Adabin Mutunci Ko Rashin Mutunci
أدب أم قلة أدب
Nau'ikan
ولا تسأله فتحية ماذا قالت العروس، فقد سمعت منه الحكاية بالأمس حين زارها بعد الغروب، وبعد أن هاجر زوجها لم يكن أحد يزورها إلا هو، فهو صديق قديم منذ الطفولة، وفي وجود زوجها كان يرمقها بطرف عين، ترى اللمعة وتدركها بحاسة الأنثى، تعرض عنه وفاء لزوجها الموجود. وبعد أن سافر زوجها دون أن يعود، وأصبحت امرأة وحيدة بلا زوج، وراحت اللمعة من عينيه، كأنما لا يشتهيها إلا وهي مملوكة لرجل غيره، يريد امتلاكها بلا رغبة فيها، برغبة أخرى ضد الذكر الآخر، يشتهي الانتصار عليه.
أتعرفين ماذا قالت لي هذه البنت يا فتحية ؟!
لا يكف عن ترديد السؤال لنفسه، ينشرح صوته المبحوح بسكين تتقطع معه حبال الصوت، لا يكف عن إيقاع الألم بنفسه، كمن ينكأ الجرح بيده في بدنه يستعذب الألم، وكلما اشتد العذاب تضاعفت عذوبته.
وهي تعرف الحكاية من أولها لآخرها، ليس بها شوق لأن تعرف أكثر، وكل ما يشغلها أنها بالأمس بعد الغروب، خرجت إلى الشارع تشم الهواء بعد انغلاق السنين في البيت، خرجت إلى الشارع تنظر إلى البشر، لكن أحدا من البشر لم ينظر إليها. تسير بخطوة تشبه خطوة عجوز كانت تراه وهي طفلة يمشي بهذه الخطوة، وحين كانت تمشي في الشارع وهي شابة، كانت ترى العيون تتجه نحوها، وتلمح، وتدرك، بحاسة الأنثى أنها مرغوبة ومطلوبة، تهتز فوق كعبها العالي بنشوة، فالعالم كله يرغبها، وهي لا ترغب إلا رجلا واحدا، هو زوجها على سنة الله ورسوله.
لكن يا محمد، هكذا قالت عيناها وهي تنصت إليه، سقط القناع عن وهم حياتي، ولم يعد أمامي وقت طويل لأضيعه، وأنت أيضا مثلي تمشي في الشارع كتلة عجوزة من اللحم، بلا قيمة يا محمد مثلي، وهكذا تساوينا في الشيخوخة بمثل ما تساوينا في الطفولة.
لم يعد محمد يطيق أن يسمع كلمة المساواة، وعيناه تردان على عينيها: نعم يا فتحية، عشت حياتي مخدوعا بهذا الوهم الذي اسمه المساواة. انظري إلى أصابعك التي خلقها الله، أهي متساوية؟ أبدا، إنها غير متساوية! المساواة يا فتحية ضد الطبيعة، ضد إرادة الله، لكن عقول الشابات اليوم أصبحت خرقاء، وتصوري هذه البنت المفعوصة تريد أن تكون متساوية معي، وأنا الذي يكبرها بأربعين عاما، وربيت أجيالا من الشباب مثلها؟ أتتصورين هذا يا فتحية؟!
كان يسأل نفسه ويجيب على نفسه بلا توقف، وسمع صوته يردد أنه ربى الشباب جيلا وراء جيل على قيم العدل والمساواة، ثم تدارك الأمر واكتشف أنه منذ لحظة كان يؤكد العكس، واسترسل في الكلام متوهما أنها لم تكتشف ما اكتشفه، فهي جالسة أمامه تهز رأسها بالإيجاب، وعلى وجهها ابتسامتها المنكسرة، تلوح له وهو راقد بعد الغروب فوق السرير وحيدا مهجورا بلا أحد، ينهض بجسد ثقيل وقلب مملوء بالرمل، ويأتي إليها يحكي، يفرغ قلبه من الرمل، لتحمل عنه العبء، كما حملته زوجته الميتة. وهي صامتة تماما ككل الزوجات الميتات، ولا شيء يؤلمه منها إلا حين تتحرك عيناها بعيدا قليلا، فيفوتها شيء من كلامه، أو هكذا يبدو إليه. - تعرفي يا فتحية البنت المفعوصة دي قالت لي إيه؟
لكنها ليست بنتا مفعوصة، وإنما شابة في الثلاثين من العمر، تخرجت في كلية الطب ولم تجد عملا إلا مضيفة جوية في شركة الخليج للطيران، وجاءها عريس من الخليج، اشترط عليها التفرغ في البيت، وفقدت عملها في الشهر الأول، ثم فقدت عريسها في الشهر الثاني، عاد هو إلى زوجته الأولى، وعادت هي إلى مساحة نصف متر في بيت أهلها، أمام الحوض في المطبخ المظلم، تلوح لها الشقة المطلة على النيل، وعريسها مفتون بها قبل العرس:
طلباتك يا ست الحسن؟
ولا يخرج صوتها من حلقها لتقول أريد شقة باسمي، أو أريد كذا من المال، أو أي طلب آخر له ملمس مادي، وقد غذاها أبوها منذ الطفولة بالروحانيات، امتلأت روحها بذلك الاحتقار النبيل للماديات، وأطرقت خجلا بحمرة العذراوات: لا شيء يا حبيبي أريده إلا أنت. ولم يكن هو يعرف قيمة امرأة بلا ثمن يدفعه من جيبه أو عقار أو أرض أو حجر كريم أو فص من الماس، وما يأتيه بلا ثمن يذهب بلا ثمن، وهكذا حين جاء العريس الثاني، قال لها أبوها المريض في الفراش: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ولا تعطي المؤمنة نفسها بلا ثمن، أو شقة من ثلاث غرف على الأقل. - بنات آخر زمن يا فتحية، وتصوري أنا أقدم لها نفسي كزوج له اسم وتاريخ، وهي لا يهمها إلا ثمن المدفوع المادي. كنت أنظر إليها كملاك طاهر محلق في سماء الحب، لكن القناع سقط كما سقط الوهم! - هل كفت البنات يا فتحية عن الحب في هذا الزمن الرديء؟! في زماننا، كنا نعيش الحب ونلقي بأنفسنا في النار من أجل العدل. أكان كل ذلك وهما؟! ألا يحتاج الإنسان يا فتحية إلى الوهم ليعيش؟!
Shafi da ba'a sani ba