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال.
وأما الآخر فإنه يوجه إليهم، ثم تعتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمحت الفرق بقراباتها له، وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة، وقدمت عليه الوفود؛ قصد لأول ناحية نجعت بطاعتها، وألقت بأزمتها، فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظل كرامته، وخصها بعظيم حبائه، ثم عم الجماعة بالمعدلة، وتعطف عليهم بالرحمة، فلا تبقى فيهم ناحية دانية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها، وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين: ناحية يغلب عليها الشقاء وتستميلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث، وأبطأ من يوجه، فيصطلي عليها موجوده، ويبتغي لها علة، لا يلبث أن يجد بحق يلزمهم، وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحر بهم القتل، ويحيط بهم الأسر، ويفنيهم التتبع، حتى يخرب البلاد، ويوتم الأولاد. وناحية لا يبسط لهم أمانا، ولا يقبل لهم عهدا، ولا يجعل لهم ذمة؛ لأنهم أول من فتح باب الفرقة، وتدرع جلباب الفتنة، وربض في شق العصا، ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قوادهم، ويطلب هرابهم في لجج البحار، وقلل الجبال، وحميل الأودية، وبطون الأرض، تقتيلا وتغليلا وتنكيلا، حتى يدع الديار خرابا، والنساء أيامى. وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا، ولا نصحح منه غير ما قلنا تفسيرا.
وأما موسى ولي عهدي فهذا أوان توجهه إلى خراسان، وحلوله بجرجان، وما قضى الله له من الشخوص إليها والمقام فيها خير للمسلمين مغبة له بإذن الله عاقبة من المقام، بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا، فيتصاغر عظيم فضله، ويتدأب مشرق نوره، ويتقلل كثير ما هو كائن منه، فمن يصحبه من الوزراء ويختار له من الناس؟
قال محمد بن الليث: أيها المهدي، إن ولي عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علما قد تثنت نحوه أعناقها، ومدت سمته أبصارها، وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك، عطل الحال، غفل الأمر، واسع العذر، فأما إذا انفرد بنفسه، وخلا بنظره، وصار إلى تدبيره، فإن من شأن العامة أن تتفقد مخارج رأيه، وتستنصت لمواقع آثاره، وتسأل عن حوادث أحواله: في بره ومرحمته، وإقساطه ومعدلته، وتدبيره وسياسته، ووزرائه وأصحابه، ثم يكون ما سبق إليهم أغلب الأشياء عليهم، وأملك الأمور بهم، وألزمها لقلوبهم، وأشدها استمالة لرأيهم وعطفا لأهوائهم. فلا يفتأ المهدي - وفقه الله - ناظرا له فيما يقوي عمد مملكته، ويسدد أركان ولايته، ويستجمع رضاء أمته بأمر هو أزين لحاله، وأظهر لجماله، وأفضل مغبة لأمره، وأجل موقعا في قلوب رعيته، وأحمد حالا في نفوس أهل ملته. ولا أدفع مع ذلك باستجماع الأهواء له، وأبلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله، ومعدلة تنتشر عن أثره، ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهدي - وفقه الله - من خيار أهل كل بلدة وفقهاء أهل كل مصر أقواما تسكن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا، ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان، وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له وسهل عليه.
قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى، فقال: أي بني، إنك قد أصبحت لسمت وجوه العامة نصبا، ولمثنى أعطاف الرعية غاية، فحسنتك شاملة، وإساءتك نائية، وأمرك ظاهر، فعليك بتقوى الله وطاعته، فاحتمل سخط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما، فإن الله - عز وجل - كافيك من أسخطه عليك إيثارك رضاه، وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه. ثم اعلم أن لله - تعالى - في كل زمان فترة من رسله، وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا لنصرة حقه، يجدد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذ لأولياء دينه أنصارا، وعلى إقامة عدله أعوانا، يسدون الخلل، ويقيمون الميل، ويدفعون عن الأرض الفساد، وأن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا، وسيوف دعوتنا، الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونستصرف نزول العظائم بمناصحتهم، وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم، فهم عماد الأرض إذا أرجفت لففها، وخوف الأعداء إذا برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها، قد مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن صالحات أخمدت نيران الفتن، وقسمت دواعي البدع، وأذلت رقاب الجبارين، ولم ينفكوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز الله بها ذاتهم، ورفع بها ضعتهم، وجعلهم بها أربابا في أقطار الأرض، وملوكا على رقاب العالمين، بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق البلا، ومحالفة الأسى، وجهد البأس والضر. فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك، ثم اعرف لهم حق طاعتهم، ووسيلة دالتهم، وماتة سابقتهم، وحرمة مناصحتهم، بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم.
أي بني، ثم عليك العامة، فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها، وتحسن بذلك لربك، وتوثق به في عين رعيتك، واجعل عمال العذر وولاة الحجج مقدمة بين عملك، ونصفة منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلا توليه أمرهم وتجعل العدل حاكما بينه وبينهم، فإن أحسن حمدت، وإن أساء عذرت. هؤلاء عمال العذر، وولاة الحجج ، فلا يسقطن عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع، من انعقاد ألسنة المرجفين، وكبت قلوب الحاسدين، وإطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور. ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلا وبعرى حبلك متعلقا رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب وأعلام بيوتات الشرف، له أدب فاضل، وحلم راجح، ودين صحيح، والآخر له دين غير مغموز، وموضع غير مدخول، بصير بتقليب الكلام، وتصريف الرأي، وأنحاء العرب، ووضع الكتب، عالم بحالات الحروب وتصاريف الخطوب، يضع آدابا نافعة وآثارا باقية من محاسنك، وتحسين أمرك، وتحلية ذكرك، فتستشيره في حربك، وتدخله في أمرك، فرجل أصبته كذلك فهو يأوى إلى محلتي، ويرعى في خضرة جناني، ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان وخيار الأمصار أقواما يكونون جيرانك وسمارك، وأهل مشاورتك فيما تورد وأصحاب مناظرتك فيما تصدر. فسر على بركة الله، أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلا يهدي إلى الصواب قلبك، وهاديا ينطق بالخير لسانك.
وكتب في شهر ربيع الآخر سنة سبعين ومئة ببغداد. (113) وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابنه وكان مات بالبصرة
نأى آخر الأيام عنك حبيب
فللعين سح دائم وغروب
دعته نوى لا يرتجى أوبة لها
فقلبك مسلوب وأنت كئيب
يؤوب إلى أوطانه كل غائب
وأحمد في الغياب ليس يؤوب
تبدل دارا غير داري وجيرة
سواي وأحداث الزمان تنوب
أقام بها مستوطنا غير أنه
على طول أيام المقام غريب
كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضحى
سقاه الندى فاهتز وهو رطيب
كأن لم يكن كالدر يلمع نوره
بأصدافه لما تشنه ثقوب
كأن لم يكن زين الفناء ومعقل الن
ساء إذا يوم يكون عصيب
وريحان صدري كان حين أشمه
ومؤنس قصري كان حين أغيب
وكانت يدي ملأى به ثم أصبحت
بحمد إلهي وهي منه سليب
قليلا من الأيام لم يرو ناظري
بها منه حتى أعلقته شعوب
كظل سحاب لم يقم غير ساعة
إلى أن أطاحته فطاح جنوب
أو الشمس لما من غمام تحسرت
مساء وقد ولت وحان غروب
سأبكيك ما أبقت دموعي والبكا
بعيني ماء يا بني يجيب
وما غار نجم أو تغنت حمامة
أو اخضر في فرع الأراك قضيب
حياتي ما دامت حياتي فإن أمت
ثويت وفي قلبي عليك ندوب
وأضمر إن أنفدت دمعي لوعة
عليك لها تحت الضلوع وجيب
دعوت أطباء العراق فلم يصب
دواءك منهم في البلاد طبيب
ولم يملك الآسون دفعا لمهجة
عليها لأشراك المنون رقيب
قصمت جناحي بعدما هد منكبي
أخوك فرأسي قد علاه مشيب
فأصبحت في الهلاك إلا حشاشة
تذاب بنار الحزن فهي تذوب
توليتما في حقبة فتركتما
صدى يتولى تارة ويثوب
فلا ميت إلا دون رزئك رزؤه
ولو فتتت حزنا عليه قلوب
وإني وإن قدمت قبلي لعالم
بأني وإن أبطأت منك قريب
وإن صباحا نلتقي في مسائه
صباح إلى قلبي الغداة حبيب (114) المأمون وراثي البرامكة
قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي: خذ معك فلانا وفلانا - وسماهما لي، أحدهما علي بن محمد، والآخر دينار الخادم - واذهب مسرعا لما أقول لك؛ فإنه بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى آثار دور البرامكة وينشد شعرا ويذكرهم ذكرا كثيرا ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف. فامض أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخربات فاستتروا خلف بعض الجدر، فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتا فأتوني به. قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخربات، فإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي حديد، وإذا شيخ قد جاء وله جمال وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب، ويقول هذه الأبيات:
ولما رأيت السيف جندل جعفرا
ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسفي
عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا
مع أبيات أطالها. فلما فرغ قبضنا عليه، وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعا شديدا، وقال: دعوني حتى أوصي بوصية فإني لا أوقن بعدها بحياة. ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه، ثم سرنا به فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال حين رآه : من أنت؟ وبم استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أيادي خضرة عندي، أفتأذن لي أن أحدثك بحالي معهم؟ قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورءوس أهلي وبيتي الذي ولدت فيه، أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون رجلا من أهلي وولدي وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب، حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت ببعض ثياب كنت أعددتها لأستتر بها، فلبستها وخرجت، وتركتهم جياعا لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد سائلا عن البرامكة، فإذا أنا بمسجد مزخرف وفي جانبه شيخ بأحسن زي وزينة، وعلى الباب خادمان وفي الجامع جماعة جلوس، فطمعت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم، وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي، وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد فدخلت معهم، وإذا يحيى جالس على دكة له وسط بستان فسلمنا وهو يعدنا مئة وواحدا، وبين يده عشرة من ولده، وإذا بمئة واثني عشر خادما قد أقبلوا، ومع كل خادم صينية من فضة على كل صينية ألف دينار، فوضعوا بين يدي كل رجل منا صينية، فرأيت القاضي والمشايخ يضعون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصينيات تحت آباطهم ويقوم الأول فالأول، حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها، وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي وقمت، وجعلت أتلفت إلى ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب، فوصلت وأنا كذلك إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل، فأتاني فقال: ما لي أراك تتلفت يمينا وشمالا؟ فقصصت عليه قصتي، فقال للخادم: ائتني بولدي موسى، فأتاه به، فقال له: يا بني، هذا رجل غريب فخذه إليك واحفظه بنفسك ونعمتك، فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دوره فأكرمني غاية الإكرام، وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور، فلما أصبح دعا بأخيه العباس، وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى، وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين فاقبضه إليك وأكرمه، ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام، ثم لما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد. ثم لم أزل في أيدي القوم يتداولونني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني أفي الأموات هم أم في الأحياء.
فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم، فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام، فقلت: واويلاه! سلبت الدنانير والصينية وأخرج على هذه الحالة! إنا لله وإنا إليه راجعون! فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادم الستر الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلي فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به. فلما رفع الستر الأخير رأيت حجرة كالشمس حسنا ونورا، واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج، وحمل إلي مئة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، ومنشور بضيعتين وتلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق. وأقمت يا أمير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة، لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب، فلما جاءتهم البلية ونزل بهم يا أمير المؤمنين من الرشيد ما نزل، أجحفني عمرو بن مسعدة، وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به، فلما تحامل علي الدهر، كنت في آخر الليل أقصد خربات دورهم فأندبهم وأذكر حسن صنعهم إلي وأبكي على إحسانهم. فقال المأمون: علي بعمرو بن مسعدة، فلما أتي به قال له: تعرف هذا الرجل؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة، قال: كم ألزمته في ضيعتيه؟ قال: كذا وكذا، فقال له: رد إليه كل ما أخذته منه في مدته وأفرغهما له ليكونا له ولعقبه من بعده.
قال: فعلا نحيب الرجل، فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا، قد أحسنا إليك فما يبكيك؟! قال: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضا من صنيع البرامكة، لو لم آت خرباتهم فأبكيهم وأندبهم حتى اتصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل، من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين؟ قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه، وقال: لعمري ، هذا من صنائع البرامكة، فعليهم فابك، وإياهم فاشكر، ولهم فأوف، ولإحسانهم فاذكر. (115) رسالة سهل بن هارون في البخل
بسم الله الرحمن الرحيم
أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير وجعلكم من أهله، قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار، وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهى مرشدا وأن تغري بمشفق.
وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم وإصلاح فاسدكم وإبقاء النعمة عليكم، وما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم، وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم ولأنفسنا قبلكم وشهرنا به في الآفاق دونكم، ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه:
وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت ، فما كان أحقنا منكم في حرمتنا بكم أن ترعوا حق قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط بلغتم ولا بواجب الحرمة قمتم، ولو كان ذكر العيوب يراد به فخر لرأينا في أنفسنا من ذلك شغلا. عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين فهو أطيب لطعمه، وأزيد في ريعه، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه: أملكوا العجين فإنه أحد الريعين. وعبتموني حين ختمت على ما فيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نقية ومن رطبة غريبة، على عبد نهم، وصبي جشع، وأمة لكعاء، وزوجة مضيعة، وعبتموني بالختم وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق وعلى كيس فارغ وقال: طينة خير من طية، فأمسكتم عمن ختم على لا شيء وعبتم من ختم على شيء. وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق.
وعبتموني بخصف النعل، وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالشد، وأن الترقيع من الحزم والتفريط من التضييع، وقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يخصف نعله ويرقع ثوبه ويقول: «لو أهدي إلي ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت»، وقالت الحكماء: لا جديد لمن لم يلبس الخلق. وبعث زياد رجلا يرتاد له محدثا، واشترط عليه أن يكون عاقلا، فأتاه به موافقا، فقال له: أكنت به ذا معرفة؟ قال: لا، ولكني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا ويلبس الناس جديدا، فتفرست فيه العقل والأدب، وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه. وقد جعل الله لكل شيء قدرا، وسما به موضعا، كما جعل لكل زمان رجالا، ولكل مقام مقالا، وقد أحيا الله بالسم، وأمات بالدواء، وأغص بالماء. وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين، كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين. وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز، وأمر مالك بن أنس بفرك النعل، وقال عمر بن الخطاب: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة، ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية. وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة، فقال: إن كان لا بد فاجعلها بيوضا.
وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي، ولقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشد من الكفاية، فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وضيعة الماء، وجدت في الأعضاء فضلا عن الماء، فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوله، ولكان نصيب الأول كنصيب الآخر، فعبتموني بذاك وشنعتم علي، وقد قال الحسن وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ، فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه الكلأ.
وعبتموني أن قلت: لا يغترن أحدكم بطول عمره، وتقويس ظهره، ورقة عظمه، ووهن قوته، وأن يرى نحوه أكثر ذريته، فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده، وتحويله إلى ملك غيره، وإلى تحكيم السرف فيه، وتسليط الشهوات عليه؛ فلعله يكون معمرا وهو لا يدري، وممدودا له في السن وهو لا يشعر، ولعله أن يرزق الولد على اليأس، ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على بال ولا يدركه عقل، فيسترده ممن لا يرده، ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه، أصعب ما كان عليه الطلب وأقبح ما كان به أن يطلب، فعبتموني بذلك، وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وعبتموني بأن قلت بأن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك، وأن الحفظ للمال المكتسب والغنى المجتلب وإلى ما لا يعرض فيه بذهاب الدين واهتضام العرض ونصب البدن واهتضام القلب؛ أسرع، ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أذن بالفقر وطاب نفسا بالذل.
وعبتموني بأن قلت: إن كسب الحلال يضمن الإنفاق في الحلال، وإن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وإن الطيب يدعو إلى الطيب، وإن الإنفاق في الهوى حجاب من الهوى، فعبتم علي هذا القول، وقد قال معاوية: لم أر تبذيرا قط إلا وإلى جنبه تضييع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله، فانظروا في ماذا ينفقه، فإن الخبيث إنما ينفق في السرف.
وقلت لكم: بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم وأنتم في دار الآفات والجوائح غير مأمونات، فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلى نفسه، فاحذروا النقم واختلاف الأمكنة فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في العبد والأمة والشاة والبعير: فرقوا بين المنايا. وقال ابن سيرين لبعض البحريين: كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرقها في السفن، فإن عطب بعض سلم بعض، ولولا أن السلامة أكثر ما حملنا أموالنا في البحر، قال ابن سيرين: يحسبها خرقاء وهي صناع.
وعبتموني بأن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكرا، وللمال لنزوة، فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال بخوف الفقر فقد أهمله، فعبتموني بذلك، وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا من غني أمن الفقر، وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر. وقد قال الشاعر في يحيى بن خالد بن برمك:
وهوب تلاد المال فيما ينوبه
منوع إذا ما منعه كان أحزما
وعبتموني حين زعمتم أني أقدم المال على العلم لأن المال به يفاد العلم وبه تقوم النفس قبل أن تعرف فضل العلم فهو أصل، والأصل أحق بالتفضيل من الفرع، فقلتم: كيف هذا؟! وقد قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء، قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال وجهل الأغنياء بحق العلم. فقلت: حالهما هي القاضية بينهما، وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه وشيء يغنى فيه بعضهم عن بعض، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال أبو بكر - رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد. وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض.
وعبتموني حين قلت: فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت، إذا احتيج إليها استعملت، وإن استغنى عنها كانت عدة. وقد قال الحصين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشيء! قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمني عليه؛ لأن المال مخدوم. وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى، فلو لم يكن فيه إلا أنه عز في قلبك وذل في قلب عدوك، لكان الحظ فيه جسيما، والنفع فيه عظيما.
ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو، ولستم علي تردون، ولا رأيي تفندون، فقدموا النظر قبل العزم، وأدركوا مالكم قبل أن تدركوا مآلكم. والسلام عليكم. (116) وكتب الجاحظ إلى بعض إخوانه في ذم الزمان
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظك الله حفظ من وفقه للقناعة، واستعمله بالطاعة! كتبت إليك وحالي حال من كثفت غمومه، وأشكلت عليه أموره، واشتبه عليه حال دهره، ومخرج أمره، وقل عنده من يثق بوفائه، أو يحمد مغبة إخائه؛ لاستحالة زماننا، وفساد أيامنا، ودولة أنذالنا. وقدما كان من قدم الحياء على نفسه، وحكم الصدق في قوله، وآثر الحق في أموره، ونبذ المشتبهات عليه من شئونه؛ تمت له السلامة، وفاز بوفور حظ العافية، وحمد مغبة مكروه العاقبة. فنظرنا إذ حال عندنا حكمه، وتحولت دولته، فوجدنا الحياء متصلا بالحرمان، والصدق آفة على المال، والقصد في الطلب بترك استعمال القحة وإخلاق العرض من طريق التوكل دليلا على سخافة الرأي؛ إذ صارت الحظوة الباسقة والنعمة السابغة في لؤم المشيئة، وسناء الرزق من جهة محاشاة الرخاء وملابسة معرة العار. ثم نظرنا في تعقب المتعقب لقولنا والكاشر لحجتنا، فأقمنا له علما واضحا، وشاهدا قائما، ومنارا بينا؛ إذ وجدنا من فيه السفولية الواضحة، والمثالب الفاضحة، والكذب المبرح، والخلف المصرح، والجهالة المفرطة، والركاكة المستخفة، وضعف اليقين والاستثبات، وسرعة الغضب والجراءة؛ قد استكمل سروره، واعتدلت أموره، وفاز بالسهم الأغلب، والحظ الأوفر، والقدر الرفيع، والجواز الطائع، والأمر النافذ، إن زل قيل: حكم، وإن أخطأ قيل: أصاب، وإن هذى في كلامه وهو يقظان قيل: رؤيا صادقة من نسمة مباركة. فهذه حجتنا والله على من زعم أن الجهل يخفض، وأن النوك يردي، وأن الكذب يضر، وأن الخلف يزري.
