لم يحبني كما أني لم أحبه. ولم أذكر وقتا لم أكن أخشاه وأكرهه، وكم من مرة كنت ألين وأقول لنفسي إنه رجل طيب لا بأس به، ولكنني لا أكاد أفعل ذلك حتى يعود فيصدمني ويملأ نفسي مرارة نحوه. ولست أشك في أني سلكت معه مسلكا يبعثه على الاستياء مني كما أني لست أشك في أني ارتكبت معه ذنوبا كثيرة. كما أني لست واثقا من أن أخطاءه كانت أكثر من أخطائي. ولكن الواقع، بصرف النظر عن هذه الأخطاء، أني بقيت سنوات طويلة لم يمر بي يوم إلا وكنت أفكر فيه مرات، وأرى فيه الرجل الذي يقف ضدي ويري الجانب السيئ بدلا من الجانب الحسن في كل ما أقول أو أعمل.
هذا الوسط العائلي هو الذي حاربه «بطلر» بقصته «طريق اللحم» وهو الذي حاربه بعد ذلك «برنارد شو»؛ أي تلك العائلة الإنجليزية التي كانت تتسلط على الشاب والفتاة وتستبد بهما وتعوق حريتهما.
والشاب أو الفتاة سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة هما الآن أكثر فتيان العالم استقلالا عن الأسرة. ومن المبالغة أن نقول إن هذا الاستقلال يعزى إلى الأدب؛ لأنه في الحقيقة يعزى إلى الوسط الصناعي الجديد الذي جعل المرأة تعمل في المصنع أو المكتب وتستقل بمعاشها عن أهلها، ولا تكاد لذلك تبالي طاعة الأبوين. وكذلك هو يعزى إلى وفرة الملاهي الجديدة مثل الأتومبيل والسينماتوغراف. وكلاهما عمل لتفكيك الأسرة الإنجليزية. ولسنا نجد الآن أبا يشبه ذلك الذي نكب به «صمويل بطلر»، فإن مؤلفات «بطلر» تدلنا على مقدار الجمود في ذلك العرف الاجتماعي أو الأخلاق الإنجليزية مدة العصر الفكتوري، وهو عرف كان يفشي الشقاء في الأسرة.
ولقد ذكرنا هنا «دكنز» وكيف سخط على الوسط الصناعي الجديد ووصفه أدق وصف وأبشعه. ثم ذكرنا «صمويل بطلر» وكيف كره الحياة العائلية وأنكرها. ولكن القارئ المصري لا يمكنه إلا أن يعترف بأن هذا الوسط الصناعي كان هو العلاج لجمود العائلة الإنجليزية؛ لأنه فك قيودها ونقض الاستبداد الأبوي بالحرية الجديدة التي لقيتها الفتاة الإنجليزية في الصناعة والملاهي الكثيرة التي جعلت الشاب ينشد سلواه خارج البيت.
إن للصناعة وجوها سيئة، ولكن لها وجوها أخرى حسنة. ومن حسناتها هذه الحرية التي يتمتع بها الآن الشبان والفتيات في العالم المتمدن؛ لأن العائلة البطريركية القديمة، عائلة الزراعة حيث الأب يعول ويسود، قد بادت. وأخذت مكانها العائلة التي يكسب أفرادها عيشهم من المصنع، فيستقل الشاب بدخله كما تستقل الفتاة بكسبها. وهذا الاستقلال الاقتصادي قد أدى إلى استقلال اجتماعي أخلاقي زعزع العائلة إلى حد ما.
المنحطون في الأدب الإنجليزي
في أوائل هذا القرن نشر «ماكس نورداو» كتابا عن «الانحطاط» تناول فيه جماعة كبيرة من الأدباء والشعراء بالنقد، واتهمهم بأنهم إنما نزعوا نزعاتهم الخاصة لأنهم منحطون، فهم مجانين أو قد اقتربوا من الجنون. ونزعاتهم إنما هي نزعات العقل المضطرب المفتون؛ ولذلك فإن كل ما يدعون إليه من فلسفة أو إصلاح ليس في حقيقته، وعند التأمل، سوى هراء الأبله أو هذيان المحموم.
وقد ذاع هذا الكتاب لأن التهمة طريفة والرأي بدعة، وكلاهما يلفت النظر ويبعث على التأمل. وقد مضى على نشر هذا الكتاب نحو خمسين سنة تكفي لتأييد نظرياته أو دحضها. والواقع الذي نراه الآن أنها قد أدحضت جميعها وأن هؤلاء المنحطين الذين ذكرهم «ماكس نورداو» إما أن الجمهور قد تناساهم لأنهم لم يكونوا من القدرة والكفاية بحيث يستحقون دوام الذكر، وإما أنهم قد ثبتوا لأن كفايتهم لم تزعزعها التهم التي وجهها إليهم هذا الطبيب الأديب. وحسب القارئ أن يعرف أن «نيتشه» و«تولستوي» و«إبسن» وضعوا في مقدمة المنحطين عنده، وهم الآن من زعماء النهضة الأوروبية.
ولكن قبيل «ماكس نورداو» - أي في أواخر القرن التاسع عشر - ظهرت طائفة من الكتاب في فرنسا وإنجلترا يجوز لنا أن نسميهم بالمنحطين. بل لقد عرفت الطائفة الإنجليزية نفسها وارتضت هذه الصفة وأطلقتها على نفسها تحديا وفخارا.
والمنحطون في الأدب الإنجليزي يمتون بنسب إلى المنحطين في الأدب الفرنسي، وقد تتلمذوا إلى حد ما «لبودلير» و«جوتييه». ولكنهم كانوا مع ذلك مستقلين، يجدون في البيئة الإنجليزية نفسها السم والدسم لأدبهم، وقد أخصبت بهم إنجلترا في السنوات الثلاثين بين 1870 و1900.
Shafi da ba'a sani ba