بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجا قيما.
أقام به الأود وأزهق الفند. وأكمل به الحجج، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
والحمد لله العليم بالأشياء. قبل كونها الحكيم في تدبير على ما سبق في الأزل علمه. الحكم العدل، في جميع ما قدر وقضى. ودبر وأمضى، فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. وهو سريع الحساب. الذي امتدح بالعدل واصطفاه. وابتعث به رسله وأنبياءه. ووفق للحكم به من ارتضى قضاءه. أمر بالعدل والإحسان. وتعالى عن الجور والفحشاء. لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون. وصلى الله وملائكته على البشير النذير السراج المنير محمدٍ وآله الطيبين.
1 / 67
أما بعد: فلن يفصل بين المحق والمبطل منا من جهل قضايا السلف. ولا استوعب الفقه من لم يعرف المختلف. وزلا كملت قضية قاضٍ في أيسر مقالةٍ مالت به من غير تبحيثٍ.
وقد اختلف مذاهب الرأي والحديث في أمور من القضاء لا يسع القاضي الاقتناع بالعجز. دون معرفته فألفت كتابي هذا في أدب القاضي على مذهب الشافعي والكوفي.
إذا كان أحدهما اتبع فقهاء الحديث للسنن. وكان الآخر أبلغ أهل الرأي تفريعًا ولا غنى بالقاضي دون معرفة الأمرين فاقتصرت على ذكرهما، خوف الإطالة إلا فيما لا غنية عنه لقاضٍ من معرفة قول مالك بن أنس، ودونه في أصول القضاء، ولم أترك الباقين عند ذكر الفروع هجرًا ألا خيفة أن
1 / 68
يعجز الكتاب عن الوفاء بذكر أقاويلهم في جميع المسائل. فيصير الكتاب منبترًا.
وقدمت على ذكر جميعهم الشافعي ﵁ لقول رسول الله ﷺ: «قدموا قريشًا ولا تقدموها».
وإن من أحق الناس بالتأدب بآداب الله ومطالبة النفس بأحكام الله ورعاية حقوقه من يُقلد الأحكام وانتصب لفصل القضاء بين الأنام فأتقى أمر ربه ويذكر وقوف الخصماء بين يديه مُقامه مع الخصماء. ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾. فاستعد للمسألة جوابا. إن قيل له عبدي مكنتك في بلادي. ونصبتك قاضيا بين عبادي. لتنصر المظلوم على الظالم. وتعلى الحق على الباطل، وأخذت عليك بذلك عهدي وميثاقي، وتقدمت إليك إنذارًا بأن من لم يحكم بما أنزل الله ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، وقلت ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ ... من هذا السؤال فرقا. فشمر
1 / 69
للحق وأهله. ناضرًا ليوم ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.
1 / 70
[١] باب: الترغيب في القضاء
وتخريج الأخبار المروية في كراهته
حدثنا يوسف بن يعقوب القاضي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا عمر بن علي.
1 / 71
حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود ﵁، عن النبي ﷺ: أنه قال: لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق. ورجل أتاه الله الحكمة وهو يقضي بها ويعمل بها».
وحدثنا أبو بكر محمد بن أحمد القاضي، حدثنا محمد بن هارون، حدثنا عمر بن الربيع بن طارق. حدثنا يحيى بن أيوب، عن
1 / 72
ابن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن عائشة عن رسول الله ﷺ قال: هل تدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة: قالواة الله ورسوله أعلم. قال: الذين إذا
أعطوا الحق قبلوه وإذا سُئلوه بذلوه وإذا حكموا للمسلمين حكموا كحكمهم لأنفسهم.
حدثنا الحسين بن عمر بن أبي الأحوص الكوفي. حدثنا العلاء بن عمر
1 / 73
الحنفي، حدثنا يحيى بن يزيد الأشعري عن ابن جريج عن عطا عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: إذا جلس القاضي في مجلسه هبط عليه ملكان يسددانه ويرشدانه ويوفقانه فإذا جار عرجا وتركاه.