ثم نظرنا في الوفاء والأمانة، والنبل والبلاغة وحسن المذهب، وكمال المروءة، وسعة الصدر، وقلة الغضب، وكرم الطبيعة، والفائق في سعة علمه، والحاكم على نفسه، والغالب لهواه، فوجدنا فلان بن فلان، ثم وجدنا الزمان لم ينصفه من حقه، ولا قام له بوظائف فرضه، ووجدنا فضائله القائمة له قاعدة به؛ فهذا دليل على أن الطلاح أجدى من الصلاح، وأن الفضل قد مضى زمانه، وعفت آثاره، وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضده، ووجدنا العقل يشقى به قرينه، كما أن الجهل والحمق يحظى به خدينه، ووجدنا الشعر ناطقا على الزمان، ومعربا عن الأيام، حيث يقول:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم
ولاقهم بالجهل فعل أخي الجهل
وخلط إذا لاقيت يوما مخلطا
يخلط في قول صحيح وفي هزل
فإني رأيت المرء يشقى بعقله
كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل
فبقيت - أبقاك الله - مثل من أصبح على أوفاز، ومن النقلة على جهاز، لا يسوغ له نعمة ولا تطعم عينه غمضة، في أهاويل يباكره مكروهها ويراوحه عقائبها، فلو أن الدعاء أجيب والتضرع سمع، لكانت العدة العظمى والرجفة الكبرى. فليت - أي أخي - ما أستبطئه من النفخة ومن فجأة الصيحة قضي فحان، وأذن به فكان! فوالله ما عذبت أمة برجفة ولا ريح ولا سخطة عذاب عيني برؤية المغايظة المدمنة، والأخبار المهلكة، كأن الزمان يوكل بعذابي أو ينصب بأيامي، فما عيش من لا يسر بأخ شفيق، ولا يصطبح في أول نهاره إلا برؤية من يكرهه ويغمه بطلعته، فقد طالت الغمة، وواظبت الكربة، وادلهمت الظلمة، وخمد السراج، وتباطأ الانفراج. (117) وكتب الجاحظ إلى محمد بن عبد الملك يستعطفه
بسم الله الرحمن الرحيم
أعاذك الله من سوء الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجح في قلبك إيثار الأناة! فقد خفت - أيدك الله! - أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء، ومجانبة سبل الحكماء. وبعد، فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
وإن امرءا أمسى وأصبح سالما
من الناس إلا ما جنى لسعيد
وقال الآخر:
ومن دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل
فإن كنت اجترأت عليك - أصلحك الله! - فلم أجترئ إلا لأن دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال الذي يورث الإغفال، والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة؛ ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان، رحمه الله: عمر كان خيرا لي منك، أرهبني فاتقاني، وأعطاني فأغناني، فإن كنت لا تهب عقابي - أيدك الله! - لخدمة، فهبه لأياديك عندي؛ فإن النعمة تشفع في النقمة، وإلا تفعل ذلك لذلك فعد إلى حسن العادة، وإلا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة، وإلا فأت ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة، فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصر، حتى إذا صرت إلى من هفوته ذكر، وذنبه نسيان، ومن لا يعرف الشكر إلا لك والإنعام إلا منك، هجمت عليه بالعقوبة! واعلم - أيدك الله! - أن شين غضبك علي كزين صفحك عني، وأن موت ذكري مع انقطاع سببي منك كحياة ذكرك مع اتصال سببي بك، واعلم أن لك فطنة عليم وغفلة كريم. والسلام. (118) وصف الجاحظ لقريش وبني هاشم
قد علم الناس كيف كرم قريش وسخاؤها، وكيف عقولها ودهاؤها، وكيف رأيها وذكاؤها، وكيف سياستها وتدبيرها، وكيف إيجازها وتحسيرها، وكيف رجاحة أحلامها إذا خف الحليم، وحدة أذهانها إذا كل الحديد، وكيف صبرها عند اللقاء، وثباتها في اللأواء، وكيف وفاؤها إذا استحسن الغدر، وكيف جودها إذا حب المال، وكيف ذكرها لأحاديث غد، وقلة صدودها عن جهة القصد، وكيف إقرارها بالحق وصبرها عليه، وكيف وصفها له ودعاؤها إليه، وكيف سماحة أخلاقها وصونها لأعراقها، وكيف وصلوا قديمهم بحديثهم، وطريفهم بتليدهم، وكيف أشبه علانيتهم سرهم، وقولهم فعلهم، وهل سلامة صدر أحدهم إلا على قدر بعد غديره؟ وهل غفلته إلا في وزن صدق ظنه؟ وهل ظنه إلا كيقين غيره؟ (119) درتا زين لقرتي عين
حكي عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي قال: كانت عتابة أم جعفر بن يحيى تزور أمي، وكانت لبيبة من النساء حازمة، فصيحة، برزة، يعجبني أن أجدها عند أمي، فأستكثر من حديثها، فقلت لها يوما: يا أم جعفر، إن بعض الناس يفضل جعفرا على الفضل، وبعضهم يفضل الفضل على جعفر، فأخبريني، فقالت: ما زلنا نعرف الفضل للفضل، فقلت: إن أكثر الناس على خلاف هذا، فقالت: ها أنا أحدثك، واقض أنت - وذلك الذي أردت منها - فقالت: كانا يوما يلعبان في داري، فدخل أبوهما فدعا بالغذاء وأحضرهما فطعما معه، ثم آنسهما بحديثه، ثم قال لهما: أتلعبان بالشطرنج؟ فقال جعفر وكان أجرأهما: نعم، قال: فهل لاعبت أخاك بها؟ قال جعفر: لا، قال: فالعبا بها بين يدي لأرى لمن الغلب، فقال جعفر: نعم. وكان الفضل أبصر منه بها، فجيء بالشطرنج فصفت بينهما، وأقبل عليها جعفر وأعرض عنها الفضل، فقال له أبوه: ما لك لا تلاعب أخاك؟ فقال: لا أحب ذلك، فقال جعفر: إنه يرى أنه أعلم بها فيأنف من ملاعبتي وأنا ألاعبه مخاطرة، فقال الفضل: لا أفعل، فقال أبوه: لاعبه وأنا معك، فقال جعفر: رضيت. وأبى الفضل واستعفى أباه فأعفاه. ثم قالت لي: قد حدثتك فاقض، فقلت: قد قضيت للفضل بالفضل على أخيه، فقالت: لو علمت أنك لا تحسن القضاء لما حكمتك، أفلا ترى أن جعفرا قد سقط أربع سقطات تنزه الفضل عنهن؛ فسقط حين اعترف على نفسه بأنه يلعب بالشطرنج، وكان أبوه صاحب جد، وسقط على التزام ملاعبة أخيه وإظهار الشهوة لغلبه والتعرض لغضبه، وسقط في طلب المقامرة وإظهار الحرص على مال أخيه، والرابعة قاصمة الظهر حين قال أبوه لأخيه: لاعبه وأنا معك، فقال أخوه: لا وقال هو: نعم، فناصب صفا فيه أبوه وأخوه. فقلت: أحسنت والله، وإنك لأقضى من الشعبي، ثم قلت لها: عزمت عليك، أخبريني هل خفي مثل هذا على جعفر وقد فطن له أخوه؟ فقالت: لولا العزيمة لما أخبرتك، إن أباهما لما خرج قلت للفضل خالية به: ما منعك من إدخال السرور على أبيك بملاعبة أخيك؟ فقال: أمران؛ أحدهما: لو أني لاعبته لغلبته فأخجلته، والثاني: قول أبي: لاعبه وأنا معك، فما يسرني أن يكون أبي معي على أخي. ثم خلوت بجعفر فقلت له: يسأل أبوك عن اللعب بالشطرنج فيصمت أخوك وتعترف وأبوك صاحب جد؟! فقال: إني سمعت أبي يقول: نعم لهو البال المكدود، وقد علم ما نلقاه من كد التعلم والتأدب، ولم آمن أن يكون بلغه أنا نلعب بها ولا أن يبادر فينكر، فبادرت بالإقرار إشفاقا على نفسي وعليه، وقلت: إن كان توبيخ فديته من المواجهة به. فقلت له: يا بني، فلم تقول: ألاعبه مخاطرة كأنك تقامر أخاك وتستكثر ماله؟ فقال: كلا، ولكنه يستحسن الدواة التي وهبها لي أمير المؤمنين فعرضتها عليه فأبى قبولها، وطمعت أن يلاعبني فأخاطره عليها وهو يغلبني فتطيب نفسه بأخذها. فقلت لها: يا أماه، ما كانت هذه الدواة؟ فقالت: إن جعفرا دخل على أمير المؤمنين فرأى بين يديه دواة من العقيق الأحمر محلاة بالياقوت الأزرق والأصفر، فرآه ينظر إليها فوهبها له، فقلت: إيه. فقالت: ثم قلت لجعفر: هبك اعتذرت بما سمعت، فما عذرك من الرضا بمناصبة أبيك حين قال: لاعبه وأنا معك، فقلت أنت: نعم، وقال هو: لا؟ فقال: عرفت أنه غالبني، ولو فتر لعبه لتغالبت له مع ما له من الشرف والسرور بتحيز أبيه إليه!
قال محمد بن عبد الرحمن: فقلت: بخ بخ، هذه والله السيادة! ثم قلت لها: يا أماه، أكان منهما من بلغ الحلم؟ فقالت: يا بني، أين يذهب بك، أخبرك عن صبيين يلعبان فتقول: أكان منهما من بلغ الحلم؟! لقد كنا ننهى الصبي إذا بلغ العشر وحضر من يستحى منه أن يبتسم. (120) درتا زين لقرتي عين
يحكى أن الفضل بن سهل أرسل وهب بن سعيد إلى فارس محاسبا لعمالها فبلغه أنه خان، فعزله وسخط عليه، وبعث به إلى أخيه الحسن بن سهل لينظر في أمره، فأحس وهب بن سعيد بالشر فأوصى إلى رجل من أهل واسط ثقة موسر يتحرف بالجزارة، ويتجر في الجلود، فأعطاه مالا عظيما، وضم إليه ولديه الحسن وسليمان، وهما صغيران، ثم توجه وهب إلى بغداد، فغرق وهلك غرقا، فلما بلغ ذلك الوصي أخبر به الغلامين، وقال: اختارا حرفة تحترفان بها، وإن اخترتما الجزارة وبيع الجلود بصرتكما بذلك، ولكما عندي مال سأشتري لكما به ضياعا تستظهران بها على أحداث الزمان، فقالا: ما لنا ولحرف العوام وصناعاتهم، وإنما حرفة أمثالنا جزر أعناق الرجال في القراطيس. فسمع الجزار كلاما لا عهد له بسماع مثله فتهيبهما الوصي، ورأى بزا ليس من سوقه فضم إليهما من يؤدبهما ويصلح من شأنهما، فلما اشتدا قالا لوصيهما: إن واسط لا تفي لنا بما نرومه من العلم ونؤمله من الرئاسة، فقال لهما الوصي: إن مثلكما لا يولى عليه، فمراني بأمركما أطع، فقالا له: جهزنا إلى معترض العلماء ومستقر الخلفاء. فجهزهما إلى بغداد ودفع إليهما من المال ما أحباه.
وذكر الصولي أنه دفع إليهما مالهما كله. فلما صارا إلى بغداد نالا ما أملا من الرئاسة والعلم، ثم كتبا معا في دار المأمون في حال غلوميتهما وصغر سنهما. ورأى المأمون يوما أحدهما في الدار يمشي فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا الناشئ في دولتك، المغتذي بنعمتك، المكرم بخدمتك، عبدك وابن عبدك سليمان بن وهب، فقال المأمون: أحسنت يا غلام. ثم إن المأمون دعا سليمان بن وهب، وهو غلام، فأمره أن يكتب بين يديه كتابا لم يبلغ قدره أن يكتب مثله، فحرره على ما أراد المأمون على أحسن خط، وأصح ضبط، وأسهل لفظ، وأجود معنى، فسر به المأمون سرورا ظهر عليه. فلما خرج سليمان كتب إليه بعض إخوان أبيه يقول:
أبوك كلفك الشأو البعيد كما
قدما تكلفه وهب أبو حسن
فلست تحمد إن أدركت غايته
ولست تعذر مسبوقا فلا تهن
ولم تزل أمورهما تنمي حتى نالا الوزارة. وحكي أن ابن يزيد بن محمد المهلبي وفد على سليمان بن وهب حين استوزر، فسر به، وعرف له فضله، وأجلسه إلى جانبه، فأنشده قوله:
وهبتم لنا يا آل وهب مودة
فأبقت لنا مالا ومجدا يؤثل
فمن كان للآثام والذل أرضه
فأرضكم للأجر والعز منزل
رأى الناس فوق المجد مقدار فضلكم
فقد سألوكم فوق ما كان يسأل
يقصر عن مسعاتكم كل آخر
وما فاتكم ممن تقدم أول
بلغت الذي قد كنت آمله لكم
وإن كنت لم أبلغ بكم ما أؤمل
فقطع عليه سليمان إنشاده، وقال: لا تقل ذلك، أصلحك الله! فإنك عندي كما أنشدني عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، حيث قال:
أقهقه مسرورا إذا أنت سالم
وأبكي من الأشواق حين تغيب
فقال له المهلبي: فليسمع الوزير من آخر الشعر ما يحقر أوله، فقال: هات، فأنشأ يقول:
وما لي حق واجب غير أنني
بجودكم في حاجتي أتوسل
وإنكم أفضلتم وبرزتم
وقد يستتم النعمة المتفضل
وأوليتم فعلا جميلا مقدما
فعودوا فإن العود بالحر أجمل
فكم ملحف قد نال ما رام منكم
ويمنعنا عن مثل ذاك التجمل
وعودتمونا قبل أن نسأل الغنى
ولا وجه للمعروف والوجه يبذل
فقال سليمان: والله، لا تبرح حتى أقضي حوائجك كائنة ما كانت، ولو لم أفد مما أنالني أمير المؤمنين إلا شكرك لرأيت بذلك جنابي ممرعا وزرعي مرتعا. ثم وقع له في رقاع كثيرة كانت معه بجميع ما أراد. (121) وقال أبو الطيب يمدح أبا شجاع فاتكا وكان يلقب بالمجنون
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
واجز الأمير الذي نعماه فاجئة
بغير قول ونعمى الناس أقوال
فربما جزت الإحسان موليه
خريدة من عذارى الحي مكسال
وإن تكن محكمات الشكل تمنعني
ظهور جري فلي فيهن تصهال
وما شكرت لأن المال فرحني
سيان عندي إكثار وإقلال
لكن رأيت قبيحا أن يجاد لنا
وأننا بقضاء الحق بخال
فكنت منبت روض الحزن باكره
غيث بغير سباخ الأرض هطال
غيث يبين للنظار موقعه
أن الغيوث بما تأتيه جهال
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
لما يشق على السادات فعال
لا وارث جهلت يمناه ما وهبت
ولا كسوب بغير السيف سئال
قال الزمان له قولا فأفهمه
أن الزمان على الإمساك عذال
تدري القناة إذا اهتزت براحته
أن الشقي بها خيل وأبطال
كفاتك ودخول الكاف منقصة
كالشمس قلت وما للشمس أمثال
القائد الأسد غذتها براثنه
بمثلها من عداه وهي أشبال
القاتل السيف في جسم القتيل به
وللسيوف كما للناس آجال
تغير عنه على الغارات هيبته
وما له بأقاصي البر أهمال
له من الوحش ما اختارت أسنته
عير وهيق وخنساء وذيال
تمسي الضيوف مشهاة بعقوته
كأن أوقاتها في الطيب آصال
لو اشتهت لحم قاريها لبادرها
خراذل منه في الشيزى وأوصال
لا يعرف الرزء في مال ولا ولد
إلا إذا احتفز الضيفان ترحال
يروي صدى الأرض من فضلات ما شربوا
محض اللقاح وصافي اللون سلسال
تقري صوارمه الساعات عبط دم
كأنما الساع نزال وقفال
تجري النفوس حواليه مخلطة
منها عداة وأغنام وآبال
لا يحرم البعد أهل البعد نائله
وغير عاجزة عنه الأطيفال
أمضى الفريقين في أقرانه ظبة
والبيض هادية والسمر ضلال
يريك مخبره أضعاف منظره
بين الرجال وفيها الماء والآل
وقد يلقبه المجنون حاسده
إذا اختلطن وبعض العقل عقال
يرمي بها الجيش لا بد له ولها
من شقه ولو ان الجيش أجبال
إذا العدى نشبت فيهم مخالبه
لم يجتمع لهم حلم وريبال
يروعهم منه دهر صرفه أبدا
مجاهر وصروف الدهر تغتال
أناله الشرف الأعلى تقدمه
فما الذي بتوقي ما أتى نالوا
إذا الملوك تحلت كان حليته
مهند وأصم الكعب عسال
أبو شجاع أبو الشجعان قاطبة
هول نمته من الهيجاء أهوال
تملك الحمد حتى ما لمفتخر
في الحمد حاء ولا ميم ولا دال
عليه منه سرابيل مضاعفة
وقد كفاه من الماذي سربال
وكيف أستر ما أوليت من حسن
وقد غمرت نوالا أيها النال
لطفت رأيك في بري وتكرمتي
إن الكريم على العلياء يحتال
حتى غدوت وللأخبار تجوال
وللكواكب في كفيك آمال
وقد أطال ثنائي طول لابسه
إن الثناء على التنبال تنبال
إن كنت تكبر أن تختال في بشر
فإن قدرك في الأقدار يختال
كأن نفسك لا ترضاك صاحبها
إلا وأنت على المفضال مفضال
ولا تعدك صوانا لمهجتها
إلا وأنت لها في الروع بذال
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال
وإنما يبلغ الإنسان طاقته
ما كل ماشية بالرجل شملال
إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال (122) قال أبو الطيب المتنبي يرثي أبا شجاع فاتكا
الحزن يقلق والتجمل يردع
والدمع بينهما عصي طيع
يتنازعان دموع عين مسهد
هذا يجيء بها وهذا يرجع
النوم بعد أبي شجاع نافر
والليل معي والكواكب طلع
إني لأجبن من فراق أحبتي
وتحس نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب الأعادي قسوة
ويلم بي عتب الصديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل
عما مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه
ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه
ما قومه ما يومه ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن أصحابها
حينا ويدركها الفناء فتتبع
لم يرض قلب أبي شجاع مبلغ
قبل الممات ولم يسعه موضع
كنا نظن دياره مملوءة
ذهبا فمات وكل دار بلقع
وإذا المكارم والصوارم والقنا
وبنات أعوج كل شيء يجمع
المجد أخسر والمكارم صفقة
من أن يعيش بها الكريم الأروع
والناس أنزل في زمانك منزلا
من أن تعايشهم وقدرك أرفع
برد حشاي إن استطعت بلفظة
فلقد تضر إذا تشاء وتنفع
ما كان منك إلى خليل قبلها
ما يستراب به ولا ما يوجع
ولقد أراك وما تلم ملمة
إلا نفاها عنك قلب أصمع
ويد كأن قتالها ونوالها
فرض يحق عليك وهو تبرع
يا من يبدل كل يوم حلة
أنى رضيت بحلة لا تنزع؟!
ما زلت تخلعها على من شاءها
حتى لبست اليوم ما لا تخلع
ما زلت تدفع كل أمر فادح
حتى أتى الأمر الذي لا يدفع
فظللت تنظر لا رماحك شرع
فيما عراك ولا سيوفك قطع
بأبي الوحيد وجيشه متكاثر
يبكي ومن شر السلاح الأدمع
وإذا حصلت من السلاح على البكا
فحشاك رعت به وخدك تقرع
وصلت إليك يد سواء عندها
ألباز الاشهب والغراب الأبقع
من للمحافل والجحافل والسرى
فقدت بفقدك نيرا لا يطلع
ومن اتخذت على الضيوف خليفة
ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيع
قبحا لوجهك يا زمان فإنه
وجه له من كل لؤم برقع
أيموت مثل أبي شجاع فاتك
ويعيش حاسده الخصي الأوكع؟!
