ومهما قلنا في «روسكين» وانتقصنا من قيمة الحملة التي حملها على الروح الحديث فإننا يجب أن نعترف بأنه يحسن التفكير حين ينتقص لنا من شأن السرعة. وإننا مثلا عندما نركب القطار نستفيد سرعة فقط، بينما نحرم فوائد السفر والتفرج التي نجنيها من الجواد أو من العربة التي تجرها الجياد، فهنا شيء للتفكير. وخاصة في هذه الأيام حيث أخذت الطائرة مكان الأتومبيل والقطار، وحيث تنذرنا بالسفر في السكائك وليس على الأرض.
أما «وليم موريس» الرجعى العظيم الآخر، فإن جهاده أبقى وأثره أعظم، فإنه لقح الصناعات بالفنون. وكان هو و«روسكين» سواء في كراهة الآلات، ولكنه كان يمتاز على «روسكين» بأنه يرى الواقع ويسلم به ويقنع بإصلاحه؛ فقد كان في ذات نفسه، مثلا، يحب خط اليد ويؤثره على حروف الطبع ولكنه كان يرى آلة الطباعة شيئا واقعا لا فرار منه، فكان يقنع بأن يكتب حروفا جميلة يسبكها ويقدمها لآلات الطبع فتتحسن الطباعة. وكان يرى أن الروح المادي يطغى فيحمل البنائين على أن يبنوا المنازل من أسخف المواد ويزينونها بالبهرج من الأثاث، فصار هو نفسه يصنع الأثاث. وألف شركة لهذه الغاية لا تزال حية إلى الآن، غايتها الجمع بين الفن والصناعة، أو الجمال والتجارة. ولهذا الرجعى أثره الجميل في صناعة الآنية والسجاجيد وورق الجدران.
وحارب الروح المادي بأن صار اشتراكيا طوبويا، يؤلف بل يبيع بنفسه الكتب والرسائل الاشتراكية على قوارع الطرق. والاشتراكية الطوبوية هي اشتراكية الأماني والأحلام التي سبقت الاشتراكية العلمية الماركسية التي تنهض على وفرة الإنتاج الآلي.
والآلة مع كل ذلك منتصرة، تطغى علينا وتسوقنا بل تدفعنا دفعا عنيفا لا ينجح في وقفه مثل «روسكين» أو «موريس» اللذين قاوما تيار التطور عبثا، ولكنهما نجحا في تنبيهنا إلى وجوب العناية بالفن وتلقيح الصناعات الآلية به.
بواعث التجديد
تبعث على التجديد بواعث كثيرة، ويصيب التجديد ميادين النشاط البشري جميعها سواء أكانت ثقافية أم حضارية.
فقد يهتدي الذهن البشري إلى فكرة جديدة تكشف عن المغزى لطائفة من المعارف بحيث تجعل المعرفة الميتة ثقافة، كفكرة التطور مثلا اهتدى إليها «داروين» فكانت وما تزال نظاما انتظمت به المعارف البيولوجية، فمن هنا يعد «داروين» مجددا في البيولوجيا كما يعد «فرويد» مجددا في السيكولوجيا؛ لأنه اهتدى إلى فكرة «الكامنة» أو العقل الكامن. أو كما يعد «ولسون» مجددا في السياسة لأنه اهتدى إلى فكرة عصبة الأمم.
ويصيب التجديد الحضارة كما يصيب الثقافة، فحياتنا الحضارية في مصر قد تجددت في نصف القرن الماضي بأكثر مما تجددت ثقافتنا؛ وذلك لأننا اصطدمنا بظروف جديدة اضطرتنا إلى اتخاذ الحضارة الغربية والتسليم بها، فنحن ننتقل بالقطار والأتومبيل، دون الجمل أو الحمار. ونحن نؤسس المؤسسات في التعليم والقضاء والبريد والإدارة على غرار الأنظمة الأوروبية دون الأنظمة التي ورثناها من العرب أو من الشرق. ونحن في كل ذلك مجددون لا يكاد يوجد بيننا رجعي يقول بأفضلية الجمل على القطار، أو خطة الالتزام القديمة في جباية الضرائب على الخطة الحاضرة في فرض الضرائب.
وأعظم ما يبعث على التجديد هو تبدل الوسط، فإذا فرضنا مثلا أن جزيرة العرب قد حدث لها تبدل فجائي فانتقلت من اليبس والجفاف إلى البلل والمطر، واستحالت صحراؤها القاحلة أرضا زراعية، فإننا ننتظر من العرب عندئذ أن يقلعوا من البداوة والرحلة ويأخذوا بأساليب الزراعة والإقامة. ومن يفعل منهم ذلك يعد مجددا ومن يجمد ويلزم البداوة يعد رجعيا لا يستجيب للوسط الجديد.
فالثقافة التجديدية في مثل هذه الحال يجب أن تدعو إلى الأخذ بالزراعة وتعلم أساليبها والنزول على أخلاقها، وهجران البداوة والإقلاع عما بقي منها في المعيشة والأخلاق.
Shafi da ba'a sani ba