حدثنا عبد الله بن غنام. حدثنا ابن شيبة، حدثنا علي بن مسهر
1 / 74
عن أشعت عن الحسين في قوله ﷿: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ قال العلم بالقضاء.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: في كتاب أدب القاضي «الناس كلهم عباد الله.
فأحقهم بالمحبة أطوعهم لله. وأحقهم من أهل طاعته بالفضيلة أنفعهم لجماعة المسلمين من إمام عادل أو عالم مجتهد أو معين لعامتهم وخاصتهم، يعني به القاضي وهذا ما لا أعلم مالك بن أنس ولا الكوفي خالفا بل قد رغبا فيه وتولاه أصحابهما.
وقد كره القضاء قوم وهجروا القضاء متشبثين بأخبار توهموا لضعف رويتهم أنها مأثورة في كراهية القضاء. فلو أنهم جعلوها في
1 / 75
القاسطين دون المقسطين لعذرناهم. ولكنهم غلو فيها فعموا بها قضاة الدين. وهي عندنا إلى الترغيب في القضاء أقرب منه إلى الرغبة عنه، وإنا ذاكروها وملطف القول في تخريجها إن شاء الله.
حدثنا إبراهيم بن موسى الجوزي. حدثنا محمد بن منصور الجواز، حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم. حدثنا عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأختس، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري. والأعرج عن
1 / 76
أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: «من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين».
حدثنا يوسف بن يعقوب القاضي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا يحيى بن سعيد عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله، وربما ذكر رسول الله ﷺ .... قال: «ما من حاكم يحكم بحكم بين الناس، إلا وكل به ملك يأخذ بقفاه حتى يقف به على شفير جهنم
1 / 77
فيرفع رأسه إلى السماء فإن أمره أن يقذفه قذفه فهوى فيها أربعين خريفا».
حدثنا عمر بن إسماعيل بن أبي غيلان وعبد الله بن محمد قالا: حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة، عن قتادة، قال سمعت أبا العالية. قال: قال: علي ﵇.
«القضاة ثلاثة قاضيون في النار وقاض في الجنة. فأما اللذان في النار، فرجل جار متعمدا، فهو في النار، ورجل اجتهد فأخطأ فهو في النار. وأما الذي اجتهد، فأصاب الحق فهو في
1 / 78
الجنة. قلت لأبي العالية، ما ذنب من أخطأ. قال ذنبه أن لا يكون قاضيا».
حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد القاضي، حدثنا علي بن مسلم. حدثنا أبو داود، حدثنا عمرو بن العلاء، حدثنا صالح بن سرح بن عبد القيس. عن عمران بن حطام، قال: دخلت على عائشة فتذاكرنا أمر القضاء. فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«ليأتين على القاضي يوم يود أنه لم يقض فيه بين اثنين في تمرةٍ»، قال أبو العباس: فأما
1 / 79
حديث أبي هريرة فليس عندي ذلك في كراهته وذمه. إذا الذبح بغير سكين مجاهدة النفس بترك الهوى. والله ﷿ يقول إن ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾،
ويدل على ذلك حديث: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن زياد. أخبرني عبد الحميد بن بحر، حدثنا عبد القدوس، عن مكحول، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «يا أبا هريرة عليك بطريق قومٍ، إذا فزع الناس أمنوا. قلت: من هم يا
رسول الله، قال: هم قوم، تركوا الدنيا فلم يكبر في قلوبهم ما يشغلهم عن الله. قد أجهدوا أبدنهم وذبحوا أنفسهم في طلب رضاء الله وذكر الحديث بطوله
1 / 80
فناهيكم به فضيلة وزلفى إلى الله ﷿. لمن قضى بالحق في عباده إذ جعله ذبيح الحق امتحانًا لتعظم له المثوبة امتنانًا وقد ذكر الله ﷿ قصة خليله إبراهيم ﵇، وقوله: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾، إلى قوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
فإذا جعل ﵎ إبراهيم ﵇ في تسليمه لذبح ابنه مصدقًا فقد جعل ابنه لاستسلامه للذبح ذبيحًا. لذلك قال رسول الله ﷺ: «أنا ابن الذبيحين» عنى به إسماعيل ﵇ وعبد الله. فكذلك القاضي عندما والله أعلم. لما استسلم لحكم الله،
واصطبر على مخالفة الأباعد والأقارب في خصوماتهم. ولم تأخذهم في الله لومة لائم حتى قادهم إلى مر الحكم. وعنهم عما دعتهم دواعي الهوى من اللدد وميولهم
1 / 81
نفوسهم من الفند جعله ذبيح الحق لله وبلغ به حال الشهداء الذين لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون.