أيد مقطعة حوالي رأسه
وقفا يصيح بها ألا من يصفع؟
أبقيت أكذب كاذب أبقيته
وأخذت أصدق من يقول ويسمع
وتركت أنتن ريحة مذمومة
وسلبت أطيب ريحة تتضوع
فاليوم قر لكل وحش نافر
دمه وكان كأنه يتطلع
وتصالحت ثمر السياط وخيله
وأوت إليها سوقها والأذرع
وعفا الطراد فلا سنان راعف
فوق القناة ولا حسام يلمع
ولى وكل مخالم ومنادم
بعد اللزوم مشيع ومودع
من كان فيه لكل قوم ملجأ
ولسيفه في كل قوم مرتع
إن حل في فرس ففيها ربها
كسرى تذل له الرقاب وتخضع
أو حل في روم ففيها قيصر
أو حل في عرب ففيها تبع
قد كان أسرع فارس في طعنة
فرسا ولكن المنية أسرع
لا قلبت أيدي الفوارس بعده
رمحا ولا حملت جوادا أربع (123) وللمتنبي يمدح سيف الدولة ويذكر بناء قلعة الحدث
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
ويعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
يكلف سيف الدولة الجيش همه
وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
ويطلب عند الناس ما عند نفسه
وذلك ما لا تدعيه الضراغم
يفدي أتم الطير عمرا سلاحه
نسور الملا أحداثها والقشاعم
وما ضرها خلق بغير مخالب
وقد خلقت أسيافه والقوائم
هل الحدث الحمراء تعرف لونها
وتعلم أي الساقيين الغمائم؟
سقتها الغمام الغر قبل نزوله
فلما دنا منها سقتها الجماجم
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا
وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
ومن جثث القتلى عليها تمائم
طريدة دهر ساقها فرددتها
على الدين بالخطي والدهر راغم
تفيت الليالي كل شيء أخذته
وهن لما يأخذن منك غوارم
وكيف ترجي الروم والروس هدمها
وذا الطعن آساس لها ودعائم؟
وقد حاكموها والمنايا حواكم
فما مات مظلوم ولا عاش ظالم
أتوك يجرون الحديد كأنهم
سروا بجياد ما لهن قوائم
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم
ثيابهم من مثلها والعمائم
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة
فما تفهم الحداث إلا التراجم
فلله وقت ذوب الغش ناره
فلم يبق إلا صارم أو ضبارم
تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا
وفر من الأبطال من لا يصادم
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
ضممت جناحيهم على القلب ضمة
تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب
وصار إلى اللبات والنصر قادم
حقرت الردينيات حتى طرحتها
وحتى كأن السيف للرمح شاتم
ومن طلب الفتح الجليل فإنما
مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة
كما نثرت فوق العروس الدراهم
تدوس بك الخيل الوكور على الذرى
وقد كثرت حول الوكور المطاعم
تظن فراخ الفتخ أنك زرتها
بأماتها وهي العتاق الصلادم
إذا زلقت مشيتها ببطونها
كما تتمشى في الصعيد الأراقم
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم
قفاه على الإقدام للوجه لائم؟
أينكر ريح الليث حتى يذوقه
وقد عرفت ريح الليوث البهائم
وقد فجعته بابنه وابن صهره؟
وبالصهر حملات الأمير الغواشم
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبا
بما شغلتها هامهم والمعاصم
ويفهم صوت المشرفية فيهم
على أن أصوات السيوف أعاجم
يسر بما أعطاك لا عن جهالة
ولكن مغنوما نجا منك غانم
لك الحمد في الدر الذي لي لفظه
فإنك معطيه وإني ناظم
وإنى لتعدو بي عطاياك في الوغى
فلا أنا مذموم ولا أنت نادم
على كل طيار إليها برجله
إذا وقعت في مسمعيه الغماغم
ألا أيها السيف الذي لست مغمدا
ولا فيك مرتاب ولا منك عاصم
هنيئا لضرب الهام والمجد والعلا
وراجيك والإسلام أنك سالم
ولم لا يقي الرحمن حديك ما وقى
وتفليقه هام العدى بك دائم (124) بعض حكم المتنبي
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
وقال أيضا:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقال أيضا:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
وقال أيضا:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
وقال أيضا:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
وأكبر نفسي عن جراء بغيبة
وكل اغتياب جهد من لا له جهد
وقال أيضا:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
وقال أيضا:
إذا لم تكن نفس النسيب كأصله
فماذا الذي تغني كرام المناصب؟!
وقال أيضا:
والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن جهله وخطاب من لا يفهم
والذل يظهر في الذليل مودة
وأود منه لمن يود الأرقم
ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وقال أيضا:
يرى الجبناء أن العجز عقل
وتلك خديعة الطبع اللئيم
وكل شجاعة في المرء تفنى
ولا مثل الشجاعة في حكيم
وكم من عائب قولا صحيحا
وآفته من الفهم السقيم!
وقال أيضا:
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق
والغنى في يد اللئيم قبيح
قدر قبح الكريم في الإملاق
وقال أيضا:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
وقال أيضا:
ولو كان النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
وقال أيضا:
من كان فوق محل الشمس موضعه
فليس يرفعه شيء ولا يضع
فقد يظن شجاعا من به خرق
وقد يظن جبانا من به زمع
إن السلاح جميع الناس تحمله
وليس كل ذوات المخلب السبع
وقال أيضا:
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى
ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
وقال أيضا:
وحيد من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
وقال أيضا:
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها
ويجهد أن يأتي لها بضريب
وقال أيضا:
ومن صحب الدنيا قليلا تقلبت
على عينه حتى يرى صدقها كذبا
ومن تكن الأسد الضواري جدوده
يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا
وقال أيضا:
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
إذا رأيت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث يبتسم
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة
إن المعارف في أهل النهى ذمم
شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وشر ما قنصته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه والرخم
وقال أيضا:
لعل عتبك محمود عواقبه
وربما صحت الأجسام بالعلل
لأن حلمك حلم لا تكلفه
ليس التكحل في العينين كالكحل
وقال أيضا:
وليس يصح في الأفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
وقال أيضا:
وما كمد الحساد شيء قصدته
ولكنه من يزحم البحر يغرق
وإطراق طرف العين ليس بنافع
إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
وقال أيضا:
أيدري ما أرابك من يريب؟
وهل ترقى إلى الفلك الخطوب؟!
وقال أيضا:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقال أيضا:
وأتعب من ناداك من لا تجيبه
وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وقال أيضا:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وقال أيضا:
وما الحسن في وجه الفتى شرفا له
إذا لم يكن في فعله والخلائق
وما بلد الإنسان غير الموافق
ولا أهله الأدنون غير الأصادق
وقال أيضا:
وإذا لم تجد من الناس كفؤا
ذات خدر تمنت الموت بعلا
وإذا الشيخ قال أف فما مل
حياة وإنما الضعف ملا
آلة العيش صحة وشباب
فإذا وليا عن المرء ولى
وقال أيضا:
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
من أراد التماس شيء غلابا
واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
كل غاد لحاجة يتمنى
أن يكون الغضنفر الرئبالا
وقال أيضا:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
ولربما طعن الفتى أقرانه
بالرأي قبل تطاعن الأقران
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان
وقال أيضا:
وعاد في طلب المتروك تاركه
إنا لنغفل والأيام في الطلب
وما قضى أحد منها لبانته
ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
ومن تفكر في الدنيا ومهجته
أقامه الفكر بين العجز والتعب
وقال أيضا:
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة
فلا تستعدن الحسام اليمانيا
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى
ولا تتقى حتى تكون ضواريا
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى
فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
وللنفس أخلاق تدل على الفتى
أكان سخاء ما أتى أم تساخيا
وقال أيضا:
فما الحداثة عن حلم بمانعة
قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
وقال أيضا:
وما الصارم الهندي إلا كغيره
إذا لم يفارقه النجاد وغمده
وقال أيضا:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
وأحلم عن خلي وأعلم أنه
متى أجزه حلما على الجهل يندم
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها
سرور محب أو إساءة مجرم
وقال أيضا:
إنما تنجح المقالة في المر
ء إذا وافقت هوى في الفؤاد
وقال أيضا:
وكل امرئ يولي الجميل محبب
وكل مكان ينبت العز طيب
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها
ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
وقال أيضا:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال أيضا:
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن يكون جبانا
كل ما لم يكن من الصعب في الأن
فس سهل فيها إذا هو كانا
وقال أيضا:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال
وقال أيضا:
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
وقال أيضا:
وللسر مني موضع لا يناله
نديم ولا يفضي إليه شراب
أعز مكان في الدنا ظهر سابح
وخير جليس في الزمان كتاب
وقال أيضا:
ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
وقال أيضا:
أين الذي الهرمان من بنيانه
ما قومه ما يومه ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن أصحابها
حينا ويدركها الفناء فتتبع
وقال أيضا:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الأنام ولو كانوا ذوي رحم
وقال أيضا:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين لقيان المعالي رخيصة
ولا بد دون الشهد من إبر النحل (125) قال أبو فراس الحمداني يصف قتال سيف الدولة لأهل قنسرين وقبائل العرب
ولما سار سيف الدين سرنا
كما هيجت آسادا غضابا
أسنته إذا لاقى طعانا
صوارمه إذا لاقى ضرابا
دعانا والأسنة مشرعات
فكنا عند دعوته الجوابا
صنائع فاق صانعها ففاقت
وغرس طاب غارسه فطابا
وكنا كالسهام إذا أصابت
مراميها فراميها أصابا
فلما اشتدت الهيجاء كنا
أشد مخالبا وأحد نابا
وأمنع جانبا وأعز جارا
وأوفى ذمة وأقل عابا
سقينا بالرماح بني قشير
ببطن العنتر السم المذابا
وسرنا بالخيول إلى نمير
تجاذبنا أعنتها جذابا
ولما أيقنوا أن لا غياث
دعوه للمغوثة فاستجابا
وعاد إلى الجميل لهم فعادوا
وقد مدوا لما يهوى الرقابا
أمر عليهم خوفا وأمنا
أذاقهم به أريا وصابا
أحلهم الجزيرة بعد يأس
أخو حلم إذا ملك العقابا
ديارهم انتزعناها اقتسارا
وأرضهم اغتصبناها اغتصابا
ولو رمنا حميناها البوادي
كما تحمي أسود الغاب غابا
إذا ما أرسل الأمراء جيشا
إلى الأعداء أرسلنا الكتابا
أنا ابن الضاربين الهام قدما
إذا كره المحامون الضرابا
ألم تعلم ومثلك قال حقا
بأني كنت أثقبها شهابا؟ (126) كتب أبو بكر الخوارزمي إلى تلميذ له قد ظهر عليه الجدري
وصلني خبر الجدري، فنال مني، وهيج حزني، وراع قلبي، وأسهر عيني، وهذه العلة - وإن كانت موجعة، وفي رأي العين فظيعة شنيعة - فإنها إلى السلامة أقرب، وطريقها إلى الحياة أقصد؛ لأن عين الطبيب تقع عليها، وظاهر الداء أسلم من باطنه، وبارز الجرح أهون من كامنه. ولعمري، إنها تورث سواد اللون، وتذهب من الوجه بديباجة الحسن، ولكن ذلك يسير في جنب السلامة للروح اللطيفة، والنفس الشريفة. ولست أستطيع لك غير الدعاء، لا أسأل صحتك إلا ممن خلق علتك. وأرى لك أن تحسن ظنك بربك، وتستغفر من ذنبك، وتجعل الصدقة شفيعك، واليقين طبيبك، وتعلم أنه لا داء أدوأ من أجل، ولا دواء أشفى من مهل، ولا فراش أوطأ من أمل. شفاك الله - تعالى - وحسبك به طبيبا! (127) المقامة الحرزية للبديع الهمذاني
حدثنا عيسى بن هشام قال: لما بلغت بي الغربة باب الأبواب، ورضيت من الغنيمة بالإياب، ودونه من البحر وثاب بغاربه، ومن السفن عساف براكبه، استخرت الله في القفول، وقعدت من الفلك بمثابة الهلك، ولما ملكنا البحر وجن علينا الليل غشيتنا سحابة تمد من الأمطار حبالا، وتحوذ من الغيم جبالا، بريح ترسل الأمواج أزواجا، والأمطار أفواجا. وبقينا في يد الحين، بين البحرين، لا نملك عدة غير الدعاء، ولا حيلة إلا البكاء، ولا عصمة غير الرجاء، وطويناها ليلة نابغية، وأصبحنا نتباكى ونتشاكى، وفينا رجل لا يخضل جفنه، ولا تبتل عينه، رخي الصدر منشرحه، نشيط القلب فرحه، فعجبنا والله كل العجب، وقلنا له: ما الذي آمنك من العطب؟ فقال: حرز لا يغرق صاحبه، ولو شئت أن أمنح كلا منكم حرزا لفعلت. فكل رغب إليه، وألح في المسألة عليه، فقال: لن أفعل ذلك حتى يعطيني كل واحد منكم دينارا الآن، ويعدني دينارا إذا سلم.
قال عيسى بن هشام: فنقدناه ما طلب، ووعدناه ما خطب، وآبت يده إلى جيبه، فأخرج قطعة ديباج، فيها حقة عاج، قد ضمن صدرها رقاعا، وحذف كل واحد منا بواحدة منها، فلما سلمت السفينة، وأحلتنا المدينة، اقتضى الناس ما وعدوه، فنقدوه، وانتهى الأمر إلي فقال: دعوه، فقلت: لك ذلك بعد أن تعلمني سر حالك، قال: أنا من بلاد الإسكندرية، فقلت: كيف نصرك الصبر وخذلنا؟ فأنشأ يقول:
ويك! لولا الصبر ما كن
ت ملأت الكيس تبرا
لن ينال المجد من ضا
ق بما يغشاه صدرا
ثم ما أعقبني السا
عة ما أعطيت ضرا
بل به أشتد أزرا
وبه أجبر كسرا
ولو اني اليوم في الغر
قى لما كلفت عذرا (128) المقامة البشرية له
حدثنا عيسى بن هشام قال: كان بشر بن عوانة العبدي صعلوكا، فأغار على ركب فيهم امرأة جميلة، فتزوج بها، وقال: ما رأيت كاليوم، فقالت:
أعجب بشرا حور في عيني
وساعد أبيض كاللجين
ودونه مسرح طرف العين
خمصانة ترفل في حجلين
أحسن من يمشي على رجلين
لو ضم بشر بينها وبيني
أدام هجري وأطال بيني
ولو يقيس زينها بزيني
لأسفر الصبح لذي عينين
قال بشر: ويحك! من عنيت؟ فقالت: بنت عمك فاطمة، فقال: أهي من الحسن بحيث وصفت؟ قالت: وأزيد وأكثر، فأنشأ يقول:
ويحك يا ذات الثنايا البيض!
ما خلتني منك بمستعيض
فالآن إذ لوحت بالتعريض
خلوت جوا فاصفري وبيضي
لا ضم جفناي على تغميض
ما لم أشل عرضي من الحضيض
فقالت:
كم خاطب في أمرها ألحا
وهي إليك ابنة عم لحا
ثم أرسل إلى عمه يخطب ابنته، ومنعه العم أمنيته، فآلى ألا يرعي على أحد منهم إن لم يزوجه ابنته، ثم كثرت مضراته فيهم، واتصلت معراته إليهم؛ فاجتمع رجال الحي إلى عمه، وقالوا: كف عنا مجنونك، فقال: لا تلبسوني عارا، وأمهلوني حتى أهلكه ببعض الحيل، فقالوا: أنت وذاك. ثم قال له عمه: إني آليت أن لا أزوج ابنتي هذه إلا ممن يسوق إليها ألف ناقة مهرا، ولا أرضاها إلا من نوق خزاعة. وغرض العم كان أن يسلك بشر الطريق بينه وبين خزاعة فيفترسه الأسد؛ لأن العرب قد كانت تحامت عن ذلك الطريق، وكان فيه أسد يسمى داذا، وحية تدعى شجاعا، يقول فيهما قائلهم:
أفتك من داذ ومن شجاع
إن يك داذ سيد السباع
فإنها سيدة الأفاعي
ثم إن بشرا سلك ذلك الطريق، فما نصفه حتى لقي الأسد، وقمص مهره، فنزل وعقره، ثم اخترط سيفه إلى الأسد واعترضه، وقطه، ثم كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمه:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذن لرأيت ليثا زار ليثا
هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
تبنهس حين أحجم عنه مهري
محاذرة فقلت عقرت مهرا
أنل قدمي ظهر الأرض إني
رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالا
محددة ووجها مكفهرا
يكفكف غيلة إحدى يديه
ويبسط للوثوب علي أخرى
يدل بمخلب وبحد ناب
وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ماضي الحد أبقى
بمضربه قراع الموت أثرا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه
بكاظمة غداة لقيت عمرا؟
وقلبي مثل قلبك ليس يخشى
مصاولة فكيف يخاف ذعرا؟
وأنت تروم للأشبال قوتا
وأطلب لابنة الأعمام مهرا
ففيم تسوم مثلي أن يولي
ويجعل في يديك النفس قسرا؟
نصحتك فالتمس يا ليث غيري
طعاما إن لحمي كان مرا
فلما ظن أن الغش نصحى
وخالفني كأني قلت هجرا
مشى ومشيت من أسدين راما
مراما كان إذ طلباه وعرا
هززت له الحسام فخلت أني
سللت به لدى الظلماء فجرا
وجدت له بجائشة أرته
بأن كذبته ما منته غدرا
وأطلقت المهند من يميني
فقد له من الأضلاع عشرا
فخر مجدلا بدم كأني
هدمت به بناء مشمخرا
وقلت له يعز علي أني
قتلت مناسبي جلدا وفخرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه
سواك فلم أطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا
لعمر أبيك! قد حاولت نكرا
فلا تجزع فقد لاقيت حرا
يحاذر أن يعاب فمت حرا
فلما بلغت الأبيات عمه، ندم على ما منعه تزويجها، وخشي أن تغتاله الحية، فقام في أثره، وبلغه وقد ملكته سورة الحية، فلما رأى عمه أخذته حمية الجاهلية، فجعل يده في فم الحية، وحكم سيفه فيها، فقال:
بشر إلى المجد بعيد همه
لما رآه بالعراء عمه
قد ثكلته نفسه وأمه
جاشت به جائشة تهمه
قام إلى ابن للفلا يؤمه
فغاب فيه يده وكمه
ونفسه نفسي وسمي سمه
فلما قتل الحية، قال عمه: إني عرضتك طمعا في أمر قد ثنى الله عناني عنه، فارجع لأزوجك ابنتي، فلما رجع جعل بشر يملأ فمه فخرا، حتى طلع أمرد كشق القمر على فرسه مدججا في سلاحه، فقال بشر: يا عم، إني أسمع حس صيد، وخرج فإذا بغلام على قيد، فقال: ثكلتك أمك يا بشر ! أن قتلت دودة وبهيمة تملأ ماضغيك فخرا؟ أنت في أمان إن سلمت عمك، فقال بشر: من أنت لا أم لك؟ قال: اليوم الأسود والموت الأحمر، فقال بشر: ثكلتك من سلحتك! فقال: يا بشر، ومن سلحتك؟ وكر كل واحد منهما على صاحبه، فلم يتمكن بشر منه، وأمكن الغلام عشرون طعنة في كلية بشر، كلما مسه شبا السنان حماه عن بدنه إبقاء عليه، ثم قال: يا بشر، كيف ترى؟ أليس لو أردت لأطعمتك أنياب الرمح؟ ثم ألقى رمحه واستل سيفه فضرب بشرا عشرين ضربة بعرض السيف، ولم يتمكن بشر من واحدة، ثم قال: يا بشر، سلم عمك واذهب في أمان، قال: نعم، ولكن بشريطة أن تقول لي من أنت، فقال: أنا ابنك! فقال: يا سبحان الله! ما قاربت عقيلة قط فأنى هذه المنحة؟! فقال: أنا ابن المرأة التي دلتك على ابنة عمك، فقال بشر:
تلك العصا من هذه العصية
هل تلد الحية إلا الحية؟
وحلف لا ركب حصانا، ولا تزوج حصانا، ثم زوج ابنة عمه لابنه. (129) آداب الصداقة لابن مسكويه
يجب عليك متى حصل لك صديق أن تكثر مراعاته، وتبالغ في تفقده، ولا تستهين باليسير من حقه عند مهم يعرض له أو حادث يحدث به. فأما في أوقات الرخاء، فينبغي أن تلقاه بالوجه الطلق، والخلق الرحب، وأن تظهر له في عينك وحركاتك وفي هشاشتك وارتياحك عند مشاهدته إياك ما يزداد به في كل يوم وكل حال ثقة بمودتك وسكونا إليك، ويرى السرور في جميع أعضائك التي يظهر السرور فيها إذا لقيك. فإن التحفي الشديد عند طلعة الصديق لا يخفى، وسرور الشكل بالشكل أمر غير مشكل. ثم ينبغي أن تفعل مثل ذلك بمن تعلم أنه يؤثره ويحبه من صديق أو ولد أو تابع أو حاشية، وتثنى عليهم من غير إسراف يخرج بك إلى الملق الذي يمقتك عليه ويظهر لك منك تكلف فيه، وإنما يتم لك ذلك إذا تواخيت الصدق في كل ما تثني به عليه. والزم هذه الطريقة حتى لا يقع منك توان فيها بوجه من الوجوه وفي حال من الأحوال، فإن ذلك يجلب المحبة الخالصة ويكسب الثقة التامة ويهديك محبة الغرباء ومن لا معرفة لك به. وكما أن الحمام إذا ألف بيوتنا وآنس لمجالسنا وطاف بها يجلب لنا أشكاله وأمثاله، فكذلك حال الإنسان إذا عرفنا واختلط بنا اختلاط الراغب فينا الآنس بنا، بل يزيد على الحيوان الغير الناطق بحسن الوصف وجميل الثناء ونشر المحاسن. واعلم أن مشاركة الصديق في السراء إذا كنت فيها وإن كانت واجبة عليك حتى لا تستأثرها ولا تختص بشيء منها، فإن مشاركته في الضراء أوجب وموقعها عنده أعظم. وانظر عند ذلك إن أصابته نكبة أو لحقته مصيبة أو عثر به الدهر كيف تكون مواساتك له بنفسك ومالك، وكيف يظهر له تفقدك ومراعاتك، ولا تنتظرن به أن يسألك تصريحا أو تعريضا، بل اطلع على قلبه واسبق إلى ما في نفسه وشاركه في مضض ما لحقه ليخف عنه. وإن بلغت مرتبة من السلطان والغنى فاغمس إخوانك فيها من غير امتنان ولا تطاول. وإن رأيت من بعضهم نبوا عنك أو نقصانا مما عهدته فداخله زيادة مداخلة واختلط به واجتذبه إليك، فإنك إن أنفت من ذلك أو تداخلك شيء من الكبر والصلف عليهم انتقض حبل المودة وانتكثت قوته، ومع ذلك فلست تأمن أن يزولوا عنك فتستحي منهم وتضطر إلى قطيعتهم حتى لا تنظر إليهم. ثم حافظ على هذه الشروط بالمداومة عليها لتبقى المودة على حال واحدة. وليس هذا الشرط خاصا بالمودة بل هو مطرد في كل ما يخصك، أعني أن مركوبك وملبوسك ومنزلك متى لم تراعها مراعاة متصلة فسدت وانتقضت. فإذا كانت صورة حائطك وسطوحك كذلك ومتى غفلت أو توانيت لم تأمن تقوضه وتهدمه، فكيف ترى أن تجفو من ترجوه لكل خير وتنتظر مشاركته في السراء والضراء؟ ومع ذلك فإن ضرر تلك يختص بك بمنفعة واحدة، وأما صديقك فوجوه الضرر التي تدخل عليك بجفائه وانتقاض مودته كثيرة عظيمة، ذلك أنه ينقلب عدوا وتتحول منافعه مضارا، فلا تأمن غوائله وعداوته مع عدمك الرغائب والمنافع به، وينقطع رجاؤك فيما لا تجد له خلفا ولا تستفيد عنه عوضا ولا يسد مسده شيء، وإذا راعيت شروطه وحافظت عليها بالمداومة أمنت جميع ذلك.
