عندما أتأمل حياة «ولز» ومؤلفاته أحس أن شهوته الذهنية الأولى هي العلم، فقد تتلمذ للعظيم «توماس هكسلي» جد «جوليان» و«ألدوس» الذي جعل من نظرية التطور مذهبا كفاحيا، وقضى حياته في مكافحة المظلمين والغيبيين، كي يجعل هذه النظرية مألوفة تتحدث عنها الصحف ويسلم بها العامة. وقد نجح في ذلك. وشيء من هذا الروح الكفاحي قد انتقل إلى «ولز»، فإنه حين ألف «خلاصة التاريخ»، بل حتى في أواخر السنين من عمره، لم يكن ينسى أن ينبه إلى أننا كنا سمكا قبل 300 أو 400 مليون سنة، فكيف نكون بعد مثل هذه الملايين من السنين في المستقبل؟ وقد نبعت تكهناته المختلفة، الخيالية والحقيقية، من هذه البؤرة، فمن التكهنات الخيالية هاتان القصتان: «حرب العوالم» و«ناس كالآلهة». ومن التكهنات الحقيقية الحرب الأوروبية الكبرى الثانية، والدبابات والطائرات، والقنبلة الذرية. وكانت بصيرته، لسوء حظ البشر، صادقة في كل ذلك.
ولكن «ولز» انقطع عن البحث العلمي؛ لأنه اضطر عقب حصوله على درجة «بكالوريوس في العلوم» إلى أن يسعى لرزقه، فاختار القصة الخيالية والفكاهية أولا، حتى إذا زالت عنه الحاجة الملحة عمد إلى البحوث العلمية الاجتماعية أو كما قال هو «محاولة التنسيق بين المعارف المادية والنظام الاجتماعي». وكأنه بهذه البحوث قد استأنف إشباع شهوته العلمية الأولى ولكن في الميدان الاجتماعي.
وكتاب «خلاصة التاريخ» يعد حسنا من حيث إنه محاولة أولى في اعتبار العالم أمة واحدة تسير متساندة في موكب الحضارة: الكتابة في مصر، والورق في الصين، والمطبعة في ألمانيا. ثم بعد ذلك انفجار الثقافة على العالم كله. أو، من قبل ذلك: الزراعة في مصر، ثم نقود «الإسكندر» وجيوشه وفتوحاته، ثم انفجار الحضارة الإغريقية المصرية الرومانية في البحر المتوسط. ثم يتصل العالم ويتشابك، حتى إننا نرى ملكا هنديا في بداية القرن الثاني قبل الميلاد يبعث إلى الإسكندرية يدعو المصريين إلى البوذية. ثم يزداد التشابك بمخترعات القرن التاسع عشر، ثم القرن العشرين، إلى أن يعود استقلال الأمم وانفرادها مستحيلا، بل ضارا؛ إذ يجب التوحيد السياسي للعالم بحكومة واحدة.
وقد عاش «ولز» أيام طفولته في بدروم. وكانت أمة خادمة للأسرة التي تعيش في الطبقتين العليين. وكانت أمه، كما هو الشأن في الخادمات، تخشى صعوده إلى إحدى الطبقتين. ولذلك هو يذكر من أيام طفولته ذلك البعبع الذي يسكن في الطبقة العليا. وقد أتاح له نجاحه أن ينتسب بعد ذلك إلى الطبقة المتوسطة، ولكن بقي في نفسه خوف الفقر إلى يوم وفاته. وعندي أن هذا الخوف هو، في سيكولوجية الأعماق الفرويدية التحليلية، السبب لكراهته للاشتراكية الماركسية أو حرب الطبقات؛ لأنه أبى أن يمثل طبقات العمال الذين ولد معهم في ظلام البدروم. وأصبحت دعوته إلى الاشتراكية هي الدعوة الفابية؛ أي اشتراكية التطور السلمي بالإصلاحات المتدرجة التي يمكن أن يقبلها أبناء الأمة جميعهم فقيرهم وثريهم.
وقد زار روسيا مرتين، فلم يرتح إلى اشتراكيتها، وفهم منها مثلما فهم «برنهام» الأمريكي في كتابه «الثورة الإدارية». أي إن القائمين بإدارة المصانع والمزارع والمكاتب قد أخذوا في النظام الجديد مكان المالكين في النظام القديم، من حيث التمتع بامتيازات الأجور أو الرواتب العالية وغيرها. ولكن ليس شك في أن حجة «ولز» ضعيفة جدا في مكافحته للماركسيين. وقد أنفق كثيرا من جهده في هذه المكافحة العقيمة، وكان في مستطاعه أن يتركها، وخاصة لأن موضوعه الأصلي وهو «الحكومة العالمية» لا يحتاج إلى مثل هذه المكافحة، فقد آمن هو بالاشتراكية، ووجد أنها ضرورية للسلام والطمأنينة للأفراد والأمم. ومشاجرته هنا للماركسيين الاشتراكيين تشبه مشاجرته القديمة في 1906 حين وقف في الجمعية الفابية، وهي جمعية تدعو إلى الاشتراكية السلمية التدرجية، يدعو إلى الكفاح السياسي، في حين كان زعماؤها قانعين بالكفاح الثقافي. ووجد نفسه أيضا ضد مبادئ ماركس؛ أي ضد حرب الطبقات، والمنطق الكلامي، والدوليات. مع أن هذه «الدوليات» كانت الطليعة للبرنامج العالمي الذي انتهى إليه هو بعد ذلك. ولكن يمكن الدفاع عن «ولز» هنا بأنه أيقن في تلك السنين أن المزاج الإنجليزي أقرب إلى المبادئ الفابية السلمية منه إلى المبادئ الماركسية. وحكومة العمال القائمة الآن، بعد أربعين سنة من مشاجرته مع الفابيين، تدل على أنه صدق هنا أيضا في تكهنه السياسي، كما سبق أن صدق في تكهناته العلمية. وفي تلك الفترة وضع كتابه عن الاشتراكية «عوالم جديدة للقدامى»، وغايته أن يثبت أن الأثرياء والمتوسطين يجب أن يقبلوا النظام الاشتراكي مثل العمال؛ لأن مصلحتهم تقتضي ذلك.
ولكن «ولز» سيعرف في السنين القادمة بجهاده لأجل التوحيد العالمي. وأول ما نجد هذا الاتجاه واضحا فيه في كتابه الذي ألفه في 1921 «استنقاذ الحضارة» وفهرست الكتاب تدل عليه:
المستقبل المرجح للبشر.
مشروع الدولة العالمية.
من التوسع الوطني إلى الدولة العالمية.
إنجيل الحضارة.
Shafi da ba'a sani ba