وقد ولي رسول الله ﷺ القضاء عليًا ومعاذًا ومعقل بن يسار. فنعم الذابح. ونعم المذبوح وولي القضاء من بعده الخلفاء الراشدون. وفي كتاب الله ﷿ من الدليل على الترغيب فيه إذ يقول جل ذكره ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، إلى آخر الآيات الثلاث. حدثنا هارون بن يوسف. حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر حدثنا سفيان عن زكريا بن أبي
1 / 82
زائدة. عن الشعبي. قال: هذه الآيات الثلاث الأولى في المؤمنين. والثانية في اليهود. والثالثة في النصارى. ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾، إلى قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.
قال: هذه في أهل الإسلام ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، إلى قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
قال: هذه في اليهود.
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. قال: هذه في النصارى. وأما حديث ابن مسعود فتحذير القضاة عن الظلم لا عن القضاء. إذ قال في حديثه فإن أمره قذفه. ولم يقل فيأمر فيقذفه. فحذر ولم يقذف. ويدل على صحة تخريجنا له ما حدثي به محمد بن محمد الباغندي، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد عن مجالد
1 / 83
عن الشعبي. عن مسروق عن ابن مسعود. قال: قال رسول الله ﷺ يؤتى بالقاضي يوم القيامة حتى يوقف به على شفير جهنم وملك أخذ بقفاه. فإن أمر يقذف به في النار. فهوى فيه أربعين خريفا».
ثم قال عبد الله بن مسعود: «لأن أقضي يومًا أحب إليّ من عبادة سبعين عاما». ففي تفضيل عبد الله قضاء يوم على عبادة سبعين عامًا. دليل على صحة ما أحببنا من التخريج، إذ راوي الخبر أولى بتأويل ما حمل. ولولا ذلك ما تولى القضاء عبد الله.
حدثنا المطين بن عبد الله الحضرمي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة. قالا حدثنا إبراهيم بن معاوية. حدثنا أبي الأعمش
1 / 84
عن عمارة. عن عبد الرحمن بن يزيد. قال: كثروا على عبد الله ذات يومٍ فقال: إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي، ولسنا هنالك. ثم إن الله قدر أن بلغنا من الأمر ما ترون. فمن عرض له منكم قضاءُ بعد اليوم. فليقض بما في كتاب الله. فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله ﷺ.
فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه فليقض بما قضى به الصالحون. فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا في قضايا نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه
ولا يقل إني أرى وإني أخاف، فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك». أفلا تريه. كيف نسب القضاء إلى الصالحين، وعلمه وتولاه وكيف لا يكون
1 / 85
كذلك. وهو يأمر الحسد في القضاء عن رسول الله ﷺ. كما روينا عنه في أول هذا الكتاب.
وأما حديث علي بن أبي طالب ﵇ فيحمل فيمن تولى القضاء جاهلًا قبل الفوز. بالآية على ما وصفتها في باب صفة القاضي. وقد روي فيه على هذا المعنى حديث. حدثنا بن محمد بن عبد الله الحضرمي. حدثنا جبارة بن مغلس الحماني. حدثنا عبد الله بن بكير، عن حكيم بن جبير، عن أبي بريدة، عن أبيه. قال: قال رسول الله
ﷺ: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار. وقاضي في الجنة. قاضي علم الحق. فقضى به فهو في الجنة.
1 / 86