ثم احذر المراء معه خاصة وإن كان واجبا أن تحذره مع كل أحد، فإن مماراة الصديق تقتلع المودة من أصلها؛ لأنها سبب الاختلاف، والاختلاف سبب التباين الذي هربنا منه إلى ضده وقبحنا أثره واخترنا عليه الألفة التي طلبناها وأثنينا عليها، وقلنا إن الله - عز وجل - دعا إليها بالشريعة القويمة. وإني لأعرف من يؤثر المراء ويزعم أنه يقدح خاطره ويشحذ ذهنه ويثير شكوكه، فهو يتعمد في المحافل التي تجمع رؤساء أهل النظر ومتعاطي العلوم مماراة صديقه ويخرج في كلامه معه إلى ألفاظ الجهال من العامة وسقاطهم؛ ليزيد في خجل صديقه، وليظهر تبلجه. وليس يفعل ذلك عند خلوته به ومذاكرته له، وإنما يفعله حين يظن به أنه أدق نظرا أو أحضر حجة وأغزر علما وأحد قريحة. فما كنت أشبهه إلا بأهل البغي وجبابرة أصحاب الأموال والمشبهين بهم من أهل البدع، فإن هؤلاء يستحقر بعضهم بعضا، ولا يزال يصغر بصاحبه ويزدري على مروءته ويتطلب عيوبه ويتتبع عثراته، ويبالغ كل واحد فيما يقدر عليه من إساءة صاحبه، حتى يؤدي بهم الحال إلى العداوة التامة التي يكون معها السعاية وإزالة النعم، وتجاوز ذلك إلى سفك الدم وأنواع الشرور. فكيف يثبت مع المراء محبة ويرجى به ألفة؟ ثم احذر في صديقك إن كنت متحققا بعلم أو متحليا بأدب أن تبخل عليه بذلك الفن أو يرى فيك أنك تحب الاستبداد دونه والاستئثار عليه، فإن أهل العلم لا يرى بعضهم في بعض ما يراه أهل الدنيا بينهم، ذلك أن متاع الدنيا قليل، فإذا تزاحم عليه قوم ثلم بعضهم حال بعض ونقص حظ كل واحد من حظ الآخر. وأما العلم فإنه بالضد، وليس أحد ينقص منه ما يأخذه غيره، بل يزكو على النفقة، ويربو مع الصداقة، ويزيد على الإنفاق وكثرة الخرج، فإذا بخل صاحب علم بعلمه فإنما ذلك لأحوال فيه كلها قبيحة، وهي أنه إما أن يكون قليل البضاعة منه، فهو يخاف أن يفنى ما عنده أو يرد عليه ما لا يعرفه فيزول تشرفه عند الجهال، وإما أن يكون مكتسبا به فهو يخشى أن يضيق مكسبه به وينقص حظه منه، وإما أن يكون حسودا، والحسود بعيد من كل فضيلة، لا يوده أحد. وإني لأعرف من لا يرضى بأن يبخل بعلم نفسه حتى يبخل بعلم غيره، ويكثر عتبه وسخطه على من لا يفيد غيره من التلاميذ المستحقين لفائدة العلم.
وكثيرا ما يتوصل البعض إلى أخذ الكتب من أصحابها ثم منعهم منها، وهذا خلق لا تبقى معه مودة بل يجلب إلى صاحبه عداوات لا يحسبها ويقطع أطماع أصدقائه من صداقته. ثم احذر أن تنبسط بأصحابك ومن يخلو بك من أتباعك وتحمل أحدا منهم على ذكر شيء في نفسه، ولا ترخص في عيب شيء يتصل به فضلا عن عيبه، ولا يطمعن أحد في ذلك من أولي أنسابك والمتصلين بك، لا جدا ولا هزلا، وكيف تحتمل ذلك فيه وأنت عينه وقلبه وخليفته على الناس كلهم بل أنت هو، فإنه إن بلغه شيء مما حذرتك منه لم يشك أن ذلك كان عن رأيك وهواك، فينقلب عدوا وينفر عنك نفور الضد. فإن عرفت منه أنت عيبا فوافقه عليه موافقة لطيفة ليس فيها غلظة، فإن الطبيب الرفيق ربما بلغ بالدواء اللطيف ما يبلغه غيره بالشق والقطع والكي، بل ربما توصل بالغذاء إلى الشفاء واكتفى به عن المعالجة بالدواء. ولست أحب أن تغضي عما تعرفه في صديقك وأن تترك موافقته عليه بهذا الضرب من الموافقة، فإن ذلك خيانة منك ومسامحة فيما يعود ضرره عليه. ثم احذر النميمة وسماعها، وذلك أن الأشرار يدخلون بين الأخيار في صورة النصحاء، فيوهمونهم النصيحة، وينقلون إليهم في عرض الأحاديث اللذيذة أخبار أصدقائهم محرفة مموهة حتى إذا تجاسروا عليهم بالحديث المختلق يصرحون لهم بما يفسد موداتهم ويشوه وجوه أصدقائهم إلى أن يبغض بعضهم بعضا. وللقدماء في هذه المعنى كتب مؤلفة يحذرون فيها من النميمة، ويشبهون صورة النمام بمن يحك بأظافيره أصول البنيان القوية حتى يؤثر فيها ثم لا يزال يزيد ويمعن حتى يدخل فيها المعول فيقلعه من أصله، ويضربون له الأمثال الكثيرة المشبهة بحديث الثور مع الأسد في كتاب كليلة ودمنة. ونحن نكتفي بهذا القدر من الإيماء لئلا نخرج عما بنينا عليه مذهبنا من الإيجاز في الشرح، ولست أترك مع الإيجاز والاختصار تعظيم هذا الباب وتكريره عليك، لتعلم أن القدماء إنما ألفوا فيه الكتب وضربوا له الأمثال وأكثروا فيه من الوصايا؛ لما وراءه من النفع العظيم عند السامعين من الأخيار، ولما خافوه من الضرر الكثير على من يستهين به من الأغمار، وليعلم المثل المضروب في السباع القوية إذا دخل عليها الثعلب الرواغ على ضعفه أهلكها ودمرها، وفي الملوك الحصفاء يدخل بينهم أهل النميمة في صورة الناصحين حتى يفسدوا نيتهم على وزرائهم المبالغين في نصيحتهم المجتهدين في تثبيت ملكهم إلى أن يغضبوا عليهم، ويصرفوا بها عيونهم عنهم، ويصيروا من محبتهم وإيثارهم على آبائهم وأولادهم إلى أن لا يملئوا عيونهم منهم، وإلى أن يبطشوا بهم قتلا وتعذيبا وهم غير مذنبين ولا مجترمين ولا مستحقين إلا الكرامة والإحسان، فإذا بلغ بهم من الإفساد والإضرار ما بلغوه من هؤلاء، فبالأحرى أن يبلغوه منا إذا لم يجدوه في أصدقائنا الذين اخترناهم على الأيام، وادخرناهم للشدائد، وأحللناهم محل أرواحنا، وزدناهم تفضلا وإكراما.
ويتبين لك من جميع ما قدمناه أن الصداقة وأصناف المحبات، التي تتم بها سعادة الإنسان من حيث هو مدني بالطبع، إنما اختلفت ودخل فيها ضروب الفساد وزال عنها معنى التأخي، وعرض لها الانتشار حتى احتجنا إلى حفظها والتعب الكثير بنظامها من أجل النقائص الكثيرة التي فينا وحاجتنا إلى إتمامها مع الحوادث التي تعرض لنا من الكون والفساد. فإن الفضائل الخلقية إنما وضعت لأجل المعاملات والمعاشرات التي لا يتم الوجود الإنساني إلا بها، ذلك أن العدل إنما احتيج إليه لتصحيح المعاملات، وليزول به معنى الجور الذي هو رذيلة عند المتعاملين، وإنما وضعت العفة فضيلة لأجل اللذات الرديئة التي تجني الخيانات الفظيعة على النفس والبدن، وكذلك الشجاعة وضعت فضيلة من أجل الأمور الهائلة التي يجب أن يقدم الإنسان عليها في بعض الأوقات ولا يهرب منها، وعلى هذا جميع الأخلاق المرضية التي وصفناها وحضضنا على اقتنائها. وأيضا فإن جميع هذه الفضائل تحتاج إلى أسباب خارجة من الأموال واكتسابها من وجوهها، ليمكنه أن يفعل بها فعل الأحرار، والعادل يحتاج إلى مثل ذلك ليجازي من عاشره بجميل ويكافئ من عامله بإحسان، وجميعها لا تقوم إلا بالأبدان والأنفس وما هو خارج عنها، على حسب تقسيمنا السعادات فيما مضى، وكلما كانت الحاجات كثيرة احتيج إلى المواد الخارجة عنا أكثر، فهذه حالة السعادات الإنسانية التي لا تتم لنا إلا بالأفعال البدنية والأحوال المدنية وبالأعوان الصالحين والأصدقاء المخلصين، وهي كما تراها كثيرة، والتعب بها عظيم، ومن قصر فيها قصرت به السعادة الخاصة به، ولذلك صار الكسل ومحبة الراحة من أعظم الرذائل، لأنهما يحولان بين المرء وبين جميع الخيرات والفضائل، ويسلخان الإنسان من الإنسانية، ولذلك ذممنا المتوسمين بالزهد إذا تفردوا عن الناس، وسكنوا الجبال والمفازات، واختاروا التوحش الذي هو ضد المدنية؛ لأنهم ينسلخون عن جميع الفضائل الخلقية التي عددناها كلها، وكيف يعف ويعدل ويسخو ويشجع من فارق الناس وتفرد عنهم وعدم الفضائل الخلقية؟ وهل هو إلا بمنزلة الجماد والميت؟ وأما محبة الحكمة والانصراف إلى التصور العقلي واستعمال الآراء الإلهية، فإنها خاصة بالجزء الإلهي من الناس، وليس يعرض لها شيء من الآفات التي تعرض للمحبات الأخر الخلقية وضروب الفساد، ولذلك قلنا إنها لا تقبل النميمة ولا نوعا من أنواع الشرور لأنها الخير المحض، وسببها الخير الأول الذي لا تشوبه مادة ولا تلحقه الشرور التي في المادة، وما دام الإنسان يستعمل الأخلاق والفضائل الإنسانية فإنها تعوقه عن هذا الخير الأول وهذه السعادة الإلهية، ولكن ليس يتم له إلا بتلك، ومن أضل تلك الفضائل بنفسه ثم اشتغل عنها بالفضيلة الإلهية فقد اشتغل بذاته حقا ونجا من مجاهدات الطبيعة وآلامها ومن مجاهدات النفس وقواها، وصار مع الأرواح الطيبة واختلط بالملائكة المقربين، فإذا انتقل من وجوده الأول إلى وجوده الثاني حصل في النعيم الأبدي والسرور السرمدي. (130) وقال ابن حمديس الأندلسي في وصف بركة عليها أشجار من ذهب وفضة وعلى حافاتها أسود قاذفة بالمياه
وضراغم سكنت عرين رآسة
تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النضار جسومها
وأذاب في أفواهها البلورا
أسد كأن سكونها متحرك
في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتذكرت فتكاتها فكأنما
أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها
نارا وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول
ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه
درعا فقدر سردها تقديرا
وبديعة الثمرات تعبر نحوها
عيناي بحر عجائب مسجورا
شجرية ذهبية نزعت إلى
سحر يؤثر في النهى تأثيرا
قد سرجت أغصانها فكأنما
قبضت بهن من الفضاء طيورا
وكأنما تأبى لوقع طيرها
أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل واقعة ترى منقارها
ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس تعد من الفصاح فإن شدت
جعلت تغرد بالمياه صفيرا
وكأنما في كل غصن فضة
لانت فأرسل خيطها مجرورا
وتريك في الصهريج موقع قطرها
فوق الزبرجد لؤلؤا منثورا
ضحكت محاسنه إليك كأنما
جعلت لها زهر النجوم ثغورا
ومصفح الأبواب تبرا نظروا
بالنقش فوق شكوله تنظيرا
وإذا نظرت إلى غرائب سقفه
أبصرت روضا في السماء نضيرا
وضعت به صناعها أقلامها
فأرتك كل طريدة تصويرا
وكأنما للشمس فيه ليقة
مشقوا بها التزويق والتشجيرا
وكأنما اللازورد فيه مخزم
بالخط في ورق السماء سطورا (131) مرثية أبي الحسن الأنباري للوزير أبي طاهر
لما استعرت الحرب بين عز الدولة بن بويه وابن عمه عضد الدولة، ظفر عضد الدولة بوزير عز الدولة أبي طاهر محمد بن بقية، فسلمه وشهره وعلى رأسه برنس ثم طرحه للفيلة فقتلته ثم صلبه عند داره بباب الطاق، وعمره نيف وخمسون سنة، ولما صلب رثاه أبو الحسن محمد بن عمران يعقوب الأنباري أحد العدول ببغداد بهذه القصيدة الغراء، فلما وقف عليها عضد الدولة قال: وددت لو أني المصلوب وتكون هذه القصيدة في!
علو في الحياة وفي الممات
لحق تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا
وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيبا
وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء
كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس بقيت ترعى
بحراس وحفاظ ثقات
وتوقد حولك النيران ليلا
كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيد
علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأس
تباعد عنك تعيير العداة
ولم أر قبل جذعك قط جذعا
تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستثارت
فأنت قتيل ثار النائبات
وكنت تجير من صرف الليالي
فصار مطالبا لك بالترات
وصير دهرك الإحسان فيه
إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشر سعدا فلما
مضيت تفرقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادي
يخفف بالدموع الجاريات
ولو أني قدرت على قيام
بفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي
ونحت بها خلاف النائحات
ولكني أصبر عنك نفسي
مخافة أن أعد من الجناة
وما لك تربة فأقول تسقى
لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمن تترى
برحمات غواد رائحات (132) وقال محمد بن زريق البغدادي وكان قصد الأندلس في طلب الغنى فلم يرجع لبغداد رحمة الله عليه
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حدا أضر به
من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا
من عنفه فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعا بالخطب يحمله
فضيقت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من لوعة التفنيد أن له
من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالعزم يجمعه
كأنما هو من حل ومرتحل
موكل بفضاء الأرض يذرعه
إذا الزماع أراه في الرحيل غنى
ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلا أن تجشمه
للرزق كدا وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان توصله
رزقا ولا دعة الإنسان تقطعه
والله قسم بين الخلق رزقهم
لم يخلق الله مخلوقا يضيعه
لكنهم ملئوا حرصا فلست ترى
مسترزقا وسوى الغايات يقنعه
والسعي في الرزق والأرزاق قد قسمت
بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه
يوما ويمنعه من حيث يطمعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع أني لا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق
عني بفرقته لكن أرقعه
إنى أوسع عذري في جنايته
بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته
كذاك من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا
شكر الإله فعنه الله ينزعه
اعتضت عن وجه خلي بعد فرقته
كأسا أجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذنب البين قلت له
الذنب والله ذنبي لست أدفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه
لو أنني يوم بان الرشد أتبعه
إني لأقطع أيامي وأنفدها
بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النوام بت له
بلوعة منه ليلي لست أهجعه
لا يطمئن لجنبي مضجع وكذا
لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني
به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا بيد
عسراء تمنعني حظي وتمنعه
بالله يا منزل القصف الذي درست
آثاره وعفت مذ غبت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضته ترجعه؟
في ذمة الله من أصبحت منزله
وجاد غيث على مغداك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيعه
كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا
جرى على قلبه ذكري يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني
به ولا بي في حال يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا
وأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
عل الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي ستجمعني يوما وتجمعه
وإن تنل أحدا منا منيته
فما الذي بقضاء الله يصنعه؟ (133) قال أبو العلاء المعري يفتخر
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائل
أعندي وقد مارست كل خفية
يصدق واش أو يخيب سائل؟
تعد ذنوبي عند قوم كثيرة
ولا ذنب لي إلا العلا والفضائل
كأني إذا طلت الزمان وأهله
رجعت وعندي للأنام طوائل
وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم
بإخفاء شمس ضوءها متكامل؟
يهم الليالي بعض ما أنا مضمر
ويثقل رضوى دون ما أنا حامل
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
وأغدو ولو أن الصباح صوارم
وأسري ولو أن الظلام جحافل
وإني جواد لم يحل لجامه
ونصل يمان أغفلته الصياقل
فإن كان في لبس الفتى شرف له
فما السيف إلا غمده والحمائل
ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي
على أنني بين السماكين نازل
لدى موطن يشتاقه كل سيد
ويقصر عن إدراكه المتناول
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتى ظن أني جاهل
فواعجبا كم يدعي الفضل ناقص!
وواأسفا كم يظهر النقص فاضل!
