وأما نحن فننفرد بين شعوب الأرض بلغة حية إلى الأبد، وهي لغة لا ترجع بنا تاريخيا إلى عصر واحد أو ثقافة واحدة، ولكنها ترجع بنا كما قلت إلى «أطر ثقافية» متباينة تباين العصور والأمكنة التي ازدهرت فيها؛ ولذلك فالوحدة اللغوية الظاهرية بين شعوب الأمة العربية تخفي تاريخا خاصا لكل منها.
وأنا أستخدم اصطلاح «الوحدة اللغوية الظاهرية» عامدا؛ فما تلك الوحدة إلا ثمرة محاولات حديثة للتقريب بين أنماط الفكر والإحساس؛ ومن ثم بين أنماط الحياة، في عالم عربي يتميز بالتباين كل التباين، وبالاختلاف كل الاختلاف. وما تلك الوحدة إلا محاولة دائبة للتقريب بين عالمنا العربي الذي ورث تاريخا سياسيا واجتماعيا منوعا وطويلا، ولا يستطيع منه فكاكا، وبين العالم الحديث الذي استطاع أن يضع التاريخ في مكانه الصحيح، وأن يقيم حاضره على أسس الواقع القائم لا على أسس الحسرة على ما فات، أو على صورة المجد التليد بعد أن زال الكثير من هذا المجد من أمم عالم الحاضر.
ومشكلة كل عربي إذن تكمن في لغته التي تحيله دائما أبدا إلى الماضي؛ فإذا كان مثقفا محدثا أي إذا كان يتسلح بالنظرة العلمية الحديثة التي تهديه إلى أن يزن كل شيء بميزان العقل فيلفظ ما هو لا معقول (كما يقول «زكي نجيب محمود»)، ويقبل ما يجده معقولا ؛ استطاع أن يضع الماضي في مكانه الصحيح باعتباره زمنا باد وانقضى، وأن يقطع بأن لنا أن نحكم عليه بما يرضي الله وبما يرضي ضمائرنا، فيأخذ ما هو صالح من قيم، وينأى عما هو فاسد. إن المثقف العربي الحديث قادر على أن يدين ما كان الأقدمون يفعلونه من استعباد الناس، سواء في غزوات الجاهلية أو في غير ذلك من العصور على امتداد زماننا الطويل (في زمن المماليك وزمن العثمانيين مثلا وأزمنة أخرى أتركها لذكاء القارئ)، وهو سيدين الاتجار بالإنسان، واستذلال النساء وقهرهن، واستبداد الحكام وبطشهم، والاعتماد على القوة الغاشمة وحدها وسيلة للملك والتملك، دون رجوع للحق ولا اهتداء بدين الله القويم. وهو سيدين الاقتتال بين طوائف المؤمنين، وغزو أمة مسلمة لأمة مسلمة، وهو الذي يشهد به تاريخ العرب الطويل، ولن يفخر بأي من هذا باعتباره جزءا من تراثنا الذي تحفل به الكتب.
وأخيرا فلا بد من التمييز بين التراث على إطلاقه وبين التراث الأدبي بصفة خاصة، فإذا كان صحيحا أن الأدب ظاهرة ثقافية وأنه يدرس في أطره الثقافية المحدودة أولا، ثم في أطره الإنسانية العامة ثانيا؛ فينبغي أن نعي ذلك ونحن نقرأ شعر الجاهليين والإسلاميين، ويكفي أن أحيل القارئ إلى الطود الشامخ من الدراسات الحديثة في تراثنا الأدبي العربي من طه حسين إلى جابر عصفور. ولا بد في النهاية أيضا من أن أوضح أننا يجب ألا ننظر إلى الإسلام - دين الله الحنيف الخالد - على أنه جزء من التراث، وإلا كنا نضعه في سياق التاريخ؛ أي سياق الماضي، وهو دين فوق التاريخ وفوق الماضي؛ لأنه فوق الزمن، وينبغي أن ننفي عن أذهاننا تماما أن أي قراءة للتراث - سواء كان سياسيا اجتماعيا أو فكريا أو أدبيا - تمس دين الله سبحانه وتعالى؛ فلا يتصور ذلك إلا من فسد تفكيرهم أو من أرادوا التمسح به ليشتروا به ثمنا قليلا.
لمن يكتب الكاتب؟
في مسرحية «الخال فانيا» للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، شخصية أستاذ جامعي اسمه سربرياكوف تضطره الظروف إلى قضاء فترة في مزرعة الأسرة (في أواخر القرن التاسع عشر)، فيجد نفسه محاطا بأفراد لا يقرءون ولا يكتبون، فيضيق بالعزلة والابتعاد عن حياة المدينة الحافلة بينما يسخر منه المحيطون به، ويتهمه أحدهم بأنه لا يفهم حرفا واحدا في الأدب، ويظل هو حبيس هواجسه وآلامه الجسدية حتى يحين موعد رحيله، دون أن يحسم الكاتب موقفه الخاص من هذا الأستاذ العجيب.
وعندما اشتركت مع صديقي سمير سرحان في ترجمة هذه المسرحية في أوائل الستينيات لتقديمها إلى المسرح القومي؛ شغلنا بعبارة يقولها هذا الأستاذ، مفادها: إننا نحن الكتاب نتعب أبصارنا وعقولنا في القراءة والكتابة دون أن نجد تجاوبا أو نحدث الأثر المنشود، وعندما عرضت المسرحية بالفعل في عام 1964م من إخراج المخرج الروسي «لزلي بلاتون» بالاشتراك مع المرحوم كمال يس كنا نستمع كل ليلة إلى الفنان الراحل محمد الطوخي وهو يؤدي هذا الدور المرهق ويردد هذه العبارة دون أن ندري أن الزمن سيدور دورته فتكتسب دلالة حيوية أعمق بكثير مما أوحت به آنذاك!
وكلما تأملت الكتابات المنهمرة في الصحف والمجلات العربية هذه الأيام وعلى مدى الثمانينيات برمتها، برزت هذه العبارة وترددت أصداؤها في ذهني وشغلتني أكثر مما شغلتني في الستينيات وجعلتني أتساءل عن جدوى كل هذه الكتابات إذا كانت أطر الحياة المفروضة علينا تمنعنا من الاستجابة الصحيحة لها - أو الاستجابة بأي شكل من الأشكال.
فكم من قارئ يمر مر الكرام على مقالات الصحف السيارة مهما كانت جديتها ومهما بلغ ثراؤها، كم من قارئ يتطلع إلى عناوين الكتب المعروضة على قارعة الطريق، ثم يشتري أخسها وأبخسها! وطفقت أتساءل عن السر وما سيفضي إليه إذا استمر الحال على ما هو عليه!
وكان أول سؤال طرحته هو: هل الخطأ خطأ «أطر الحياة المفروضة علينا» حقا كما ألمحت إلى ذلك، أم خطأ الكاتب في موقفه أو مادته أو أسلوبه؟ وهل نعفي القارئ تماما من مسئولية الانفضاض إلى اللهو والمال؟ وإذا كانت المسئولية مشتركة فكيف نعدل من أطر الحياة بحيث يعود الكاتب والقارئ إلى سابق عهدهما في سنوات التنوير من هذا القرن نفسه.
Shafi da ba'a sani ba