وكيف تنام الطير في وكناتها
وقد نصبت للفرقدين الحبائل
ينافس يومي في أمسي تشرفا
وتحسد أسحاري علي الأصائل
وطال اعترافي بالزمان وصرفه
فلست أبالي من تغول الغوائل
فلو بان عضدي ما تأسف منكبي
ولو مات زندي ما بكته الأنامل
إذا وصف الطائي بالبخل مادر
وعير قسا بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت ضئيلة
وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة
وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة
ويا نفس جدي إن دهرك هازل (134) ومن شعر أبي الحسن التهامي
قصيدته الفريدة البالغة في بابها غاية لم يبلغها سواها التي يرثي في أولها صغيرا له أجاب داعي ربه ويفتخر في آخرها بفضله ويشكو زمانه وحاسديه، وهي هذه:
حكم المنية في البرية جار
ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا
حتى يرى خبرا من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها
صفوا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما
تبني الرجاء على شفير هار
فالعيش نوم والمنية يقظة
والمرء بينهما خيال سار
فاقضوا مآربكم عجالا إنما
أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا
أن تسترد فإنهن عوار
فالدهر يخدع بالمنى ويغص إن
هنا ويهدم ما بنى ببوار
ليس الزمان وإن حرصت مسالما
خلق الزمان عداوة الأحرار
إني وترت بصارم ذي رونق
أعددته لطلابة الأوتار
والنفس إن رضيت بذلك أو أبت
منقادة بأزمة الأقدار
أثني عليه بأثره ولو انه
لم يعتبط أثنيت بالآثار
يا كوكبا ما كان أقصر عمره
وكذاك عمر كواكب الأسحار
وهلال أيام مضى لم يستدر
بدرا ولم يمهل لوقت سرار
عجل الخسوف عليه قبل أوانه
فمحاه قبل مظنة الإبدار
واستل من أترابه ولداته
كالمقلة استلت من الأشفار
فكأن قلبي قبره وكأنه
في طيه سر من الأسرار
إن يعتبط صغرا فرب مقمم
يبدو ضئيل الشخص للنظار
إن الكواكب في علو محلها
لترى صغارا وهي غير صغار
ولد المعزى بعضه فإذا مضى
بعض الفتى فالكل في الآثار
أبكيه ثم أقول معتذرا له
وفقت حين تركت ألأم دار
جاورت أعدائي وجاور ربه
شتان بين جواره وجواري
أشكو بعادك لي وأنت بموضع
لولا الردى لسمعت فيه مزاري
والشرق نحو الغرب أقرب شقة
من بعد تلك الخمسة الأشبار
هيهات قد علقتك أسباب الردى
واغتال عمرك قاطع الأعمار
ولقد جريت كما جريت لغاية
فبلغتها وأبوك في المضمار
فإذا نطقت فأنت أول منطقي
وإذا سكت فأنت في إضماري
أخفي من البرحاء نارا مثل ما
يخفي من النار الزناد الواري
وأخفض الزفرات وهي صواعد
وأكفكف العبرات وهي جوار
وشهاب نار الحزن إن طاوعته
أورى وإن عاصيته متواري
وأكف نيران الأسى ولربما
غلب التصبر فارتمت بشرار
ثوب الرياء يشف عما تحته
وإذا التحفت به فإنك عار
قصرت جفوني أم تباعد بينها
أم صورت عيني بلا أشفار
جفت الكرى حتى كأن غراره
عند اغتماض العين وخز غرار
ولو استزارت وقدة لطحا بها
ما بين أجفاني من التيار
أحيي الليالي التم وهي تميتني
ويميتهن تبلج الأسحار
حتى رأيت الصبح تهتك كفه
بالضوء رفرف خيمة كالقار
والصبح قد غمر النجوم كأنه
سيل طغى فطفا على النوار
لو كنت تمنع خاض دونك فتية
منا بحار عوامل وشفار
ودحوا فويق الأرض أرضا من دم
ثم انثنوا فبنوا سماء غبار
قوم إذا لبسوا الدروع حسبتها
خلجا تمد بها أكف بحار
لو شرعوا أيمانهم في طولها
طعنوا بها عوض القنا الخطار
جنبوا الجياد إلى المطي وراوحوا
بين السروج هناك والأكوار
وكأنما ملئوا عياب دروعهم
وغمود أنصلهم سراب قفار
وكأنما صنع السوابغ عزه
ماء الحديد فصاغ ماء قرار
زردا فأحكم كل موصل حلقة
بحبابه في موضع المسمار
فتسربلوا بمتون ماء جامد
وتقنعوا بحباب ماء جار
أسد ولكن يؤثرون بزادهم
والأسد ليس تدين بالإيثار
يتزين النادي بحسن وجوههم
كتزين الهالات بالأقمار
يتعطفون على المجاور فيهم
بالمنفسات تعطف الأظآر
من كل من جعل الظبى أنصاره
وكرمن واستغنى عن الأنصار
وإذا هو اعتقل القناة حسبتها
صلا تأبطه هزبر ضار
والليث إن ثاورته لم يعتمد
إلا على الأنياب والأظفار
زرد الدلاص من الطعان يريحه
في الجحفل المتضايق الجرار
ما بين ثوب بالدماء مضمخ
زلق ونقع بالطراد مثار
والهون في ظل الهوينا كامن
وجلالة الأخطار في الإخطار
تندى أسرة وجهه ويمينه
في حالة الإعسار والإيسار
ويمد نحو المكرمات أناملا
للرزق في أثنائهن مجار
يحوي المعالي كاسبا أو غالبا
أبدا يدارى دونها ويداري
قد لاح في ليل الشباب كواكب
إن أمهلت آلت إلى الإسفار
وتلهب الأحشاء شيب مفرقي
هذا الضياء شواظ تلك النار
شاب القذال وكل غصن صائر
فينانه الأحوى إلى الإزهار
والشبه منجذب فلم بيض الدمى
عن بيض مفرقه ذوات نفار؟
وتود لو جعلت سواد قلوبها
وسواد أعينها خضاب عذار
لا تنفر الظبيات عنه فقد رأت
كيف اختلاف النبت في الأطوار
شيئان ينقشعان أول وهلة
ظل الشباب وخلة الأشرار
لا حبذا الشيب الوفي وحبذا
ظل الشباب الخائن الغدار
وطري من الدنيا الشباب وروقه
فإذا انقضى فقد انقضت أوطاري
قصرت مسافته وما حسناته
عندي ولا آلاؤه بقصار
نزداد هما كلما ازددنا غنى
والفقر كل الفقر في الإكثار
ما زاد فوق الزاد خلف ضائعا
في حادث أو وارث أو عار
إني لأرحم حاسدي لحر ما
ضمنت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم
في جنة وقلوبهم في نار
لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي
فكأنما برقعت وجه نهار
وسترتها بتواضعي فتطلعت
أعناقها تعلو على الأستار
ومن الرجال معالم ومجاهل
ومن النجوم غوامض ودراري
والناس مشتبهون في إيرادهم
وتفاضل الأقوام في الإصدار
عمري لقد أوطأتهم طرق العلا
فعموا فلم يقفوا على آثاري
لو أبصروا بقلوبهم لاستبصروا
وعمى البصائر من عمى الأبصار
هلا سعوا سعي الكرام فأدركوا
أو سلموا لمواقع الأقدار
وفشت خيانات الثقات وغيرهم
حتى اتهمنا رؤية الأبصار
ولربما اعتضد الحليم بجاهل
لا خير في يمنى بغير يسار (135) الأرجوزة التي استخلصها تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي من كتاب «الصادح والباغم»
العيش بالرزق وبالتقدير
وليس بالرأي ولا التدبير
في الناس من تسعده الأقدار
وفعله جميعه إدبار
من عرف الله أزال التهمة
وقال كل فعله للحكمة
من أنكر القضاء فهو مشرك
إن القضاء بالعباد أملك
ونحن لا نشرك بالله ولا
نقنط من رحمته إذ نبتلى
عار علينا وقبيح ذكر
أن نجعل الكفر مكان الشكر
وليس في العالم ظلم جاري
إذ كان ما يجري بأمر الباري
أسعد العالم عند الله
من ساعد الناس بفضل الجاه
ومن أغاث البائس الملهوفا
أغاثه الله إذا أخيفا
إن العظيم يدفع العظيما
كما الجسيم يحمل الجسيما
فإن من خلائق الكرام
رحمة ذي البلاء والأسقام
وإن من شرائط العلو
العطف في البؤس على العدو
قد قضت العقول أن الشفقة
على الصديق والعدو صدقة
وقد علمت واللبيب يعلم
بالطبع لا يرحم من لا يرحم
فالمرء لا يدري متى يمتحن
فإنه في دهره مرتهن
وإن نجا اليوم فما ينجو غدا
لا يأمن الآفات إلا ذو الردى
لا تغترر بالخفض والسلامة
فإنما الحياة كالمدامة
والعمر مثل الكأس والدهر القذر
والصفو لا بد له من الكدر
وكل إنسان فلا بد له
من صاحب يحمل ما أثقله
جهد البلاء صحبة الأضداد
فإنها كي على الفؤاد
أعظم ما يلقى الفتى من جهد
أن يبتلى في جنسه بالضد
فإنما الرجال بالإخوان
واليد بالساعد والبنان
لا يحقر الصحبة إلا جاهل
أو مارق عن الرشاد غافل
صحبة يوم نسب قريب
وذمة يحفظها اللبيب
وموجب الصداقة المساعدة
ومقتضى المودة المعاضدة
لا سيما في النوب الشدائد
والمحن العظيمة الأوابد
فالمرء يحيي أبدا أخاه
وهو إذا ما عد من أعداه
وإن من عاشر قوما يوما
ينصرهم ولا يخاف لوما
وإن من حارب من لا يقوى
لحربه جر إليه البلوى
فحارب الأكفاء والأقرانا
فالمرء لا يحارب السلطانا
واقنع إذا حاربت بالسلامة
واحذر فعالا توجب الندامة
فالتاجر الكيس في التجارة
من خاف في متجره الخسارة
يجهد في تحصيل رأس ماله
ثم يروم الربح باحتياله
وإن رأيت النصر قد لاح لكا
فلا تقصر واحترز أن تهلكا
واسبق إلى الأجود سبق الناقد
فسبقك الخصم من المكايد
وانتهز الفرصة إن الفرصة
تصير إن لم تنتهزها غصة
كم بطر الغالب يوما فترك
عنه التوقي واستهان فهلك!
ومن أضاع جنده في السلم
لم يحفظوه في لقاء الخصم
وإن من لا يحفظ القلوبا
يخذل حين يشهد الحروبا
والجند لا يرعون من أضاعهم
كلا ولا يحمون من أجاعهم
وأضعف الملوك طرا عقدا
من غره السلم فأقصى الجندا
والحزم والتدبير روح العزم
لا خير في عزم بغير حزم
والحزم كل الحزم في المطاولة
والصبر لا في سرعة المزاولة
وفي الخطوب تظهر الجواهر
ما غلب الأيام إلا الصابر
لا تيأسن من فرج ولطف
وقوة تظهر بعد ضعف
فربما جاءك بعد الياس
روح بلا كد ولا التماس
في لمحة الطرف بكاء وضحك
وناجذ باد ودمع ينسفك
تنال بالرفق وبالتأني
ما لم تنل بالحرص والتعني
ما أحسن الثبات والتجلدا
وأقبح الحيرة والتبلدا!
ليس الفتى إلا الذي إن طرقه
خطب تلقاه بصبر وثقة
إذا الرزايا أقبلت ولم تقف
فثم أحوال الرجال تختلف
وكم لقيت لذة في زمني
فأصبر الآن لهذي المحن!
فالموت لا يكون إلا مرة
والموت أحلى من حياة مرة
إني من الموت على يقين
فأجهد الآن لما يقيني
صبرا على أهوالها ولا ضجر
وربما فاز الفتى إذا صبر
لا يجزع الحر من المصائب
كلا ولا يخضع للنوائب
فالحر للعبء الثقيل يحمل
والصبر عند النائبات يجمل
لكل شيء مدة وتنقضي
ما غلب الأيام إلا من رضي
قد صدق القائل في الكلام
ليس النهى بعظم العظام
لا خير في جسامة الأجسام
بل هو في العقول والأفهام
فالخيل للحرب وللجمال
والإبل للحمل وللترحال
لا تحتقر شيئا صغيرا يحتقر
فربما أسالت الدم الإبر
لا تحرج الخصم ففي إحراجه
جميع ما تكره من لجاجه
لا تطلب الفائت باللجاج
وكن إذا كويت ذا إنضاج
فعاجز من ترك الموجودا
طماعة وطلب المفقودا
وفتش الأمور عن أسرارها
كم نكتة جاءتك مع إظهارها
لزمت للجهل قبيح الظاهر
وما نظرت حسن السرائر
ليس يضر البدر في سناه
أن الضرير قط لا يراه
كم حكمة أضحت بها المحافل
نافقة وأنت عنها غافل
ويغفلون عن خفي الحكمة
ولو رأوها لأزالوا التهمة
كم حسن ظاهره قبيح
وسمج عنوانه مليح!
والحق قد تعلمه ثقيل
أبوه إلا نفر قليل
فالعاقل الكامل في الرجال
لا ينثني لزخرف المقال
إن العدو قوله مردود
وقلما يصدق الحسود
لا تقبل الدعوى بغير شاهد
لا سيما إن كان من معاند
أيؤخذ البريء بالسقيم
والرجل المحسن باللئيم
كذاك من يستنصح الأعادي
يردونه بالغش والفساد
إن أكل من ترى أذهانا
من حسب الإساءة الإحسانا
فادفع إساءة العدى بالحسنى
ولا تخل يسراك مثل اليمنى
وللرجال فاعلمن مكايد
وخدع منكرة شدائد
فالندب لا يخضع للشدائد
قط ولا يغتاظ بالمكائد
فرقع الخرق بلطف واجتهد
وامكر إذا لم ينفع الصدق وكد
فهكذا الحازم إذ يكيد
يبلغ في الأعداء ما يريد
وهو بريء منهم في الظاهر
وغيره مختضب الأظافر
والشهم من يصلح أمر نفسه
ولو بقتل ولده وعرسه
فإن من يقصد قلع ضرسه
لم يعتمد إلا صلاح نفسه
وإن من خص اللئيم بالندى
وجدته كمن يربي أسدا
وليس في طبع اللئيم شكر
وليس في أصل الدنيء نصر
وإن من ألزمه وكلفه
ضد الذي في طبعه ما أنصفه
كذاك من يصطنع الجهالا
ويؤثر الأرذال والأنذالا
لو أنكم أفاضل أحرار
ما ظهرت بينكم الأسرار
إن الأصول تجذب الفروعا
والعرق دساس إذا أضيعا
ما طاب فرع أصله خبيث
ولا زكا من مجده حديث
قد يدركون رتبا في الدنيا
ويبلغون وطرا من بقيا
لكنهم لا يبلغون في الكرم
مبلغ من كان له فيها قدم
وكل من تماثلت أطرافه
في طيبها وكرمت أسلافه
كان خليقا بالعلا وبالكرم
وبرعت في أصله حسن الشيم
لولا بنو آدم بين العالم
ما بان للعقول فضل العالم
فواحد يعطيك فضلا وكرم
فذاك من يكفره فقد ظلم
وواحد يعطيك للمصانعة
أو حاجة له إليك واقعة
لا تشرهن إلى حطام عاجل
كم أكلة أودت بنفس الآكل!
واحذر أخي يا فتى من الشره
وقس بما رأيته ما لم تره
فليس من عقل الفتى أو كرمه
إفساد شخص كامل لقرمه
فالبغي داء ما له دواء
ليس لملك معه بقاء
والبغي فاحذره وخيم المرتع
والعجب فاتركه شديد المصرع
والغدر بالعهد قبيح جدا
شر الورى من ليس يرعى العهدا
عند تمام الأمر يبدو نقصه
وربما ضر الحريص حرصه
وربما ضرك بعض مالكا
وساءك المحسن من رجالكا
فالمرء يفدي نفسه بوفره
عساه أن ينجو به من أسره
لا تعطين شيئا بغير فائدة
فإنها من السجايا الفاسدة (136) في خواص مصر العامة لها لعبد اللطيف البغدادي
إن أرض مصر من البلاد العجيبة الآثار، الغريبة الأخبار، وهي واد يكتنفه جبلان، شرقي وغربي، والشرقي أعظمهما، يبتدئان من أسوان ويتقاربان بإسنا حتى يكادا يتماسان، ثم ينفرجان قليلا قليلا، وكلما امتدا طولا انفرجا عرضا، حتى إذا حاذيا الفسطاط كان بينهما مسافة يوم فما دونه، ثم يتباعدان أكثر من ذلك والنيل ينساب بينهما ويتشعب بأسافل الأرض وجميع شعبه تصب في البحر المالح. وهذا النيل له خاصتان؛ الأولى: بعد مرماه، فإنا لا نعلم في المعمورة نهرا أبعد مسافة منه؛ لأن مبادئه عيون تأتي من جبل القمر، وزعموا أن هذا الجبل وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة ونصف درجة. وعرض أسوان وهي مبدأ أرض مصر اثنتان وعشرون درجة، وعرض دمياط وهي أقصى أرض مصر إحدى وثلاثون درجة وثلث درجة، فتكون مسافة النيل على خط مستقيم ثلاثا وأربعين درجة تنقص سدسا، ومساحة ذلك تقريبا تسعمئة فرسخ، هذا سوى ما يأخذ من التعريج، فإن اعتبر ذلك تضاعفت المساحة جدا. والخاصة الثانية: أنه يزيد عند نضوب سائر الأنهار ونشيش المياه؛ لأنه يبتدئ بالزيادة عند انتهاء طول النهار وتتناهى زيادته عند الاعتدال الخريفي، وحينئذ تفتح الترع وتفيض على الأراضي، وعلة ذلك أن مواد زيادته أمطار غزيرة دائمة وسيول متواصلة تمده في هذا الأوان، فإن أمطار الإقليم الأول والثاني إنما تغزر في الصيف والقيظ. وأما أرض مصر فلها أيضا خواص، منها أنه لا يقع بها مطر إلا ما لا احتفال به وخصوصا صعيدها، فأما أسافلها فقد يقع بها مطر جود لكنه لا يفي بحاجة الزراعة. وأما دمياط والإسكندرية وما داناهما فهي غزيرة المطر ومنه يشربون، وليس بأرض مصر عين ولا نهر سوى نيلها.
ومنها أن أرضها رملية لا تصلح للزراعة، لكنه يأتيها طين أسود علك فيه دسومة كثيرة يسمى الإبليز، يأتيها من بلاد السودان مختلطا بماء النيل عند مده، فيستقر الطين وينضب الماء فيحرث ويزرع، وكل سنة يأتيها طين جديد؛ ولهذا تزرع جميع أراضيها ولا يراح شيء منها كما يفعل في العراق والشام، لكنها تخالف عليها الأصناف، وقد لحظت العرب ذلك فإنها تقول: إذا كثرت الرياح جادت الحراثة؛ لأنها تجيء بتراب غريب، وتقول أيضا: إذا كثرت المؤتفكات زكا الزرع، ولهذه العلة تكون أرض الصعيد زكية كثيرة الإتاء والريع إذ كانت أقرب إلى المبدأ، فيحصل فيها من هذا الطين مقدار كثير بخلاف أسفل الأرض، فإنها أسافة مضوية إذ كانت رقيقة ضعيفة الطين؛ لأنه يأتيها الماء وقد راق وصفا، ولا أعرف شبيها بذلك إلا ما حكي لي عن بعض جبال الإقليم الأول، أن الرياح تأتيه وقت الزراعة بتراب كثير، ثم يقع عليه المطر فيتلبد فيحرث ويزرع، فإذا حصد جاءته رياح أخرى فنسفته حتى يعود أجرد كما كان أولا.
ومنها أن الفصول بها متغيرة عن طبيعتها التي لها، فإن أخص الأوقات باليبس في سائر البلاد، أعني الصيف والخريف، تكثر فيه الرطوبة بمصر بمد نيلها وفيضه؛ لأنه يمد في الصيف ويطبق الأرض في الخريف، فأما سائر البلاد فإن مياهها تنش في هذا الأوان ، وتغزر في أخص الأوقات بالرطوبة، أعني الشتاء والربيع، ومصر إذ ذاك تكون في غاية القحولة واليبس؛ ولهذه العلة تكثر عفوناتها واختلاف هوائها وتغلب على أهلها الأمراض العفنية الحادثة عن أخلاط صفراوية وبلغمية، وقلما تجد فيهم أمراضا صفراوية خالصة، بل الغالب عليهم البلغم حتى في الشبان والمحرورين، وأكثر أمراضهم في آخر الخريف وأول الشتاء، لكنها يغلب عليها سلامة العاقبة، وتقل فيهم الأمراض الحادة والدموية الوحية. وأما أصحاؤهم فيغلب عليهم الترهل والكسل وشحوب اللون وكمودته، وقلما ترى فيهم مشبوب اللون ظاهر الدم، وأما صبيانهم فضاويون يغلب عليهم الدمامة وقلة النضارة، وإنما تحدث لهم البدانة والقسامة غالبا بعد العشرين. وأما ذكاؤهم وتوقد أذهانهم وخفة حركاتهم فلحرارة بلدهم الذاتية؛ لأن رطوبته عرضية؛ ولهذا كان أهل الصعيد أفحل جسوما وأجف أمزجة والغالب عليهم السمرة، وكان ساكنو الفسطاط إلى دمياط أرطب أبدانا والغالب عليهم البياض.
ولما رأى قدماء المصريين أن عمارة أراضيهم إنما هي بنيلها، جعلوا أول سنتهم أول الخريف، وذلك عند بلوغ النيل الغاية القصوى من الزيادة. ومنها أن الصبا محجوبة عنهم بجبلها الشرقي المسمى المقطم، فإنه يستر عنها هذه الريح الفاضلة، وقلما تهب عليهم خالصة اللهم إلا نكباء؛ ولهذا اختار قدماء المصريين أن يجعلوا مستقر الملك منف ونحوها مما يبعد عن هذا الجبل الشرقي إلى الغربي، واختار الروم الإسكندرية وتجنبوا موضع الفسطاط لقربه من المقطم، فإن الجبل يستر عما في لحفه أكثر مما يستر عما بعد منه، ثم إن الشمس يتأخر طلوعها عليهم فيقل في هوائهم النضج؛ ولذلك تجد المواضع المنكشفة للصبا من أرض مصر أحسن حالا من غيرها، ولكثرة رطوبته يتسارع العفن إليها، ويكثر فيها الفأر ويتولد من الطين ، والعقارب تكثر بقوص، وكثيرا ما تقتل بلسبها، والبق المنتن والذباب والبراغيث تدوم زمانا طويلا. ومنها أن الجنوب إذا هبت عندهم في الشتاء والربيع وفيما بعد ذلك كانت باردة جدا، ويسمونها المريسي؛ لمرورها على أرض المريس، وهي من بلاد السودان، وسبب بردها مرورها على برك ونقائع، والدليل على صحة ذلك أنها إذا دامت أياما متوالية عادت إلى حرارتها الطبيعية وأسخنت الهواء وأحدثت فيها يبسا. (137) من لامية العجم لمؤيد الدين الطغرائي
أصالة الرأي صانتني عن الخطل
وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني
بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
ناء عن الأهل صفر الكف منفرد
كالنصل عري متناه عن الخلل
فلا صديق إليه مشتكى حزني
ولا حبيب إليه منتهى جذلي
طال اغترابي حتى حن راحلتي
ورحلها وقنا العسالة الذبل
وضج من لغب نضوي وعج لما
يلقاه قلبي ولج الركب في عذلي
أريد بسطة كف أستعين بها
على قضاء حقوق للعلى قبلي
والدهر يعكس آمالي ويقنعني
من الغنيمة بعد الكد بالقفل
وذي شطاط كصدر الرمح معتقل
بمثله غير هياب ولا وكل
حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت
بقسوة البأس منه رقة الغزل
طردت سرح الكرى عن ورد مقلته
والليل أغرى سوام النوم بالمقل
والركب ميل على الأكوار من طرب
صاح وآخر من خمر الكرى ثمل
فقلت أدعوك للجلى لتنصرني
وأنت تخذلني في الحادث الجلل
تنام عيني وعين النجم ساهرة
وتستحيل وصبغ الليل لم يحل
حب السلامة يثني هم صاحبه
عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا
في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل
ودع غمار العلى للمقدمين على
ركوبها واقتنع منهن بالبلل
يرضى الذليل بخفض العيش مسكنة
والعز بين رسيم الأينق الذلل
فادرأ بها في نحور البيد جافلة
معارضات مثانى اللجم بالجدل
إن العلى حدثتني وهي صادقة
فيما تحدث أن العز في النقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ منى
لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعا
والحظ عني بالجهال في شغل
لعله إن بدا فضلي ونقصهم
لعينه نام عنهم أو تنبه لي
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
لم أرض بالعيش والأيام مقبلة
فكيف أرضى وقد ولت على عجل؟
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها
فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
وعادة النصل أن يزهى بجوهره
وليس يعمل إلا في يدي بطل
ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني
حتى أرى دولة الأوغاد والسفل
تقدمتني أناس كان شوطهم
وراء خطوي إذ أمشي على مهل
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا
من قبله فتمنى فسحة الأجل
وإن علاني من دوني فلا عجب
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
فاصبر لها غير محتال ولا ضجر
في حادث الدهر ما يغني عن الحيل
أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس واصحبهم على دخل
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شرا وكن منها على وجل
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
وشان صدقك بين الناس كذبهم
وهل يطابق معوج بمعتدل؟!
إن كان ينجع شيء في ثباتهم
على العهود فسبق السيف للعذل
يا واردا سؤر عيش كله كدر
أنفقت صفوك في أيامك الأول
فيم اعتراضك لج البحر تركبه
وأنت تكفيك منه مصة الوشل؟
ملك القناعة لا يخشى عليه ولا
يحتاج فيه إلى الأنصار والخول
ترجو البقاء بدار لا ثبات لها
فهل سمعت بظل غير منتقل؟
ويا خبيرا على الأسرار مطلعا
اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل
قد رشحوك لأمر إن فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل (138) قال الطغرائي يفتخر
أبى الله أن أسمو بغير فضائلي
إذا ما سما بالمال كل مسود
وإن كرمت قبلي أوائل أسرتي
فإني بحمد الله مبدأ سؤددي
يذم لأجلي المهر إن يكب مرة
بجدي وإن ينهض بجدي يحمد
وما منصب إلا وقدري فوقه
ولو حط رحلي بين نسر وفرقد
إذا شرفت نفس الفتى زاد قدره
على كل أسنى منه ذكرا وأمجد
كذاك حديد السيف إن يصف جوهرا
فقيمته أضعافه وزن عسجد
تكاد ترى من لا يقاس نجاده
بشسعي إذا ما ضمنا صدر مشهد
وما المال إلا عارة مستردة
فهلا بفضلي كاثروني ومحتدي
إذا لم يكن لي في الولاية بسطة
يطول بها باعي وتسطو بها يدي
ولا كان لي حكم مطاع أجيزه
فأرغم أعدائي وأكبت حسدي
فأعذر إن قصرت في حق مجتد
وآمن أن يعتادني كيد معتد
أأكفى ولا أكفي وتلك غضاضة
أرى دونها وقع الحسام المهند
ولولا تكاليف العلى ومغارم
ثقال وأعقاب الأحاديث في غد
لأعطيت نفسي في التخلي مرادها
فذاك مرادي مذ نشأت ومقصدي
من الحزم أن لا يضجر المرء بالذي
يعانيه من مكروهة فكأن قد
إذا جلدي في الأمر خان ولم يعن
مريرة عزمي ناب عنه تجلدي
ومن يستعن بالصبر نال مراده
ولو بعد حين إنه خير مسعد (139) المقامة الأولى الصنعانية
حدث الحارث بن همام قال: لما اقتعدت غارب الاغتراب، وأنأتني المتربة عن الأتراب، طوحت بي طوائح الزمن، إلى صنعاء اليمن، فدخلتها خاوي الوفاض، بادي الإنفاض، لا أملك بلغة، ولا أجد في جرابي مضغة، فطفقت أجوب طرقاتها مثل الهائم، وأجول في حوماتها جولان الحائم، وأرود في مسارح لمحاتي، ومسايح غدواتي وروحاتي، كريما أخلق له ديباجتي، وأبوح إليه بحاجتي، أو أديبا تفرج رؤيته غمتي، وتروي روايته غلتي، حتى أدتني خاتمة المطاف، وهدتني فاتحة الألطاف، إلى ناد رحيب، محتو على زحام ونحيب، فولجت غابة الجمع؛ لأسبر مجلبة الدمع، فرأيت في بهرة الحلقة، شخصا شخت الخلقة، عليه أهبة السياحة، وله رنة النياحة، وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه، وقد أحاطت به أخلاط الزمر، إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، فدلفت إليه لأقتبس من فوائده، وألتقط بعض فرائده، فسمعته يقول حين خب في مجاله، وهدرت شقاشق ارتجاله: أيها السادر في غلوائه، السادل ثوب خيلائه، الجامح في جهالاته، الجانح إلى خزعبلاته، إلام تستمر على غيك، وتستمرئ مرعى بغيك؟ وحتام تتناهى في زهوك، ولا تنتهي عن لهوك ؟ تبارز بمعصيتك، مالك ناصيتك، وتجترئ بقبح سيرتك على عالم سريرتك! وتتوارى عن قريبك، وأنت بمرأى رقيبك! وتستخفي من مملوكك وما تخفى خافية على مليكك! أتظن أن ستنفعك حالك إذا آن ارتحالك؟ أو ينقذك مالك حين توبقك أعمالك؟ أو يغني عنك ندمك إذا زلت قدمك؟ أو يعطف عليك معشرك يوم يضمك محشرك؟ هلا انتهجت محجة اهتدائك، وعجلت معالجة دائك، وفللت شباة اعتدائك، وقدعت نفسك فهي أكبر أعدائك؟ أما الحمام ميعادك، فما إعدادك؟ وبالمشيب إنذارك، فما أعذارك؟ وفي اللحد مقيلك، فما قيلك؟ وإلى الله مصيرك، فمن نصيرك؟ طالما أيقظك الدهر فتناعست، وجذبك الوعظ فتقاعست، وتجلت لك العبر فتعاميت، وحصحص لك الحق فتماريت، وأذكرك الموت فتناسيت، وأمكنك أن تواسي فما آسيت! تؤثر فلسا توعيه على ذكر تعيه، وتختار قصرا تعليه، على بر توليه، وترغب عن هاد تستهديه، إلى زاد تستهديه، وتغلب حب ثوب تشتهيه، على ثواب تشتريه. يواقيت الصلات أعلق بقلبك من مواقيت الصلاة، ومغالاة الصدقات آثر عندك من موالاة الصدقات، وصحاف الألوان أشهى إليك من صحائف الأديان، ودعابة الأقران آنس لك من تلاوة القرآن. تأمر بالعرف وتنتهك حماه، وتحمي عن النكر ولا تتحاماه! وتزحزح عن الظلم ثم تغشاه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه! ثم أنشد:
تبا لطالب دنيا
ثنى إليها انصبابه
ما يستفيق عراما
بها وفرط صبابة
ولو درى لكفاه
مما يروم صبابة
ثم إنه لبد عجاجته، وغيض مجاجته، واعتضد شكوته، وتأبط هراوته. فلما رنت الجماعة إلى تحفزه، ورأت تأهبه لمزايلة مركزه، أدخل كل منهم يده في جيبه، فأفعم له سجلا من سيبه، وقال: اصرف هذا في نفقتك، أو فرقه على رفقتك. فقبله منهم مغضيا، وانثنى عنهم مثنيا، وجعل يودع من يشيعه ليخفى عليه مهيعه، ويسرب من يتبعه، لكي يجهل مربعه.
قال الحارث بن همام: فاتبعته مواريا عنه عياني، وقفوت أثره من حيث لا يراني، حتى انتهى إلى مغارة، فانساب فيها على غرارة. فأمهلته ريثما خلع نعليه، وغسل رجليه، ثم هجمت عليه، فوجدته مثافنا لتلميذ، على خبز سميذ، وجدي حنيذ، وقبالتهما خابية نبيذ، فقلت له: يا هذا، أيكون ذاك خبرك، وهذا مخبرك؟! فزفر زفرة القيظ، وكاد يتميز من الغيظ، ولم يزل يحملق إلي، حتى خفت أن يسطو علي، فلما أن خبت ناره، وتوارى أواره، أنشد:
لبست الخميصة أبغي الخبيصة
وأنشبت بشصي في كل شيصة
وصيرت وعظي أحبولة
أريغ القنيص بها والقنيصة
وألجأني الدهر حتى ولجت
بلطف احتيالي على الليث عيصة
على أنني لم أهب صرفه
ولا نبضت لي منه فريصة
ولا شرعت بي على مورد
يدنس عرضي نفس حريصة
ولو أنصف الدهر في حكمه
لما ملك الحكم أهل النقيصة
ثم قال لي: ادن فكل، وإن شئت فقم وقل. فالتفت إلى تلميذه وقلت: عزمت عليك بمن تستدفع به الأذى، لتخبرني من ذا، فقال: هذا أبو زيد السروجي سراج الغرباء، وتاج الأدباء. فانصرفت من حيث أتيت، وقضيت العجب مما رأيت. (140) المقامة الثالثة الدينارية
روى الحارث بن همام قال: نظمني وأخدانا لي ناد، لم يخب فيه مناد، ولا كبا قدح زناد، ولا ذكت نار عناد، فبينا نحن نتجاذب أطراف الأناشيد، ونتوارد طرف الأسانيد، إذ وقف بنا شخص عليه سمل، وفي مشيته قزل، فقال: يا أخاير الذخائر، وبشائر العشائر، عموا صباحا، وأنعموا اصطباحا. وانظروا إلى من كان ذا ندي وندى، وجدة وجدى، وعقار وقرى ومقار وقرى. فما زالت به قطوب الخطوب، وحروب الكروب، وشرر شر الحسود، وانتياب النوب السود حتى صفرت الراحة، وقرعت الساحة، وغار المنبع، ونبا المربع، وأقوى المجمع، وأقض المضجع، واستحالت الحال، وأعول العيال، وخلت المرابط، ورحم الغابط، وأودى الناطق والصامت، ورثى لنا الحاسد والشامت، وآل بنا الدهر الموقع، والفقر المدقع، إلى أن احتذينا الوجى، واغتذينا الشجى، واستبطنا الجوى، وطوينا الأحشاء على الطوى، واكتحلنا السهاد، واستوطنا الوهاد، واستوطأنا القتاد، وتناسينا الأقتاد، واستطبنا الحين المجتاح واستبطأنا اليوم المتاح. فهل من حر آس، أو سمح مواس؟ فوالذي استخرجني من قيلة، لقد أمسيت أخا عيلة، لا أملك بيت ليلة. (قال الحارث بن همام): فأويت لمفاقره، ولويت إلى استنباط فقره، فأبرزت دينارا، وقلت له اختبارا: إن مدحته نظما، فهو لك حتما، فانبرى ينشد في الحال، من غير انتحال:
أكرم به أصفر راقت صفرته
جواب آفاق ترامت سفرته
مأثورة سمعته وشهرته
قد أودعت سر الغنى أسرته
وقارنت نجح المساعي خطرته
وحببت إلى الأنام غرته
كأنما من القلوب نقرته
به يصول من حوته صرته
وإن تفانت أو توانت عترته
يا حبذا نضاره ونضرته
وحبذا مغناته ونصرته
كم آمر به استتبت إمرته
ومترف لولاه دامت حسرته
وجيش هم هزمته كرته
وبدر تم أنزلته بدرته
ومستشيط تتلظى جمرته
أسر نجواه فلانت شرته!
وكم أسير أسلمته أسرته
أنقذه حتى صفت مسرته!
وحق مولى أبدعته فطرته
لولا التقى لقلت جلت قدرته!
ثم بسط يده، بعدما أنشده، وقال: أنجز حر ما وعد، وسح خال إذ رعد. فنبذت الدينار إليه، وقلت: خذه غير مأسوف عليه. فوضعه في فيه، وقال: بارك اللهم فيه! ثم شمر للانثناء، بعد توفية الثناء. فنشأت لي من فكاهته نشوة غرام، سهلت علي ائتناف اغترام، فجردت دينارا آخر، وقلت: هل لك في أن تذمه ثم تضمه؟ فأنشد مرتجلا، وشدا عجلا:
تبا له من خادع مماذق
أصفر ذي وجهين كالمنافق
يبدو بوصفين لعين الرامق
زينة معشوق ولون عاشق
وحبه عند ذوي الحقائق
يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق
لولاه لم تقطع يمين سارق
ولا بدت مظلمة من فاسق
ولا اشمأز باخل من طارق
ولا شكا الممطول مطل العائق
ولا استعيذ من حسود راشق
وشر ما فيه من الخلائق
أن ليس يغني عنك في المضايق
إلا إذا فر فرار الآبق
واها لمن يقذفه من حالق
ومن إذا ناجاه نجوى الوامق
قال له قول المحق الصادق
لا رأي في وصلك لي ففارق
فقلت له: ما أغزر وبلك! فقال: والشرط أملك. فنفحته بالدينار الثاني، وقلت له: عوذهما بالمثاني. فألقاه في فمه، وقرنه بتوءمه، وانكفأ يحمد مغداه، ويمدح النادي ونداه. قال الحارث بن همام: فناجاني قلبي بأنه أبو زيد، وأن تعارجه لكيد، فاستعدته وقلت له: قد عرفت بوشيك، فاستقم في مشيك، فقال: إن كنت ابن همام فحييت بإكرام ، وحييت بين كرام! فقلت: أنا الحارث، فكيف حالك والحوادث؟ فقال: أتقلب في الحالين بؤس ورخاء، وأنقلب مع الريحين زعزع ورخاء. فقلت: كيف ادعيت القزل، وما مثلك من هزل؟ فاستسر بشره الذي كان تجلى، ثم أنشد حين ولى:
تعارجت لا رغبة في العرج
ولكن لأقرع باب الفرج
وألقي حبلي على غاربي
وأسلك مسلك من قد مرج
فإن لامني القوم قلت اعذروا
فليس على أعرج من حرج (141) المقامة الحادية والعشرون الرازية (حدث الحارث بن همام) قال: عنيت مذ أحكمت تدبيري، وعرفت قبيلي من دبيري، بأن أصغي إلى العظات، وألغي الكلم المحفظات؛ لأتحلى بمحاسن الأخلاق، وأتخلى مما يسم بالإخلاق. وما زلت آخذ نفسي بهذا الأدب، وأخمد به جمرة الغضب، حتى صار التطبع فيه طباعا، والتكلف له هوى مطاعا. فلما حللت بالري، وقد حللت حبى الغي، وعرفت الحي من اللي، رأيت بها ذات بكرة، زمرة في أثر زمرة، وهم منتشرون انتشار الجراد، ومستنون استنان الجياد، ومتواصفون واعظا يقصدونه، ويحلون ابن سمعون دونه. فلم يتكاءدني لاستماع المواعظ، واختبار الواعظ، أن أقاسي اللاغط، وأحتمل الضاغط، فأصحبت إصحاب المطواعة، وانخرطت في سلك الجماعة، حتى أفضينا إلى ناد جمع الأمير والمأمور، وحشد النبيه والمغمور، وفي وسط هالته، ووسط أهلته، شيخ قد تقوس واقعنسس، وتقلنس وتطلس، وهو يصدع بوعظ يشفي الصدور، ويلين الصخور. فسمعته يقول، وقد افتتنت به العقول: ابن آدم، ما أغراك بما يغرك، وأضراك بما يضرك! وألهجك بما يطغيك، وأبهجك بما يطريك! تعنى بما يعنيك، وتهمل ما يعنيك، وتنزع في قوس تعديك، وترتدي الحرص الذي يرديك! لا بالكفاف تقتنع، ولا من الحرام تمتنع، ولا للعظات تستمع، ولا للوعيد ترتدع! دأبك أن تتقلب مع الأهواء، وتخبط خبط العشواء. وهمك أن تدأب في الاحتراث، وتجمع التراث للوراث، يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك، وتسعى أبدا لغاريك، ولا تبالي ألك أم عليك! أتظن أن ستترك سدى، وأن لا تحاسب غدا؟ أم تحسب أن الموت يقبل الرشا، أو يميز بين الأسد والرشا؟ كلا، والله لن يدفع المنون مال ولا بنون! ولا ينفع أهل القبور سوى العمل المبرور! فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادعى! ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى! وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى. ثم أنشد إنشاد وجل، بصوت زجل:
لعمرك ما تغني المغاني ولا الغنى
إذا سكن المثري الثرى وثوى به
فجد في مراضي الله بالمال راضيا
بما تقتني من أجره وثوابه
وبادر به صرف الزمان فإنه
بمخلبه الأشغى يغول ونابه
ولا تأمن الدهر الخئون ومكره
فكم خامل أخنى عليه ونابه!
وعاص هوى النفس الذي ما أطاعه
أخو ضلة إلا هوى من عقابه
وحافظ على تقوى الإله وخوفه
لتنجو مما يتقى من عقابه
ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه
بدمع يضاهي المزن حال مصابه
ومثل لعينيك الحمام ووقعه
وروعة ملقاه ومطعم صابه
وإن قصارى منزل الحي حفرة
سينزلها مستنزلا عن قبابه
فواها لعبد ساءه سوء فعله
وأبدى التلافي قبل إغلاق بابه
قال: فظل القوم بين عبرة يذرونها، وتوبة يظهرونها، حتى كادت الشمس تزول، والفريضة تعول. فلما خشعت الأصوات، والتأم الإنصات، واستكنت العبرات والعبارات، استصرخ مستصرخ بالأمير الحاضر، وجعل يجأر إليه من عامله الجائر، والأمير صاغ إلى خصمه، لاه عن كشف ظلمه. فلما يئس من روحه، استنهض الواعظ لنصحه، فنهض نهضة الشمير، وأنشد معرضا بالأمير:
عجبا لراج أن ينال ولاية
حتى إذا ما نال بغيته بغى
يسدي ويلحم في المظالم والغا
في وردها طورا وطورا مولغا
ما إن يبالي حين يتبع الهوى
فيها أأصلح دينه أم أوتغا
يا ويحه لو كان يوقن أنه
ما حالة إلا تحول لما طغى
أو لو تبين ما ندامة من صغى
سمعا إلى إفك الوشاة لما صغا
فانقد لمن أضحى الزمام بكفه
وتغاض إن ألغى الرعاية أو لغا
وارع المرار إذا دعاك لرعيه
ورد الأجاج إذا حماك السيغا
واحمل أذاه إذا أمضك مسه
وأسال غرب الدمع منك وأفرغا
فليضحكنك الدهر منه إذا نبا
عنه وشب لكيده نار الوغى
ولينزلن به الشمات إذا بدا
متخليا من شغله متفرغا
ولتأوين له إذا ما خده
أضحى على ترب الهوان ممرغا
هذا له ولسوف يوقف موقفا
فيه يرى رب الفصاحة ألثغا
وليحشرن أذل من فقع الفلا
ويحاسبن على النقيصة والشغا
ويؤاخذن بما اجتنى ومن اجتنى
ويطالبن بما احتسى وبما ارتغى
ويناقشن على الدقائق مثل ما
قد كان يصنع بالورى بل أبلغا
حتى يعض على الولاية كفه
ويود لو لم يبغ منها ما بغى
ثم قال: أيها المتوشح بالولاية، المترشح للرعاية، دع الإدلال بدولتك، والاغترار بصولتك؛ فإن الدولة ريح قلب، والإمرة برق خلب، وإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وأشقاهم في الدارين من ساءت رعايته. فلا تك ممن يذر الآخرة ويلغيها، ويحب العاجلة ويبتغيها، ويظلم الرعية ويؤذيها، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها. فوالله، ما يغفل الديان، ولا تهمل يا إنسان، ولا تلغى الإساءة ولا الإحسان، بل سيوضع لك الميزان، وكما تدين تدان. قال: فوجم الوالي لما سمع، وامتقع لونه وانتقع، وجعل يتأفف من الإمرة، ويردف الزفرة بالزفرة، ثم عمد إلى الشاكي فأشكاه، وإلى المشكو منه فأشجاه، وألطف الواعظ وحباه، واستدعى منه أن يغشاه، فانقلب عنه المظلوم منصورا والظالم محسورا، وبرز الواعظ يتهادى بين رفقته، ويتباهى بفوز صفقته. واعتقبته أخطو متقاصرا، وأريه لمحا باصرا، فلما استشف ما أخفيه، وفطن لتقلب طرفي فيه، قال: خير دليليك من أرشد، ثم اقترب مني وأنشد:
أنا الذي تعرفه يا حارث
حدث ملوك فكه منافث
أطرب ما لا تطرب المثالث
طورا أخو جد وطورا عابث
ما غيرتني بعدك الحوادث
ولا التحى عودي خطب كارث
ولا فرى حدي ناب فارث
بل مخلبي بكل صيد ضابث
وكل سرح فيه ذئبي عائث
حتى كأني للأنام وارث
سامهم وحامهم ويافث
قال الحارث بن همام: فقلت له: تالله، إنك لأبو زيد، ولقد قمت لله ولا عمرو بن عبيد. فهش هشاشة الكريم إذا أم، وقال: اسمع يا ابن أم. ثم أنشأ يقول:
عليك بالصدق ولو أنه
أحرقك الصدق بنار الوعيد
وابغ رضا الله فأغبى الورى
من أسخط المولى وأرضى العبيد
ثم إنه ودع أخدانه، وانطلق يسحب أردانه. فطلبناه من بعد بالري، واستنشرنا خبره من مدارج الطي، فما فينا من عرف قراره، ولا درى أي الجراد عاره. (142) نخبة من وصية ابن سعيد المغربي لابنه وقد أراد السفر
أودعك الرحمن في غربتك
مرتقبا رحماه في أوبتك
فلا تطل حبل النوى إنني
والله أشتاق إلى طلعتك
واختصر التوديع أخذا فما
لي ناظر يقوى على فرقتك
واجعل وصاتي نصب عين ولا
تبرح مدى الأيام من فكرتك
خلاصة العمر التي حنكت
في ساعة زفت إلى فطنتك
فللتجاريب أمور إذا
طالعتها تشحذ من غفلتك
فلا تنم عن وعيها ساعة
فإنها عون إلى يقظتك
وكل ما كابدته في النوى
إياك أن يكسر من همتك
فليس يدرى أصل ذي غربة
وإنما تعرف من شيمتك
وامش الهوينا مظهرا عفة
وابغ رضا الأعين عن هيئتك
وانطق بحيث العي مستقبح
واصمت بحيث الخير في سكتتك
ولج على رزقك من بابه
واقصد له ما عشت في بكرتك
ووف كلا حقه ولتكن
تكسر عند الفخر من حدتك
وحيثما خيمت فاقصد إلى
صحبة من ترجوه في نصرتك
وللرزايا وثبة ما لها
إلا الذي تذخر من عدتك
ولا تقل أسلم لي وحدتي
فقد تقاسي الذل في وحدتك
ولتجعل العقل محكا وخذ
كلا بما يظهر في نقدتك
واعتبر الناس بألفاظهم
واصحب أخا يرغب في صحبتك
كم من صديق مظهر نصحه
وفكره وقف على عثرتك
إياك أن تقربه إنه
عون مع الدهر على كربتك
وانم نمو النبت قد زاره
غب الندى واسم إلى قدرتك
ولا تضيع زمنا ممكنا
تذكاره يذكي لظى حسرتك
والشر مهما اسطعت لا تأته
فإنه حور على مهجتك
يا بني، الذي لا ناصح له مثلي، ولا منصوح لي مثله، قد قدمت لك في هذا النظم ما إن أخطرته بخاطرك في كل أوان، رجوت لك حسن العاقبة إن شاء الله - تعالى - وإن أخف منه للحفظ، وأعلق بالفكر، وأحق بالتقدم قول الأول:
يزين الغريب إذا ما اغترب
ثلاث فمنهن حسن الأدب
وثانية حسن أخلاقه
وثالثة إجتناب الريب
واصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر، وسلم الكرم والصبر:
ولو ان أوطان الديار نبت بكم
لسكنتم الأخلاق والآدابا
إذ حسن الخلق أكرم نزيل، والأدب أرحب منزل. ولتكن كما قال بعضهم في أديب متغرب: وكان كلما طرأ على ملك، فكأنه معه ولد، وإليه قصد، غير مستريب بدهره، ولا منكر شيئا من أمره. وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه، فاجعل التكلف له سلما، وهب في روض أخلاقه هبوب النسيم، وحل بطرفه حلول الوسن، وانزل بقلبه نزول المسرة؛ حتى يتمكن لك وداده، ويخلص فيك اعتقاده، وطهر من الوقوع فيه لسانك، وأغلق سمعك، ولا ترخص في جانبه لحسود لك منه، يريد إبعادك عنه لمنفعة، أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك، ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته، ولا تتمهد بدوام رقدته، فقد ينبهه الزمان، ويتغير منه القلب واللسان. وإنما العاقل من جعل عقله معيارا، وكان كالمرآة يلقى كل وجه بمثاله، وفي أمثال العامة: من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل. فاحتذ بأمثلة من جرب، واستمع إلى ما خلد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال، فإنها خلاصة عمرهم، وزبدة تجاربهم، ولا تتكل على عقلك، فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم، وابتاعوه غاليا بتجاربهم يربحك، ويقع عليك رخيصا، وإن رأيت من له عقل ومروءة وتجربة فاستفد منه، ولا تضيع قوله ولا فعله، فإن فيما تلقاه تلقيحا لعقلك، وحثا لك واهتداء.
وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره، فإن كان موافقا لعقلك، مصلحا لحالك، فراع ذلك عندك، وإلا فانبذه نبذ النواة، فليس لكل أحد يتبسم ولا كل شخص يكلم، ولا الجود مما يعم به، ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل به كل أحد، ولله در القائل:
وما لي لا أوفي البرية قسطها
على قدر ما يعطي وعقلي ميزان؟
وإياك أن تعطي من نفسك إلا بقدر، فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء، ولا الكفء بمعاملة الأعلى، ولا تضيع عمرك فيمن يعاملك بالمطامع، ويثيبك على مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة.
ولا تجف الناس بالجملة، ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل ولا ضجر ولا جفاء، فمتى فارقت أحدا فعلى حسنى في القول والفعل، فإنك لا تدري هل أنت راجع إليه، فلذلك قال الأول: «ولما مضى سلم بكيت على سلم»، وإياك والبيت السائر:
وكنت إذا حللت بدار قوم
رحلت بخزية وتركت عارا
واحرص على ما جمع قول القائل: ثلاثة تبقي لك الود في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه. واحذر كل ما بينه لك القائل: كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم فإذا غرسته يقلعك، وقول الآخر: ابن آدم ذئب مع الضعف وأسد مع القوة.
وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره. ويحكى أن ابن المقفع خطب من الخليل صحبته، فجاوبه: إن الصحبة رق، ولا أضع رقي في يديك حتى أعرف كيف ملكتك. واستمل من عين من تعاشره، وتفقد في فلتات الألسن وصفحات الأوجه، ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن لا تبينه، فإن الكلام سلاح السلم، وبالأنين يعرف ألم الجرح، واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك.
وخذ من الدهر ما أتاك به
من قر عينا بعيشه نفعه
إذ الأفكار تجلب الهموم، وتضاعف الغموم، وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب، يستريب به الصاحب، ويشمت العدو والمجانب. ولا تضر بالوساوس إلا نفسك، لأنك تنصر بها الدهر عليك، ولله در القائل:
إذا ما كنت للأحزان عونا
عليك مع الزمان فمن تلوم؟
مع أنه لا يرد عليك الغائب الحزن، ولا يرعوي بطول عتبك الزمن. ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد ألفته الهموم، وعشقته الغموم، من صغره إلى كبره لا تراه أبدا خليا من فكرة، حتى لقب ب «صدر الهم»، ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكد في الشدة، ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج، ويتنكد في الرخاء خوفا من أن لا يدوم، وينشد:
توقع زوالا إذا قيل تم
وينشد:
وعند التناهي يقصر المتطاول
وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب، ومثل هذا عمره مخسور يمر ضياعا.
ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسدا لك، وقصدا لتصغير قدرك عندك، وتزهيدا لك فيه، فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك، وتركن إلى العلم الذي مدحوه، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلمه فصعب عليه، ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه، فبقي مخبل المشي، كما قيل:
إن الغراب وكان يمشي مشية
فيما مضى من سالف الأجيال
حسد القطا وأراد يمشي مشيها
فأصابه ضرب من العقال
فأضل مشيته وأخطأ مشيها
فلذاك كنوه أبا مرقال
ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزمان وأهله ويقول: ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل، ولا مكان يرتاح فيه. فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممن صحبه الحرمان، واستحقت طلعته للهوان، وأبرموا على الناس بالسؤال فمقتوهم، وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها، فاستراحوا إلى الوقوع في الناس وأقاموا الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم. ولا تزل هذين البيتين من فكرك:
لن إذا ما نلت عزا
فأخو العز يلين
فإذا نابك دهر
فكما كنت تكون
والأمثال تضرب لذي اللب الحكيم، وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم، والفطن يقنع بالقليل، ويستدل باليسير. والله - سبحانه - خليفتي عليك، لا رب سواه. (143) الجامع الأزهر
هذا الجامع أول مسجد أسس بالقاهرة، والذي أنشأه القائد جوهر الكاتب الصقلي مولى الإمام أبي تميم معد، الخليفة أمير المؤمنين المعز لدين الله، لما اختط القاهرة. وشرع في بناء هذا الجامع في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمئة، وكمل بناؤه لتسع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمئة، وجمع فيه، وكتب بدائر القبة التي في الرواق الأول، وهي على يمنة المحراب والمنبر ما نصه بعد البسملة: مما أمر ببنائه عبد الله ووليه أبو تميم معد الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأكرمين، على يد عبده جوهر الكاتب الصقلي، وذلك في سنة ستين وثلاثمئة . وأول جمعة جمعت فيه في شهر رمضان لسبع خلون منه سنة إحدى وستين وثلاثمئة، ثم إن العزيز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدين الله جدد فيه أشياء.
وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمئة سأل الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس الخليفة العزيز بالله في صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم من رزق الناض، وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر. وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كل سنة، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وخلع عليهم العزيز يوم عيد الفطر وحملهم على بغلات. ويقال: إن بهذا الجامع طلسما فلا يسكنه عصفور ولا يفرخ به، وكذا سائر الطيور من الحمام واليمام وغيره، وهو صورة ثلاثة طيور منقوشة، كل صورة على رأس عمود، فمنها صورتان في مقدم الجامع بالرواق الخامس، منها صورة في الجهة الغربية في العمود وصورة في أحد العمودين اللذين على يسار من استقبل سدة المؤذنين، والصورة الأخرى في الصحن في الأعمدة القبلية مما يلي الشرقية. ثم إن الحاكم بأمر الله جدده ووقف على الجامع الأزهر وجامع المقس والجامع الحاكمي ودار العلم بالقاهرة رباعا بمصر. ثم إن المستنصر جدد هذا الجامع أيضا، وجدده الحافظ لدين الله، وأنشأ فيه مقصورة لطيفة تجاور الباب الغربي الذي في مقدم الجامع بداخل الرواقات عرفت ب «مقصورة فاطمة»، من أجل أن فاطمة الزهراء - رضي الله تعالى عنها - رئيت بها في المنام. ثم إنه جدد في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري، قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في كتاب «سيرة الملك الظاهر»:
لما كان يوم الجمعة الثامن عشر من ربيع الأول سنة خمس وستين وستمئة، أقيمت الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة، وسبب ذلك أن الأمير عز الدين أيدمر الحلي كان جار هذا الجامع من مدة سنين، فرعى - وفقه الله - حرمة الجار، ورأى أن يكون كما هو جاره في دار الدنيا أنه غدا يكون ثوابه جاره في تلك الدار، ورسم بالنظر في أمره وانتزع له أشياء مغصوبة كان شيء منها في أيدي جماعة، وحاط أموره حتى جمع له شيئا صالحا، وجرى الحديث في ذلك، فتبرع الأمير عز الدين له بجملة مستكثرة من المال الجزيل، وأطلق له من السلطان جملة من المال، وشرع في عمارته، فعمر الواهي من أركانه وجدرانه، وبيضه وأصلح سقوفه، وبلطه وفرشه وكساه، حتى عاد حرما في وسط المدينة، واستجد به مقصورة حسنة، وأثر فيه آثارا صالحة يثيبه الله عليها. وعمل الأمير بيلبك الخازندار فيه مقصورة كبيرة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - ورتب في هذه المقصورة محدثا يسمع الحديث النبوي والرقائق، ووقف على ذلك الأوقاف الدارة، ورتب به سبعة لقراءة القرآن الكريم، ورتب به مدرسا، أثابه الله على ذلك! ولما تكمل تجديده تحدث في إقامة جمعة فيه، فنودي في المدينة بذلك، واستخدم له الفقيه زين الدين خطيبا، وأقيمت الجمعة فيه في اليوم المذكور، وحضر الأتابك فارس الدين والصاحب بهاء الدين علي بن حنا وولده الصاحب فخر الدين محمد وجماعة من الأمراء والكبراء وأصناف العالم على اختلافهم، وكان يوم جمعة مشهودا.
ولما فرغ من الجمعة جلس الأمير عز الدين الحلي والأتابك والصاحب وقرئ القرآن ودعي للسلطان، وقام الأمير عز الدين ودخل إلى داره ودخل معه الأمراء، فقدم لهم كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وانفصلوا. وكان قد جرى الحديث في أمر جواز الجمعة في الجامع وما ورد فيه من أقاويل العلماء، وكتب فيها فتيا أخذ فيها خطوط العلماء بجواز الجمعة في هذا الجامع وإقامتها، فكتب جماعة خطوطهم فيها، وأقيمت صلاة الجمعة به واستمرت، ووجد الناس به رفقا وراحة لقربه من الحارات البعيدة من الجامع الحاكمي. قال: وكان سقف هذا الجامع قد بني قصيرا، فزيد فيه بعد ذلك وعلا ذراعا، واستمرت الخطبة فيه حتى بني الجامع الحاكمي، فانتقلت الخطبة إليه، فإن الخليفة كان يخطب فيه خطبة وفي الجامع الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون وفي جامع مصر خطبة.
وانقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالسلطنة، فإنه قلد وظيفة القضاء لقاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس، فعمل بمقتضى مذهبه وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلد واحد كما هو مذهب الإمام الشافعي، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر وأقر الخطبة بالجامع الحاكمي من أجل أنه أوسع، فلم يزل الجامع الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه مئة عام، من حين استولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهر بيبرس كما تقدم ذكره. ثم لما كانت الزلزلة بديار مصر في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعمئة سقط الجامع الأزهر والجامع الحاكمي وجامع مصر وغيره، فتقاسم أمراء الدولة عمارة الجوامع، فتولى الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عمارة الجامع الحاكمي، وتولى الأمير سلار عمارة الجامع الأزهر، وتولى الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار عمارة جامع الصالح، فجددوا مبانيها وأعادوا ما تهدم منها.
ثم جددت عمارة الجامع الأزهر على يد القاضي نجم الدين محمد بن حسين بن علي الإسعردي محتسب القاهرة في سنة خمس وعشرين وسبعمئة، ثم جددت عمارته في سنة إحدى وستين وسبعمئة عندما سكن الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجامدار الناصري في دار الأمير فخر الدين أبان الزاهدي الصالحي النجمي بخط الأبارين بجوار الجامع الأزهر بعدما هدمها وعمرها، وهي التي تعرف هناك إلى اليوم بدار بشير الجامدار، فأحب - لقربه من الجامع - أن يؤثر فيه أثرا صالحا، فأستأذن السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون في عمارة الجامع، وكان أثيرا عنده مخصا به فأذن له في ذلك، وكان قد استجد بالجامع عدة مقاصير، ووضعت فيه صناديق وخزائن حتى ضيقته، فأخرج الخزائن والصناديق، ونزع تلك المقاصير، وتتبع جدرانه وسقوفه بالإصلاح حتى عادت كأنها جديدة، وبيض الجامع كله وبلطه ومنع الناس من المرور فيه، ورتب فيه مصحفا، وجعل له قارئا، وأنشأ على باب الجامع القبلي حانوتا لتسبيل الماء العذب في كل يوم، وعمل فوقه مكتب سبيل لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله العزيز، ورتب للفقراء المجاورين طعاما يطبخ كل يوم، وأنزل إليه قدورا من نحاس جعلها فيه، ورتب فيه درسا للفقهاء من الحنفية يجلس مدرسهم لإلقاء الفقه في المحراب الكبير، ووقف على ذلك أوقافا جليلة باقية إلى يومنا هذا، ومؤذنو الجامع يدعون في كل جمعة وبعد كل صلاة للسلطان حسن إلى هذا الوقت. وفي سنة أربع وثمانين وسبعمئة ولي الأمير الطواشي بهادر المقدم على المماليك السلطانية نظر الجامع الأزهر، فتنجز مرسوم السلطان الملك الظاهر برقوق بأن من مات من مجاوري الجامع الأزهر عن غير وارث شرعي وترك موجودا، فإنه يأخذه المجاورون بالجامع، ونقش ذلك على حجر عند الباب الكبير البحري. وفي سنة ثمانمئة هدمت منارة الجامع وكانت قصيرة، وعمرت أطول منها، فبلغت النفقة عليها من مال السلطان خمسة عشر ألف درهم نقرة، كملت في ربيع الآخر من السنة المذكورة، فعلقت القناديل فيها ليلة الجمعة من هذا الشهر، وأوقدت حتى اشتعل الضوء من أعلاها إلى أسفلها، واجتمع القراء والوعاظ بالجامع وتلوا ختمة شريفة ودعوا للسلطان، فلم تزل هذه المئذنة إلى شوال سنة سبع عشرة وثمانمئة، فهدمت لميل ظهر فيها، وعمل بدلها منارة من حجر على باب الجامع البحري بعدما هدم الباب وأعيد بناؤه بالحجر، وركبت المنارة فوق عقده، وأخذ الحجر لها من مدرسة الملك الأشرف خليل التي كانت تجاه قلعة الجبل وهدمها الملك الناصر فرج بن برقوق، وقام بعمارة ذلك الأمير تاج الدين الشوبكي والي القاهرة ومحتسبها، إلى أن تمت في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وثمانمئة، فلم تقم غير قليل ومالت حتى كادت تسقط، فهدمت في صفر سنة سبع وعشرين وأعيدت، وفي شوال منها ابتدئ بعمل الصهريج الذي في وسط الجامع، فوجد هناك آثار فسقية ماء ووجد أيضا رمم أموات، وتم بناؤه في ربيع الأول، وعمل بأعلاه مكان مرتفع له قبة يسبل فيه الماء، وغرس بصحن الجامع أربع شجرات فلم تفلح وماتت. ولم يكن لهذا الجامع ميضأة عندما بني، ثم عملت ميضأته حيث المدرسة الأقبغاوية إلى أن بنى الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسته المعروفة بالمدرسة الأقبغاوية هناك.
وأما هذه الميضأة التي بالجامع الآن، فإن الأمير بدر الدين جنكل بن البابا بناها ثم زيد فيها بعد سنة عشر وثمانمئة ميضأة المدرسة الأقبغاوية. وفي سنة ثمان عشرة وثمانمئة ولي نظر هذا الجامع الأمير سودوب القاضي حاجب الحجاب، فجرت في أيام نظره حوادث لم يتفق مثلها، وذلك أنه لم يزل في هذا الجامع منذ بني عدة من الفقراء يلازمون الإقامة فيه، وبلغت عدتهم في هذه الأيام سبعمئة وخمسين رجلا ما بين عجم وزيالعة ومن أهل ريف مصر ومغاربة، ولكل طائفة رواق يعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو ومجالس الوعظ وحلق الذكر، فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الأنس بالله والارتياح وترويح النفس ما لا يجده في غيره، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البر من الذهب والفضة والفلوس، إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله - تعالى - وكل قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات لا سيما في المواسم؛ فأمر في جمادى الأولى من هذه السنة بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة فيه، وإخراج ما كان لهم فيه من صناديق وخزائن وكراسي المصاحف، زعما منه أن هذا العمل مما يثاب عليه، وما كان إلا من أعظم الذنوب وأكثرها ضررا، فإنه حل بالفقراء بلاء كبير من تشتت شملهم وتعذر الأماكن عليهم، فساروا في القرى، وتبذلوا بعد الصيانة، وفقد من الجامع أكثر ما كان فيه من تلاوة القرآن ودراسة العلم وذكر الله، ثم لم يرضه ذلك حتى زاد في التعدي وأشاع أن أناسا يبيتون بالجامع ويفعلون فيه منكرات، وكانت العادة قد جرت بمبيت كثير من الناس في الجامع ما بين تاجر وفقيه وجندي وغيرهم، منهم من يقصد بمبيته البركة ومنهم من لا يجد مكانا يؤويه، ومنهم من يستروح بمبيته هناك خصوصا في ليالي الصيف وليالي شهر رمضان، فإنه يمتلئ صحنه وأكثر رواقاته.
فلما كانت ليلة الأحد الحادي عشر من جمادى الآخرة طرق الأمير سودوب الجامع بعد العشاء الآخرة والوقت صيف، وقبض على جماعة وضربهم في الجامع، وكان قد جاء معه من الأعوان والغلمان وغوغاء العامة ومن يريد النهب جماعة، فحل بمن كان في الجامع أنواع البلاء ووقع فيهم النهب فأخذت فرشهم وعمائمهم وفتشت أوساطهم وسلبوا ما كان مربوطا عليها من ذهب وفضة، وعمل ثوبا أسود للمنبر وعلمين مزوقين بلغت النفقة على ذلك خمسة عشر ألف درهم على ما بلغني، فعاجل الله الأمير سودوب وقبض عليه السلطان في شهر رمضان وسجنه بدمشق. (144) ذكر جامع دمشق المعروف بجامع بني أمية
وهو أعظم مساجد الدنيا احتفالا وأتقنها صناعة وأبدعها حسنا وبهجة وكمالا، ولا يعلم له نظير، ولا يوجد له شبيه، وكان الذي تولى بناءه وإتقانه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان، ووجه إلى ملك الروم بقسطنطينية يأمره أن يبعث له الصناع فبعث إليه اثني عشر ألف صانع، وكان موضع المسجد كنيسة فلما افتتح المسلمون دمشق دخل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - من إحدى جهاتها بالسيف فانتهى إلى نصف الكنيسة، ودخل أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - من الجهة الغربية صلحا فانتهى إلى نصف الكنيسة، فصنع المسلمون من نصف الكنيسة الذي دخلوه عنوة مسجدا، وبقي النصف الذي صالحوا عليه كنيسة، فلما عزم الوليد على زيادة الكنيسة في المسجد طلب من الروم أن يبيعوا له كنيستهم تلك بما شاءوا من عوض فأبوا عليه فانتزعها من أيديهم، وكانوا يزعمون أن الذي يهدمها يجن فذكروا ذلك للوليد فقال: أنا أول من يجن في سبيل الله، وأخذ الفأس وجعل يهدم بنفسه، فلما رأى المسلمون ذلك تتابعوا على الهدم وأكذب الله زعم الروم، وزين هذا المسجد بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء تخالطها أنواع الأصبغة الغريبة الحسن.
وذرع المسجد في الطول من الشرق إلى الغرب مئتا خطوة وهي ثلاثمئة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الجوف مئة وخمس وثلاثون خطوة وهي مئتا ذراع، وعدد شمسات الزجاج الملونة التي فيه أربع وسبعون، وبلاطاته ثلاثة مستطيلة من شرق إلى غرب ، سعة كل بلاط منها ثمان عشرة خطوة. وقد قامت على أربع وخمسين سارية، وثماني أرجل جصية تتخللها، وست أرجل مرخمة مرصعة بالرخام الملون قد صور فيها أشكال محاريب وسواها، وهي تقل قبة الرصاص التي أمام المحراب المسماة بقبة النسر، كأنهم شبهوا المسجد بنسر طائر والقبة رأسه، وهي من أعجب مباني الدنيا، ومن أي جهة استقبلت المدينة بدت لك قبة النسر ذاهبة في الهواء منيفة على جميع مباني البلد، وتستدير بالصحن بلاطات ثلاثة من جهاته الشرقية والغربية والجوفية، سعة كل بلاط منها عشر خطاو، بها من السواري ثلاث وثلاثون، ومن الأرجل أربع عشرة، وسعة الصحن مئة ذراع، وهو من أجمل المناظر وأتمها حسنا، وبها يجتمع أهل المدينة بالعشايا، فمن قارئ ومحدث وذاهب، ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة، وإذا لقي أحد كبرائهم من الفقهاء وسواهم صاحبا له أسرع كل منهما نحو صاحبه وحط رأسه. وفي هذا الصحن ثلاث من القباب، إحداها في غربيه، وهي أكبرها، وتسمى قبة عائشة أم المؤمنين، وهي قائمة على ثمان سوار من الرخام مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة مسقفة بالرصاص، يقال: إن مال الجامع كان يخزن بها، وذكر لي أن فوائد مستغلات الجامع ومجابيه نحو خمسة وعشرين ألف دينار ذهبا في كل سنة. والقبة الثانية من شرق الصحن على هيئة الأخرى إلا أنها أصغر منها، قائمة على ثمان من سواري الرخام، وتسمى قبة زين العابدين. والقبة الثالثة في وسط الصحن وهي صغيرة مثمنة من رخام عجيب محكم الإلصاق، قائمة على أربع سوار من الرخام الناصع، وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاس يمج الماء إلى علو فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لجين، وهم يسمونه قفص الماء، ويستحسن الناس وضع أفواههم فيه للشرب.
وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى المسجد بديع الوضع، يسمى مشهد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ويقابله من الجهة الغربية حيث يلتقي البلاطان الغربي والجوفي موضع يقال إن عائشة، رضي الله عنها، سمعت الحديث هناك. وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية، وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة فيها المصحف الكريم الذي وجهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى الشام، وتفتح تلك الخزانة كل يوم جمعة بعد الصلاة فيزدحم الناس على لثم ذلك المصحف الكريم، وهنالك يحلف الناس غرماءهم ومن ادعوا عليه شيئا. وعن يسار المقصورة محراب الصحابة، ويذكر أهل التاريخ أنه أول محراب وضع في الإسلام، وفيه يؤم إمام المالكية، وعن يمين المقصورة محراب الحنفية، وفيه يؤم إمامهم، ويليه محراب الحنابلة، وفيه يؤم إمامهم. ولهذا المسجد ثلاث صوامع؛ إحداها بشرقيه، وهي من بناء الروم، وبابها داخل المسجد، وبأسفلها مطهرة وبيوت للوضوء يغتسل فيها المعتكفون والملتزمون للمسجد ويتوضئون. والصومعة الثانية بغربيه، وهي أيضا من بناء الروم، والصومعة الثالثة بشماله، وهي من بناء المسلمين، وعدد المؤذنين به سبعون مؤذنا، وفي شرق المسجد مقصورة كبيرة فيها صهريج ماء، وهي لطائفة الزيالعة السودان. وفي وسط المسجد قبر زكريا - عليه السلام - وعليه تابوت معترض بين أسطوانتين مكسو بثوب حرير أسود معلم فيه مكتوب بالأبيض:
يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى . وهذا المسجد شهير الفضل، وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة، وفي الأثر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: يعبد الله فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة. ويقال: إن الجدار القبلي منه وضعه نبي الله هود - عليه السلام - وإن قبره به، وقد رأيت على مقربة من مدينة ظفار اليمن بموضع يقال له الأحقاف بنية فيها قبر مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عامر
صلى الله عليه وسلم .
ومن فضائل هذا المسجد أنه لا يخلو عن قراءة القرآن والصلاة إلا قليلا من الزمان، والناس يجتمعون به إثر صلاة الصبح فيقرءون سبعا من القرآن ويجتمعون بعد صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرءون فيها من سورة الكوثر إلى آخر القرآن، وللمجتمعين على هذه القراءة مرتبات تجري لهم، وهم نحو ستمئة إنسان، ويدور عليهم كاتب الغيبة، فمن غاب منهم قطع له عند دفع المرتب بقدر غيبته. وفي هذا المسجد جماعة كبيرة من المجاورين لا يخرجون منه، مقبلون على الصلاة والقراءة والذكر لا يفترون عن ذلك، ويتوضئون من المطاهر التي بداخل الصومعة الشرقية التي ذكرناها، وأهل البلد يعينونهم بالمطاعم والملابس من غير أن يسألوهم شيئا من ذلك. وفي هذا المسجد أربعة أبواب: باب قبلي يعرف بباب الزيادة ، وبأعلاه قطعة من الرمح الذي كانت فيه راية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ولهذا الباب دهليز كبير متسع، فيه حوانيت السقاطين وغيرهم، ومنه يذهب إلى دار الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصقارين، وهي سوق عظيمة ممتدة مع جدار المسجد القبلي، من أحسن أسواق دمشق، وبموضع هذه السوق كانت دار معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - ودور قومه، وكانت تسمى الخضراء، فهدمها بنو العباس، رضي الله عنهم، وصار مكانها سوقا. وباب شرقي، وهو أعظم أبواب المسجد، ويسمى بباب جيرون، وله دهليز عظيم يخرج منه إلى بلاط عظيم طويل أمامه خمسة أبواب لها ستة أعمدة طوال، وفي جهة اليسار منه مشهد عظيم كان فيه رأس الحسين - رضي الله عنه - وبإزائه مسجد صغير ينسب إلى عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وبه ماء جار، وقد انتظمت أمام البلاط درج ينحدر فيها إلى الدهليز وهو كالخندق العظيم يتصل بباب عظيم الارتفاع تحته أعمدة كالجذوع طوال، وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها دكاكين البزازين وغيرهم، وعليها شوارع مستطيلة فيها حوانيت الجوهريين والكتبيين وصناع أواني الزجاج العجيبة. وفي الرحبة المتصلة بالباب الأول دكاكين لكبار الشهود، منها دكانان للشافعية وسائرها لأصحاب المذاهب، يكون في الدكان منها الخمسة والستة من العدول والعاقد للأنكحة من قبل القاضي، وسائر الشهود مفترقون في المدينة، وبمقربة من هذه الدكاكين سوق الوراقين الذين يبيعون الكاغد والأقلام والمداد. وفي وسط الدهليز المذكور حوض من الرخام كبير مستدير عليه قبة لا سقف لها، تقلها أعمدة رخام، وفي وسط الحوض أنبوب نحاس يزعج الماء بقوة فيرتفع في الهواء أزيد من قامة الإنسان، يسمونه الفوارة ، منظره عجيب. وعن يمين الخارج من باب جيرون، وهو باب الساعات، غرفة لها هيئة طاق كبير، فيه طيقان صغار مفتحة لها أبواب على عدد ساعات النهار، والأبواب مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصفرة، فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهرا والظاهر الأصفر باطنا، ويقال: إن بداخل الغرفة من يتولى قلبها بيده عند مضي الساعات. والباب الغربي يعرف بباب البريد، وعن يمين الخارج منه مدرسة للشافعية، وله دهليز فيه حوانيت للشماعين وسماط لبيع الفواكه، وبأعلاه باب يصعد إليه في درج له أعمدة سامية في الهواء، وتحت الدرج سقايتان عن يمين وشمال مستديرتان، والباب الجوفي يعرف بباب النطفانيين، وله دهليز عظيم، وعن يمين الخارج منه خانقاه تعرف بالشميعانية، في وسطها صهريج ماء، ولها مطاهر يجري فيها الماء، ويقال إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - وعلى كل باب من أبواب المسجد الأربعة دار وضوء، يكون فيها نحو مئة بيت تجري فيها المياه الكثيرة (لابن بطوطة). (145) لأبي البقاء صالح بن شريف الرندي يرثي الأندلس
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
يمزق الدهر حتما كل سابغة
إذ نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو
كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن
وأين منهم أكاليل وتيجان؟
وأين ما شاده شداد في إرم
وأين ما ساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهب
وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له
حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من ملك ومن ملك
كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على دارا وقاتله
وأم كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب
يوما ولا ملك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة
وللزمان مسرات وأحزان
وللحوادث سلوان يسهلها
وما لما حل بالإسلام سلوان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له
هوى له أحد وانهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فارتزأت
حتى خلت منه أقطار وبلدان
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية
وأين شاطبة أم أين جيان؟
وأين قرطبة دار العلوم فكم
من عالم قد سما فيها له شان؟!
وأين حمص وما تحويه من نزه
ونهرها العذب فياض وملآن؟
قواعد كن أركان البلاد فما
عسى البقاء إذا لم تبق أركان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف
كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية
قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما
فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
حتى المنابر ترثي وهي عيدان
يا غافلا وله في الدهر موعظة
إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشيا مرحا يلهيه موطنه
أبعد حمص تغر المرء أوطان؟
تلك المصيبة أنست ما تقدمها
وما لها مع طول الدهر نسيان
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة
كأنها في مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة
كأنها في ظلام النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة
لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس
فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم
قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
وأنتم يا عباد الله إخوان؟
ألا نفوس أبيات لها همم
أما على الخير أنصار وأعوان!
يا من لذلة قوم بعد عزهم
أحال حالهم جور وطغيان
بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم
واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم
عليهم في ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم
لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما
كما تفرق أرواح وأبدان!
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت
كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة
والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان (146) مدينة الزهراء في الأندلس
كان الخليفة عبد الرحمن الناصر كلفا بعمارة الأندلس، وإقامة معالمها، وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره المنتشر صيته، واستفرغ جهده في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها. فاستدعى عرفاء المهندسين، وحشد برعاء البنائين من كل قطر، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية، ثم أخذ في بناء المستنزهات وإنشاء مدينة الزهراء الموصوفة بالقصور الباهرة، وأقامها بطرق البلد على ضفة نهر قرطبة، ونسق فيها كل اقتدار معجز ونظام. وكان قصر الخليفة متناهيا في الجلالة والفخامة، أطبق الناس على أنه لم يبن مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبيها بل لم يسمع به بل لم يتوهم كون مثله. ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة، وعجيب ما تضمنه من إتقان الصنعة، وفخامة الهمة، وحسن المستشرف، وبراعة الملبس والحلية، ما بين مرمر مسنون وذهب مصون وعمد كأنما أفرغت في القوالب وتماثيل لا تهدى الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها؛ (لكفى مثلا.) وكنت ترى في مقصورة الخليفة بركة يجري الماء فيها بصنعة محكمة، وفي وسطها يعوم أسد عظيم الصورة، بديع الصنعة، شديد الروعة، لم يشاهد أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر، مطلي بذهب إبريز، وعيناه جوهرتان لهما وبيص شديد، فيمج الماء في تلك البركة من فيه فيبهر المناظر بحسنه وروعة منظره وثجاج صبه، فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها، ويستفيض على ساحاته وجنباته. وهذه البركة وتمثالها من أعظم آثار الملوك في غالب الدهر لفخامة بنيانها، وما يخص سائر البنايات. فكان الناصر قد جلب إليها الرخام الأبيض المجزع من رية، والأبيض من غيرها، والوردي والأخضر من أفريقية. وبنى في القصر المجلس، وجعل في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها إليون ملك قسطنطينية. وكانت قرامد هذا القصر من الذهب والفضة، وهذا المجلس في وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق. وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب، قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر، قامت على سوار من الرخام الملون والبلور الصافي. وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب، فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذاك نور يأخذ بالأبصار. وكان بناء الزهراء في غاية الإتقان والحسن، وبها من المرمر والعمد كثير، وأجرى فيها المياه، وأحدق بها البساتين. وقد أتقنه إلى الغاية، وأنفق عليه أموالا طائلة. ووضع في وسط البحيرة قبة من زجاج ملون منقوش بالذهب، وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون. فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطا بها، ويتصل بعضه ببعض، وكانت قبة الزجاج في غلالة مما سكب خلف الزجاج لا يفتر من الجري، وتوقد فيها الشموع فيرى لذلك منظر بديع. وتم بناء الزهراء في أربعين سنة (للمقري). (147) وصف سفر البحر
لما ركبنا البحر، وحللنا منه بين السحر والنحر، شاهدنا من أهواله، وتنافي أحواله ما لا يعبر عنه، ولا يبلغ له كنه.
البحر صعب المرام جدا
لا جعلت حاجتي إليه!
أليس ماء ونحن طين
فما عسى صبرنا عليه؟
فكم استقبلتنا أمواجه بوجوه بواسر، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر، قد أزعجتها أكف الريح من وكرها لما نبهت اللجج من سكرها، فلم تبق شيئا من قوتها ومكرها، فسمعنا للجبال صفيرا، وللرياح دويا عظيما وزفيرا، وتيقنا أنا لا نجد من ذلك إلا فضل الله مجيرا وخفيرا،
وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ، وأيسنا من الحياة؛ لصوت تلك العواصف والمياه، فلا حيا الله ذلك الهو المزعج ولا بياه! والموج يصفق لسماع أصوات الرياح، فيطرب بل ويضطرب، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب، فيبتعد ويقترب وفرقه تلتطم وتصطفق، وتختلف ولا تكاد تتفق، فتخال الجو يأخذ بنواصيها، وتجذبها أيديه من قواصيها، حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها، وعنان السحب يخطف في استقلالها، وقد أشرفت النفوس على التلف من خوفها واعتلالها، وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها، وساءت الظنون، وتراءت في صورها المنون، والشراع في قراع مع جيوش الأمواج التي أمدت منها الأفواج بالأفواج. ونحن قعود، كدود على عود، ما بين فرادى وأزواج. وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا، وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود إلا السماء والماء وذلك السفين، ومن في قبر جوفه دفين، مع ترقب هجوم العدو في الرواح والغدو. فزادنا ذلك الحذر ، الذي لم يبق ولم يذر، على ما وصفناه من هول البحر قلقا، وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء باليد إلى التهلكة طلقا، وتشتتت أفكارنا فرقا، وذبنا أسى وندما وفرقا، إلى أن قضى الله بالنجاة، وكل ما أراد فهو الكائن، وإن نهى عنه وأخطأ المائن. فرأينا البر وكأننا قبل لم نره، وشفيت به أعيننا من المره، وحصل بعد الشدة الفرج، وشممنا من السلامة أطيب الأرج (نفح الطيب للمقري). (148) قال محمود سامي البارودي يصف حرب سكان جزيرة إقريطش (كريد) حين خرجوا عن الطاعة سنة 1282 ويتشوق إلى مصر
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان
وهفا السرى بأعنة الفرسان
والليل منشور الذوائب ضارب
فوق المتالع والربى بجران
لا تستبين العين في ظلمائه
إلا اشتعال أسنة المران
نسري به ما بين لجة فتنة
تسمو غواربها على الطوفان
في كل مربأة وكل ثنية
تهدار سامرة وعزف قيان
تستن عادية ويصهل أجرد
وتصيح أجراس ويهتف عان
قوم أبى الشيطان إلا خسرهم
فتسللوا من طاعة السلطان
ملئوا الفضاء فما يبين لناظر
غير التماع البيض والخرصان
فالبدر أكدر والسماء مريضة
والبحر أشكل والرماح دوان
والخيل واقفة على أرسانها
لطراد يوم كريهة ورهان
وضعوا السلاح إلى الصباح وأقبلوا
يتكلمون بألسن النيران
حتى إذا ما الصبح أسفر وارتمت
عيناي بين ربى وبين مجان
فإذا الجبال أسنة وإذا الوها
د أعنة والماء أحمر قان
فتوجست فرط الركاب ولم تكن
لتهاب فامتنعت على الأرسان
فزعت فرجعت الحنين وإنما
تحنانها شجن من الأشجان
ذكرت مواردها بمصر وأين من
ماء بمصر منازل الرومان؟!
والنفس لاهية وإن هي صادفت
خلفا بأول صاحب ومكان
فسقى السماك محلة ومقامة
في مصر كل مرنة مرنان!
حتى تعود الأرض بعد ذبولها
شتى النماء كثيرة الألوان
بلد خلعت بها عذار شبيبتي
وطرحت في يمنى الغرام عناني
فصعيدها أحوى النبات وسرحها
ألمى الظلال وزهرها متداني
فارقتها طلبا لما هو كائن
والمرء طوع تقلب الأزمان
حمل الزمان علي ما لم أجنه
إن الأماثل عرضة الحدثان
نقموا علي وقد فتكت شجاعتي
إن الشجاعة حلية الفتيان
فليهنأ الدهر الغيور برحلتي
عن مصر ولتهدأ صروف زماني
فلئن رجعت وسوف أرجع واثقا
بالله أعلمت الزمان مكاني
صادقت بعض القوم حتى خانني
وحفظت منه مغيبه فرماني
زعم النصيحة بعد أن بلغت به
غشا وجازى الحق بالبهتان
فليجر بعد كما أراد بنفسه
إن الشقي مطية الشيطان
وكذا اللئيم إذا أصاب كرامة
عادى الصديق ومال بالإخوان
كل امرئ يجري على أعراقه
والطبع ليس يحول في الإنسان
فعلام يلتمس العدو مساءتي
من بعد ما عرف الخلائق شاني
أنا لا أذل وإنما يزع الفتى
فقد الرجاء وقلة الأعوان
فليعلمن أخو الجهالة قصره
عني وإن سبقت به قدمان
فلربما رجح الخسيس من الحصى
بالدر عند تراجح الميزان
شرف خصصت به وأخطأ حاسدي
مسعاته فهذى به وقلاني (149) رسالة الشيخ حمزة فتح الله للسيد توفيق البكري يمدحه
إعادة العرض يوم العرض
مسألة كلامية ثارت فيها عجاجة الكلام بين علماء الكلام، فمن إيجاز وإطناب في سلب وإيجاب (وتعلم أنت أن الألفاظ أعراض سيالة)، لكنني آمنت عيانا أن الله - تعالى - يحيي الموتى أعراضا وأعيانا، إذ كانت كتبك زيادة في البيان والبرهان، وإن كان خبر المعصوم أوثق من الحس في النفس، فأنشد الله امرأ شيمته العدل والقول الفصل، أليست كتبك هذه حجة للموجب دامغة للسالب؟! أليس ذلك البيان غاية شأو قس وسحبان؟! أليس قصارى ابن العميد وحمادى عبد الحميد؟! فقد أعيد العرض الذي هو الكلام في الدنيا ففي الأخرى أحرى، فتراني - يا مليك اليراعات، وقسور تلكم الغابات - أسيفا على ضن الزمان بك إلى الآن، فلو أن الله - تعالى - براك وخلقك فسواك حين استعر الخصام في هذا المقام، لما اختلف في شأنه اثنان ولا انتطح عنزان.
Shafi da ba'a sani ba